الأفكـــار لا تتلاشــــــى د. جلال أمين: الاقتصاد حادي السياسة

الأفكـــار لا تتلاشــــــى د. جلال أمين: الاقتصاد حادي السياسة

لا يُعد الدكتور جلال أمين من بين أبرز المفكرين الاقتصاديين في مصر والوطن العربي فحسب، بل يُعدُّ قامةً فكريةً رفيعة في حقول الاقتصاد وعلم الاجتماع والثقافة والسياسة، من هنا فإن إسهاماته الفكرية تجاوزت تخصصه الدقيق «الاقتصاد»، إلى تناول وتحليل البنية الاجتماعية للشعوب، ومساءلة اللحظة الراهنة سياسياً وثقافياً، في مؤلَّفات عديدة، أرَّخت لمسيرته الفكرية منذ نصف قرن، إلى اليوم، ومنذ تخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة في خمسينيات القرن الماضي، واصل دراساته العليا في بريطانيا ليحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة لندن، ويتقلد عديداً من المناصب، غير أن عمله كأستاذ جامعي ظلَّ في قلب مسيرته المهنية الرفيعة، وهو مازال أستاذاً للاقتصاد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ عام 1979. 

في مؤلَّفاته المتنوعة يلتقي التحليل السياسي بالنظريات الاقتصادية بالتاريخ، بنظريات علم الاجتماع، وتتفاعل جميعاً لترسم صورةً واقعيةً وصادقةً لعصرنا، وأبرز ظواهره، ومعضلاته، ظواهره، وإمكان تحليلها، وصولاً إلى محاولة فهم أزماتنا الحضارية وإمكانات الحل. 
من بين أبرز هذه المؤلَّفات «ماذا حدث للمصريين؟»، «خرافة التقدُّم والتأخُّر»، «عصر الجماهير الغفيرة»، «مــــاذا علمــتــــني الحياة؟ - سيرة ذاتية»، «شخصيات لها تاريخ»، «كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية»، «رحيق العُمر»، «العولمة»، «العرب ونكبة الكويت»، وغيرها.
يبدو الحوار مع د. جلال أمين مساحةً رحبة من المتعة الفكرية الخالصة، وهو يتنقَّل بإجاباته بين التحليل السياسي ومقارنة الوقائع التاريخية وتحليل نظريات الاقتصاد، ومحاولة استشراف المستقبل... في رؤيةٍ لم تصغها المعرفة والعلم فقط، إنما حِكمة العُمر وخلاصة التجربة الطويلة والعميقة.  
< في أحد أهم أعمالك «ماذا حدث للمصريين؟»، رصدتَ التغيُّر الثقافي والاجتماعي الذي طرأ على المصريين، وتجلياته السلوكية وتغير سُلَّم القيم لدى المجتمع المصري عبر نصف قرن... في تصوُّرك، هل يمكن أن تُعاد البنية الثقافية والأخلاقية للإنسان المصري بشكل إيجابي، وأن تعود القيم وتبنيها إلى حياته؟ أم إن ذلك مرهونٌ بالظرف الحضاري والاجتماعي العام في مصر، وهو متراجع بطبيعة الحال؟
- هذا السؤال به نظرة مُبسَّطَة كثيراً عن تغيُّر القيم، فبمعنى آخر من الصعب أن تتغيّر القيم بمثل هذه السهولة، وما يبدو لنا أحياناً على السطح من أن الشخصية المصرية تغيَّرَت ليس صحيحاً كما يبدو، فهناك تغيرات في «السلوك» وهذا لا يعني أن كل تغيّر في السلوك بالضرورة هو تغيُّر في القيم، فعبارة «تغيُّر القيم» ضخمة، ومن الصعب أن نُطلِقها أو نعمِّمهَا، لأن تغيّر قيم الإنسان يعني أن الإنسان أصبح إنساناً آخر، ولكي يحدث ذلك فإنه قد يستغرق مئات السنوات أو أكثر. الشخصية القومية لا تتغيّر بسهولة، ولو اقتربنا من الواقع فإنني مُدرك أنه في الأربعين عاماً الماضية- وأنا أخص هذه الفترة، حيث حدثت تغيرات في الشخصية المصرية مع ما يسمى بالانفتاح، الذي بدأ منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي - حدثت تغيرات اقتصادية واجتماعية كثيرة مهمة، أثَّرَت بدورها في سلوك الناس، الذين اندفعوا وواكب سلوكهم ما طرأ من تغيرات لتحقيق أهدافهم الأساسية، وهناك أمثلة كثيرة عاصرتها بنفسي، منها أن الناس قبلت أن تتشارك في سيارات الأجرة نساءً ورجالاً مع بعضهم بعضاً، وحتى السيدات المحجبات، وهذا النمط السلوكي لم يكن متصوراً في الستينيات على سبيل المثال، لأسباب كثيرة، منها خروج المرأة للعمل، وارتفاع معدَّلات التضخم، وزيادة الهجرة، وزيادة السياحة العربية إلى مصر في تلك الآونة، ما زاد الضغط على طلب سيارات الأجرة، وغيرها من الأسباب؛ فالمشاركة في سيارات الأجرة تغيّر سلوكي ولكنه لا يُعدُّ بالضرورة تغيُّراً  في القيم، ولكن ما إن تطرأ مجموعة من الظروف المستجدَّة حتى نجد القِيَم الأساسية هي التي تظهر مجدداً، فنستشعر أن الشخصيَّة المصرية لم تغيّر من قِيمها.
وأعود لأجيب عن تساؤلك أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها مصر في الأربعين عاماً الماضية، (وأهم هذه المتغيرات هو التضخُّم)، كلها مسؤولة عن التغيرات السلوكية التي طرأت على الشخصية المصرية، والعالِم الاقتصادي الشهير جون كينز له كلمة مشهورة مفادُها: «إن التضخم يمكن أن يدمِّر الحضارة بأكملها إذا ما زاد على معدل محدد»، وقد لاحظت متغيرات أخرى عديدة حدثت بفعل التضخم في بلاد كثيرة وليس مصر فقط، لكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل من الممكن أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه؟! أشك في ذلك جداً، فما ينتهي من الصعب أن يعود إلى الوجود مرة أخرى، وتبقى وتستمر أنماط السلوك الجديدة التي اكتسبها الإنسان، خاصةً مع استمرار ارتفاع معدلات التضخم، ولكني أحذر في الوقت نفسه من أن نستنتج من هذا أن الشخصية المصرية قد تغيرت.
< وهل يمكن للشخصية المصرية أن تتسم بالإيجابية بدلاً من السلبية وسط هذه المتغيرات التي تتعرض لها؟ 
-  معنى الإيجابية والسلبية أنك راضٍ عن هذا الأمر، وغير راضٍ عن ذاك، بينما في حالة التضخم مثلاً، باعتباره أكبر العناصر الموجِّهة للمتغيرات، فهو مهما بلغ حدُّه، ومهما كان له من آثار سلبية، قد تندهش من أنه قد تكون له آثار إيجابية أيضاً، وأضرب لك مثلاً على ذلك: خروج المرأة المصرية إلى العمل، وحصولها على قدر أكبر من الاستقلالية، كانا بفعل التضخم، الذي اضطرها إلى العمل، وهذا في رأيي أمر إيجابي وليس سلبياً، كما أن الرجال أصبحوا يفضلون الارتباط بالمرأة العاملة،  وبالتالي «المتعلمة»، لأن لديها فرصةً أفضل للعمل، وهذا أيضاً تطور إيجابي. الانفتاح أيضاً، كما أنه أتى بالتضخم، فقد فتح في المجال للشباب لاتصال أكبر مع العالم، بالسفر والتواصل عبر الإنترنت، ومجيء السياح إلى بلدهم، وهذا أيضاً من الآثار الجيدة له.  
< العالم يتكتَّل في اتجاه تذويب هوية الإنسان والقضاء على أنسنته من خلال تكريس مفاهيم العولمة، وتذويب الثقافات المحلية، واستعمال وسائل الاتصال السريعة ومنصات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى «تنميط» الإنسان عبر فرض نموذج محدد عليه ليُعد متماشياً مع العصر، سواء في نوع غذائه أو ملبسه أو لغته (واللغة ظهير الفكر ولا تنفصل عن القضايا التي يتم التفكير عبر اللغة فيها)... إلى أين يذهب العالم بالإنسان؟
- أتَّفِق معك بشدة في أن ما يحدث للإنسان الآن هو تذويبٌ لهويته، وأنا ضد تذويب وطمس الهويات، وهو أمر أراه مؤسفاً، ولي كتابات عدة حول ذلك، فالعالم يتجه بالفعل إلى تحويل كل شيء إلى سلعة، واحتلال الاقتصاد الاهتمام الأول في حياة الناس أكثر من الاعتبارات الأخرى الأخلاقية والجمالية والاجتماعية والدينية، هذا الاهتمام غير محبَّذ أو محمود، ولاحظت أن هذه الظاهرة تنطبِق على العولمة بشكلها العام، والعولمة هي التيار الذي يكتسح كل العالم، وهي من الأفكار التي أقف منها موقفاً سلبياً، لأن آثارها السلبية على العالم سيئة مقارنةً بإيجابياتها (فلها إيجابيات أيضاً)، ومع الأسف لا تبدو في الأفق وسيلةٌ لإيقافها، فمن قراءتنا للتاريخ عادةً يكون التطوُّر التكنولوجي هو العامل الحاسم في تطور التاريخ، والعولمة هي النتاج الحتمي للتطور التكنولوجي، فالمؤسسات الاقتصادية الكبرى أصبحت غير مكتفية بالأسواق الوطنية، ورأت أن عليها الخروج إلى العالم، ولكي تتقبلها الأسواق المحلية من بلدان العالم المختلفة، كان يجب تذويب هوياتهم من خلال تغيير أنماط السلوك لتلك المجتمعات. فهل يمكن إيقاف عجلة هذا التطور التكنولوجي الهائل أو حتى التقليل من سرعته؟ أنا أشك في ذلك، فمن الصعب على الإنسان الوقوف أمام السرعة الهائلة لتطور تلك التكنولوجيا، ولكني لا أريد أن أعبر عن يأس كامل حيال ذلك، فأحياناً كانت هناك بعض الأمم التي حاولت الخروج من هذا المأزق من خلال الانغلاق على نفسها لتحمي شخصيتها وهويتها، «هذا موجود إلى اليوم ولكن بصورة محدودة»، أما ذروة هذا التوجُّه فكانت في فترة الخمسينيات والستينيات، قبل ظهور تيار العولمة وقبل أن يقوى بالشكل الحالي، ولذلك فأنا غير متفائل كثيراً بهذا الاتجاه. وهناك مقولة شهيرة للفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل نصها: «منذ بدء الخليقة لم يتوقف الإنسان عن ارتكاب أي حماقة يجد نفسه قادراً على ارتكابها». وهي مقولة صحيحة إلى حدٍّ كبير، وأحد مظاهر هذه الحماقات الكبرى في هذا العصر، أن أي اكتشاف تكنولوجي جديد يجعل شيئاً ما ممكناً، يُصبح مرغوباً فيه بشدَّة، خاصة أن التكنولوجيا وتطبيقاتها لديها سحر غريب التأثير في الإنسان، وهي طبيعة موجودة في الإنسان بالانجذاب إلى كل ما هو غريب وجديد، إضافة إلى عامل آخر، وهو أن أول من يمتلك التكنولوجيا الحديثة هم الطبقة الغنية في المجتمعات، وتقلِّدهم فيها الطبقة الأقل ثراءً، وهكذا الأقل درجة في المجتمع يحاول أن يقلد من هم أعلى منه دون التحقق مما إذا كان من يعلوه «أحمق»، ولهذا أنا غير متفائل بهذا النمط السلوكي المجتمعي، وهذا ما حذر منه الفلاسفة عبر العصور منذ أفلاطون وإلى عصرنا هذا، نبَّهوا إلى خطر توارث الحماقة، التي نحن - مع الأسف - مازلنا نمارسها حتى يومنا هذا.
< هناك خصوصية ثقافية واجتماعية تُحدِّد الشخصية المصرية، هل لو استمر هذا الوضع من «تقليد الحماقة» والانحراف عن مسار مُحدَّدات هذه الشخصية إزاء تعرضها للعوامل التي تناولتها... هل سيتغير تكوين هذه الشخصية بعد فترةٍ من الزمن؟
- هذا التغير يحدُث بالفعل من الآن وليس علينا انتظار زمنٍ لنراه! يتم شيئاً فشيئاً. صحيح أنني نفيت أن تكون الشخصية تتغير بشدة، ولكن ما يحدث أن سلوكها يتغير في البداية، وإذا استمر هذا السلوك وواصل تقدّمه مع الوقت، فإنه يرتبط بالشخصية ويصبح من سماتها، ولكي نتأكد من صحة ذلك، يُمكن أن نرجع إلى حالة المصريين في عهد محمد علي، منذ مائتي عام، ونعرف حالتنا الآن، (حالتنا الأولى نعرفها من الكتب والتاريخ، أما حاضرنا الآن وأحوالنا فنعرفهما من المعايشة)، إلى أي مدى تغيرت هوية الإنسان المصري نتيجةً لاتصاله بالعالم؟ حتماً حدثت تغيُّرَات، ولكن تحت أي مسمى يمكن أن نُصنِّف هذه التغيُّرات؟ هل هو تغيُّر في الشخصية أم تغيُّر في الهوية، أم تغيُّر في السلوك أم العواطف أم في الطموحات؟ أعتقد أن الخلاف هنا لفظيّ. وحتى لو بدا أن هناك اختلافات بين مدلولات هذه الكلمات، فإن هناك رابطاً فعلياً بينها، فالسلوك لا ينفصم عن الهوية، فيمكن للإنسان أن يكتشف الهوية من السلوك عبر رصد واكتشاف كيفية تفكير الناس واتجاهاتهم في سلوكهم ومعاملاتهم. 
< استطعت «خلخلة» فكرة «التقدُّم والتأخُّر بين الأمم»، التي تبني عليها الأمم مواقعها من التاريخ والقدرة على الفعل: الاستعمار -المباشر أو الفكري- الهيمنة، التدخل في مصائر ومُقدَّرات الشعوب... كيف نستطيع تنحية هذا المُعطى (التقدُّم والتخلُّف) من واقع عالمنا اليوم، بينما مازالت قسمة الغرب المتفوِّق حَضَاريَّاً والشرق المنتكِس الغارق في الصراعات والحروب والفقر قائمة بالفعل؟
- ليست هناك طريقة إلا ما يسمى باللحاق بالأمم الأقوى، بالفعل أنا رفضت فكرة التقدم والتخلف على أساس أن التقدم عادةً مقترنٌ بالتخلف في مجالات أخرى، فالمتقدم ليس معناه أنه متقدم في كل شيء، بينما فكرة التقدم والتخلف تفترض أن المتقدم سابق في كل شيء، والمتخلف متراجع في جميع المجالات، ولكن من المؤكد أن الأمم التي نطلق عليها صفة المتقدمة هي الأقوى، تستطيع فرض إرادتها على شعوب أخرى، ولا يوجد حل أمام الأمم المتخلفة إلا بتقوية ذاتها، وهناك بعض الدول خلال الخمسين عاماً الماضية نجحت في ذلك، وبعضها الآخر لم يُكتَب له النجاح، من الدول الناجحة إلى حدٍّ كبير الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا والهند بدأت تخطو نحو النجاح، وأنا أرى أن القوة مرتبطة بالحالة الاقتصادية، حتى القوة العسكرية لن تتطور إلا بالاستناد إلى قوة اقتصادية.
< نحن نعلم من قبل أحداث 11 سبتمبر بنموذج تقسيم المنطقة العربية إلى دويلات، وعلى الرغم من أن هذا المخطط قديم فإننا نشهد تنفيذه، وبدلاً من استغلال معرفتنا ووعينا بما يحاك للمنطقة، واصلنا التقدُّم نحو هاوية التقسيم المخطط لها منذ أكثر من عشرين عاماً... فما الأفق الذي تراه أو تتوقعه؟
- القادم أسوأ بكثير، نحن نشهدُ مرحلةً من ضعف الإرادة بدرجة أكبر من أي وقت مضى، سواء على مستوى الأنظمة أو على مستوى الشعوب، لأن ما يسمى بـ «الربيع العربي» ظهر وكأنه فترة من فترات فقدان الإرادة  لا استعادتها... الوعي إن لم  يكن مقترناً بالقوَّة لا فائدة منه.
< من وحي كتابك «كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية» منذ مشروع مارشال في أوربا، ومنذ ظهور الولايات المتحدة كقوة اقتصادية كبرى، مازالت خريطة العالم الاقتصادية على حالها، الشمال الغني الغارق في الوفرة، وشعوب العالم الثالث الغارقة في الفقر برغم وفرة الموارد، لماذا لا تنجح المؤسسات الاقتصادية الكُبرى (البنك الدولي- صندوق النقد- مؤسسة التجارة العالمية)...إلخ، في دعم الشعوب الفقيرة ومساعدة المجتمعات النامية بالفعل؟
- المُلاحَظ في العشرين عاماً الأخيرة أن المركز الاقتصادي (النسبي) للولايات المتحدة الأمريكية في تدهور، ويقترن بذلك صعود مراكز اقتصادية أخرى، خاصةً في شرق آسيا، ومع تدهور الاقتصاد تتدهور القوة العسكرية النسبية أيضاً، حتى ولو لم يظهر ذلك الآن، فمسألة ظهورها مسألة وقتية، أما في ما يتعلق بالمؤسسات الدولية، فهذه المؤسسات دائماً ما تكون في خدمة القوى الكبرى، وفي هذه الحالة هي تخدم الولايات المتحدة، على الرغم من أنها تمر بمرحلة ضعف الآن، فإنه على الرغم من ضعفها الحالي مازالت أكبر قوة عالمية حتى الآن.
< عايشت مصر والمنطقة العربية في خمسينيات القرن الماضي، إلى اليوم، وانتقلت، بوعيك الراصد والمُحلِّل من حقبةٍ إلى أخرى، رأيت فيها تهاوي أو «تبدُّل (الأفكار الكُبرى)، من الاشتراكية إلى الانفتاح إلى الرأسمالية الطفيلية... إلخ. أين ترى مستقبل مصر والمنطقة وسط كل هذه التبدُّلات الحادة والمتلاحقة؟
- مستقبل مصر (وإلى حدٍّ كبيرٍ جداً بقية الدول العربية)، مرتبط بدرجة كبيرة جداً بالمناخ الدولي، نحن نتقدَّم أو نتأخر وفقاً للمناخ الدولي القائم، محمد علي وجمال عبدالناصر كانا يحكمان مصر في وقت كان المناخ الدولي آنذاك مختلفاً جداً عما آل إليه بعدهما، سواء في الولاة الذين خلفوا محمد علي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أو الرؤساء الذين جاءوا بعد عبدالناصر، فإجابتي عن  هذا السؤال تتوقف على ما الذي أتوقعه من المناخ الدولي، من ملاحظتي لما يحدث على الساحة الدولية- وأنا ذكرت أن مركز الولايات المتحدة يتهاوى- أرى أن الساحة الدولية غير واضحة المعالم حالياً، وهو ما يذكرني إلى حدٍّ ما بما حدث في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما مهَّد المناخ الدولي آنذاك لانتقال الصراع من إنجلترا وفرنسا إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، ولم يظهر هذا بوضوح إلا بعد مرور عشر سنوات من الحرب العالمية الثانية، ما يحدث الآن- مع الفارق- بوادر ظهور صراع جديد لم يتَّضِح بعد، مثلما قلت في بداية الحوار: الصين والدول المحيطة بها من ناحية والولايات المتحدة وأوربا معها من ناحية أخرى، وبالتالي فالمناخ الدولي لم يتبلور بعد، وفي رأيي أن  «الربيع العربي» وعدم استقراره أو وصوله إلى نتائج أو شيء واضح كانا نتيجة عدم تبلور النظام الدولي لما يحدث على الساحة الدولية، ولهذا - على سبيل المثال - أعلق أهمية كبيرة على الاتفاق الذي سيتم بين الولايات المتحدة وروسيا بخصوص القضية السورية، وما له من تأثيرات على الوضع الداخلي المصري، لأن من قراءتي للتاريخ أرى أن مصر تتغيّر عندما تتغيّر العلاقات الدولية الكبرى، ولهذا نحن في موقف المشاهد ليس لنا دور، ولهذا تظل إجابتي عن سؤالك معلقة إلى أن تتضح الصورة الجديدة التي سيتبلور عنها شكل العلاقات الدولية.
< في أعمالك الأدبية ذات طابع السيرة الذاتية: «رحيق العمر» و«ماذا علَّمتني الحياة»... تركت كثيراً من أفكارك ورؤاك عن رحلتك مع العالم باحثاً ومُفكّراً... ما الذي لم تقله في هذين العملين بعد الانتهاء منهما، وتمنيت لو أضفته الآن بعد هذه السنوات... من خلاصة تجربتك في الحياة؟
- هذا سؤال صعب، فأنا ألَّفت كِتاباً أخيراً اسمه «مكتوب على الجبين- حكايات على هامش السيرة الذاتية» بعد هذين العملين بعشر سنوات، وهو الجزء الثالث من حكايات على هامش السيرة الذاتية، وكتبت فيه ما رصدته نتيجة تفكير كثير، (ومن يفكر كثيراً لديه دائماً ما يقوله)، ومازال عندي أكثر من ذلك، ولكني لا أستطيع ملاحقة الوقت والأفكار «مش ملاحق»، وأفكر جدياً في تأليف كتاب بعنوان قد يُشبِه «ماذا علمتني الشيخوخة؟» مثلاً، لأن الشيخوخة لها أفكار مختلفة تماماً عن رؤى الإنسان أو أفكاره وهو شابٌّ أو كهلٌ، وأعتقد أن هذه الأفكار الواردة في هذا العمل ستكون مفيدة، لأكثر من سبب، منها أنه كلما امتدت بنا الحياة، نكتشف وتتضح لنا أمور لم تكن لتلفت انتباهنا في مراحل سابقة، في ذلك العمر تستطيع أن ترصد وتشاهد عن قرب قصة المحيطين من حولك من بدايتها حتى النهاية، وهذا يجعلني أفهم أكثر من ذي قبل، كيفية بداية رحلة إنسان ما وإلى أين انتهى، وما الذي أثر فيه وفي حياته، وكيف كانت طموحاته، وكيف قطع حياته? فهذه أفكار من أفكار مرحلة الشيخوخة، أن تدرك أموراً لم تفهمها في وقت سابق، بفعل التأمُّل والتفكُّر والزمن أيضاً.
< تنتمي إلى جيل من «مؤسسي الأفكار» في الفكر المصري والعربي؛ د. عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم ود. أنور عبدالملك ود. زكي نجيب محمود ود. حسن حنفي وصلاح عبدالصبور... إلخ، هذه القامات الكبيرة التي سطعت أفكارها بقوة لعقود منذ خمسينيات القرن الماضي حتى بدأنا نستشعر غياب أفكارهم في «زحام» عصر الفوضى الذي نعيشه... هل ترى أن الاتجاهات  الفكرية التي ناضلت هذه النخبة المؤسسة - وزملاؤهم أيضاً ممن لم أذكر أسماءهم- لترسيخها في بنية المجتمع المصري والعربي ستظل مستمرةً في ظل المتغيرات التي نعيشها, أم ستتلاشى بعد غيابهم الفعلي؟
- لا شيء يتلاشى، والأفكار لن تتلاشى، ولكن كما ذكرت لك من قبل، نحن نعيش في عصر تتزايد فيه أهمية الاقتصاد بشكل كبير وأهمية الفكر تضعف، وقد لفت انتباهي أخيراً مقالة قرأتها في «الجارديان» البريطانية لكاتب علَّقَ فيها على تدهور الفِكر الفرنسي، وكيف برزت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي عقول مفكرة كبيرة ومؤثرة جداً، أما الآن فلا يوجد ما يماثلها، وهو الأمر نفسه الحادث في مصر، وأنا عاصرت تلك القضية في إنجلترا أيضاً، إلى جانب دول أخرى مثل الهند، ويمكنك مقارنة الهند في عصر غاندي ونهرو والآن، فأحد التفسيرات لهذا الوضع أننا نعيش في عصر الاقتصاد، ولكن هذا لا يعني تلاشي الأفكار، فدائماً هناك أفكار ولكن تتغير نوعياتها، أنا أستبعِد جداً أن تظهر شخصيات مثل طه حسين، أو عبدالعظيم أنيس أو الشيخ محمد عبده، أو أم كلثــــوم، نحــــن لا نريد من المفكرين أو المبدعين الجدد أن يكونوا نسخة من الجيل السابق، لأن الظروف تتغيّر، لكن إذا سمحت لي بالتشاؤم قليلاً، فإن عصر هؤلاء القمم ينتهي بالفعل - ما لم تحدث في العالم مفاجآت- فمثلاً في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008, ظهرت مجموعة من الآراء التي ترى في ما حدث نهاية للعالم الرأسمالي وعصره, وفكرت أنه آن الأوان لظهور نظام اقتصادي, جديد والبعض الآخر رأى أنه على الدول أن تتجمع, وأن تأتي بحكومة عالمية تفرض إرادتها بديلةً عن العالم الرأسمالي وزعاماته، ورأيي أن هذا إفراط في التفاؤل، لأن الرأسمالية أثبتت أنها قادرة على تجديد نفسها، من دون أن يظهر بديل إيجابي لها مما كنا نحلم به .