أندريه تاركوفسكي: صناعة الأفلام تعني البحث عن الجمال الخالص

يتهيب‭ ‬المرء‭ ‬عند‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬أندريه‭ ‬تاركوفسكي،‭ ‬فهناك‭ ‬أولاً‭ ‬الإشفاق‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬عند‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬العظيم،‭ ‬وهناك‭ ‬أيضاً‭ ‬حشود‭ ‬الأفكار‭  ‬التي‭ ‬تتلاحق‭ ‬حين‭ ‬يُذكر‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬أو‭ ‬أحد‭ ‬أعماله،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬ألا‭ ‬تكون‭ ‬الكلمات‭ ‬هي‭ ‬الوسيلة‭ ‬الأنسب‭ ‬للتعبير‭  ‬عن‭ ‬سينماه،‭ ‬بثقلها‭ ‬البصري‭ ‬والروحي‭ ‬والميتافيزيقي‭. ‬لذلك‭ ‬اخترنا‭ ‬أسلوب‭ ‬الملاحظات‭ ‬لكتابة‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬آملين‭ ‬أن‭ ‬نبرز‭  ‬الفكرة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تجميل‭ ‬الصياغات،‭ ‬سعياً‭ ‬لتجنب‭ ‬الالتباس‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يسببه‭ ‬استخدام‭ ‬جماليات‭ ‬اللغة‭ ‬عند‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬سينما‭ ‬تاركوفسكي،‭ ‬وهو‭ ‬التباس‭ ‬مطلوب‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الفني،‭ ‬مكروه‭ ‬عند‭ ‬التصدي‭ ‬لقراءته‭. ‬

لا‭ ‬يفوت‭ ‬القارئ‭ ‬الذي‭ ‬أوتي‭ ‬نفاذ‭ ‬البصيرة‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المقدمة‭ ‬الزائدة،‭ ‬إنما‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التماس‭ ‬العذر‭ ‬لمحاولة‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬تاركوفسكي‭. ‬

 

أرثوذكسية‭ ‬الفن

في‭ ‬البداية‭ ‬هناك‭ ‬ملمح‭ ‬الرجل‭ ‬الملتزم‭ ‬أشد‭ ‬الالتزام‭ ‬بعمله،‭ ‬فتاركوفسكي‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬طينة‭ ‬الكسالى‭ ‬الملهمين‭ ‬المنجرفين‭ ‬في‭ ‬أحلامهم‭. ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬يمقت‭ ‬تلك‭ ‬الخرافة‭ ‬التي‭ ‬خلقها‭ ‬الفنان‭ ‬البوهيمي‭ ‬حول‭ ‬عملية‭ ‬الإبداع،‭ ‬وكان‭ ‬الالتزام‭ ‬عنده‭ ‬يعني‭ ‬صنع‭ ‬الأفلام‭ ‬بوعي‭ ‬كامل،‭ ‬ويعني‭ ‬أيضاً‭ ‬التضحية،‭ ‬وواجب‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬جمهوره‭ ‬لإيقاظ‭ ‬الجانبين‭ ‬الجمالي‭ ‬والروحاني‭ ‬فيه،‭ ‬لا‭ ‬تدميرهما‭. ‬أرثوذكسية‭ ‬الفن‭ ‬عند‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬تبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬يطالب‭ ‬بشروط‭ ‬قدسية‭ ‬الممارسة‭ ‬الدينية‭ ‬نفسها‭: ‬إيمان،‭ ‬وصبر،‭ ‬ومواظبة،‭ ‬وإخلاص،‭ ‬وتضحية‭. ‬في‭ ‬محادثة‭ ‬له‭ ‬مع‭ ‬السيناريست‭ ‬الإيطالي‭ ‬تونينو‭ ‬جويرا،‭ ‬يقول‭ ‬تاركوفسكي‭: ‬االسينما‭ ‬فن‭ ‬معقد‭ ‬ومهم‭ ‬جداً،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نقدم‭ ‬ذواتنا‭ ‬قرباناً‭ ‬لهذا‭ ‬الفنب‭.‬

ملمح‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬أخلاق‭ ‬الفن‭ ‬عند‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬السينمائي‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬المتواصل‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭ ‬الخالص‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مطمح‭ ‬كبار‭ ‬الفنانين‭ ‬كما‭ ‬كبار‭ ‬الصوفيين؛‭ ‬ذلك‭ ‬الجمال‭ ‬الذي‭ ‬يظل‭ ‬وفياً‭ ‬لطبيعته‭ ‬الجوهرية‭ ‬عندما‭ ‬تُحجب‭ ‬الصنعة‭ ‬والعمليات‭ ‬التقنية‭. ‬كان‭ ‬عمله‭ ‬هو‭ ‬سعي‭ ‬دائم‭ ‬للإمساك‭ ‬بهذا‭ ‬الجمال؛‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬فكرة،‭ ‬ولقطة،‭ ‬وتشكيل،‭ ‬وتعبير،‭ ‬ولون،‭ ‬وحركة‭. ‬إن‭ ‬عبقرية‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬هي‭ ‬عبقرية‭ ‬جمالية‭ ‬تتغذى‭ ‬على‭ ‬الجمال،‭ ‬وأصبحت‭ ‬معه‭ ‬السينما‭ ‬ذ‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ - ‬موضوعاً‭ ‬للجمال‭. ‬نتذكر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬مقولة‭ ‬ستيفان‭ ‬تروفيموفيتش‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬االشياطينب‭ ‬لدوستويفسكي‭ ‬اوالذي‭ ‬كان‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬يحبه‭ ‬ويقدره‭ ‬كثيراًب‭: ‬اهل‭ ‬تعلمون‭ ‬أن‭ ‬الإنسانية‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تستغني‭ ‬عن‭ ‬الخبز،‭ ‬وعن‭ ‬العلم،‭ ‬ولكنها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تستغني‭ ‬عن‭ ‬الجمال؟‭! ‬إن‭ ‬الجمال‭ ‬وحده‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬لها‭ ‬عنه،‭ ‬إذ‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الجمال‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬لنا‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬ما‭ ‬نعمله‭! ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬السر‭ ‬كله‭! ‬ذلكم‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬التاريخ‭!‬ب‭.‬

ربما‭ ‬يكون‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬السينمائيين‭ ‬الذين‭ ‬تمسكوا‭ ‬بحريتهم‭ ‬في‭ ‬الإبداع،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬المعاناة‭ ‬والحصار‭ ‬اللذين‭ ‬جوبه‭ ‬بهما‭ ‬داخل‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي؛‭ ‬من‭ ‬السياسيين‭ ‬والرقباء‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭. ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬شرط‭ ‬الفنان‭ ‬السينمائي‭ ‬هو‭ ‬الإخلاص‭ ‬الكامل‭ ‬لفنه،‭ ‬وكان‭ ‬تقديره‭ ‬ضئيلاً‭ ‬لمن‭ ‬هم‭ ‬ليسوا‭ ‬أهلاً‭ ‬لذلك؛‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يضعون‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬السياسي‭ ‬أو‭ ‬التاجر‭. ‬كان‭ ‬أيضاً‭ ‬يمقت‭ ‬طريقة‭ ‬اهوليوودب‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬الأفلام‭ ‬التجارية‭ ‬بالطريقة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬بها‭ ‬إنتاج‭ ‬السجائر‭ ‬والمياه‭ ‬الغازية،‭ ‬ولكونه‭ ‬فناناً‭ ‬حراً‭ ‬كان‭ ‬يحتقر‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬النجاح،‭ ‬وعرف‭ ‬أن‭ ‬الثمن‭ ‬الذي‭ ‬يُدفع‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬الجمال‭ ‬الخالص‭ ‬هو‭ ‬التضحية‭ ‬بالنفس‭ ‬قرباناً‭ ‬للفن‭.‬

 

الزمن‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬تاركوفسكي

آمن‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬بأن‭ ‬المادة‭ ‬الخام‭ ‬للسينما‭ ‬هي‭ ‬الزمن،‭ ‬فهو‭ ‬المادة‭ ‬الأولية‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬السينمائي‭ ‬أن‭ ‬يخلقها؛‭ ‬هو‭ ‬مكمن‭ ‬قوة‭ ‬وفخر‭ ‬السينما‭ ‬اونقطة‭ ‬ضعفها‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحدب،‭ ‬فالسينما‭ ‬هي‭ ‬الوسيلة‭ ‬الفنية‭ ‬الأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬عرض‭ ‬الزمن،‭ ‬والوعي‭ ‬بجمالياته،‭ ‬وبنائيته،‭ ‬وتحولاته‭. ‬

ربما‭ ‬يكون‭ ‬فيلمه‭ ‬االمرآةب‭ ‬هو‭ ‬المثال‭ ‬الأوضح‭ ‬على‭ ‬الفكرة‭ ‬المعقدة‭ ‬للزمن‭ ‬لدى‭ ‬تاركوفسكي،‭ ‬وعلى‭ ‬طريقته‭ ‬في‭ ‬استخدام‭ ‬الزمن‭. ‬فـ‭ ‬االمرآةب‭ ‬هو‭ ‬فيلم‭ ‬عن‭ ‬المخرج‭ ‬نفسه‭ ‬وعن‭ ‬ذكريات‭ ‬طفولته،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يتناول‭ ‬زماناً‭ ‬واحداً،‭ ‬بل‭ ‬يتراوح‭ ‬السرد‭ ‬فيه‭ ‬بين‭ ‬الأمام‭ ‬والخلف،‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬والماضي،‭ ‬وعلى‭ ‬نحو‭ ‬يصبح‭ ‬فيه‭ ‬الماضي‭ ‬حاضراً،‭ ‬وتذوب‭ ‬فيه‭ ‬الخطوط‭ ‬الفاصلة‭ ‬بينهما،‭ ‬بفكرة‭ ‬الديمومة‭ ‬نفسها‭ ‬عند‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الكبير‭ ‬هنري‭ ‬برجسون؛‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬الزمن‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬الزمن‭ ‬النفسي‭ ‬الداخلي،‭ ‬الذي‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬لحظات‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬متجددة‭ ‬دون‭ ‬انقطاع،‭ ‬تتداخل‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬بعضاً‭ ‬لتشكل‭ ‬تياراً‭ ‬واحداً،‭ ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬يكون‭ ‬الزمن‭ ‬هو‭ ‬ديمومة‭ ‬حية‭ ‬ومعيشة،‭ ‬يعيشها‭ ‬الإنسان‭ ‬داخلياً،‭ ‬وتُبقي‭ ‬الأحوال‭ ‬الماضية‭ ‬حية‭ ‬ومتجانسة‭ ‬وعضوية‭ ‬داخل‭ ‬الأحوال‭ ‬الحاضرة‭. ‬

يتحرك‭ ‬فيلم‭ ‬االمرآةب‭ ‬بحرية‭ ‬محسوبة‭ ‬حساباً‭ ‬دقيقاً،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحاضر‭ ‬والماضي،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الألوان‭ ‬والأبيض‭ ‬والأسود،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الدراما‭ ‬والمادة‭ ‬التسجيلية‭ ‬وإعادة‭ ‬خلق‭ ‬الوقائع‭. ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬تناوله‭ ‬للماضي‭ ‬ليس‭ ‬فيلماً‭ ‬عادياً‭ ‬من‭ ‬أفلام‭ ‬السير‭ ‬الذاتية‭ ‬للمخرجين‭. ‬فحتى‭ ‬الجزء‭ ‬التسجيلي‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬الذي‭ ‬يتناول‭ ‬فترات‭: ‬1935م،‭ ‬1943م،‭ ‬1969م،‭ ‬يكون‭ ‬التذكر‭ ‬فيه‭ ‬تذكراً‭ ‬موضوعياً‭ ‬لا‭ ‬ذاكرة‭ ‬ذاتية‭. ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬تبدو‭ ‬المشاهدة‭ ‬الأولى‭ ‬صعبة‭ ‬ومربكة،‭ ‬فإن‭ ‬المشاهدات‭ ‬التالية‭ ‬تثبت‭ ‬كم‭ ‬أن‭ ‬الفيلم‭ ‬شديد‭ ‬الطبيعية‭ ‬والاتساق‭ ‬والعضوية‭ ‬في‭ ‬حكي‭ ‬قصة‭ ‬الذكريات‭ ‬باستخدام‭ ‬الأسلوب‭ ‬البصري‭. ‬إن‭ ‬فيلم‭ ‬االمرآةب‭ ‬يطمح‭ ‬إلى‭ ‬الحب،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬نظرة،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬نظرة‭. ‬فالفيلم‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬الصدمات،‭ ‬يتسلل‭ ‬في‭ ‬المشاهدات‭ ‬التالية‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬المتفرج،‭ ‬فيصبح‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬خبرته‭ ‬الشخصية،‭ ‬وكأن‭ ‬مضي‭ ‬الزمن‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬المحدد‭ ‬لتقييم‭ ‬جمالية‭ ‬الفيلم،‭ ‬مثلما‭ ‬تبدو‭ ‬قطعة‭ ‬موسيقية‭ ‬غريبة‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬ثم‭ ‬تعتادها‭ ‬النفس‭ ‬حتى‭ ‬تصبح‭ ‬هي‭ ‬المثال‭ ‬على‭ ‬الطبيعية‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬لأن‭ ‬فيها‭ ‬تتحقق‭ ‬قوانين‭ ‬الجمال‭. ‬

إن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عند‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬هو‭ ‬عن‭ ‬الزمن،‭ ‬والمكان‭ ‬عنده‭ ‬خادم‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬الزمن،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يحل‭ ‬تعبيرياً‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬محل‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬القصد،‭ ‬كما‭ ‬تحل‭ ‬المسافة‭ ‬المكانية‭ ‬محل‭ ‬المسافة‭ ‬الزمانية،‭ ‬فيصبح‭ ‬النجم‭ ‬المذنّب‭ ‬الذي‭ ‬يقطع‭ ‬المسافة‭ ‬المكانية‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬هو‭ ‬الرمز‭ ‬لتحقيق‭ ‬أمنية‭ ‬يتمناها‭ ‬المرء‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬مقبل،‭ ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬يصبح‭ ‬المكان‭ ‬رمزاً‭ ‬للزمن‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬اسولاريسب،‭ ‬الذي‭ ‬تدور‭ ‬أحداثه‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬فضائية‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الأرض‭ ‬وقريبة‭ ‬من‭ ‬كوكب‭ ‬غريب‭ ‬يرسل‭ ‬الذكريات‭ ‬الشخصية‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يقترب‭ ‬منه،‭ ‬فتمحى‭ ‬الفواصل‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر،‭ ‬بل‭ ‬يصبح‭ ‬الماضي‭ ‬أقوى‭ ‬حضوراً‭ ‬من‭ ‬الحاضر‭ ‬نفسه‭ ‬افي‭ ‬صورة‭ ‬الزوجة‭ ‬المتوفاة‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬مراراً‭ ‬للحياة‭ ‬مع‭ ‬البطل‭ ‬في‭ ‬المحطة‭ ‬الفضائيةب‭. ‬في‭ ‬اسولاريسب،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬انوستالجياب،‭ ‬الزمن‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬الزمن‭ ‬الأرضي‭ ‬الدنيوي،‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬زمن‭ ‬النسيان،‭ ‬ولكنه‭ ‬زمن‭ ‬التذكر،‭ ‬زمن‭ ‬الديمومة‭. ‬وجعل‭ ‬الديمومة‭ ‬حاضرة‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬والماضي‭ ‬جزءاً‭ ‬حيوياً‭ ‬من‭ ‬الحاضر‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يُخلص‭ ‬الروح‭ ‬من‭ ‬وسواس‭ ‬الزمن،‭ ‬وهو‭ ‬نفس‭ ‬ما‭ ‬حاول‭ ‬القيام‭ ‬به‭ ‬سابقاً‭ ‬مارسيل‭ ‬بروست‭ ‬في‭ ‬رائعته‭ ‬االبحث‭ ‬عن‭ ‬الزمن‭ ‬الضائعب،‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬تخليق‭ ‬الخبرة‭ ‬الماضية‭ ‬ضمن‭ ‬شروط‭ ‬الحاضر‭ ‬المعيش‭. ‬

هنا‭ ‬تتحد‭ ‬الحياة‭ ‬الفعلية‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬التأملية،‭ ‬ويكون‭ ‬كلاهما‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الذهن،‭ ‬وتطيع‭ ‬الذاكرة‭ ‬نداءات‭ ‬الذهن‭ ‬وتستجيب‭ ‬له‭. ‬فزمن‭ ‬الديمومة‭ ‬متكامل‭ ‬وليس‭ ‬ممزقاً‭ ‬ولا‭ ‬متشظياً،‭ ‬فالماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬يدوران‭ ‬في‭ ‬تيار‭ ‬واحد،‭ ‬لكنهما‭ ‬بالنسبة‭ ‬لتاركوفسكي،‭ ‬كما‭ ‬كانا‭ ‬بالنسبة‭ ‬لبروست،‭ ‬ماض‭ ‬وحاضر‭ ‬منتقيان‭ ‬بعناية‭.‬

إن‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬لا‭ ‬ينفتح‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬القلة‭ ‬القليلة‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬مغزى‭ ‬ودلالة؛‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬كأيام‭ ‬تكتمل‭ ‬فيها‭ ‬دائرة‭ ‬الزمن،‭ ‬إلى‭ ‬الدرجة‭ ‬التي‭ ‬تعيدنا‭ ‬فيها‭ ‬مشاهد‭ ‬التذكر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الأزمنة‭ ‬القديمة،‭ ‬والأيام‭ ‬البدائية،‭ ‬في‭ ‬منطق‭ ‬أشبه‭ ‬بالأحلام،‭ ‬وكأن‭ ‬أفلامه‭ ‬تريد‭ ‬تذكيرنا‭ ‬بمعطيات‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التاريخ،‭ ‬وكأن‭ ‬الصور‭ ‬السينمائية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تستطعه‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬أي‭ ‬خبرة‭ ‬إنسانية‭.‬

االمرآةب‭ ‬واسولاريسب‭ ‬وانوستالجياب‭ ‬لا‭ ‬تبدو‭ ‬أفلاماً‭ ‬عن‭ ‬تأبين‭ ‬أزمنة‭ ‬أفلتت‭ ‬وانقضى‭ ‬أوانها‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬أفلام‭ ‬عن‭ ‬التذكر،‭ ‬ليس‭ ‬بوصفه‭ ‬تاريخاً،‭ ‬بل‭ ‬بوصفه‭ ‬مما‭ ‬قبل‭ ‬التاريخ‭. ‬فالالتقاء‭ ‬بالحيوات‭ ‬السابقة‭ ‬للبطل‭ ‬يجعلنا‭ ‬كأننا‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬أعياد،‭ ‬وما‭ ‬يجعل‭ ‬الأعياد‭ ‬عظيمة‭ ‬هو‭ ‬الالتقاء‭ ‬بحيوات‭ ‬من‭ ‬احتفلوا‭ ‬بها‭ ‬سابقاً‭ ‬والإنصات‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬همهمة‭ ‬الماضي‭. ‬إن‭ ‬الزمن‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬يصبح‭ ‬محسوساً‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬فائق،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬الزمن‭ ‬هنا‭ ‬خارج‭ ‬التاريخ،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬التاريخ‭ ‬يعني‭ ‬التسلسل‭ ‬الزمني‭ ‬الذي‭ ‬يترك‭ ‬عرشه‭ ‬لمفهوم‭ ‬الزمن‭ ‬بوصفه‭ ‬الديمومة؛‭ ‬بوصفه‭ ‬الأبدية‭.‬

 

بعض‭ ‬الخصائص‭ ‬البصرية‭ ‬لسينما‭ ‬تاركوفسكي

يعارض‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬براديكالية‭ ‬استخدام‭ ‬المخرج‭ ‬والمنظر‭ ‬الروسي‭ ‬سيرجي‭ ‬أيزنشتاين‭ ‬لأسلوب‭ ‬االمونتاج‭ ‬الفكريب؛‭ ‬أي‭ ‬تجميع‭ ‬لقطتين‭ ‬لهما‭ ‬فكرتان‭ ‬مختلفتان،‭ ‬مما‭ ‬يُنتج‭ ‬فكرة‭ ‬ثالثة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬المُشاهد،‭ ‬ويعارض‭ ‬أيضاً‭ ‬ما‭ ‬يستتبع‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أسلوب‭ ‬الإيقاع‭ ‬السريع‭. ‬كان‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬أسلوب‭ ‬أيزنشتاين‭ ‬لا‭ ‬يترك‭ ‬مساحة‭ ‬لروح‭ ‬المُشاهد،‭ ‬ولا‭ ‬مكاناً‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬مسكوت‭ ‬عنه،‭ ‬ولا‭ ‬للصوت‭ ‬الداخلي‭ ‬في‭ ‬الإنسان،‭ ‬ولا‭ ‬للالتباس‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الفن‭.‬

لقطة‭ ‬للجماهير‭ ‬المحتشدة‭ (+) ‬تتبعها‭ ‬لقطة‭ ‬لتمثال‭ ‬لأسد‭ ‬يهم‭ ‬بالنهوض‭ (=) ‬تساوي‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬الجماهير‭ ‬ستقوم‭ ‬بثورة؛‭ ‬كان‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬يكره‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬السينما،‭ ‬لأنه‭ ‬يرفض‭ ‬فرض‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الميكانيكية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬صلب‭ ‬العمل،‭ ‬ولأن‭ ‬تشظية‭ ‬الزمن،‭ ‬والمكان،‭ ‬والحدث،‭ ‬ضد‭ ‬طبيعته،‭ ‬ولذلك‭ ‬رفض‭ ‬أيضاً‭ ‬استخدام‭ ‬القطع‭ ‬المتوازي‭ (‬أي‭ ‬عرض‭ ‬حدثين‭ ‬يقعان‭ ‬في‭ ‬مكانين‭ ‬مختلفين‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬نفسه‭). ‬

إن‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬لا‭ ‬يستخدم‭ ‬التتابع‭ ‬السينمائي‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬متعارف‭ ‬عليه‭ ‬كلاسيكياً،‭ ‬بل‭ ‬تبدو‭ ‬أفلامه‭ ‬وكأنها‭ ‬مضادة‭ ‬للسينما‭. ‬السينما‭ ‬التي‭ ‬أخضعت‭ ‬مركز‭ ‬الحس‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬الإنسان‭ ‬لنوع‭ ‬معقد‭ ‬من‭ ‬التدريب،‭ ‬والتي‭ ‬راحت‭ ‬تشبع‭ ‬حاجة‭ ‬جديدة‭ ‬خلقتها‭ ‬إلى‭ ‬المثيرات،‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬يؤسَس‭ ‬الإدراك‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬صدمات‭ ‬متتالية،‭ ‬وكأن‭ ‬إيقاع‭ ‬الإنتاج‭ ‬الصناعي‭ ‬الكبير‭ ‬على‭ ‬سير‭ ‬ناقل‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬خط‭ ‬التجميع‭ ‬قد‭ ‬انتقل‭ ‬هو‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬طريقة‭ ‬الفرجة،‭ ‬وحدد‭ ‬إيقاع‭ ‬الفيلم‭.‬

هنا‭ ‬يأتي‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬ليطيح‭ ‬بكل‭ ‬ذلك‭ ‬بضربة‭ ‬جمالية‭ ‬واحدة،‭ ‬وكأنه‭ ‬يبارز‭ ‬الإنتاج‭ ‬الكبير‭ ‬بالعمل‭ ‬اليدوي‭ ‬الحرفي‭ ‬المرتبط‭ ‬بإرادة‭ ‬صانعه،‭ ‬تلك‭ ‬الإرادة‭ ‬التي‭ ‬تختفي‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬الرأسمالي‭ ‬الفيلمي،‭ ‬حيث‭ ‬الإنتاج‭ ‬فيها‭ ‬مستقل‭ ‬عن‭ ‬إرادة‭ ‬السينمائي؛‭ ‬يدخل‭ ‬الفيلم‭ ‬إلى‭ ‬مجال‭ ‬حركته‭ ‬ويبتعد‭ ‬في‭ ‬خط‭ ‬الإنتاج‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إرادته،‭ ‬ويتعلم‭ ‬الجميع‭ ‬تنسيق‭ ‬حركاتهم‭ ‬وحيواتهم‭ ‬وأفكارهم‭ ‬مع‭ ‬الحركة‭ ‬المنتظمة‭ ‬للإنتاج‭ ‬السينمائي‭ ‬الكبير؛‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬بدوره‭ ‬كمخدر،‭ ‬وكوسادة‭ ‬لامتصاص‭ ‬الصدمات‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الاستهلاكي؛‭ ‬مثل‭ ‬العربات‭ ‬المتصادمة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الملاهي‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بدور‭ ‬الإلهاء‭ ‬وتفريغ‭ ‬الصدمات‭ ‬للزبون‭. ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬يصبح‭ ‬الإيقاع‭ ‬السريع‭ ‬في‭ ‬الأفلام‭ ‬التجارية‭ ‬لازماً،‭ ‬وهو‭ ‬يماثل‭ ‬الإيقاع‭ ‬السريع‭ ‬لحركة‭ ‬يد‭ ‬موزع‭ ‬الورق‭ ‬في‭ ‬ألعاب‭ ‬الحظ‭ ‬والقمار،‭ ‬والكدح‭ ‬الذي‭ ‬يمارسه‭ ‬العاملون‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬هنا‭ ‬يشبه‭ ‬الكدح‭ ‬الذي‭ ‬يمارسه‭ ‬المقامر‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬اللعب؛‭ ‬اللاجدوى‭ ‬نفسها،‭ ‬والخواء،‭ ‬ونفاد‭ ‬الصبر،‭ ‬والآلية،‭ ‬والعجز‭ ‬عن‭ ‬القيام‭ ‬إلا‭ ‬برد‭ ‬فعل‭ ‬انعكاسي،‭ ‬وكأنهم‭ ‬شخصيات‭ ‬الزومبي‭ ‬الخيالية‭ ‬التي‭ ‬قضت‭ ‬تماماً‭ ‬على‭ ‬ذاكرتها‭ ‬واستسلمت‭ ‬لاستحواذ‭ ‬نهم‭ ‬الحواس‭.‬

أما‭ ‬عمل‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬المضاد‭ ‬فيؤسَس‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬اللقطة‭ ‬المشهدية‭ ‬الطويلة،‭ ‬والإيقاع‭ ‬المتمهل‭ (‬اللازم‭ ‬للتأمل‭)‬،‭ ‬بما‭ ‬يستتبع‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬اميزانسينب‭ ‬داخل‭ ‬اللقطة‭ ‬الواحدة‭ (‬أي‭ ‬حركة‭ ‬الممثلين‭ ‬والأكسسوار‭ ‬والكاميرا‭ ‬وعلاقاتهم‭ ‬ببعضهم‭)‬،‭ ‬وكأنه‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬ينفي‭ ‬المونتاج‭ ‬نفسه،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تحريم‭ ‬المونتاج‭ ‬المتسارع‭ ‬االذي‭ ‬يعني‭ ‬اختزال‭ ‬الزمنب،‭ ‬وتحريم‭ ‬القطع‭ ‬المتوازي‭ (‬أي‭ ‬تحريم‭ ‬الإدراك‭ ‬المتزامن‭)‬،‭ ‬وكأنه‭ ‬هنا‭ ‬يعمل‭ ‬ضد‭ ‬ما‭ ‬اعتُبر‭ ‬الإنجاز‭ ‬العظيم‭ ‬للسينما‭: ‬تسجيل‭ ‬حدثين‭ ‬في‭ ‬مكانين‭ ‬مختلفين‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬نفسه‭.‬

من‭ ‬أهم‭ ‬اللقطات‭ ‬المشهدية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ينساها‭ ‬المُشاهد؛‭ ‬مشهد‭ ‬أندريه‭ ‬المحتضر‭ ‬في‭ ‬انوستالجياب‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬عبور‭ ‬ينبوع‭ ‬الماء‭ ‬الجاف‭ ‬من‭ ‬طرفه‭ ‬الأقصى‭ ‬إلى‭ ‬طرفه‭ ‬الآخر‭ ‬حاملاً‭ ‬شمعة‭ ‬يحاول‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬شعلتها‭. ‬تنطفئ‭ ‬الشمعة‭ ‬لهبوب‭ ‬الريح،‭ ‬فيعود‭ ‬أندريه‭ ‬إلى‭ ‬البداية‭ ‬ويعيد‭ ‬إشعال‭ ‬الشمعة‭ ‬ويلمس‭ ‬الجدار‭ ‬ويشرع‭ ‬في‭ ‬العبور‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ويتكرر‭ ‬الأمر‭ ‬وتنطفئ‭ ‬الشمعة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وتستمر‭ ‬كاميرا‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬مع‭ ‬محاولات‭ ‬أندريه‭ ‬المتكررة‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬نور‭ ‬الشمعة‭ ‬وإيصالها‭ ‬للجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬في‭ ‬لقطة‭ ‬مشهدية‭ ‬واحدة‭ ‬تقارب‭ ‬الثماني‭ ‬دقائق‭ ‬كاملة،‭ ‬متحركة‭ ‬بحرص‭ ‬وتمهل‭. ‬إيقاع‭ ‬الكاميرا‭ ‬المتمهل‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الأهمية؛‭ ‬فالكاميرا‭ ‬تتبع‭ ‬أندريه‭ ‬ولا‭ ‬تسبقه،‭ ‬ولا‭ ‬تتوقع‭ ‬الحركة،‭ ‬ما‭ ‬يحدد‭ ‬مهمة‭ ‬الكاميرا‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬تاركوفسكي؛‭ ‬إنها‭ ‬التأمل‭ ‬لا‭ ‬تحريك‭ ‬الأحداث‭. ‬

ولأن‭ ‬وظيفتها‭ ‬هي‭ ‬التأمل،‭ ‬ترتفع‭ ‬الكاميرا‭ ‬عند‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬الشخصيات،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬الكاميرا‭ ‬في‭ ‬هوليوود‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ينخفض‭ ‬مستواها‭ ‬عن‭ ‬الشخصيات‭ ‬حتى‭ ‬تُبرز‭ ‬أعين‭ ‬النجوم،‭ ‬وعلى‭ ‬عكس‭ ‬الكاميرا‭ ‬شديدة‭ ‬الانخفاض‭ ‬عند‭ ‬ياسوجيرو‭ ‬أوزو‭ ‬مثلاً؛‭ ‬التي‭ ‬تلتحم‭ ‬بالأرض‭ ‬لتصور‭ ‬روح‭ ‬الضجر‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬والعدمية‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬لا،‭ ‬إن‭ ‬كاميرا‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬ليست‭ ‬كاميرا‭ ‬أرضية،‭ ‬فهي‭ ‬متعالية‭ ‬في‭ ‬الفضاء؛‭ ‬ترنو‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬وتتأمل‭ ‬روح‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬شفقة‭.‬

اللقطة‭ ‬المشهدية‭ ‬الطويلة‭ ‬هي‭ ‬كالمحقق‭ ‬الذي‭ ‬يُخضع‭ ‬العالم‭ ‬للاستجواب‭ ‬ليُدلي‭ ‬باعترافه‭ ‬ويكشف‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭. ‬لكن‭ ‬اللقطة‭ ‬الطويلة‭ ‬لتاركوفسكي‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬اللقطة‭ ‬التسجيلية‭ ‬الطويلة‭ ‬نفسها‭ ‬لروبرت‭ ‬فلاهيرتي‭ ‬مثلاً‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬انانوك‭ ‬رجل‭ ‬الشمال،‭ ‬1922ب؛‭ ‬فالأخيرة‭ ‬كان‭ ‬طموحها‭ ‬تسجيل‭ ‬الزمن‭ ‬الفعلي‭ ‬لانتظار‭ ‬رجل‭ ‬الإسكيمو‭ ‬وهو‭ ‬يصطاد‭ ‬الفقمة،‭ ‬وكان‭ ‬طموح‭ ‬فلاهيرتي‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬المُشاهد‭ ‬ينتظر‭ ‬الزمن‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬ينتظره‭ ‬الإسكيمو‭ ‬للظفر‭ ‬بصيده‭. ‬أما‭ ‬اللقطة‭ ‬الطويلة‭ ‬لتاركوفسكي‭ ‬فإن‭ ‬طموحها‭ ‬ليس‭ ‬تسجيل‭ ‬الواقع،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬حتى‭ ‬طموح‭ ‬الشاعر‭ ‬الرومانسي‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬جماليات‭ ‬العالم‭ ‬والطبيعة،‭ ‬ولكنه‭ ‬طموح‭ ‬خلق‭ ‬عالم‭ ‬ذاتي‭ ‬باطني‭ ‬خاص‭. ‬إن‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬لا‭ ‬يُسجل،‭ ‬إنه‭ ‬يخلق،‭ ‬إنه‭ ‬يستبعد‭ ‬العالم‭ ‬الواقعي‭ ‬من‭ ‬كادراته‭ ‬لتحل‭ ‬محله‭ ‬عوالم‭ ‬النفس‭ ‬البشرية،‭ ‬والتذكر،‭ ‬وحالات‭ ‬الروح،‭ ‬وتموجات‭ ‬الأحلام‭. ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬يتيح‭ ‬الإيقاع‭ ‬المتمهل‭ ‬الفرصة‭ ‬لأن‭ ‬تنهض‭ ‬اللقطة‭ ‬المشهدية‭ ‬الطويلة‭ ‬كعمل‭ ‬بصري‭ ‬فذ‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته؛‭ ‬كلحظة‭ ‬وجودية‭ ‬خالصة‭.‬

 

الروح‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬تاركوفسكي

لم‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬السينما‭ ‬من‭ ‬أوقف‭ ‬حياته‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الروح‭ ‬الإنسانية‭ ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬تاركوفسكي،‭ ‬الذي‭ ‬آمن‭ ‬بأن‭ ‬الإنسان‭ ‬كائن‭ ‬روحاني‭ ‬بالأساس‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يميزه‭ ‬عن‭ ‬كبار‭ ‬مخرجي‭ ‬السينما‭ ‬الآخرين‭ ‬الذين‭ ‬اهتموا‭ ‬أيضاً‭ ‬بالروح‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬تناولوا‭ ‬هم‭ ‬الصراع‭ ‬الروحي‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬الحبكة،‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬فراغ‭ ‬الشخصيات‭ ‬المغروسة‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬السيكولوجية‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أو‭ ‬العاطفية،‭ ‬كانت‭ ‬الروح‭ ‬عند‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬هي‭ ‬الحبكة‭ ‬لا‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الحبكة؛‭ ‬هي‭ ‬المعمار‭ ‬الخفي‭ ‬الذي‭ ‬يشيد‭ ‬عليه‭ ‬الفيلم‭ ‬بأكلمه،‭ ‬بل‭ ‬ويربط‭ ‬بين‭ ‬أفلامه‭ ‬وبعضها‭ ‬بعضاً‭.‬

من‭ ‬أجمل‭ ‬أفلامه‭ ‬التي‭ ‬يبدو‭ ‬فيها‭ ‬ذلك‭ ‬جلياً‭ ‬فيلم‭ ‬االطوافب؛‭ ‬الذي‭ ‬تخوض‭ ‬فيه‭ ‬ثلاث‭ ‬شخصيات‭ ‬االطواف،‭ ‬والكاتب،‭ ‬والعالمب‭ ‬رحلة‭ ‬روحانية‭ ‬مكثفة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بـ‭ ‬االمنطقةب؛‭ ‬وهي‭ ‬منطقة‭ ‬غريبة‭ ‬وخطرة‭ ‬تحدث‭ ‬فيها‭ ‬أشياء‭ ‬عجيبة‭ ‬وتوجد‭ ‬فيها‭ ‬احجرة‭ ‬الأمانيب‭ ‬التي‭ ‬تحقق‭ ‬أعز‭ ‬أمنيات‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬قلبه‭. ‬إن‭ ‬هدف‭ ‬الرحلة‭ ‬لدى‭ ‬الشخصيات‭ ‬الثلاث‭ ‬هو‭ ‬هدف‭ ‬شخصي،‭ ‬لكن‭ ‬الصراع‭ ‬ذو‭ ‬طبيعة‭ ‬واحدة‭ ‬لهم‭ ‬جميعاً‭: ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الخلاص،‭ ‬عن‭ ‬النور،‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة،‭ ‬عن‭ ‬الإيمان‭ ‬في‭ ‬أرواحهم‭ ‬التعبة‭. ‬والطواف‭ ‬هنا‭ ‬بمنزلة‭ ‬المرشد‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬االمنطقةب‭ ‬ويقودهم‭ ‬خلال‭ ‬دروبها‭ ‬الخطرة،‭ ‬وهو‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بالاستماع‭ ‬إلى‭ ‬الصوت‭ ‬الداخلي‭ ‬لروحه،‭ ‬باستخدام‭ ‬حدسه‭ ‬لا‭ ‬معرفته،‭ ‬لأن‭ ‬المعرفة‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬االمنطقةب؛‭ ‬فالطرق‭ ‬تتغير‭ ‬وتتبدل،‭ ‬وما‭ ‬يكون‭ ‬مأموناً‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬يكون‭ ‬مميتاً‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬التالية؛‭ ‬حواجز‭ ‬وشراك‭ ‬لا‭ ‬تنفع‭ ‬معها‭ ‬المعرفة،‭ ‬ولا‭ ‬سبيل‭ ‬ينجح‭ ‬إلا‭ ‬الغنوصية،‭ ‬والإنصات‭ ‬للصوت‭ ‬الداخلي‭ ‬البدائي‭ ‬والفطري‭ ‬الذي‭ ‬فقده‭ ‬الإنسان‭ ‬الحديث‭ ‬باللامبالاة؛‭ ‬الإنصات‭ ‬للحقيقة‭ ‬المدفونة‭ ‬داخل‭ ‬الإنسان‭. ‬كان‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬مهمته‭ ‬هي‭ ‬إيقاظ‭ ‬ذلك‭ ‬الصوت‭ ‬الداخلي‭ ‬في‭ ‬أرواح‭ ‬المشاهدين،‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬الطواف‭ ‬الذي‭ ‬يحاول‭ ‬الوصول‭ ‬بالكاتب‭ ‬والعالم‭ ‬إلى‭ ‬حجرة‭ ‬الأحلام،‭ ‬وأيضاً‭ ‬كمثل‭ ‬الشاعر‭ ‬المنفي‭ ‬في‭ ‬الغربة‭ ‬يمشي‭ ‬حاملاً‭ ‬شمعة‭ ‬يحاول‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬نورها‭ ‬في‭ ‬انوستالجياب‭.‬

سلوك‭ ‬الطواف‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬شاذاً‭ ‬كمشاهدين،‭ ‬فبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يشق‭ ‬طريقه‭ ‬في‭ ‬االمنطقةب‭ ‬واثقاً‭ ‬كمرشد‭ ‬يعرف‭ ‬طريقه،‭ ‬فإنه‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬يبدو‭ ‬متردداً،‭ ‬معولاً‭ ‬على‭ ‬الإيمان‭ ‬الذي‭ ‬سيقوده‭ ‬إلى‭ ‬الأمان،‭ ‬حريصاً‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يشوش‭ ‬أو‭ ‬يؤذي‭ ‬أو‭ ‬يبعث‭ ‬الاضطراب‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬داخل‭ ‬االمنطقةب،‭ ‬إنه‭ ‬ينصت‭ ‬إلى‭ ‬صوته‭ ‬الداخلي‭ ‬وإلى‭ ‬صوت‭ ‬االمنطقةب‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬ينصت‭ ‬لصوت‭ ‬الحقيقة،‭ ‬لصوت‭ ‬الإله‭ ‬عبر‭ ‬رحلة‭ ‬الحياة‭. ‬تماماً‭ ‬مثل‭ ‬صانع‭ ‬الأجراس‭ ‬الصغير‭ ‬في‭  ‬فيلم‭ ‬اأندريه‭ ‬روبليفب‭ ‬الذي‭ ‬يقوده‭ ‬الإيمان‭ ‬والاستماع‭ ‬لصوت‭ ‬روحه‭ ‬الداخلي‭ ‬إلى‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬سر‭ ‬تركيب‭ ‬مادة‭ ‬جرس‭ ‬الكاتدرائية‭ ‬دون‭ ‬معرفة‭ ‬مسبقة‭. ‬إن‭ ‬المعرفة‭ ‬الحقيقية‭ ‬عند‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬هي‭ ‬المعرفة‭ ‬الغنوصية،‭ ‬هي‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬الإنصات‭ ‬لصوت‭ ‬الروح‭. ‬قرب‭ ‬نهاية‭ ‬الفيلم،‭ ‬يتشكك‭ ‬الطواف‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬وجود‭ ‬االمنطقةب‭ ‬وجوداً‭ ‬مادياً‭ ‬فعلياً،‭ ‬فيقول‭ ‬لزوجته‭ ‬متسائلاً‭: ‬الا‭ ‬أحد‭ ‬يؤمن‭ ‬بـ‭ ‬االمنطقةب‭... ‬بمن‭ ‬آتي‭ ‬إلى‭ ‬احجرة‭ ‬الأحلامب‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يوجد‭ ‬من‭ ‬يؤمن‭ ‬بها؟‭!‬ب‭. ‬وتبين‭ ‬كلمات‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬في‭ ‬مذكراته‭ ‬ازمن‭ ‬داخل‭ ‬الزمنب‭ ‬أن‭ ‬االمنطقةب‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬توجد‭ ‬يوماً‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬الطواف‭ ‬فقط‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬رؤية‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬بأن‭ ‬اغرفة‭ ‬الحقيقةب؛‭ ‬يحملها‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬داخل‭ ‬نفسه‭. ‬

هكذا‭ ‬كان‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬منقباً‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني،‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالحقيقة،‭ ‬والمطلق،‭ ‬والإله،‭ ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬تقف‭ ‬أفلامه‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬سرد‭ ‬حكاية‭ ‬بسيطة،‭ ‬بل‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نغفل‭ ‬الحبكة‭ ‬االحكايةب‭ ‬وتظل‭ ‬أفلامه‭ ‬لها‭ ‬الأهمية‭ ‬نفسها‭. ‬وشخصيات‭ ‬أفلامه‭ ‬تتحمل‭ ‬كل‭ ‬ذلك؛‭ ‬إنها‭ ‬شخصيات‭ ‬تحمل‭ ‬الوجود‭ ‬بأكمله‭ ‬على‭ ‬أكتافها،‭ ‬تحمل،‭ ‬كما‭ ‬حمل‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬نفسه،‭ ‬راية‭ ‬منقوشاً‭ ‬عليها‭: ‬الروح،‭ ‬الزمن،‭ ‬الخلود،‭ ‬الغنوصية،‭ ‬وهو‭ ‬واقف‭ ‬على‭ ‬العتبة‭ ‬التي‭ ‬تفصله‭ ‬كفرد‭ ‬عن‭ ‬زحام‭ ‬السينما‭ ‬السائدة‭. ‬من‭ ‬المهم‭ ‬ملاحظة‭ ‬أن‭ ‬أعمال‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬تحمل‭ ‬عناوين‭ ‬فردية‭ ‬وذاتـــية‭: ‬اطـــفولة‭ ‬إيفانب،‭ ‬اأندريه‭ ‬روبليفب،‭ ‬االطوافب،‭ ‬االمرآةب،‭ ‬انوستالجياب،‭ ‬االقربانب‭. ‬إن‭ ‬شخصيات‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬ممتلكة‭ ‬لفرديتها‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬ولا‭ ‬يمتصها‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي‭ ‬بكل‭ ‬إلهاءاته،‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬تنسى‭ ‬نفسها‭ ‬فيه؛‭ ‬إنها‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للبيع‭. ‬كما‭ ‬أننا‭ ‬نلمح‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬نفسه‭ ‬تحت‭ ‬جلد‭ ‬كل‭ ‬شخصية‭ ‬من‭ ‬شخصياته،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬بعيدون‭ ‬عن‭ ‬التشابه،‭ ‬كتناقض‭ ‬الإنسان‭ ‬وتجانسه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬كتناقض‭ ‬الفن‭ ‬العظيم‭ ‬وتجانسه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬إن‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬شخص‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نلمس‭ ‬لديه‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬التظاهر‭ ‬أو‭ ‬الادعاء،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يسمح‭ ‬بافتعال‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬شخصياته،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يسمح‭ ‬بالخروج‭ ‬عن‭ ‬حدود‭ ‬أناه‭ ‬الخاصة،‭ ‬فمن‭ ‬خلال‭ ‬معرفته‭ ‬الدقيقة‭ ‬بذاته‭ ‬كان‭ ‬يلمس‭ ‬الأوتار‭ ‬التي‭ ‬تحرك‭ ‬أبطاله‭.‬

 

المبارزة‭ ‬مع‭ ‬العمل

الغنوصية‭ ‬والمعرفة‭ ‬القبلية‭ ‬والحدس‭ ‬التي‭ ‬آمن‭ ‬بها‭ ‬لم‭ ‬تعن‭ ‬له‭ ‬إطلاقاً‭ ‬الركون‭ ‬إلى‭ ‬الكسل،‭ ‬بل‭ ‬رافقها‭ ‬إيمان‭ ‬راسخ‭ ‬بأن‭ ‬على‭ ‬الفنان‭ ‬أن‭ ‬يملك‭ ‬قوة‭ ‬إرادة‭ ‬عظيمة‭ ‬حتى‭ ‬تكون‭ ‬جهوده‭ ‬مثمرة،‭ ‬وحتى‭ ‬تمنح‭ ‬أعماله‭ ‬طابع‭ ‬التفرد‭. ‬كان‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬التأمل‭ ‬بعناد‭ ‬لكل‭ ‬تفاصيل‭ ‬العمل،‭ ‬وكان‭ ‬يعرف‭ ‬كم‭ ‬يكلف‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬الشاق‭ ‬جعل‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬ينبثق‭ ‬من‭ ‬حلم‭ ‬يقظة‭. ‬المبارزات‭ ‬بين‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬والمادة‭ ‬الخام‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬أبداً‭ ‬وهو‭ ‬يحولها‭ ‬إلى‭ ‬عناصر‭ ‬فنية،‭ ‬متعقباً‭ ‬تلك‭ ‬العناصر‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬التركيز‭ ‬والتفحص‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬متصلة‭ ‬من‭ ‬التنقيحات،‭ ‬كأنه‭ ‬فنان‭ ‬يخوض‭ ‬نزالاً‭ ‬مع‭ ‬عمله‭ ‬الفني‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يتضح‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬النسخ‭ ‬المعدلة‭ ‬من‭ ‬السيناريوهات‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬لأفلامه،‭ ‬والسيناريوهات‭ ‬الفنية‭ ‬للتصوير،‭ ‬وملاحظات‭ ‬المونتاج،‭ ‬فضلاً‭ ‬عما‭ ‬ورد‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كتابيه‭ ‬ازمن‭ ‬داخل‭ ‬الزمنب‭ ‬واالنحت‭ ‬في‭ ‬الزمنب،‭ ‬التي‭ ‬تبين‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬باستمرار،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬مشغولاً‭ ‬بالتعديلات‭ ‬باستمرار‭.  ‬من‭ ‬الأمثلة‭ ‬المهمة‭ ‬على‭ ‬ذلك؛‭ ‬إعادة‭ ‬تصوير‭ ‬فيلم‭ ‬االطوافب‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬كاملة‭. ‬وأيضاً‭ ‬مبارزاته‭ ‬مع‭ ‬المادة‭ ‬الخام‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬االمرآةب؛‭ ‬حيث‭ ‬بدأت‭ ‬فكرة‭ ‬االمرآةب‭ ‬كمشروع‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬عن‭ ‬ذكريات‭ ‬الطفولة،‭ ‬ثم‭ ‬تطورت‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬سيناريو‭ ‬بعنوان‭ ‬انهار‭ ‬أبيضب،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يرض‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬الأولى،‭ ‬فتحول‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬عمل‭ ‬مقابلات‭ ‬مع‭ ‬أمه‭ ‬تتحدث‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬ذكرياتها‭ ‬مع‭ ‬طفولته‭ ‬هو‭ ‬شخصياً،‭ ‬ومقابلات‭ ‬أخرى‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬ماريا‭ ‬فيشينياكوفا،‭ ‬ثم‭ ‬استقر‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬فيلم‭ ‬االمرآةب‭ ‬كما‭ ‬صوره‭ ‬في‭ ‬النهاية‭. ‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬التصوير،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬تعديلات‭ ‬دائمة،‭ ‬واستبعاد‭ ‬لبعض‭ ‬اللقطات‭ ‬اكاللقطة‭ ‬الصريحة‭ ‬التي‭ ‬يظهر‭ ‬فيها‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬الفيلمب،‭ ‬وقرارات‭ ‬بإعادة‭ ‬تصوير‭ ‬لقطات‭ ‬أخرى،‭ ‬وإضافة‭ ‬لقطات‭ ‬جديدة‭.‬

أما‭ ‬تصوير‭ ‬اللقطة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬فيلمه‭ ‬الأخير‭ ‬االقربانب،‭ ‬فربما‭ ‬لم‭ ‬توجد‭ ‬واقعة‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬المعاناة‭ ‬والكرب‭ ‬اللذين‭ ‬كان‭ ‬يتعرض‭ ‬لهما‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬وعمله‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬تصوير‭ ‬تلك‭ ‬اللقطة‭. ‬كان‭ ‬بطل‭ ‬تلك‭ ‬اللقطة‭ ‬هو‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬سيقوم‭ ‬بطل‭ ‬الفيلم‭ ‬أندريه‭ ‬بإحراقه‭ ‬قرباناً‭ ‬للبشرية‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬إنقاذها‭ ‬من‭ ‬الكارثة‭ ‬المحققة‭. ‬وبعد‭ ‬طول‭ ‬إعداد‭ ‬وتجهيز،‭ ‬يعطي‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬إشارة‭ ‬البدء‭ ‬للتصوير،‭ ‬ويتم‭ ‬إحراق‭ ‬البيت‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬يتمناه،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬فارقة‭ ‬تحدث‭ ‬الكارثة‭ ‬فتتوقف‭ ‬الكاميرا‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬لعطل‭ ‬غريب‭ ‬أصابها،‭ ‬ويفسد‭ ‬تصوير‭ ‬المشهد‭. ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬هنا‭ ‬يمكن‭ ‬عمله،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يمكن‭ ‬لومه،‭ ‬إنها‭ ‬ميكانيكا‭ ‬السينما‭ ‬ذاتها‭ ‬تخذله‭ ‬وتخونه،‭ ‬وكأنها‭ ‬تذكره‭ ‬بأنه‭ ‬شخص‭ ‬غير‭ ‬مرحب‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مجالها‭. ‬يظل‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬لدقيقتين‭ ‬مشلولاً‭ ‬من‭ ‬المفاجأة،‭ ‬ويفيق‭ ‬أخيراً‭ ‬من‭ ‬الصدمة‭ ‬فيغطي‭ ‬عينيه‭ ‬بكلتا‭ ‬يديه؛‭ ‬لقد‭ ‬أتته‭ ‬الضربة‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬مكان‭ ‬يمكن‭ ‬توقعه‭.  ‬يستغرق‭ ‬الأمر‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬كاملة‭ ‬لإعادة‭ ‬بناء‭ ‬الهيكل‭ ‬الخارجي‭ ‬لديكور‭ ‬البيت‭ ‬ولإعادة‭ ‬تصوير‭ ‬مشهد‭ ‬الحريق،‭ ‬ويتم‭ ‬البدء‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬المشهد‭ ‬الطويل‭ ‬الذي‭ ‬يستغرق‭ ‬حوالي‭ ‬ست‭ ‬دقائق‭ ‬كاملة‭ ‬على‭ ‬الشاشة،‭ ‬ويقوم‭ ‬أندريه‭ ‬بإشعال‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬مجدداً،‭ ‬وتشرع‭ ‬الكاميرا‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مخطط‭ ‬لها،‭ ‬ومرة‭ ‬ثانية‭ ‬يحدث‭ ‬الكابوس؛‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬الخائن‭ ‬هو‭ ‬شريط‭ ‬السينما‭ ‬االنيجاتيفب‭ ‬الذي‭ ‬علق‭ ‬داخل‭ ‬الكاميرا،‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬السينما‭ ‬نفسها‭ ‬تعاند‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬وتأبى‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬له‭ ‬لسانها‭. ‬يضحك‭ ‬عمال‭ ‬التصوير‭ ‬من‭ ‬تكرار‭ ‬الكابوس‭ ‬نفسه‭ ‬مرتين‭ ‬بالشكل‭ ‬نفسه،‭ ‬ويبدو‭ ‬على‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬شفا‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعلم‭ ‬أحد،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬نفسه،‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يحتضر‭ ‬فعلاً‭ ‬من‭ ‬داء‭ ‬السرطان‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأثناء‭. ‬توفي‭ ‬أندريه‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬بأواخر‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬صور‭ ‬فيه‭ ‬تلك‭ ‬اللقطة‭. ‬

توفي‭ ‬في‭ ‬منفاه‭ ‬بباريس‭ ‬عشية‭ ‬عيد‭ ‬الميلاد‭ ‬في‭ ‬29‭ ‬ديسمبر‭ ‬1986،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صنع‭ ‬سبعة‭ ‬أفلام‭ ‬روائية‭ ‬طويلة‭ ‬كما‭ ‬تنبأت‭ ‬له‭ ‬روح‭ ‬بوريس‭ ‬باسترناك‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بتحضيرها‭ ‬له‭ ‬عرَّاف‭ ‬روسي،‭ ‬وقالت‭ ‬له‭: ‬استقوم‭ ‬بصنع‭ ‬سبعة‭ ‬أفلامب،‭ ‬رد‭ ‬تاركوفسكي‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يدرس‭ ‬السينما‭: ‬اسبعة‭ ‬أفلام‭ ‬فقط؟‭!‬ب،‭ ‬وأجابت‭ ‬الروح‭: ‬انعم،‭ ‬سبعة‭ ‬أفلام‭ ‬فقط‭... ‬لكن‭ ‬سبعة‭ ‬أفلام‭ ‬عظيمة.