«الطلياني» بين الجائزة والخطابية
إذا حاولت أن تختصر على نفسك مشقة الاطلاع على أشهر النظريات السـياسية والاقتصادية والفلسفية، وما تحويه من أكثر المصطلحات تعقيداً، فعليك برواية الطلياني. ليس هذا فحسب، بل هي تحمل الكثير مما يشبه التقارير الإخبارية عن تحولات تونس منذ عهد بورقيبة وحتى زين العابدين بن علي.
«الطلياني» هي العمل الأول لشكري المبخوت، مقسمة إلى 12 فصلاً. تبدأ بفعل غريب ومستهجن ينتهجه البطل في جنازة والده، ثم ينتهي بمعرفتنا سبب ذلك الفعل، وبين ذلك السؤال المبدئي وتلك الإجابة النهائية ندخل في عمق شخصيات منزوع عنها التعاطف.
الرواية تبدأ من عام 1990، ثم تعتمد تقنية «الفلاش باك»، لنتعرف على عبدالناصر أو الطلياني، الاسم الذي اشتهر به نسبة إلى وسامة ملامحه الأقرب إلى الإيطالية. الاسم الأصلي في الرواية له دلالته، حيث كان كثير من العرب يسمون هذا الاسم تيمناً بالزعيم جمال عبدالناصر قائد القومية العربية. أيضاً اسم أخيه الأكبر، صلاح الدين، يجعلنا نشعر بما وراء اختيار الاسمين من قبل الروائي الذي من الواضح أن الحلم العروبي بانتصاراته يداعبه بشدة.
اللغة في مجملها خطابية، جافة، لكن حالما يأخذنا الراوي إلى مناطق الأحاسيس والمشاعر، ندخل في لغة شاعرية حسية رقيقة... كَمُنَ أغلبها في تصوير اللوحات الجنسية ببذخ راق... كُتبت شعراً ورُسمت بألوان الطيف.
الرواية تفضح اليساريين وتعري زيفهم، تطرفهم، هشاشتهم، بل وجهلهم: «لكُلٍ جهله المقدس وأصوله الكاذبة». وبالمثل تنتقد المتطرفين دينياً. وفي عبارة واحدة تجمع المتضادين المتشابهين: «مشكلتكم أنكم تتوهمون أنفسكم أذكى الخلق جميعاً. لا تعرفون الدولة وتريدون الإطاحة بالنظام. شرط النضال هو التواضع والمثابرة».
الطلياني شاب تمرد على التقاليد العائلية والعفة الكاذبة والتواطؤ المخزي، «يعيش في عالم آخر، عالم الحلم بمجتمع فاضل، تزول فيه الطبقات وتتحقق فيه الثروة». اختار لنفسه حياة بوهيمية، حرة، ينتقل فيها من متعة حسية لأخرى بلا أي عناء بفضل وسامته التي كانت تلفت انتباه النساء، برجوازي الطبقة، يساري النزعة، في الجامعة يتعرف على زينة، الفتاة البربربة الريفية الفقيرة ويتزوجها في ظرف استثنائي. لكن «لم يعيشا حقاً إلا أشهراً قليلة قبل الصداق (الزواج)، وكل ما جاء بعده إنما هو بمنزلة خطين، أحدهما مقعر والآخر محدب، ما إن يلتقيا حتى يفترقا، وهكذا دواليك».
الراوي العليم صديق مشترك لزينة والطلياني، لا نراه ولا نعلم حتى اسمه. في الحقيقة لا تستطيع كقارئ التعاطف مع أي من الشخصيات، حتى من كانت بدايتها مبشرة، فالطلياني الثائر، المنخرط في العمل السياسي منذ شبابه، الذي ينتقد نظام بن علي، والذي «عينه بورقيبة للقضاء على تيار الإسلام السياسي، فقضى عليه»، تراه يُقدِم على كتابة ملفٍ حول الذكرى الأولى للتغيير المبارك «بما في ذلك اختيار الصور وصياغة سيناريو الانقلاب بطريقة مشوقة وتقديم أهم الإنجازات وردود الفعل الوطنية والعربية والدولية والتطورات والمؤشرات»، في صفقة مع رئيس تحرير الجريدة التي يعمل بها كي يتوسط له الأخير للعمل في وكالة فرنسا للأنباء. وزينة الفتاة المفوهة، المثقفة، المتفوقة في دراستها، تراها مستغرقة في علاقة فاترة مع زوجها، تجود فيها بكل ما تملك من بخل عاطفي ومادي، إضافة إلى اختيارها في النهاية حياة بها ثمة صفقة، كذلك نجلاء التي تحب الطلياني حباً غير عادي، مفضلة أن تخون صديقتها زينة، ثم تحولها المفاجئ للبغاء بلا أدنى سبب منطقي! حتى «للا جنينة» حينما أحبت الطلياني، لم تكن ترى فيه سوى أخيه الذي أحبته قديماً، صلاح الدين!
في مجمل الرواية، نرى معظم الشخصيات معتلة روحياً ونفسياً، ولذلك لن تجد قصة حب حقيقية ومكتملة، فنحن أمام قصص مشوهة ومبتورة وعلاقات ملتبسة ومشاعر متناقضة، وعلاقات حسية عابرة يخوضها الطلياني طوال الوقت.
الشخوص الرئيسية في الرواية والتي سبق ذكرها تجسيد كامل لطبقات المجتمع الثلاث، ذلك المجتمع الذي نراه ينهار بكل طموحاته وأحلامه، منجرفاً نحو الهاوية التي صنعها النظام السياسي بانتهاجه ثلاثة محاور: الديكتاتورية، والرأسمالية المتوحشة، ومهادنته للمتزمتين.
ذلك النظام الشمولي الذي أنتج بغبائه طبقة اجتماعية جديدة لم تكن موجودة، هي مثال حي للفوضى والعشوائية.
يغوص الراوي في المجتمع المزيف للصحفيين والمثقفين، فنجده يقول عنهم: «هم يشتغلون بمنطق العصابات والشبكات، يتصارعون في ما بينهم باللفظ وأحياناً بالأيدى. عالم نميمة وضغائن واغتياب وكذب ونفاق ونرجسيات جريحة جارحة. عالم بلا أخلاق تليق بحاملي القلم. جلهم لا يقرأ حتى الصحيفة التي يكتب فيها. أما الكتب ومتابعة الجديد في الأدب والفكر والثقافة فهذا مطلب بعيد المنال. يتشدقون بأسماء كبيرة يسمعون بها. يتلقفونها من أفواه مثقفين أو جامعيين فيقحمونها في غير سياقاتها. يتحدثون عن أفلام لم يشاهدوها أو كتب لم يقرأوها». «كلهم يعرفون أنهم يكذبون، ولكن يتواطؤون على التصديق».
المشهد الافتتاحي للرواية الذي نعلم كنهه في النهاية، حينما يُقدِم على تفسيره الطلياني للراوي، بمنزلة تعرية وفضح للظلاميين المتمسحين بالدين، آخذين منه ستاراً كثيفاً يغطون به عوراتهم، وذلك حينما يحكي له عن «علالة» إمام الجامع، الذي راوده عن نفسه وهو طفل صغير.
أثناء حكم بن علي، نلاحظ انحدار كل شخص إلى الأسفل بإصرار عجيب وسرعة كبيرة، إشارة إلى فساد حقبته. تذهب زينة إلى منفاها بفرنسا لتصبح لعبة لطيفة في يد رجل متصابي إثر رسوبها في اختبارات الجامعة، وينحدر عبدالناصر إلى نحبه إثر طلاق مهين وتبخر مشروع زواج راهن عليه، نجلاء تخسر حبها الكبير بعد أن احترفت بيع الجسد. حتى الأمل الوحيد في بداية جديدة نراه ينقشع مع عملية الإجهاض التي تقوم بها زينة، لتقتل بذلك آخر حلم تبقى.
الراوي كان حيادياً تجاه فترة حكم بورقيبة، فأحد أشخاص الرواية يرى أنه «ترك إدارة قوية ونخبة إدارية ممتازة، لولاها لانهارت البلاد منذ مدة، ولسقطت الدولة في أيدي أي طامع شقي أو مغامر مغرور مثل الإسلاميين»، ثم يأتي آخر ليقول: «كلكم مخترقون... لقد ركزت في كل واحد منا شرطياً وواشياً» دلالة على عمق نفوذ الدولة البوليسية.
إشكالية المرأة في عهد بورقيبة أرى أنها مفتعلة وتأتي في سياق التفلسف الذي يغمر الرواية. «حرية المرأة في تونس اقتصرت على حرية اختيار السيد الذي يتحكم في أنفاسك ولا يمكنك من اختيار إحساسك بالحياة. لقد أعطانا بورقيبة قيداً جديداً»، حتى إن الراوي يفطن لذلك، فيقول: «وجدها الطلياني تبالغ حين قارنت نفسها بأمها التي اعتبرتها قد وجدت، مع نساء جيلها، حريتها داخل القيود الاجتماعية، رغم هيمنة الرجال الظاهرية، أما هي، وبنات جيلها، فضحية لمجتمع لا يرحم يطلب منها أن تكون في الفضاء العام وفي الفضاء الخاص دون توزيع حقيقي جيد للأدوار». يأتي هذا الكلام لينكر التطور الطبيعي لدور المرأة في العالم ككل، وليس في تونس فقط. وينكر أيضاً المكاسب التي حققتها المرأة التونسية في عهده والتي كانت مثار حسد بقية النساء العربيات، حتى إن تونس كانت مضرب أمثال العالم العربي في الحرية التي منحتها للمرأة. فهل للملامح الذكورية التي نشتمها هنا علاقة بكون الروائي رجلاً؟!
يكرر الراوي حكاية «للا جنينة» مرة في البداية وأخرى في النهاية، وكأنه نسي أنه رواها سابقاً!
وأنت تقرأ، يساورك شعور قوي بأن الراوي متعاطف بشكل أو بآخر مع زينة ويريدنا بالتالي أن نمنحها هذا الشعور، ولكن كيف السبيل وهو طوال الوقت يقدم صورة سلبية عنها؟! فهي «تستفيد من عيشة الأزواج وإيجابياتها دون أن تلتزم بواجباتها»، «تكتفي بكتبها ومستقبلها المهني على حساب زوجها»، حتى إنه يصف علاقتها بزوجها بأنها «جارته التي تساكنه».
الرواية تكاد تكون سلسلة من النقاشات السياسية والاقتصادية والفلسفية والاجتماعية، آراء تتجول بين الرأسمالية والاشتراكية ذ الصداق الاضطراري والزواج الاختياري ذ اليساريون والإسلاميون ذ بورقيبة وبن علي، ووسط كل هذا الضجيج يبدو لك أنه تخللها بطريق المصادفة سرد لأحداث الشخوص وحيواتهم. وفي رأيي أنه لولا لغة المنابر والتنظير، لكانت من أفضل الروايات ■