«الطلياني» بين الجائزة والخطابية

«الطلياني»  بين الجائزة والخطابية

إذا‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬تختصر‭ ‬على‭ ‬نفسك‭ ‬مشقة‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬أشهر‭ ‬النظريات‭ ‬السـياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والفلسفية،‭ ‬وما‭ ‬تحويه‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المصطلحات‭ ‬تعقيداً،‭ ‬فعليك‭ ‬برواية‭ ‬الطلياني‭. ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬تحمل‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬يشبه‭ ‬التقارير‭ ‬الإخبارية‭ ‬عن‭ ‬تحولات‭ ‬تونس‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬بورقيبة‭ ‬وحتى‭ ‬زين‭ ‬العابدين‭ ‬بن‭ ‬علي‭.‬

‮«‬الطلياني‮»‬‭ ‬هي‭ ‬العمل‭ ‬الأول‭ ‬لشكري‭ ‬المبخوت،‭ ‬مقسمة‭ ‬إلى‭ ‬12‭ ‬فصلاً‭. ‬تبدأ‭ ‬بفعل‭ ‬غريب‭ ‬ومستهجن‭ ‬ينتهجه‭ ‬البطل‭ ‬في‭ ‬جنازة‭ ‬والده،‭ ‬ثم‭ ‬ينتهي‭ ‬بمعرفتنا‭ ‬سبب‭ ‬ذلك‭ ‬الفعل،‭ ‬وبين‭ ‬ذلك‭ ‬السؤال‭ ‬المبدئي‭ ‬وتلك‭ ‬الإجابة‭ ‬النهائية‭ ‬ندخل‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬شخصيات‭ ‬منزوع‭ ‬عنها‭ ‬التعاطف‭.‬

الرواية‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1990،‭ ‬ثم‭ ‬تعتمد‭ ‬تقنية‭ ‬‮«‬الفلاش‭ ‬باك‮»‬،‭ ‬لنتعرف‭ ‬على‭ ‬عبدالناصر‭ ‬أو‭ ‬الطلياني،‭ ‬الاسم‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬به‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬وسامة‭ ‬ملامحه‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬الإيطالية‭. ‬الاسم‭ ‬الأصلي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬له‭ ‬دلالته،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬يسمون‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬تيمناً‭ ‬بالزعيم‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬قائد‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭. ‬أيضاً‭ ‬اسم‭ ‬أخيه‭ ‬الأكبر،‭ ‬صلاح‭ ‬الدين،‭ ‬يجعلنا‭ ‬نشعر‭ ‬بما‭ ‬وراء‭ ‬اختيار‭ ‬الاسمين‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الروائي‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬الحلم‭ ‬العروبي‭ ‬بانتصاراته‭ ‬يداعبه‭ ‬بشدة‭.‬

‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬خطابية،‭ ‬جافة،‭ ‬لكن‭ ‬حالما‭ ‬يأخذنا‭ ‬الراوي‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬الأحاسيس‭ ‬والمشاعر،‭ ‬ندخل‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬شاعرية‭ ‬حسية‭ ‬رقيقة‭... ‬كَمُنَ‭ ‬أغلبها‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬اللوحات‭ ‬الجنسية‭ ‬ببذخ‭ ‬راق‭... ‬كُتبت‭ ‬شعراً‭ ‬ورُسمت‭ ‬بألوان‭ ‬الطيف‭.‬

الرواية‭ ‬تفضح‭ ‬اليساريين‭ ‬وتعري‭ ‬زيفهم،‭ ‬تطرفهم،‭ ‬هشاشتهم،‭ ‬بل‭ ‬وجهلهم‭: ‬‮«‬لكُلٍ‭ ‬جهله‭ ‬المقدس‭ ‬وأصوله‭ ‬الكاذبة‮»‬‭. ‬وبالمثل‭ ‬تنتقد‭ ‬المتطرفين‭ ‬دينياً‭.‬‭ ‬وفي‭ ‬عبارة‭ ‬واحدة‭ ‬تجمع‭ ‬المتضادين‭ ‬المتشابهين‭: ‬‮«‬مشكلتكم‭ ‬أنكم‭ ‬تتوهمون‭ ‬أنفسكم‭ ‬أذكى‭ ‬الخلق‭ ‬جميعاً‭. ‬لا‭ ‬تعرفون‭ ‬الدولة‭ ‬وتريدون‭ ‬الإطاحة‭ ‬بالنظام‭. ‬شرط‭ ‬النضال‭ ‬هو‭ ‬التواضع‭ ‬والمثابرة‮»‬‭.‬

الطلياني‭ ‬شاب‭ ‬تمرد‭ ‬على‭ ‬التقاليد‭ ‬العائلية‭ ‬والعفة‭ ‬الكاذبة‭ ‬والتواطؤ‭ ‬المخزي،‭ ‬‮«‬يعيش‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬آخر،‭ ‬عالم‭ ‬الحلم‭ ‬بمجتمع‭ ‬فاضل،‭ ‬تزول‭ ‬فيه‭ ‬الطبقات‭ ‬وتتحقق‭ ‬فيه‭ ‬الثروة‮»‬‭. ‬اختار‭ ‬لنفسه‭ ‬حياة‭ ‬بوهيمية،‭ ‬حرة،‭ ‬ينتقل‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬متعة‭ ‬حسية‭ ‬لأخرى‭ ‬بلا‭ ‬أي‭ ‬عناء‭ ‬بفضل‭ ‬وسامته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تلفت‭ ‬انتباه‭ ‬النساء،‭ ‬برجوازي‭ ‬الطبقة،‭ ‬يساري‭ ‬النزعة،‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬يتعرف‭ ‬على‭ ‬زينة،‭ ‬الفتاة‭ ‬البربربة‭ ‬الريفية‭ ‬الفقيرة‭ ‬ويتزوجها‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬استثنائي‭. ‬لكن‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يعيشا‭ ‬حقاً‭ ‬إلا‭ ‬أشهراً‭ ‬قليلة‭ ‬قبل‭ ‬الصداق‭ (‬الزواج‭)‬،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬بعده‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬بمنزلة‭ ‬خطين،‭ ‬أحدهما‭ ‬مقعر‭ ‬والآخر‭ ‬محدب،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬يلتقيا‭ ‬حتى‭ ‬يفترقا،‭ ‬وهكذا‭ ‬دواليك‮»‬‭.‬

الراوي‭ ‬العليم‭ ‬صديق‭ ‬مشترك‭ ‬لزينة‭ ‬والطلياني،‭ ‬لا‭ ‬نراه‭ ‬ولا‭ ‬نعلم‭ ‬حتى‭ ‬اسمه‭. ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬كقارئ‭ ‬التعاطف‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الشخصيات،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬كانت‭ ‬بدايتها‭ ‬مبشرة،‭ ‬فالطلياني‭ ‬الثائر،‭ ‬المنخرط‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬منذ‭ ‬شبابه،‭ ‬الذي‭ ‬ينتقد‭ ‬نظام‭ ‬بن‭ ‬علي،‭ ‬والذي‭ ‬‮«‬عينه‭ ‬بورقيبة‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬تيار‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬فقضى‭ ‬عليه‮»‬،‭ ‬تراه‭ ‬يُقدِم‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬ملفٍ‭ ‬حول‭ ‬الذكرى‭ ‬الأولى‭ ‬للتغيير‭ ‬المبارك‭ ‬‮«‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اختيار‭ ‬الصور‭ ‬وصياغة‭ ‬سيناريو‭ ‬الانقلاب‭ ‬بطريقة‭ ‬مشوقة‭ ‬وتقديم‭ ‬أهم‭ ‬الإنجازات‭ ‬وردود‭ ‬الفعل‭ ‬الوطنية‭ ‬والعربية‭ ‬والدولية‭ ‬والتطورات‭ ‬والمؤشرات‮»‬،‭ ‬في‭ ‬صفقة‭ ‬مع‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬الجريدة‭ ‬التي‭ ‬يعمل‭ ‬بها‭ ‬كي‭ ‬يتوسط‭ ‬له‭ ‬الأخير‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬وكالة‭ ‬فرنسا‭ ‬للأنباء‭. ‬وزينة‭ ‬الفتاة‭ ‬المفوهة،‭ ‬المثقفة،‭ ‬المتفوقة‭ ‬في‭ ‬دراستها،‭ ‬تراها‭ ‬مستغرقة‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬فاترة‭ ‬مع‭ ‬زوجها،‭ ‬تجود‭ ‬فيها‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تملك‭ ‬من‭ ‬بخل‭ ‬عاطفي‭ ‬ومادي،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬اختيارها‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬حياة‭ ‬بها‭ ‬ثمة‭ ‬صفقة،‭ ‬كذلك‭ ‬نجلاء‭  ‬التي‭ ‬تحب‭ ‬الطلياني‭ ‬حباً‭ ‬غير‭ ‬عادي،‭ ‬مفضلة‭ ‬أن‭ ‬تخون‭ ‬صديقتها‭ ‬زينة،‭ ‬ثم‭ ‬تحولها‭ ‬المفاجئ‭ ‬للبغاء‭ ‬بلا‭ ‬أدنى‭ ‬سبب‭ ‬منطقي‭! ‬حتى‭ ‬‮«‬للا‭ ‬جنينة‮»‬‭ ‬حينما‭ ‬أحبت‭ ‬الطلياني،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ترى‭ ‬فيه‭ ‬سوى‭ ‬أخيه‭ ‬الذي‭ ‬أحبته‭ ‬قديماً،‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭!‬

في‭ ‬مجمل‭ ‬الرواية،‭ ‬نرى‭ ‬معظم‭ ‬الشخصيات‭ ‬معتلة‭ ‬روحياً‭ ‬ونفسياً،‭ ‬ولذلك‭ ‬لن‭ ‬تجد‭ ‬قصة‭ ‬حب‭ ‬حقيقية‭ ‬ومكتملة،‭ ‬فنحن‭ ‬أمام‭ ‬قصص‭ ‬مشوهة‭ ‬ومبتورة‭ ‬وعلاقات‭ ‬ملتبسة‭ ‬ومشاعر‭ ‬متناقضة،‭ ‬وعلاقات‭ ‬حسية‭ ‬عابرة‭ ‬يخوضها‭ ‬الطلياني‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭. ‬

الشخوص‭ ‬الرئيسية‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬والتي‭ ‬سبق‭ ‬ذكرها‭ ‬تجسيد‭ ‬كامل‭ ‬لطبقات‭ ‬المجتمع‭ ‬الثلاث،‭ ‬ذلك‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬نراه‭ ‬ينهار‭ ‬بكل‭ ‬طموحاته‭ ‬وأحلامه،‭ ‬منجرفاً‭ ‬نحو‭ ‬الهاوية‭ ‬التي‭ ‬صنعها‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬بانتهاجه‭ ‬ثلاثة‭ ‬محاور‭: ‬الديكتاتورية،‭ ‬والرأسمالية‭ ‬المتوحشة،‭ ‬ومهادنته‭ ‬للمتزمتين‭. ‬

ذلك‭ ‬النظام‭ ‬الشمولي‭ ‬الذي‭ ‬أنتج‭ ‬بغبائه‭ ‬طبقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجودة،‭ ‬هي‭ ‬مثال‭ ‬حي‭ ‬للفوضى‭ ‬والعشوائية‭. ‬‭ ‬

يغوص‭ ‬الراوي‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المزيف‭ ‬للصحفيين‭ ‬والمثقفين،‭ ‬فنجده‭ ‬يقول‭ ‬عنهم‭: ‬‮«‬هم‭ ‬يشتغلون‭ ‬بمنطق‭ ‬العصابات‭ ‬والشبكات،‭ ‬يتصارعون‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينهم‭ ‬باللفظ‭ ‬وأحياناً‭ ‬بالأيدى‭. ‬عالم‭ ‬نميمة‭ ‬وضغائن‭ ‬واغتياب‭ ‬وكذب‭ ‬ونفاق‭ ‬ونرجسيات‭ ‬جريحة‭ ‬جارحة‭. ‬عالم‭ ‬بلا‭ ‬أخلاق‭ ‬تليق‭ ‬بحاملي‭ ‬القلم‭. ‬جلهم‭ ‬لا‭ ‬يقرأ‭ ‬حتى‭ ‬الصحيفة‭ ‬التي‭ ‬يكتب‭ ‬فيها‭. ‬أما‭ ‬الكتب‭ ‬ومتابعة‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬فهذا‭ ‬مطلب‭ ‬بعيد‭ ‬المنال‭. ‬يتشدقون‭ ‬بأسماء‭ ‬كبيرة‭ ‬يسمعون‭ ‬بها‭. ‬يتلقفونها‭ ‬من‭ ‬أفواه‭ ‬مثقفين‭ ‬أو‭ ‬جامعيين‭ ‬فيقحمونها‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬سياقاتها‭. ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬أفلام‭ ‬لم‭ ‬يشاهدوها‭ ‬أو‭ ‬كتب‭ ‬لم‭ ‬يقرأوها‮»‬‭. ‬‮«‬كلهم‭ ‬يعرفون‭ ‬أنهم‭ ‬يكذبون،‭ ‬ولكن‭ ‬يتواطؤون‭ ‬على‭ ‬التصديق‮»‬‭.‬

المشهد‭ ‬الافتتاحي‭ ‬للرواية‭ ‬الذي‭ ‬نعلم‭ ‬كنهه‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬حينما‭ ‬يُقدِم‭ ‬على‭ ‬تفسيره‭ ‬الطلياني‭ ‬للراوي،‭ ‬بمنزلة‭ ‬تعرية‭ ‬وفضح‭ ‬للظلاميين‭ ‬المتمسحين‭ ‬بالدين،‭ ‬آخذين‭ ‬منه‭ ‬ستاراً‭ ‬كثيفاً‭ ‬يغطون‭ ‬به‭ ‬عوراتهم،‭ ‬وذلك‭ ‬حينما‭ ‬يحكي‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬‮«‬علالة‮»‬‭ ‬إمام‭ ‬الجامع،‭ ‬الذي‭ ‬راوده‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬وهو‭ ‬طفل‭ ‬صغير‭.‬

أثناء‭ ‬حكم‭ ‬بن‭ ‬علي،‭ ‬نلاحظ‭ ‬انحدار‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬إلى‭ ‬الأسفل‭ ‬بإصرار‭ ‬عجيب‭ ‬وسرعة‭ ‬كبيرة،‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬فساد‭ ‬حقبته‭. ‬تذهب‭ ‬زينة‭ ‬إلى‭ ‬منفاها‭ ‬بفرنسا‭ ‬لتصبح‭ ‬لعبة‭ ‬لطيفة‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬رجل‭ ‬متصابي‭ ‬إثر‭ ‬رسوبها‭ ‬في‭ ‬اختبارات‭ ‬الجامعة،‭ ‬وينحدر‭ ‬عبدالناصر‭ ‬إلى‭ ‬نحبه‭ ‬إثر‭ ‬طلاق‭ ‬مهين‭ ‬وتبخر‭ ‬مشروع‭ ‬زواج‭ ‬راهن‭ ‬عليه،‭ ‬نجلاء‭ ‬تخسر‭ ‬حبها‭ ‬الكبير‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬احترفت‭ ‬بيع‭ ‬الجسد‭. ‬حتى‭ ‬الأمل‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬جديدة‭ ‬نراه‭ ‬ينقشع‭ ‬مع‭ ‬عملية‭ ‬الإجهاض‭  ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬زينة،‭ ‬لتقتل‭ ‬بذلك‭ ‬آخر‭ ‬حلم‭ ‬تبقى‭.‬

الراوي‭ ‬كان‭ ‬حيادياً‭ ‬تجاه‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ ‬بورقيبة،‭ ‬فأحد‭ ‬أشخاص‭ ‬الرواية‭ ‬يرى‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬ترك‭ ‬إدارة‭ ‬قوية‭ ‬ونخبة‭ ‬إدارية‭ ‬ممتازة،‭ ‬لولاها‭ ‬لانهارت‭ ‬البلاد‭ ‬منذ‭ ‬مدة،‭ ‬ولسقطت‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬أي‭ ‬طامع‭ ‬شقي‭ ‬أو‭ ‬مغامر‭ ‬مغرور‭ ‬مثل‭ ‬الإسلاميين‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬آخر‭ ‬ليقول‭: ‬‮«‬كلكم‭ ‬مخترقون‭... ‬لقد‭ ‬ركزت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬شرطياً‭ ‬وواشياً‮»‬‭ ‬دلالة‭ ‬على‭ ‬عمق‭ ‬نفوذ‭ ‬الدولة‭ ‬البوليسية‭.‬

إشكالية‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬بورقيبة‭ ‬أرى‭ ‬أنها‭ ‬مفتعلة‭ ‬وتأتي‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬التفلسف‭ ‬الذي‭ ‬يغمر‭ ‬الرواية‭. ‬‮«‬حرية‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬اقتصرت‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬اختيار‭ ‬السيد‭ ‬الذي‭ ‬يتحكم‭ ‬في‭ ‬أنفاسك‭ ‬ولا‭ ‬يمكنك‭ ‬من‭ ‬اختيار‭ ‬إحساسك‭ ‬بالحياة‭. ‬لقد‭ ‬أعطانا‭ ‬بورقيبة‭ ‬قيداً‭ ‬جديداً‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬الراوي‭ ‬يفطن‭ ‬لذلك،‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬وجدها‭ ‬الطلياني‭ ‬تبالغ‭ ‬حين‭ ‬قارنت‭ ‬نفسها‭ ‬بأمها‭  ‬التي‭ ‬اعتبرتها‭ ‬قد‭ ‬وجدت،‭ ‬مع‭ ‬نساء‭ ‬جيلها،‭ ‬حريتها‭ ‬داخل‭ ‬القيود‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬رغم‭ ‬هيمنة‭ ‬الرجال‭ ‬الظاهرية،‭ ‬أما‭ ‬هي،‭ ‬وبنات‭ ‬جيلها،‭ ‬فضحية‭ ‬لمجتمع‭ ‬لا‭ ‬يرحم‭ ‬يطلب‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬وفي‭ ‬الفضاء‭ ‬الخاص‭ ‬دون‭ ‬توزيع‭ ‬حقيقي‭ ‬جيد‭ ‬للأدوار‮»‬‭. ‬يأتي‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬لينكر‭ ‬التطور‭ ‬الطبيعي‭ ‬لدور‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬ككل،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬فقط‭. ‬وينكر‭ ‬أيضاً‭ ‬المكاسب‭  ‬التي‭ ‬حققتها‭ ‬المرأة‭ ‬التونسية‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬مثار‭ ‬حسد‭ ‬بقية‭ ‬النساء‭ ‬العربيات،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬تونس‭ ‬كانت‭ ‬مضرب‭ ‬أمثال‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬منحتها‭ ‬للمرأة‭. ‬فهل‭ ‬للملامح‭ ‬الذكورية‭  ‬التي‭ ‬نشتمها‭ ‬هنا‭ ‬علاقة‭ ‬بكون‭ ‬الروائي‭ ‬رجلاً؟‭! ‬

يكرر‭ ‬الراوي‭ ‬حكاية‭ ‬‮«‬للا‭ ‬جنينة‮»‬‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬وأخرى‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬وكأنه‭ ‬نسي‭ ‬أنه‭ ‬رواها‭ ‬سابقاً‭!‬

وأنت‭ ‬تقرأ،‭ ‬يساورك‭ ‬شعور‭ ‬قوي‭ ‬بأن‭ ‬الراوي‭ ‬متعاطف‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬مع‭ ‬زينة‭ ‬ويريدنا‭ ‬بالتالي‭ ‬أن‭ ‬نمنحها‭ ‬هذا‭ ‬الشعور،‭ ‬ولكن‭ ‬كيف‭ ‬السبيل‭ ‬وهو‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬يقدم‭ ‬صورة‭ ‬سلبية‭ ‬عنها؟‭! ‬فهي‭ ‬‮«‬تستفيد‭ ‬من‭ ‬عيشة‭ ‬الأزواج‭ ‬وإيجابياتها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تلتزم‭ ‬بواجباتها‮»‬،‭ ‬‮«‬تكتفي‭ ‬بكتبها‭ ‬ومستقبلها‭ ‬المهني‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬زوجها‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬يصف‭ ‬علاقتها‭ ‬بزوجها‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬جارته‭ ‬التي‭ ‬تساكنه‮»‬‭. ‬

الرواية‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬النقاشات‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والفلسفية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬آراء‭ ‬تتجول‭ ‬بين‭ ‬الرأسمالية‭ ‬والاشتراكية‭ ‬ذ‭ ‬الصداق‭ ‬الاضطراري‭ ‬والزواج‭ ‬الاختياري‭ ‬ذ‭ ‬اليساريون‭ ‬والإسلاميون‭ ‬ذ‭ ‬بورقيبة‭ ‬وبن‭ ‬علي،‭ ‬ووسط‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الضجيج‭ ‬يبدو‭ ‬لك‭ ‬أنه‭ ‬تخللها‭ ‬بطريق‭ ‬المصادفة‭ ‬سرد‭ ‬لأحداث‭ ‬الشخوص‭ ‬وحيواتهم‭. ‬وفي‭ ‬رأيي‭ ‬أنه‭ ‬لولا‭ ‬لغة‭ ‬المنابر‭ ‬والتنظير،‭ ‬لكانت‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬الروايات‭ ‬