رائد الانطباعية في الفن العربي الحديث فائق حسن... فنان الفضاء الطلق

إذا كان لنا أن نتكلم عن فنان امتلك لغته الفنية بقدرة عالية، فإن الكلام سيكون عن فائق حسن، الفنان الذي وضع اللبنة الفعلية في بناء ما تحقق من تطور في الفن العراقي الحديث إبان النصف الأول من القرن العشرين، ممتداً بتطوره، رؤية وأسلوباً، إلى نهايات القرن.\
إذا كان فائق حسن قد دخل عالم الفن من باب الطبيعة، فلأنه وجد في فنانين كانوا قد سبقوه إلى هذا العالم ما يُعزز خطوته، ومن بينهم من وجد (كما وجد اجيتينيب عام 1437) أن االباب المظفّر الذي يُفضي إلى الرسم هو الطبيعةب... فركّز منظوره الفني في الأشياء المرئية. ومن هنا نبع اعتداده بالطبيعة، آخذاً نفسه، وعمله الفني، بما أخذت به المثالية الكلاسيكية، التي ذهب فنانوها إلى تأكيد أن الا شيء جميلاً إلا ما هو حقيقيب، وأن الحقيقي وحده الجدير باهتمام الرسَّام، لنجد أعماله الأولى بمنزلة تجديد للطبيعة التي لم يكن اينظر إليهاب بقدر ما كان اينظر فيهاب، مستغوراً أعماقها الحيّة. ومن خلال الطبيعة، بمشاهدها الحية، كانت افورة الخلقب عنده لتُحرّكه، ذاتاً إبداعية، باتجاه اصطناع انماذجب تكون أكثر إغراءً من الطبيعة نفسها بالنسبة للمشاهد. فهو حين رسم الخيول، مثلاً، جعلها جزءاً من الطبيعة المحيطة بها. وحتى حين اتجه بعمله الفني خارج الطبيعة بتكويناتها الحيّة، فإنه لم يتخلّص، في أعماله تلك، من مشكلاتها.
فهل كان في توجهه هذا يذهب مع اغوتيهب في ما رأى من أن االفن لا يهدف إلى نقل الطبيعة، وإنما يجعل منها وسيلة للتعبير عن مَثَلٍ أعلى داخليب، وأن االفنان يحمل في أعماقه عالماً مصغّراً كاملاًب؟
لعله بدأ من هناك، ولذلك صار يرسم من خلال انموذجب حي (الغابات الساكنة الأشجار، والخيول بحركاتها النافرة)، أو جامد (الزقاق والبيت البغدادي القائم فيها بطُرز معمارية تراثية)، وصار يرسم هذا كلّه بحساسية يمكن تسميتها بـاحساسية التلقيب، مقدّما ما يسهل على مشاهد لوحته/ عمله الفني تعرّفه. فهو ينقل اجمالية الواقعب الذي ذهب بعمله الفني إلى حدّ المشاكلة معه، وكانت براعته رائياً مصدر التنوع عنده، حتى في الموضوع الواحد. والمهم في هذا ليست موضوعاته بذاتها، وإنما الأسلوب الذي اتبعه في تجسيدها/ تمثيلها أشكالاً فنية لها خصوصيتها النابعة من خصوصية نظرته الذاتية فناناً. فهو وإن يكن خرج إلى الواقع العاري، لم يقدّم افناً عارياًب.
وإذا كان الفنان اهو من يصنع الفن التصويريب، وفق الفنان الإيطالي بوسكيني، فإن فائق حسن هو من أوجد ما يمكن أن يُعدّ معادلة بين االشكلب المتفوّق تكويناً، وااللونب المتفرّد خاصية لونية.
وإذا كان فائق حسن ارسّام الطبيعةب المتميّز، فإن تميّز هذه الطبيعة في عمله الفني متأتٍ مما لها من أثر ذاتي عليه، الأمر الذي كان يندفع به إلى الكشف، وبقوّة ذاتية عالية، عما لهذه الطبيعة من أعماق خفيّة، جامعاً في لوحته هذه بين االخيال النافذب واالرؤية المؤصّلةب موضوعاً.
وجهاً لوجه مع الطبيعة
عندما كان فائق حسن يخرج إلى الطبيعة كان يفعل ذلك ليراها بكليتها، وليس بتمثله التخييلي لها: بساتينها وما تقوم به من شجر وزرع، وجبالها وما يُعرّش عليها من شجر، وأرضها الصحراوية المنبسطة وما عليها من خيول وساستها، محققاً من هذا كله جمالية الخلق الفني في لوحته التي لم يلتفت فيها إلى الآراء التي عاصرتها بداياته، التي كانت تقول إن توجّه الفنان إلى الطبيعة، والتعاطي معها، صورة ومشهداً، يمثّلان امحاكاة ذليلةب لها، بل سيتجاوز ما قال به ابودليرب، أهمية حضوره في تلك المرحلة، من أن االطبيعة مبتذلةب، لا تعبير، ولا شيء من المطلق، الذي رأى أن على الفنان البحث عنه، فيها.
لم يتوقف عند هذا، على أهمية القائلين به، إذ كان موقناً أنه لا يُعيد اكتابتهاب، ولا يُجسدها بـالغة فنيةب بسيطة، وإنما يتخذ منها اموضوعاًب يُعبّر به عما اكتسب من طرائق التعبير، لا تطبيقاً لقواعد اعتباطية، وإنما بهاجس فنّي يدعمه تمثّلٌ مُبدع. وهل المطلوب من الفنان إلا خلق رؤية جديدة لعالم قد يكون مألوفاً؟
من هنا سيبتعد في عمله، ما أمكن، عن المحاكاة. فهو وإن عبّر عن الخاصية الطبيعية في االصورة/ المشهدب، فإنه طبع اتعبيرهب هذا بأسلوب تتحدد فيه سمته الشخصية فناناً ـ وقد ظل حريصاً على تأكيدها، بحيث تقف لوحته، التي تتخذ من االطبيعةب موضوعًا، بين حالتين جماليتين، وهما: جمالية الطبيعة بذاتها، وجمالية الخط واللون، أو اجمالية الفنب الذي يعدّه ابندتو كروتشهب: االجمال الحقيقيب، فهو اليس تقليداً، بل خلقب، وبـاعملية الخلقب هذه أمسك فائق حسن بالطبيعة جاعلاً منها شعلة إشعاع فني.
فإن كان هناك من يرى أنه تناول هذه الطبيعة من الخارج (حيث الشجرة بتفرعات أغصانها وأوراقها الوارفة، والنبات المحيط بها أرضاً، أو الحصان الذي يقف مرفوع العنق شامخ الرأس، أو تلك الإطلالة منه على زقاق قديم تطلّ منه اامرأة قديمةب هي الأخرى وكأنها تخرج لتتساءل كمن يتساءل عن اوجودب الفنان في هذا المكان...)، فإنه، في جميعها، وفي سواها مما استأثر به عمله من مشاهد الطبيعة الإنسانية، كان كمن يعمل على اتوضيب نظامب من الرؤية يبني بها/ ومن خلالها انظامه في الفنب في عملية صعود مستمر بما ايرىب. والمثير والمدهش في هذا أنه يحمل اسؤال الطبيعةب واما يقوله معناهاب، من دون نظر في ما هو خارجها. وهو، هنا، لا يُعيد ولا يستعيد، وإنما يُبدع، ناشراً عبر الخط وفي اللون كل ما له من براعة، وإن كان، في عمله هذا، أقرب إلى االارتجالب منه إلى االتصميم المسبّقب. لقد كان، مثله مثل ارينوارب الذي شكّل مثالاً حياً للانطباعيين في عصره، ومن بعده، وأخذ نفسه بحرية الرسم في فضاء مفتوح، حيث اسمة النبل والسموّب، كما يقول انطباعيو عصر ذلك الفنان الفرنسي، فإن فناننا، وعلى هديْ خطاهم، سيبذل كل ما في وسعه من أجل إرساء دعائم الرسم ضمن هذا التوجّه، وإظهار خصائصه الفنية في ما يُقدّم من أعمال لها جماليتها الخاصة، بل، ووفق بعض دارسي الانطباعية، أنهم من أرسى دعائم هذه الجمالية في فن عصرهم. وقد سلك فائق حسن مسلك أسلافه من الانطباعيين بالرسم في الهواء الطلق، من دون انشغال بما هنالك من امسائل نظريةب في الفن سينشغل بها غير فنان من معاصريه.
فإن كان االتجريدب قد استهواه يوماً فاستأثر بشيء من عمله الفني، فإنه لم يمكث معه طويلاً، وسرعان ما عاد إلى الزقاق القديم، والوجوه التي تعرّف إليها فيه، وإلى الخيول... وكأنها االحقائق الموضوعيةب التي تجلت بها مهارته الفنية، وقد تمثلت، أكثر ما تمثلت، في التعاطي البارع مع اللون الذي احتشد عنده بدلالات ذاتية ذات عُمق في نفسه، كما في ذاكرته التصويرية.
التواصل... لا الاختلاف
من هنا ينبع الاختلاف الجوهري في الرؤية الفنية بينه وبين أهم فنان عاصره: جواد سليم، الذي نظر إلى الحياة من داخل ما لها من تاريخ، في حين أخذ فائق حسن نفسه وفنّه بالعيش في الطبيعة، التي اجتذبه ألقها، فراح يُبرز ما يرى فيها من خصائص برؤية جمالية متفوّقة عليها، في الوقت الذي عاش فيه جواد تحت سلطتين: سلطة الواقع بما له من اندفاعات حيّة، وسلطة التاريخ بما له من تمثيل خالد للإنسان وجوداً ودوراً إنسانياً، متمثلاً ذلك بما وجد في تراث وادي الرافدين مما أبدعته حضارته القديمة، إذ راح يبحث للاثنين عن ازمان آخرب يُجسدهما فيه، كاشفاً عما يحملان من روح إنسانية جديدة. في حين ظل فائق، واستمرّ يجلو اصور الطبيعةب كما تتمثل له، أو تتخايل لرؤاه، فمنها بدأ، وإليها/ بها سينتهي.
وعلى هذا يمكن القول: إن لوحة الفنان فائق حسن لا تكتفي بأن تكون إدراكاً مباشراً لجانب من العالم االطبيعيب، فتُجسّده فنياً ببعد جمالي مضاف، وإنما هي عمل فنيّ يحمل وجهة نظر الفنان إلى العالم. فعادة ما يُقال، في مثل هذا الموقف، إن االشيءب الذي يرسمه الفنان ليس هو االشيء بذاتهب مُدرَكاً إدراكاً حسياً محضاً، وإنما هو اشيءب عبر فيه الفنان عن ارؤية ذاتيةب، أو جاء نتيجة
اتمثّل ذهنيب ناقلاً إياه إلى عالمه الجمالي الخاص من طريق الخط واللون اللذين يُؤلف منهما االشكل الفنيب، بما يأخذه هذا الشكل من أبعاد التعبير عنده. وهو ما جعل من النقّاد من يذهب إلى أن الفن، انطلاقاً من هذا وتأسيساً عليه، يصنع جماله من نسيج الغتهب الخاصة. فإذا كانت االطبيعةب واالواقعب هما العالم الجمالي الخاص بهذا الفنان، فقد
جعل لكل منهما كيفياته في عمله الفني، بما اجتمع لهذه الكيفية من مظاهر، وتأملات، وأخيلة.
فإذا أخذنا اعلم الجمالب بكونه اعلم التعبيرب، فإن النظر، بهذا المعنى/ البُعد، في عمل الفنان فائق حسن يقف بنا على أبعاد هذا العمل، وأخصّها: إن الفن عيان، وهو عنده عيان يأخذنا، ومن قبلنا أخذ الفنان، نحو جهة يتعيّن بها هذا االعيان الشخصيب الذي رأى. وبهذا فهو يُعيد تكوين االصورة في اللوحةب من خلال ذاته/ عيانه، من دون أن نغفل الإشارة هنا إلى طبيعة تكوينه فناناً (أعني: التمثُّل والخيال عنده)، فبه/ ومن خلاله يكون االتكوين الجديدب.
الفنان وخصائص هويته التجديدية
في سياق هذه النظرة إلى عمل الفنان، التي حاولت أن تستشفَّ ما فيه من رؤية تكوينية، هل في مقدورنا الكلام عن اهويّة الفنانب وتمييزها ثقافياً؟
يمكن القول: إن الفنان فائق حسن، كما يبدو لنا من خلال عمله، كان فناناً شديد التأكيد على الشعور الداخلي، وعلى الإحساس بالأشياء في ما لها من طبيعة خاصة. وكانت العلاقة عنده بين االذاتب واالتعبيرب علاقة تكوينية، وإن حضوره في عمله هو حضور الرؤية والخبرة.
قد يسأل مشاهد، أو قارئ للوحته هنا، عن تجليات خياله المبدع في عمله الفني - كما يُفترض بعمل الفنان أن يقوم عليه - وما إذا كان بإمكان الفنان في ما له من مقدور فني، تحويل المشاعر والأحاسيس التي تُداخله إلى الانتظام في ما يُعرف بـاالخيال المُبدعب، خصوصاً أن عمله هذا ينزلق، بحكم مدرسته الانطباعية، إلى الواقع المتشخَّص.
لقد كان فناناً مجدِّداً بانطباعيته هذه، ولم يكن يعنيه كثيراً أن تكون تحولاته الفنية، عملاً، بطيئة، في وقت كان فيه كل ما حوله، كما في محيط الفن في العالم الذي لم يكن فناننا منقطعاً عنه، يمضي في اتجاهات الكشف عن تقنيات جديدة وإشاعتها بوصفها ما ينبغي أن يتمثّل فيه امستقبل الفنب.
كانت أعماله تتعدد، وكلما ازدادت عدداً ازداد عالمه غنىً بها/ ومن خلالها، وكانت ألوانه أقوى من الكلمات استجابة لعوالمه هذه (من وجه المقارنة بين اللوحة منه، والقصيدة من شاعر.