ليلى العثمان وكتابة الذات
لعل واحداً من أبرز مظاهر التطور في الكتابة الأدبية، عبر التاريخ، هو التطور الذي صاحب رحلة السيرة الذاتية، فتحولت الكتابة من الاهتمام بالخارج إلى الاهتمام بالداخل، وتقديم الشخصية في أحوال تقلبها بين نعمة وبؤس، وقوة وضعف، وليس الاكتفاء بالمنجز الختامي الذي يجدر بالدراسات التاريخية أن تتولاه ذكراً وإحصاء.
للكتابة الذاتية حضور لافت في كتابات الأديبة ليلى العثمان, وقد تقاسم هذه الكتابة أكثر من فن أدبي: أدب المقالة في «بلا قيود... دعوني أتكلم»، الذي صدر في عام 1999، رواية السيرة الذاتية في «المحاكمة... مقطع من سيرة الواقع» الذي صدر في عام 2000، اليوميات في «يوميات الصبر والمرّ» الذي صدر في عام 2003، أدب الرحلة في «أيام في اليمن» الذي صدر في عام 2004.
وهي كتابات - على تنوع الشكل الأدبي - وثيقة الصلة بالذات الباحثة عن الهوية, وبالسرد الذاتي, بل إن كثيراً من قصص الكاتبة يعتمد ضمير المتكلم في السياق السردي, فعلى سبيل المثال تضم مجموعتها القصصية «زهرة تدخل الحي» سبعاً وعشرين قصة قصيرة, قد اعتمدت على ضمير المتكلم أو المخاطب الدال على الذات في خمس عشرة قصة منها, ومن مظاهر حضور الذات, التلبث بقضايا الوطن وأزماته, واتخاذه تعبيراً صريحاً عن الذات, كما بدا في مجموعتها القصصية «الحواجز السوداء» (1994)، حيث تصور الكاتبة معاناتها, ومعاناة بلدها خلال فترة الاحتلال العراقي للكويت, حيث يمتزج الإنسان بالوطن.
في «بلا قيود... دعوني أتكلم» تشغل الذات مساحات عريضة من مقالاته, تحقيقاً للهوية, وبحثاً عن الحرية, فتأتي ضمائر التكلم صريحة, وبميثاق أوتوبيوغرافي معلن, ليس فقط في عنوان الكتاب, وإنما بتركيز واضح في عناوين المقالات (أنا... والقطط - أنا... والأقلام - أنا... والليل والسلوى - أنا... وقلبي - أنا... وأيام المطر...). يرتبط هذا الملمح اللغوي الأوّلي بالإحساس المضاعف لدى المرأة الكاتبة بالتهميش والإقصاء والقهر, وحاجتها إلى وجود خاص في مجتمع تراه ذكورياً منحازاً إلى الرجل, فتنحاز هي بالمقابل إلى تأكيد وجودها «بتحويل ذاتها إلى موضوع, وتستخدم الأنا للتمحور على الذات, وتأكيد الوظيفة التعبيرية لعناصر الرسالة الأدبية». (رشيد بنمسعود: المرأة والكتابة, ص94).
يرافق هذا التجلي لـ«الأنا» احتفاء بفكرة الكتابة ذاتها, ومادتها الأساسية الكلمة, درع المرأة الأقوى إبداعياً واجتماعياً, فتتوالى السرود عن علاقة الكاتبة «ليلى العثمان» بالأقلام, واللغة الفصحى, ومؤلفاتها التي لم تر النور, والرسائل بمنزلة نقوش للروح وفرصة لكسر طوق الحصار, وأوقات الكتابة, وعشق الكتب. إنها تواجه بهذا الاحتفاء أشكالاً من الإقصاء الذكوري للكيان الثقافي للمرأة, حظراً وتجاهلاً, ومنعاً وتجريحاً, ومن المظاهر البادية في الأدب النسائي عموماً سعي المرأة الكاتبة إلى تغيير الواقع المقيد بالتقاليد, وذلك عن طريق «تغذية الوعي, والتوق إلى الكتابة والثقافة بوصفهما مفتاحي اكتشاف مواهب الشخصية, وإثبات الحضور الثقافي... ولعل هذا ما يفسر لنا وقوف كثير من الكتابات النسائية عند حدود الذاتية التي تصل أحياناً عند بعضهن إلى درجة النرجسية من وطأة الانغماس في الذات, وهو رد فعل طبيعي على التهميش الثقافي للمرأة». (د. عبدالله أحمد المهنا: تمرد امرأة خليجية, ص 37)
تتناثر الذات في تضاعيف البناء الموضوعي للمقالات السبعين التي يضمها كتاب «بلا قيود... دعوني أتكلم», والجسور ممتدة بين الذات الفردية والذات الجمعية, والتحرك بلا حواجز في مدارات الماضي والحاضر مستمر, إنها لا تكف عن البوح والكشف, وكسر القيود, وكلما زاد ضغط المجتمع وحصاره بالمحظورات والممنوعات, زادت الحاجة إلى الكتابة في الموضوعات ذاتها التي يضغط بها المجتمع ويحاصر, ولذا تتولّد عند ذاك خصوصية أخرى للكتابة الذاتية النسائية, ينهض بها القهر الاجتماعي الواقع على الأنثى منذ طفولتها الأولى, مثل الحرمان من اللعب وفرص التعليم, وتفضيل الولد على البنت, وتحديد الحركة, والحجر على حريتها في مجال الزواج أو العمل أو إظهار الموهبة, وتضييق دائرة الاختيارات, وفي ميدان النشر والكتابة تكثر الأسماء النسائية المستعارة.
وتتوافر الأمثلة على مظاهر القهر الاجتماعي في كتابات ليلى العثمان عامة, ومقالات «بلا قيود..» خاصة, فالأب «حاكم عسكري», والبيت «سجن زندا», والأم حنان مفقود, ويا له من فقد أشبه بالفجيعة, يتجدد الإحساس به مقرونا بالسؤال: «لماذا في لحظات العزاء هذه أستحضر وجه أمي التي لم أجرّب حنانها, فقد انفصلت عنها طفلة وأنا ما أزال أستخرج من شق ثوبها, صدرها المليء بحليب الحياة الشهي, كبرتُ بعيداً عنها, هي في بيت زوج آخر, وأنا في بيت زوجة أخرى لأبي, ولا تشفي غليلي إلى الحنان تلك الزيارات الخاطفة التي أرى فيها وجه أمي, فلا أجرؤ على التمرغ في حضنها, ولا أن أشكو لها, ولا تجرؤ هي أن تسقط نقطة عسل إلى ثغري الجائع, كانت زوجة أبي تجلس رقيباً بيني وبينها» (بلا قيود.., ص270), وعلى الرغم من هذه الصور المؤلمة التي تستعاد من ذاكرة الطفولة الممتدة في عروق الحياة, فقد كان رحيل الأم لا يقل إيلاماً, وكان الصفح بحجم الحب المستكن في طوايا السنين و«أدركتُ أنني أحبها حباً كبيراً».
هل اكتفت الكاتبة بالتحليق في فضاء الألم دون إفضاء بما تنطوي عليه السريرة من خبايا, ودون اعتراف؟ كيف قاربت هذا الخيط الدقيق في نسيج الكتابة الذاتية؟
تتكفّل سردية «حب تحت التهديد» بتقديم نموذج شفيف الدلالة للصورة القلمية الاعترافية, وهي تقدم مسروداً إنسانياً مألوفاً, يتسم بالسيرورة على تباعد الأزمنة والأمكنة, وهو «الحب الأول», وحين يُستمد من مرحلة التكوين الأولى, مرحلة الطفولة, فإن البراءة والعفوية تحيطان بهذه السردية من كل جانب, فالذكرى تعود إلى أيام المدرسة «المهرب», و«النافذة» الوحيدة تقريباً لخريجة «بيت لا تصله الطيور الطايرة» - والتعبير للكاتبة - أما الطرف الثاني فهو شقيق الصديقة, والرسائل أداة التواصل, بالطبع بعد تواصل العيون عبر النظرات الواجفة من بعيد, وسرعان ما يبرز الطرف المعاكس عندما تسطو زميلة سارقة على الرسائل العزيزة, ويتأزم الحدث مع توالي التهديدات, وتعدد صنوف الابتزاز, ويتبدد الإحساس البريء, ليحلّ محله «نفور غريب من الحب», ثم تأتي المفاجأة عنصراً حازماً في انكشاف «الأزمة», وقد استمرت سنة دراسية كاملة - الصف الرابع المتوسط - مثقلة بالخضوع والتعاسة والخوف.
وتنشغل الكتابة الذاتية لدى ليلى العثمان بما تنشغل به الكتابة القصصية لديها, فنجد الوصف الذي يصور الأحداث أو المواقف, ويقدم صوراً ذهنية للأحاسيس والأشياء, تتسم بقدر من التحديد, أي إنه يستحضر البيئة الملائمة للسرد.
في استهلال «حب تحت التهديد» يبدو ذلك العنصر جلياً, تقول:
«هو الحب الأول، الرجفة الأولى حين يرفرف العصفور في قفصنا الصدري، فنشدّ عليه خشية أن تسمع أُذنٌ زقزقته، أو تلمح عين وجه هذا الزائر الجديد الذي كسر قوانين الأهل، وقضبان السجن، واندس خفية بين وسائد القلب، وابتدأ يتمطى... ويفتح الشبابيك للنور. ونبدأ نتعلم كيف نسترُ سرّ الأسرار، وكيف نجتهد أن نخفي تغيراتنا التي تتلون بين الفرح والخوف، بين الطيران في عالم الأحلام والاستقرار في أرض الواقع الضيقة, ونسعدُ أننا نملك شيئا خاصا، لا يعني أحدا, ولا يجب أن يكتشفه أحد، ولا أن يشم عطر حدائقه المتفتحة» (بلا قيود... ص 46).
مع البدء بالموصوف - الحب الأول - يغيب الزمن السردي, ويتراجع السرد أمام الحدث الشعوري المقصود, ليتحدّر الوصف بصورة ذاتية تفسيرية, ويتناغم الإحساس بالحب مع الإحساس بالحرية، فيكسر التقاليد والقضبان, ويبزغ التوق إلى التعلم والتعرف, وتتلمس السعادة في الخصوصية, ولأن الإحساس وسيع الآثار, فقد تنوعت الأوصاف، معنوية وحسية, واستندت إلى وسائل مثل تشخيص الموصوف في: الرجفة - العصفور - الزائر الجديد.
وتجريده في: سر الأسرار, وتجسيده في: نملك شيئاً خاصاً.
ليس هذا فحسب, فإن الوصف - وهو ضرورة لكل كتابة سردية - يدعونا إلى البصر بملامح وجدانية رومانسية, تصاحب هذه الصورة القلمية منذ البدء وحتى الختام.
وكما انشغلت سردية «حب تحت التهديد» بالوصف, انشغلت كذلك بالمشهد الحواري, وفيه تقدم الشخصية في حال حوار مباشر, يتراجع فيه الحدث السردي, ويبرز الكشف عن كوامن الشعور والمعالم الداخلية للنفس.
وهذا مثل يغني عن أمثلة:
«حاولت طوال الحفل ألا أنظر إلى وجه الزميلة, ما كنت أريد لشيء أن يفسد فرحي؛ لكنها بوقاحة اقتربت مني وأخذت تتحسّس فستاني.
نظرت إليها بإشفاق وسألتها: هل تريدين الفستان أيضاً وتردين الرسائل؟
فوجئت بها تنفلت بضحك هستيري ساخر, وتقول: أي رسائل؟ لقد مزقتها منذ اليوم الأول, كنت فقط أستغل خوفك لأستفيد».
يمثل هذا المشهد الحواري «لحظة التنوير» الرئيسة في حركة الحدث السردي التصاعدية, وهو يأتي مصحوباً بأوصاف هيئة المتكلمين: (نظرت إليها بإشفاق...), (تنفلت بضحك هستيري..), وبتجاور الوصف والحوار, يتأكد الأداء التكاملي لعناصر الخطاب السردي, حتى يضحي ضرورة من ضرورات «سبك النص», وهو تجاور فعّال, يمنح الكتابة الذاتية ما تتطلبه من قدرٍ وافٍ من الحيوية والإمتاع ■