ليلى العثمان وكتابة الذات

ليلى العثمان وكتابة الذات

لعل‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬مظاهر‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية،‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬هو‭ ‬التطور‭ ‬الذي‭ ‬صاحب‭ ‬رحلة‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬فتحولت‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالخارج‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالداخل،‭ ‬وتقديم‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬أحوال‭ ‬تقلبها‭ ‬بين‭ ‬نعمة‭ ‬وبؤس،‭ ‬وقوة‭ ‬وضعف،‭ ‬وليس‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بالمنجز‭ ‬الختامي‭ ‬الذي‭ ‬يجدر‭ ‬بالدراسات‭ ‬التاريخية‭ ‬أن‭ ‬تتولاه‭ ‬ذكراً‭ ‬وإحصاء‭. ‬

للكتابة‭ ‬الذاتية‭ ‬حضور‭ ‬لافت‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬الأديبة‭ ‬ليلى‭ ‬العثمان‭,‬‭ ‬وقد‭ ‬تقاسم‭ ‬هذه‭ ‬الكتابة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬أدبي‭: ‬أدب‭ ‬المقالة‭ ‬في‭ ‬‮«‬بلا‭ ‬قيود‭... ‬دعوني‭ ‬أتكلم‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1999،‭ ‬رواية‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬في‭ ‬‮«‬المحاكمة‭... ‬مقطع‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬الواقع‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2000،‭ ‬اليوميات‭ ‬في‭ ‬‮«‬يوميات‭ ‬الصبر‭ ‬والمرّ‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2003،‭ ‬أدب‭ ‬الرحلة‭ ‬في‭ ‬‮«‬أيام‭ ‬في‭ ‬اليمن‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2004‭.‬

وهي‭ ‬كتابات‭  - ‬على‭ ‬تنوع‭ ‬الشكل‭ ‬الأدبي‭ - ‬وثيقة‭ ‬الصلة‭ ‬بالذات‭ ‬الباحثة‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭,‬‭ ‬وبالسرد‭ ‬الذاتي‭,‬‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬الكاتبة‭ ‬يعتمد‭ ‬ضمير‭ ‬المتكلم‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬السردي‭,‬‭ ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬تضم‭ ‬مجموعتها‭ ‬القصصية‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬تدخل‭ ‬الحي‮»‬‭ ‬سبعاً‭ ‬وعشرين‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭,‬‭ ‬قد‭ ‬اعتمدت‭ ‬على‭ ‬ضمير‭ ‬المتكلم‭ ‬أو‭ ‬المخاطب‭ ‬الدال‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬خمس‭ ‬عشرة‭ ‬قصة‭ ‬منها‭,‬‭ ‬ومن‭ ‬مظاهر‭ ‬حضور‭ ‬الذات‭,‬‭ ‬التلبث‭ ‬بقضايا‭ ‬الوطن‭ ‬وأزماته‭,‬‭ ‬واتخاذه‭ ‬تعبيراً‭ ‬صريحاً‭ ‬عن‭ ‬الذات‭,‬‭ ‬كما‭ ‬بدا‭ ‬في‭ ‬مجموعتها‭ ‬القصصية‭ ‬‮«‬الحواجز‭ ‬السوداء‮»‬‭ (‬1994‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬تصور‭ ‬الكاتبة‭ ‬معاناتها‭,‬‭ ‬ومعاناة‭ ‬بلدها‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬الاحتلال‭ ‬العراقي‭ ‬للكويت‭,‬‭ ‬حيث‭ ‬يمتزج‭ ‬الإنسان‭ ‬بالوطن‭.‬

في‭ ‬‮«‬بلا‭ ‬قيود‭... ‬دعوني‭ ‬أتكلم‮»‬‭ ‬تشغل‭ ‬الذات‭ ‬مساحات‭ ‬عريضة‭ ‬من‭ ‬مقالاته‭,‬‭ ‬تحقيقاً‭ ‬للهوية‭,‬‭ ‬وبحثاً‭ ‬عن‭ ‬الحرية‭,‬‭ ‬فتأتي‭ ‬ضمائر‭ ‬التكلم‭ ‬صريحة‭,‬‭ ‬وبميثاق‭ ‬أوتوبيوغرافي‭ ‬معلن‭,‬‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب‭,‬‭ ‬وإنما‭ ‬بتركيز‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬عناوين‭ ‬المقالات‭ (‬أنا‭... ‬والقطط‭ - ‬أنا‭... ‬والأقلام‭ - ‬أنا‭... ‬والليل‭ ‬والسلوى‭ - ‬أنا‭... ‬وقلبي‭ - ‬أنا‭... ‬وأيام‭ ‬المطر‭...). ‬يرتبط‭ ‬هذا‭ ‬الملمح‭ ‬اللغوي‭ ‬الأوّلي‭ ‬بالإحساس‭ ‬المضاعف‭ ‬لدى‭ ‬المرأة‭ ‬الكاتبة‭ ‬بالتهميش‭ ‬والإقصاء‭ ‬والقهر‭,‬‭ ‬وحاجتها‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬تراه‭ ‬ذكورياً‭ ‬منحازاً‭ ‬إلى‭ ‬الرجل‭,‬‭ ‬فتنحاز‭ ‬هي‭ ‬بالمقابل‭ ‬إلى‭ ‬تأكيد‭ ‬وجودها‭ ‬‮«‬بتحويل‭ ‬ذاتها‭ ‬إلى‭ ‬موضوع‭,‬‭ ‬وتستخدم‭ ‬الأنا‭ ‬للتمحور‭ ‬على‭ ‬الذات‭,‬‭ ‬وتأكيد‭ ‬الوظيفة‭ ‬التعبيرية‭ ‬لعناصر‭ ‬الرسالة‭ ‬الأدبية‮»‬‭. (‬رشيد‭ ‬بنمسعود‭: ‬المرأة‭ ‬والكتابة‭,‬‭ ‬ص94‭).‬

  ‬يرافق‭ ‬هذا‭ ‬التجلي‭ ‬لـ«الأنا‮»‬‭ ‬احتفاء‭ ‬بفكرة‭ ‬الكتابة‭ ‬ذاتها‭,‬‭ ‬ومادتها‭ ‬الأساسية‭ ‬الكلمة‭,‬‭ ‬درع‭ ‬المرأة‭ ‬الأقوى‭ ‬إبداعياً‭ ‬واجتماعياً‭,‬‭ ‬فتتوالى‭ ‬السرود‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬الكاتبة‭ ‬‮«‬ليلى‭ ‬العثمان‮»‬‭ ‬بالأقلام‭,‬‭ ‬واللغة‭ ‬الفصحى‭,‬‭ ‬ومؤلفاتها‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تر‭ ‬النور‭,‬‭ ‬والرسائل‭ ‬بمنزلة‭ ‬نقوش‭ ‬للروح‭ ‬وفرصة‭ ‬لكسر‭ ‬طوق‭ ‬الحصار‭,‬‭ ‬وأوقات‭ ‬الكتابة‭,‬‭ ‬وعشق‭ ‬الكتب‭. ‬إنها‭ ‬تواجه‭ ‬بهذا‭ ‬الاحتفاء‭ ‬أشكالاً‭ ‬من‭ ‬الإقصاء‭ ‬الذكوري‭ ‬للكيان‭ ‬الثقافي‭ ‬للمرأة‭,‬‭ ‬حظراً‭ ‬وتجاهلاً‭,‬‭ ‬ومنعاً‭ ‬وتجريحاً‭,‬‭ ‬ومن‭ ‬المظاهر‭ ‬البادية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬النسائي‭ ‬عموماً‭ ‬سعي‭ ‬المرأة‭ ‬الكاتبة‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬الواقع‭ ‬المقيد‭ ‬بالتقاليد‭,‬‭ ‬وذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬‮«‬تغذية‭ ‬الوعي‭,‬‭ ‬والتوق‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬والثقافة‭ ‬بوصفهما‭ ‬مفتاحي‭ ‬اكتشاف‭ ‬مواهب‭ ‬الشخصية‭,‬‭ ‬وإثبات‭ ‬الحضور‭ ‬الثقافي‭... ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬لنا‭ ‬وقوف‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬النسائية‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬أحياناً‭ ‬عند‭ ‬بعضهن‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬النرجسية‭ ‬من‭ ‬وطأة‭ ‬الانغماس‭ ‬في‭ ‬الذات‭,‬‭ ‬وهو‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬طبيعي‭ ‬على‭ ‬التهميش‭ ‬الثقافي‭ ‬للمرأة‮»‬‭. (‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬أحمد‭ ‬المهنا‭: ‬تمرد‭ ‬امرأة‭ ‬خليجية‭,‬‭ ‬ص‭ ‬37‭)‬

  ‬تتناثر‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬تضاعيف‭ ‬البناء‭ ‬الموضوعي‭ ‬للمقالات‭ ‬السبعين‭ ‬التي‭ ‬يضمها‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬بلا‭ ‬قيود‭... ‬دعوني‭ ‬أتكلم‮»‬‭,‬‭ ‬والجسور‭ ‬ممتدة‭ ‬بين‭ ‬الذات‭ ‬الفردية‭ ‬والذات‭ ‬الجمعية‭,‬‭ ‬والتحرك‭ ‬بلا‭ ‬حواجز‭ ‬في‭ ‬مدارات‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬مستمر‭,‬‭ ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬البوح‭ ‬والكشف‭,‬‭ ‬وكسر‭ ‬القيود‭,‬‭ ‬وكلما‭ ‬زاد‭ ‬ضغط‭ ‬المجتمع‭ ‬وحصاره‭ ‬بالمحظورات‭ ‬والممنوعات‭,‬‭ ‬زادت‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬الموضوعات‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬يضغط‭ ‬بها‭ ‬المجتمع‭ ‬ويحاصر‭,‬‭ ‬ولذا‭ ‬تتولّد‭ ‬عند‭ ‬ذاك‭ ‬خصوصية‭ ‬أخرى‭ ‬للكتابة‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية‭,‬‭ ‬ينهض‭ ‬بها‭ ‬القهر‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬الأنثى‭ ‬منذ‭ ‬طفولتها‭ ‬الأولى‭,‬‭ ‬مثل‭ ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬اللعب‭ ‬وفرص‭ ‬التعليم‭,‬‭ ‬وتفضيل‭ ‬الولد‭ ‬على‭ ‬البنت‭,‬‭ ‬وتحديد‭ ‬الحركة‭,‬‭ ‬والحجر‭ ‬على‭ ‬حريتها‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الزواج‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬إظهار‭ ‬الموهبة‭,‬‭ ‬وتضييق‭ ‬دائرة‭ ‬الاختيارات‭,‬‭ ‬وفي‭ ‬ميدان‭ ‬النشر‭ ‬والكتابة‭ ‬تكثر‭ ‬الأسماء‭ ‬النسائية‭ ‬المستعارة‭.‬

  ‬وتتوافر‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬مظاهر‭ ‬القهر‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬ليلى‭ ‬العثمان‭ ‬عامة‭,‬‭ ‬ومقالات‭ ‬‮«‬بلا‭ ‬قيود‭..‬‮»‬‭ ‬خاصة‭,‬‭ ‬فالأب‭ ‬‮«‬حاكم‭ ‬عسكري‮»‬‭,‬‭ ‬والبيت‭ ‬‮«‬سجن‭ ‬زندا‮»‬‭,‬‭ ‬والأم‭ ‬حنان‭ ‬مفقود‭,‬‭ ‬ويا‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬فقد‭ ‬أشبه‭ ‬بالفجيعة‭,‬‭ ‬يتجدد‭ ‬الإحساس‭ ‬به‭ ‬مقرونا‭ ‬بالسؤال‭: ‬‮«‬لماذا‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬العزاء‭ ‬هذه‭ ‬أستحضر‭ ‬وجه‭ ‬أمي‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أجرّب‭ ‬حنانها‭,‬‭ ‬فقد‭ ‬انفصلت‭ ‬عنها‭ ‬طفلة‭ ‬وأنا‭ ‬ما‭ ‬أزال‭ ‬أستخرج‭ ‬من‭ ‬شق‭ ‬ثوبها‭,‬‭ ‬صدرها‭ ‬المليء‭ ‬بحليب‭ ‬الحياة‭ ‬الشهي‭,‬‭ ‬كبرتُ‭ ‬بعيداً‭ ‬عنها‭,‬‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬زوج‭ ‬آخر‭,‬‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬زوجة‭ ‬أخرى‭ ‬لأبي‭,‬‭ ‬ولا‭ ‬تشفي‭ ‬غليلي‭ ‬إلى‭ ‬الحنان‭ ‬تلك‭ ‬الزيارات‭ ‬الخاطفة‭ ‬التي‭ ‬أرى‭ ‬فيها‭ ‬وجه‭ ‬أمي‭,‬‭ ‬فلا‭ ‬أجرؤ‭ ‬على‭ ‬التمرغ‭ ‬في‭ ‬حضنها‭,‬‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬أشكو‭ ‬لها‭,‬‭ ‬ولا‭ ‬تجرؤ‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬تسقط‭ ‬نقطة‭ ‬عسل‭ ‬إلى‭ ‬ثغري‭ ‬الجائع‭,‬‭ ‬كانت‭ ‬زوجة‭ ‬أبي‭ ‬تجلس‭ ‬رقيباً‭ ‬بيني‭ ‬وبينها‮»‬‭ (‬بلا‭ ‬قيود‭..‬‭,‬‭ ‬ص270‭)‬‭,‬‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬المؤلمة‭ ‬التي‭ ‬تستعاد‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬الطفولة‭ ‬الممتدة‭ ‬في‭ ‬عروق‭ ‬الحياة‭,‬‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬رحيل‭ ‬الأم‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬إيلاماً‭,‬‭ ‬وكان‭ ‬الصفح‭ ‬بحجم‭ ‬الحب‭ ‬المستكن‭ ‬في‭ ‬طوايا‭ ‬السنين‭ ‬و«أدركتُ‭ ‬أنني‭ ‬أحبها‭ ‬حباً‭ ‬كبيراً‮»‬‭.‬

  ‬هل‭ ‬اكتفت‭ ‬الكاتبة‭ ‬بالتحليق‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الألم‭ ‬دون‭ ‬إفضاء‭ ‬بما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬السريرة‭ ‬من‭ ‬خبايا‭,‬‭ ‬ودون‭ ‬اعتراف؟‭ ‬كيف‭ ‬قاربت‭ ‬هذا‭ ‬الخيط‭ ‬الدقيق‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬الكتابة‭ ‬الذاتية؟

  ‬تتكفّل‭ ‬سردية‭ ‬‮«‬حب‭ ‬تحت‭ ‬التهديد‮»‬‭ ‬بتقديم‭ ‬نموذج‭ ‬شفيف‭ ‬الدلالة‭ ‬للصورة‭ ‬القلمية‭ ‬الاعترافية‭,‬‭ ‬وهي‭ ‬تقدم‭ ‬مسروداً‭ ‬إنسانياً‭ ‬مألوفاً‭,‬‭ ‬يتسم‭ ‬بالسيرورة‭ ‬على‭ ‬تباعد‭ ‬الأزمنة‭ ‬والأمكنة‭,‬‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬الحب‭ ‬الأول‮»‬‭,‬‭ ‬وحين‭ ‬يُستمد‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬التكوين‭ ‬الأولى‭,‬‭ ‬مرحلة‭ ‬الطفولة‭,‬‭ ‬فإن‭ ‬البراءة‭ ‬والعفوية‭ ‬تحيطان‭ ‬بهذه‭ ‬السردية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب‭,‬‭ ‬فالذكرى‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬أيام‭ ‬المدرسة‭ ‬‮«‬المهرب‮»‬‭,‬‭ ‬و«النافذة‮»‬‭ ‬الوحيدة‭ ‬تقريباً‭ ‬لخريجة‭ ‬‮«‬بيت‭ ‬لا‭ ‬تصله‭ ‬الطيور‭ ‬الطايرة‮»‬‭ - ‬والتعبير‭ ‬للكاتبة‭ - ‬أما‭ ‬الطرف‭ ‬الثاني‭ ‬فهو‭ ‬شقيق‭ ‬الصديقة‭,‬‭ ‬والرسائل‭ ‬أداة‭ ‬التواصل‭,‬‭ ‬بالطبع‭ ‬بعد‭ ‬تواصل‭ ‬العيون‭ ‬عبر‭ ‬النظرات‭ ‬الواجفة‭ ‬من‭ ‬بعيد‭,‬‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬يبرز‭ ‬الطرف‭ ‬المعاكس‭ ‬عندما‭ ‬تسطو‭ ‬زميلة‭ ‬سارقة‭ ‬على‭ ‬الرسائل‭ ‬العزيزة‭,‬‭ ‬ويتأزم‭ ‬الحدث‭ ‬مع‭ ‬توالي‭ ‬التهديدات‭,‬‭ ‬وتعدد‭ ‬صنوف‭ ‬الابتزاز‭,‬‭ ‬ويتبدد‭ ‬الإحساس‭ ‬البريء‭,‬‭ ‬ليحلّ‭ ‬محله‭ ‬‮«‬نفور‭ ‬غريب‭ ‬من‭ ‬الحب‮»‬‭,‬‭ ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬المفاجأة‭ ‬عنصراً‭ ‬حازماً‭ ‬في‭ ‬انكشاف‭ ‬‮«‬الأزمة‮»‬‭,‬‭ ‬وقد‭ ‬استمرت‭ ‬سنة‭ ‬دراسية‭ ‬كاملة‭ - ‬الصف‭ ‬الرابع‭ ‬المتوسط‭ - ‬مثقلة‭ ‬بالخضوع‭ ‬والتعاسة‭ ‬والخوف‭.‬

    ‬وتنشغل‭ ‬الكتابة‭ ‬الذاتية‭ ‬لدى‭ ‬ليلى‭ ‬العثمان‭ ‬بما‭ ‬تنشغل‭ ‬به‭ ‬الكتابة‭ ‬القصصية‭ ‬لديها‭,‬‭ ‬فنجد‭ ‬الوصف‭ ‬الذي‭ ‬يصور‭ ‬الأحداث‭ ‬أو‭ ‬المواقف‭,‬‭ ‬ويقدم‭ ‬صوراً‭ ‬ذهنية‭ ‬للأحاسيس‭ ‬والأشياء‭,‬‭ ‬تتسم‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬التحديد‭,‬‭ ‬أي‭ ‬إنه‭ ‬يستحضر‭ ‬البيئة‭ ‬الملائمة‭ ‬للسرد‭.‬

‭ ‬في‭ ‬استهلال‭ ‬‮«‬حب‭ ‬تحت‭ ‬التهديد‮»‬‭ ‬يبدو‭ ‬ذلك‭ ‬العنصر‭ ‬جلياً‭,‬‭ ‬تقول‭:‬

‮«‬هو‭ ‬الحب‭ ‬الأول،‭ ‬الرجفة‭ ‬الأولى‭ ‬حين‭ ‬يرفرف‭ ‬العصفور‭ ‬في‭ ‬قفصنا‭ ‬الصدري،‭ ‬فنشدّ‭ ‬عليه‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬تسمع‭ ‬أُذنٌ‭ ‬زقزقته،‭ ‬أو‭ ‬تلمح‭ ‬عين‭ ‬وجه‭ ‬هذا‭ ‬الزائر‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬كسر‭ ‬قوانين‭ ‬الأهل،‭ ‬وقضبان‭ ‬السجن،‭ ‬واندس‭ ‬خفية‭ ‬بين‭ ‬وسائد‭ ‬القلب،‭ ‬وابتدأ‭ ‬يتمطى‭... ‬ويفتح‭ ‬الشبابيك‭ ‬للنور‭. ‬ونبدأ‭ ‬نتعلم‭ ‬كيف‭ ‬نسترُ‭ ‬سرّ‭ ‬الأسرار،‭ ‬وكيف‭ ‬نجتهد‭ ‬أن‭ ‬نخفي‭ ‬تغيراتنا‭ ‬التي‭ ‬تتلون‭ ‬بين‭ ‬الفرح‭ ‬والخوف،‭ ‬بين‭ ‬الطيران‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الأحلام‭ ‬والاستقرار‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬الضيقة‭,‬‭ ‬ونسعدُ‭ ‬أننا‭ ‬نملك‭ ‬شيئا‭ ‬خاصا،‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أحدا‭,‬‭ ‬ولا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكتشفه‭ ‬أحد،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬يشم‭ ‬عطر‭ ‬حدائقه‭ ‬المتفتحة‮»‬‭ (‬بلا‭ ‬قيود‭... ‬ص‭ ‬46‭). ‬

  ‬مع‭ ‬البدء‭ ‬بالموصوف‭ - ‬الحب‭ ‬الأول‭ - ‬يغيب‭ ‬الزمن‭ ‬السردي‭,‬‭ ‬ويتراجع‭ ‬السرد‭ ‬أمام‭ ‬الحدث‭ ‬الشعوري‭ ‬المقصود‭,‬‭ ‬ليتحدّر‭ ‬الوصف‭ ‬بصورة‭ ‬ذاتية‭ ‬تفسيرية‭,‬‭ ‬ويتناغم‭ ‬الإحساس‭ ‬بالحب‭ ‬مع‭ ‬الإحساس‭ ‬بالحرية،‭ ‬فيكسر‭ ‬التقاليد‭ ‬والقضبان‭,‬‭ ‬ويبزغ‭ ‬التوق‭ ‬إلى‭ ‬التعلم‭ ‬والتعرف‭,‬‭ ‬وتتلمس‭ ‬السعادة‭ ‬في‭ ‬الخصوصية‭,‬‭ ‬ولأن‭ ‬الإحساس‭ ‬وسيع‭ ‬الآثار‭,‬‭ ‬فقد‭ ‬تنوعت‭ ‬الأوصاف،‭ ‬معنوية‭ ‬وحسية‭,‬‭ ‬واستندت‭ ‬إلى‭ ‬وسائل‭ ‬مثل‭ ‬تشخيص‭ ‬الموصوف‭ ‬في‭: ‬الرجفة‭ - ‬العصفور‭ - ‬الزائر‭ ‬الجديد‭.‬

وتجريده‭ ‬في‭: ‬سر‭ ‬الأسرار‭,‬‭ ‬وتجسيده‭ ‬في‭: ‬نملك‭ ‬شيئاً‭ ‬خاصاً‭.‬

ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب‭,‬‭ ‬فإن‭ ‬الوصف‭ - ‬وهو‭ ‬ضرورة‭ ‬لكل‭ ‬كتابة‭ ‬سردية‭ - ‬يدعونا‭ ‬إلى‭ ‬البصر‭ ‬بملامح‭ ‬وجدانية‭ ‬رومانسية‭,‬‭ ‬تصاحب‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬القلمية‭ ‬منذ‭ ‬البدء‭ ‬وحتى‭ ‬الختام‭.‬

  ‬وكما‭ ‬انشغلت‭ ‬سردية‭ ‬‮«‬حب‭ ‬تحت‭ ‬التهديد‮»‬‭ ‬بالوصف‭,‬‭ ‬انشغلت‭ ‬كذلك‭ ‬بالمشهد‭ ‬الحواري‭,‬‭ ‬وفيه‭ ‬تقدم‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬حوار‭ ‬مباشر‭,‬‭ ‬يتراجع‭ ‬فيه‭ ‬الحدث‭ ‬السردي‭,‬‭ ‬ويبرز‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬كوامن‭ ‬الشعور‭ ‬والمعالم‭ ‬الداخلية‭ ‬للنفس‭.‬

‭ ‬وهذا‭ ‬مثل‭ ‬يغني‭ ‬عن‭ ‬أمثلة‭:‬

‮«‬حاولت‭ ‬طوال‭ ‬الحفل‭ ‬ألا‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬وجه‭ ‬الزميلة‭,‬‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬لشيء‭ ‬أن‭ ‬يفسد‭ ‬فرحي؛‭ ‬لكنها‭ ‬بوقاحة‭ ‬اقتربت‭ ‬مني‭ ‬وأخذت‭ ‬تتحسّس‭ ‬فستاني‭.‬

‭ ‬نظرت‭ ‬إليها‭ ‬بإشفاق‭ ‬وسألتها‭: ‬هل‭ ‬تريدين‭ ‬الفستان‭ ‬أيضاً‭ ‬وتردين‭ ‬الرسائل؟‭ ‬

فوجئت‭ ‬بها‭ ‬تنفلت‭ ‬بضحك‭ ‬هستيري‭ ‬ساخر‭,‬‭ ‬وتقول‭: ‬أي‭ ‬رسائل؟‭ ‬لقد‭ ‬مزقتها‭ ‬منذ‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭,‬‭ ‬كنت‭ ‬فقط‭ ‬أستغل‭ ‬خوفك‭ ‬لأستفيد‮»‬‭.‬

  ‬يمثل‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬الحواري‭ ‬‮«‬لحظة‭ ‬التنوير‮»‬‭  ‬الرئيسة‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الحدث‭ ‬السردي‭ ‬التصاعدية‭,‬‭ ‬وهو‭ ‬يأتي‭ ‬مصحوباً‭ ‬بأوصاف‭ ‬هيئة‭ ‬المتكلمين‭: (‬نظرت‭ ‬إليها‭ ‬بإشفاق‭...)‬‭,‬‭ (‬تنفلت‭ ‬بضحك‭ ‬هستيري‭..)‬‭,‬‭ ‬وبتجاور‭ ‬الوصف‭ ‬والحوار‭,‬‭ ‬يتأكد‭ ‬الأداء‭ ‬التكاملي‭ ‬لعناصر‭ ‬الخطاب‭ ‬السردي‭,‬‭ ‬حتى‭ ‬يضحي‭ ‬ضرورة‭ ‬من‭ ‬ضرورات‭ ‬‮«‬سبك‭ ‬النص‮»‬‭,‬‭ ‬وهو‭ ‬تجاور‭ ‬فعّال‭,‬‭ ‬يمنح‭ ‬الكتابة‭ ‬الذاتية‭ ‬ما‭ ‬تتطلبه‭ ‬من‭ ‬قدرٍ‭ ‬وافٍ‭ ‬من‭ ‬الحيوية‭ ‬والإمتاع‭ ‬