بهاء الدين زهير... شاعر الغناء

بهاء الدين زهير... شاعر الغناء

هو أبوالفضل زهير بن محمد بن علي المهلّبي، المعروف ببهاء الدين. يرجع في نسبه إلى المهلّب بن أبي صفرة. ولد في مكة المكرمة، أو في مكان قريب منها، في الخامس من ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، ولما شبّ توجه إلى مصر واتصل بالسلطان الملك الصالح، نجم الدين أبي الفتح أيوب بن الملك الكامل. ثم توجه في خدمته إلى البلاد الشرقية، وأقام بها إلى أن ملك الملك الصالح مدينة دمشق، فانتقل الشاعر البهاء زهير إليها وأقام يخدم الملك ويمدحه.

كانت للبهاء زهير منزلة رفيعة عنده، كما كانت له كلمة مسموعة، كما يروي ابن خلكان الذي اجتمع به في مصر. ولما ترك الملك الصالح انقطع في داره بمصر يعيش في فقر وعزلة إلى أن حدث مرض عظيم لم يصفه ابن خلكان في ترجمته للبهاء، لعلّه الطاعون أو الهواء الأصفر (الكوليرا) الذي لم يسلم منه أحد، أصيب به الشاعر الذي توفي ودفن بالقرب من الإمام الشافعي.
يصفه ابن خلكان بأنه كان من فضلاء عصره، دمث الأخلاق كريم النفس لطيف العشرة. له ديوان شعر أكثره من الغزل وأقله من المدح والرثاء والهجاء والوصف، شعره رقيق يصدر عن عاطفة جيّاشة. 
وأكثر أوزانه من الأوزان الخفيفة، وشعره يتميز بسهولته وغنائيته وله طابعه الخاص به يعرف من دون مشقة أنه له.
وهو يأتي بهذه الأوزان الخفيفة ليطالعنا بقدرته الفنية على إخراج أوزان تنساب فيها النغمات العذبة في جوها الموسيقي الحافل بالألحان الشجية، فصارت بهذه الأوزان قصائده شعراً غنائياً جميلاً. وقد علّق على هذه الأوزان مصطفى عبدالرزاق حين قال: «انتشرت في عهد البهاء زهير أوزان التواشيح الآتية من الأندلس، وذلك لابدّ أن يكون نبّه الشعراء إلى فن من الألحان الشعرية جديد، فاهتدت الفطر الموسيقية إلى اختيار البحور اللطيفة والأوزان الموفورة الحظ من الموسيقى ومن التأثير، وهذا شأن البهاء زهير، فإننا نجده في غير شعر المديح قلما يركن إلى غيره من الأوزان الخفيفة.
غزله لطيف رقيق يصلح للغناء مثل قصيدته التي مطلعها:
غيري على السلوانِ قادر
وسوايَ في العشّاقِ غادرْ

وهذه القصيدة منسوبة إلى ابن الفارض لكنها مثبتة أيضاً في ديوان البهاء، إذ عُيّن زمن إنشاده إيّاها في قلعة القاهرة، وذلك يوم الخميس لخمس خلونَ من المحرّم عام 641 هـ (1243م) وهي بشعر البهاء أشبه منها بشعر ابن الفارض الشاعر المتصوف وأسلوبه.
ومن غزلياته الشهيرة المقطوعة التي يقول فيها:
تعيشُ أنتَ وتبقى
أنا الذي مُتُّ حقا
حاشاكَ يا نورَ عيني
تلقى الذي أنا ألقى

مدحه تقليدي وفيه مغالاة, أما رثاؤه ففيه عاطفة، خصوصاً إذا كان يرثي أحد المنتسبين إليه كما في رثائه ابنه حين يقول:
فيا من غاب عني وهو روحي
وكيف أطيقُ عن روحي انفكاكا
تموتُ ولا أموتُ عليكَ حزناً
وحقّ هواك خنتك في هواكا
أرى الباكين فيك معي كثيراً
وليس كمن بكى من قد تباكى

وفي شعره وصف لمجالس الشراب والطرب والندامى ومجالي الطبيعة كالرياض والبساتين والأشجار والأثمار. وعموماً يمتاز شعره بسهولته وخفته، فهو السهل الممتنع. أغلبه مقطّعات، وكان أول من نشر ديوانه المستشرق البريطاني إدوارد هنري بالمر (Edward Henry Palmer 1840- 1882) الذي أتقن اللغة العربية، فكان يكتب بها بسهولة وينظم الشعر كأحد أبنائها، طُبع في كامبريدج سنة 1876 كما نقله إلى الإنجليزية. 
ونشرته دار صادر ودار بيروت سنة 1960 معتمدة نسخة كامبريدج ونسخة بيروت التي أصدرتها المكتبة العمومية، تصحيح وتقديم الدكتور إحسان عبّاس، وطبعة دار المعارف بمصر سنة 1977.
هو بارع في مخاطبة الحبيب ومعاتبته والتدلّل عليه، فالحبيب مولاه وصاحب الأمر والنهي عليه، وهو صادق في حبه له لا يخونه! يقول في هذه المقطوعة:
مولاي كن ليَ وحدي
فإنّي لَكَ وَحدَكْ

وفي القصيدة الآتية، يحلّق البهاء حين يقول:
اقرأ سَلامي على مَنْ لا أُسَمّيهِ
ومَن بروحي منَ الأسواء أفديهِ
ومَنْ أُعرِضُ عنهُ حينَ أذكُرُهُ
فإنْ ذكَرتُ سواهُ كنتُ أعنيهِ
أشِرْ بذكْريَ في ضمنِ الحَديثِ له
إنَّ الإشارَةَ في مَعنايَ تكفيه
واسألهُ إن كان يُرْضيهِ ضَنى جسدي
فحبذا كلُّ شيءٍ كانَ يُرْضيهِ
فليتَ عينُ حبيبي في البُعاد ترى
حالي وما بيَ من ضُرِّ أقاسيهِ
هل كنتُ من قومِ موسَى في محبّتهِ
حتَى أطالَ عذابي منهُ بالتيّه
أحببتُ كلَّ سميّ في الأنَام لهُ
وكلَّ مَن فيه معنى مِنْ معانيهِ
يَغيبُ عني وأفكاري تُمَثّلُهُ
حتى يُخيّلَ لي أنّي أُناجيه
لا ضَيمَ يخشاهُ قلبي والحَبيبُ به
فإنَّ ساكِنَ ذاكَ البيتِ يَحميه
مَنْ مِثلُ قلبيَ أو مَنْ مثلُ ساكنه
اللهُ يحفظُ قلبي والذي فيه
يا أحسنَ الناسِ يا مَن لا أبوحُ به
يا مَنْ تَجنَّى وما أحلى تجَنِّيه
قد أتعسَ اللهُ عيناً صرتَ تُوحشُها
وأسعدَ اللهُ قلباً صِرْتَ تأويه
مولاي أصبحَ وجدي فيكَ مُشتهراً
فكيف أسترُهُ أمْ كيفَ أُخفيه
وصارَ ذكْريَ للواشي به ولَعٌ
لقد تكلّفَ أمراً ليس يعنيه
فمَنْ أذاعَ حديثاً كنتُ أكتُمُهُ
حتى وجدتُ نَسيمَ الرَوْضِ يَرْويهِ

ومن قوله:
يعاهدني لا خانني ثم ينكثُ
وأحلف لا كلّمته ثم أحنثُ
وذلك دأبي لايزال ودأبه
فيا معشرَ العشاق عنا تحدثوا
أقول له صِلني يقول نعم غداً
ويكسرُ جفناً هازئاً بي ويعبثُ
وما ضرَّ بعض الناس لو كان زارني
وكنا خلونا ساعةً نتحدّثُ
أمولاي إني في هواك معذّبٌ
وحَتامَ أبقى في الغرام وأمكثُ
فخذ مرّةً روحي تُرحني ولا أرى
أموتُ مراراً في النهار وأُبعثُ

ويصل في حبه حدّ عبادة ربه المحبوب، حيث يقول:
سأشكر حباً زان فيك عبادتي
وإن كان فيه ذِلَّةٌ وخضوعُ
أصلّي وعندي للصبابةِ رقّةٌ
فكلُّ صلاتي في هواك خشوعُ

ويقول:
مضى الشبابُ وولّى ما انتفعتُ به
وليته فارطٌ يُرجى تلاقيه
أوليتَ لي عملاً فيه أسرّ به
أوليتهُ ما جرى لي ما جرى فيه
فاليومَ أبكي على ما فاتني أسفاً
وهل يُفيدُ بكائي حين أبكيه
واحسرتاه لعمرٍ ضاعَ أكثرُه
والويلُ إن كان باقيه كماضيه
نظم البهاء في أكثر أغراض الشعر، ولاسيما المديح والغزل والحكمة، وكان ديوان شعره متداولاً بين أيدي الناس في زمانه، وقد شهد له بإجادة الشعر ابن خلكان: «من فضلاء عصره وأحسنهم نظماً ونثراً وخطّاً». وأعجب المستعربون بشعره لسهولته وحلاوة جِرسه، فقال فيه المستعرب الفرنسي كليمان هوار «إن شعر بهاء الدين زهير المهلّبي، كاتب سر الدولة المصرية، يجعلنا ندرك ما بلغه لسان العرب من المرونة والاستعداد للتعبير عن ألوف من دقائق العواطف التي صقلتها حضارة خلفاء صلاح الدين الزاهية». 
وهو يحذو في مدحه حذو السلف، ويستغني بمعانيهم عن إجهاد النفس للإتيان بمعنى مبتكر، وهذا شأنه في كل الفنون الشعرية التي عالجها، غير أنه كان يحسن المعنى المطروق الذي يأخذه ويبرزه بصورة جديدة، وألفاظ رقيقة، لا تعقيد فيها ولا إغراب.
وهو في مدحه يغالي في صفات ممدوحه، كما كان يفعل بعض المداحين في عصره، ولا غرو فإن الممدوحين من ملوك وأمراء وغيرهم كان يلذ لهم أن يغالي مادحوهم في مدحهم، فيبذلون لهم العطايا.
عرف البهاء زهير بنبل خلقه وحميد خصاله وعزة نفسه ووفائه لممدوحيه وأصدقائه.

نزار قباني امتداد للبهاء زهير
ولا بأسَ أن نذكر أبياتاً مختارة من قصيدته «صاحب المعجزات» التي نشرت مجلة «الزهور» (السنة الأولى، 1910، ص 259-260) 19 بيتاً منها، بينما هي من 32 بيتاً. إن قارئ هذه الأبيات لا يتردد في أن يقول إنها من شعر نزار قباني:
أنا في الحبّ صاحبُ المُعجزاتِ
جئْتُ للعاشقينَ بالآياتِ
كانَ أهلُ الغرامِ قبلي أُميّـ
ـــينَ حتى تلقنوا كلماتي
فأنا اليومَ صاحبُ الوقتِ حقاً
والمحبُّونَ شيعتي ودُعاتي
ضُرِبَتْ فيهم طبولي وسارتْ
خافقات عليهم راياتي...
أنتَ روحي وقد تملكتَ روحي
وحياتي وقد سلبت حياتي
متُّ شوقاً فأحيني بوصالٍ
أُخبرُ الناسَ كيفَ طعمُ المماتِ

نجد في الأبيات شبهاً بين قصائد الغزل عند البهاء زهير ونزار قباني من حيث الغنائية والموسيقى وسهولة الألفاظ والتدلّه والانسحاق أمام المحبوب والادعاء بحمل مشعل الحب ولواء الغزل وسلطان العشق.
هذا هو الشاعر البهاء زهير، الذي عاش في الدولة الأيوبيّة في عصر انحسر فيه الشعر، بعد أن بلغ الشعر العربي أوجه في العصر العباسي. وهو شاعر مُقلّ وغالبية قصائده مقطّعات. في شعره براعة وكياسة وقول لطيف أكثر مما فيه من لوعة جامحة أو عاطفة صادقة. فيه تدلّه وفيه عتاب. ومعاتبة الحبيب غسلٌ للقلوب كما يقولون، وهو صالح للغناء.
فللحب سلطان والحبيب أمير، بل حاكم بأمره. والشاعر المحب يطلب عطف الحبيب ورضاه ويطلب صفحه والمغفرة، هو علّةُ وجوده وأقصى مبتغاه. 
البهاء زهير ينظم الشعر عفو الخاطر من دون جهد كأنه يتنفّس. شعره ذو طعم خاص به ونكهة مميزة.
وبعد، هل شعر البهاء زهير هذا الذي نقرأه اليوم هو شعر قديم؟ أم أنه شعر فيه من الجدّة ما يجعله صالحاً لكل زمان وخالداً على الدهر؟
أوليــســت روعتــــه كامــــنة فـــي أنه شــــعر سهل مفــــهـــــــوم ومقبــــول من الـــذوق وقـــــريب إلى القلب، ليس فيه طلاسم ولا أي كلام عويص? 
هو شعر لا تَقعُّرَ فيه ولا حذلقة ولا هو يحمل أفكاراً فلسفية أو يطرح قضايا ما ورائية أو يدعي أنه يجد حلاً لمشكلات الكون. لا يفجّر اللغة من الداخل ولا من الخارج. حداثته أنه صالح لكل زمان مادام الكلام لا يعتق ولا يشيخ ولا يفقد بريقه, ومادام الإنسان من لحم ودم مجبولاً بالإحساس .