النظريات الرئيسة في تاريخ الأدب الغربي ونقده

يتبين للباحث في تاريخ الأدب الغربي أن بالإمكان تحديد نظريات رئيسة محورية أربع تندرج فيها المذاهب الشعرية والنقدية الأساسية في ذلك التاريخ وهي: نظرية «المحاكاة» التي قال بها أفلاطون واكتملت صيغتها النقدية - الفلسفية في كتابات أرسطو، وشكلت ما يُعد أساس المذهب الكلاسيكي القديم، وقد استمرت في المذهب الكلاسيكي المُستحدَث الذي شاع في أوربا خلال القرن الثامن عشر؛ ونظرية «الخلق العضوي» التي أطلقها النقاد والفلاسفة الرومنطيقيون الألمان وعلى رأسهم شيللر Schiller، وشلنغ Schelling، وشليغل Schlegel، وغوته Goethe، وترسخت في الكتابات النقدية للشاعر والناقد الإنجليزي كولريدج Coleridge، وتمثلت في الأدب والشعر الرومنطيقيين.
ونظرية «الخلق من عدم» التي غرس بذورها الأولى عدد من المفكرين الإيطاليين في عصر النهضة أمثال لاندينو Landino، وتاسو Tasso، وسكالينجر Scalinger، وأثمرت في الحركة السوريالية الفرنسية، بخاصة مع مُطلِقها الشاعر ملارميه Mallarmé، فكانت من أبرز مبادئها في النظرية والإبداع؛ ونظرية «التقاليد الشعرية»، التي يمكن أن يقال إنها فتحت صفحة جديدة في مسار التاريخ الأدبي، وشكلت تحولاً نوعيًا في الحساسية الفنية والأدبية، وأكدت الإبداع من ضمن تلك التقاليد، وعمقت الوعي مجدداً بالأجناس الأدبية، وحولت التراث الأدبي كُلا متكاملاً، وهي النظرية التي كان الشاعر-الناقد تي. إس. إليوت T. S. Eliot أحد أبرز رواد الحداثة الشعرية في الثقافة الأنكلو - سكسونية، واحداً من أكبر دعاتها في إبداعاته الشعرية وكتاباته النقدية على حد سواء.
نظرية المحاكاة
هذه النظريات النقدية الأدبية تكشف مضامينَها وأبعادَها النظرياتُ الفلسفية في الوجود والمعرفة التي واكبتها وارتبطت بها. فالتوجهات الفلسفية في عصر ما من العصور هي أساس النظرية النقدية الأدبية. فنظرية أفلاطون في الوجود مثلا، تَعُد المحسوسات من أشياء طبيعية ومصنوعة، محاكاة ناقصة لحقائق مطلقة هي المُثُل الموجودة في عالم ما فوق العالم المحسوس. ومن هنا كانت نظريته الأدبية في المحاكاة، فقد رأى أن الشعر والأدب صورة لتلك المحاكاة الوجودية، فوضعه في مرتبة دنيا لكونه خيالاً لذلك الانعكاس. فالمحاكاة في مذهب أفلاطون لا تعكس إلا ظواهر الأشياء، وعالَم الظواهر بطبيعته متحوِّل، بينما يتميز عالَم المُثُل لديه بالثبات. والثبات في مذهبه أساس السعادة، بينما يحمل التحول الشقاء. من هنا كان الإحساس، المتصف في نظر أفلاطون بالتحول والمرتبط بالشعر، أدنى مرتبة في ما رأى، من العقل الذي خصه بطلب المعرفة التي لا تُبلَغ في مذهبه، إلا بالفلسفة. وقد نفى ذلك الهدفَ عن الشعر، وهو الذي لا تتجاوز غايته في ما ذهب إليه، محاكاة ظواهر الأشياء وإثارة العاطفة. في هذا الإطار يمكن إدراك الصراع العنيف الذي ساد الحضارة اليونانية القديمة بين الشعر والفلسفة: ما الذي يقود المجتمع أهي أساطير هوميروس أم هو مذهب أفلاطون الفلسفي؟
ظلت فكرة ارتباط الثبات بالحقيقة المطلقة التي قررتها الفلسفة اليونانية سائدة حتى القرن الثامن عشر في أوربا، وظل الفلاسفة اليونانيون المرجع الثقة لمراعاتهم قوانين العقل والطبيعة، وهي القوانين الثابتة كما قال مفكرو عصر التنوير. في هذا العصر شاعت الكلاسيكية المُستحدَثة في الأدب والفنون، وقد غلبت العقل على الحس والكُلي على الجزئي، ووضعت الأعمال الفنية الكلاسيكية في منزلة المثال الواجب احتذاؤه، وجعلت مذهب أرسطو بمنزلة دين ينبغي الإيمان به من دون مساءلة. لقد أكدت الكلاسيكية المُستحدَثة أن العقل هو المَلَكة العليا في النفس، تضبط الخيال وتكبح جماح العاطفة وتفرق بين الوهم والحقيقة، فقالت بوجود مبادئ ثابتة تنتظم عملية الخلق الشعري ومعايير مطلقة للحكم على الشعر وتقويمه.
وقد استندت إلى مذهب الفيلسوف الفرنسي ديكارت Descartes الداعي إلى وضوح الأفكار وتميزها، وذلك ما قرر كونه معيار الصدق. من هنا رأى الكلاسيكيون المُسْتحدَثون أن كل ما يُستمد من الحواس لا يكون صادقاً، وهو لا يكون واضحاً ما لم يصدر عن العقل. وكان الشاعر والناقد الفرنسي بوالو Boileau مشرع الكلاسيكية المستحدَثة، هو ديكارت الفن الشعري. وفي الإطار الفلسفي نفسه قال الفيلسوف الإنجليزي جون لوك John Locke إنه ليس من حقيقة في ما يبدعه الخيال، وأكد أن الوضوح والدقة هما من سمات العقل، وكان لفلسفته تأثير على الكلاسيكية المستحدَثة.
متى بدأت الكلاسيكية المستحدثَة بالانحسار؟ لقد هيمنت نظرية المحاكاة على تاريخ الأدب قروناً طويلة، عندما كان مبدأ المطلق الثابت هو السائد في تفسير الوجود، وكانت المعرفة الحقة هي معرفة المبادئ الثابتة التي لا تُدرك إلا بالعقل، وكان الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم David Hume أول من زعزع بشكه الحقيقي المختلف تماماً عن شك ديكارت المنهجي، الأسس التي قامت عليها الكلاسيكية المستحدَثة. لقد أدى منهجه الفلسفي إلى نقد المذاهب الفلسفية التقليدية القائلة بجوهرية العقل، فنسف بذلك مبدأ الثبات في الكون، وهو محور الفلسفة الكلاسيكية. وبهذا حطم هيوم منهج الإيمان العقلي بالحقائق المطلقة، وغلب المحسوس، ورأى في الإنسان مجرد كائن حسي يتشوف إلى المنفعة أساساً للعمل، وإلى اللذة غاية، فغدت نسبية القِيم أساس النظام الأخلاقي، وبدأ إذ ذاك انهيار الجوهر في العالم الغربي الحديث، لأن النسبية تجنح بطبيعتها إلى العدمية.
في هذا الإطار الفلسفي تنتفي الأسس الثابتة التي استند إليها كلٌ من الأدب الكلاسيكي والكلاسيكي المستحدَث، ويتحلل الذوق الفني من أسر النماذج القديمة، ويبدأ الوعي بوجود مقاييس نسبية في الأدب وفي النقد الأدبي، وتبدأ مساءلة المبادئ النقدية التي رسخها أرسطو ووجهت تاريخ الأدب الغربي حتى القرن الثامن عشر. بل إن المأساة التي احتفل بها أرسطو في كتابه فن الشعر (Poetics) أكثر ما احتفل، انتفت في ظل الفلسفة التجريبية بانتفاء المطامح الإنسانية التي تولد تأزماً مأساويًا. ولا تقوم المأساة إلا في جو الإيمان بالحقائق الثابتة التي بدأت بالتراجع أمام هجومات هيوم العنيفة.
نظرية الخلق العضوي
كان انهيار الكلاسيكية المستحدثَة ونظرية المحاكاة التي قامت عليها نقطة تحول حاسمة في تاريخ الأدب الغربي. وبانهيارهما أُفسح المجال لانطلاق المذاهب النقدية الحديثة، ويُرجعها الباحثون في تاريخ الفلسفة الغربية إلى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانْت (Emmanuel Kant). وقد انطلق كانْت من مقولة «أن العقل لا يُدرِك الحقائق المطلقة»، فغدت المعرفة لديه، معرفة ظواهر لا معرفة جواهر. وبعد أن حد كانْت عمل العقل بإدراك عالم الظواهر، وهو عالم الطبيعة حيث تسيطر الجبرية، اكتشف النماء العضوي في الطبيعة، فقرر أن ذلك النماء لا يُدرك بالعقل ولا يحيط به العلم. وقد رأى أن التطور الحي يتجاوز الطبيعة إلى الفنون، فقال إن النظرة العضوية أساس الخلق الفني. وبانحسار دور العقل، حتى في ما يختص بمعرفة عالم الظاهر، يصبح الخيال هو الأساس في نظر كانْت. وتكون النتيجة ما قاله الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (Arthur Schopenhauer)، إن العالَم تصوري، وبذلك يتحول العالم إلى حلم. إذن، فإن الخيال، وهو الطاقة القَبْلية التلقائية المرتبطة باللاشعور في مذهب كانْت، هو المطلَق في الذات وليس الفِكْر كما يقول ديكارت؛ فالفِكَر القَبْلية عند ديكارت تحولت إلى مجرد تصورات ذهنية عند كانْت. إن الخيال، وهو فعل خلاق، يجمع بين المقولات والتجربة الحسية حسب قول كانْت، وذلك ما لا يستطيع العقل وحده أن يتولاه.
هذه النظرية نقلها كولريدج إلى مجال النقد الأدبي، فكان أن رفع الرومنطيقيون الخيال فوق العقل والتجربة وجعلوه مطلَقاً. كذلك تأثر الرمزيون والسرياليون بكانْت، كما أول مذهبه كلٌ من شلنغ وشليغل، فكان كانْت، بحق، أساس المذاهب النقدية في العصر الحديث في الغرب. فقد انطلق شلنغ من نظرية الخيال في مذهب كانْت فعده الوسيلة الأم في مجال المعرفة، فتخطى الخيال في مذهبه كونه فعالية إنسانية خاصة، وغدت فعالية الخيال ذات قيمة ميتافيزيقية عامة وكلية. ويعتبر شلنغ أن الفن ذروة الفلسفة، وأن يظل الإنسان يعيش في الطبيعة وفي الأخلاق وفي التاريخ عند أعتاب الحكمة الفلسفية، وإذا وصل مرتبة الشعر - الفن، بلغ حرمَ الفلسفة نفسه. وأصبحت أعلى غاية المفكرين الرومنطيقيين هي وسْم الشعر بالفلسفة، ووسْم الفلسفة بالشعر. قال الشاعر - الفيلسوف الألماني نوفاليس (Novalis): «الشعر هو كل ما كان حقيقيًا على نحو مطلق وأصيل. تلك هي نواة فلسفتي. وكلما كان الشيء أشد حظًا في الشعر كان أعظم نصيباً من الحقيقة».
هذه النظرية العضوية التي أطلقها الفلاسفة الألمان في القرن الثامن عشر وجدت في كولريدج الشاعر-الناقد-الفيلسوف أعظم معبر عنها، فحولها إلى نظرية نقدية شكلت أحد الأسس الرئيسة في الحركة الرومنطيقية الغربية. وقد رأى الناقد التشكيلي والأدبي الإنجليزي هربرت ريد (Herbert Read) في كولريدج مشاركاً أساسيًا في ثورة فكرية تشكل أحد المنعطفات الكبرى النادرة في تاريخ الفكر، بل في تاريخ الحضارة الغربية، تحولت بالفكر من وجهة النظر الآلية إلى وجهة نظر عضوية، وأحلت الحدْس محل العقل، وغلبت الروحَ على المادة، والمثالَ على الواقع. ويمكننا أن نقول إن نظرية كولريدج في الخيال تختصر الحركة الرومنطيقية في الشعر والأدب بأسرها.
وقد اقترنت نظرية كولريدج النقدية بنظرية فلسفية في الوجود تقول إن الطبيعة بكليتها حية، بما فيها الصخور والجماد، وإن الخيال هو الذي يكشف عن الحياة في الأشياء، وهو الذي يصهرها ليكون منها وحدة عضويّة. وقد رأى كولريدج أن الخيال يختلف اختلافاً جذريًا عن الوهم الذي لا يحول طبيعة ما يجمع من عناصر، فيبقى كُلٌ من تلك العناصر على طبيعته الأصلية، فيكون التآلف في ما بينها تآلفاً آليًا وليس صهراً يعيد صوغ طبائعها في كيان عضوي ذي طبيعة خاصة. وقد عارض كولريدج الفلاسفة الألمان في نظريته الشعرية، حيث يرى أن بعض الشعر يأتي عن طريق التداعي والبعض الآخر يتألف تألفاً عضويًا، بينما اشترط أولئك أن يكون الشعر عضويًا أو لا يكون. وبذلك يكون كولريدج قد راعى طبيعة النفس الإنسانية التي تضم الاتجاهين معاً: العضوي والآلي أو التجريدي كما بينت النظريات النقدية في ما بعد، وبخاصة تلك التي وضعها نقاد الفن التشكيلي الألمان وعلى رأسهم فورنغر (Worringer) في كتابه المهم التجريد والتقمص الوجداني (Abstraction and Empathy) الذي نشره عام 1908، وقد ارتكز عليه هربرت ريد في فلسفته التشكيلية ونظريته النقدية.
نظرية الخلق من عدم
غير أن بعض مذاهب الشعر الحديث - الرمزية والسريالية والدادائية خاصة - لم تقنع بالحدود التي أقامتها فلسفة كانْت دون المطلق، ولم ترْضَ ألا تتجاوز المعرفةُ إدراك عالَم الظاهر، فحنَت إلى الكشف عن المطلق والتعبير عنه، لكن بأداة غير تلك التي حددها كلٌ من أفلاطون وأرسطو، بالحدْس والرؤيا. لقد رفع الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر (Martin Heidegger)الشعراءَ إلى مرتبة النبوة، وأكد أن مذهبه ليس سوى معادلة فكرية لما عبر عنه الشاعر الألماني رلكه (Rilke) في الشعر. فأصبح الشعر في مطلع العصر الحديث، باعتراف الفلاسفة أنفسهم، هو الذي يقود الفلسفة، لأنه حسب ما رأوا، أكثر قدرة من الفلسفة على بلوغ المطلق. فالحدْس يتجاوز التخوم التي يقف العقل عندها، ليبلغ ما لا يحيط به العقل الإنساني. من هنا أحس الشاعر الغربي الحديث بأنه يتميز بقوى إبداعية لم تكن لمَن سبقه من الشعراء في العصور السالفة، وأنه يمتلك القدرة على الخلق. وبعد أن ألغت الفلسفة الغربية الحديثة الإيمان بما دعاه أرسطو العلة الأولى، والمُحرك الذي لا يتحرك، أخذ الشاعر الحديث على عاتقه فعل الخلق، وكان عليه أن يرد الأشياء إلى حُكْم العدم، ليتسنى له الفعل الإبداعي.
بهذا تكتمل الثورة على مبدأ المحاكاة في الفنون، وتصل إلى فلسفة في الوجود والمعرفة والفن معارضة تماماً بل ومناقضة للفلسفة الكلاسيكية. لقد قررت الفلسفة اليونانية أن لا شيء يولد من لا شيء، فقالت بقِدَم العالم، وتأتي بعض التجارب في الشعر الغربي الحديث لتحيل الوجود إلى عدم فتُفرِغ الأشياء من ماهياتها ومعانيها لتعيد إبداعها من جديد على غير مثال، مُلْغية الحد الفاصل بين الغيب والواقع، وهو ما حافظت عليه الرومنطيقية. وكان على الفن، المُعرف بالخلق، أن يفتدي الوجود الهالك، فادعى الشاعر في هذا العصر رسالة الفادي. وتنتهي مغامرة الخلق من عدم التي خاضتها بعض مذاهب الشعر الحديث، إلى إثبات المبدأ الذي قررته الفلسفة اليونانية: إن شيئاً لا يخرج من لا شيء، ولا يكون خلقٌ من العدم.
نظرية التقاليد الشعرية
ولئن اتجهت بعض مذاهب الشعر الحديث إلى الكشف عن المطلق والتعبير عنه ولم تقنع بالواقع المحسوس وعالَم الظاهر، فإن مذاهب أخرى أبرزها الحركة التصويرية (Imagism) في الشعر والنقد وعلى رأسها الشاعران الإنجليزيان، تي. إي. هيوم (T. E. Hulme) وإزرا باوند Ezra) (Pound، سارت في غير ذلك الاتجاه. وقد أكد شعراء حركة الحداثة هؤلاء أهمية الصورة الشعرية بوصفها انطباعاً حسيًا، واستند منظر الحركة الأساسي، هيوم، إلى آراء الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (Henri Bergson) الذي رأى أن الواقع تحولٌ متواصل ومجموعةٌ من العناصر المتداخلة التي لا يمكن إدراكها بالمنطق أو التعبير عنها باللغة المجردة. غير أن الشعراء التصويريين، وخصوصاً باوند، لم يقولوا إن الشعر يتجنب الكلي، بل رأوا أنه ينفذ إليه بقوة أكبر لأنه يبلغه من خلال الخصوصي.
واستناداً إلى تعريف الشعر بـ«الكلي -العيني» رسخ الشعراءُ - النقاد في العصر الحديث وعياً عميقاً بالتراث الثقافي والشعري والفلسفي، وعلى رأس هؤلاء تي. إس. إليوت، وقد عبر عن هذا المبدأ في مقالته المهمة والذائعة الصيت: «التراث والموهبة الفردية»، حيث يذهب إلى أن علاقة الشاعر الحديث بتراثه تتمثل في «الحس التاريخي» الذي يُلزم الشاعر ويقصد الشاعر الغربي المعاصر بأن يكتب لا بوعي الانتماء إلى جيله فحسب، بل بتأثير الشعور بأن أدب أوربا بأسره منذ هوميروس، ومن ضمنه أدب بلاده كله، موجود بشكل متزامن ويؤلف نظاماً متزامناً. وقد استنتج إليوت مبدأ نقديًا عظيم الدلالة فتح آفاقاً جديدة تحولت بالنقد الأدبي إلى مسار المنهجية، وذلك بنظرته إلى التراث الأدبي والفني القومي بما هو نظام متكامل وحي.
لعل تأكيد العلاقة بين الإبداع الشعري المعاصر والتراث الشعري يُعد من أهم المبادئ التي قامت عليها حركة الحداثة الشعرية في الغرب بعد أن نفت الرومنطيقية زمناً تلك العلاقة، فعرفت الإبداع بالذاتية وأنكرت مرجعية التقاليد الشعرية. وقد وصف إليوت نفسَه بأنه شاعر «كلاسيكي في الأدب»، وعد الكلاسيكية هدفاً يسعى إليه كلُ أدب جيد. وتجدر الإشارة إلى أن «كلاسيكية» إليوت ليست عودة إلى الكلاسيكية اليونانية القديمة كما رسختها فلسفة كل من أفلاطون وأرسطو، كما أنها ليست الكلاسيكية المستحدثَة التي سادت في القرون الوسطى الأوربية وعصر التنوير الأوربي، بل هي كلاسيكية تستمد ماهيتها من موقف معارض للمذهب الرومنطيقي الأوربي بخاصة في نظرية إليوت في «لاذاتية الشعر» التي عدها النقاد أعظم نظرية حول طبيعة الشعر بعد المفهوم الرومنطيقي للشعر الذي وضعه الشاعر الإنجليزي وليم وردزورث William) (Wordsworth.
ويعني إليوت بـ«اللاذاتية» أن الشعر ليس تعبيراً عن العــــواطـــف وعن شخصية الشاعر بل هو هروب منهـــما، فالقصــــيدة لا تعبر عن «ذات» الشاعر بل تمثل كياناً مستقلا عن شخصه أو ذاته، فهي أكثر ارتباطاً بالإبداعات السابقة لإبداعه في تراثــــه الأدبــــي، وبالتــــقاليد الشعرية الراسخة في ذلك التراث. من هنا كانت «كلاسيكية» إليوت تأكيداً لتولد القصيدة من صلب التراث وإعلاء لشأنه في العملية الإبداعية، كما كانت اعترافاً بـ«النظام» في مقابل ما ساد النتاج السريالي، نظرية وفنا شعريًا، من دعوة للفوضى وممارسة لها ■