النظريات الرئيسة في تاريخ الأدب الغربي ونقده

  النظريات الرئيسة  في تاريخ الأدب الغربي ونقده

  ‬يتبين‭ ‬للباحث‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬الغربي‭ ‬أن‭ ‬بالإمكان‭ ‬تحديد‭ ‬نظريات‭ ‬رئيسة‭ ‬محورية‭ ‬أربع‭ ‬تندرج‭ ‬فيها‭ ‬المذاهب‭ ‬الشعرية‭ ‬والنقدية‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬وهي‭: ‬نظرية‭ ‬‮«‬المحاكاة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬قال‭ ‬بها‭ ‬أفلاطون‭ ‬واكتملت‭ ‬صيغتها‭ ‬النقدية‭ - ‬الفلسفية‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬أرسطو،‭ ‬وشكلت‭ ‬ما‭ ‬يُعد‭ ‬أساس‭ ‬المذهب‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬القديم،‭ ‬وقد‭ ‬استمرت‭ ‬في‭ ‬المذهب‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬المُستحدَث‭ ‬الذي‭ ‬شاع‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر؛‭ ‬ونظرية‭ ‬‮«‬الخلق‭ ‬العضوي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أطلقها‭ ‬النقاد‭ ‬والفلاسفة‭ ‬الرومنطيقيون‭ ‬الألمان‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬شيللر‭ ‬Schiller،‭ ‬وشلنغ‭ ‬Schelling،‭ ‬وشليغل‭ ‬Schlegel،‭ ‬وغوته‭ ‬Goethe،‭ ‬وترسخت‭ ‬في‭ ‬الكتابات‭ ‬النقدية‭ ‬للشاعر‭ ‬والناقد‭ ‬الإنجليزي‭ ‬كولريدج‭ ‬Coleridge،‭ ‬وتمثلت‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والشعر‭ ‬الرومنطيقيين‭.‬

ونظرية‭ ‬‮«‬الخلق‭ ‬من‭ ‬عدم‮»‬‭ ‬التي‭ ‬غرس‭ ‬بذورها‭ ‬الأولى‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬الإيطاليين‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬أمثال‭ ‬لاندينو‭ ‬Landino،‭ ‬وتاسو‭ ‬Tasso،‭ ‬وسكالينجر‭ ‬Scalinger،‭ ‬وأثمرت‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬السوريالية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬بخاصة‭ ‬مع‭ ‬مُطلِقها‭ ‬الشاعر‭ ‬ملارميه‭ ‬Mallarmé،‭ ‬فكانت‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬مبادئها‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬والإبداع؛‭ ‬ونظرية‭ ‬‮«‬التقاليد‭ ‬الشعرية‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقال‭ ‬إنها‭ ‬فتحت‭ ‬صفحة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬التاريخ‭ ‬الأدبي،‭ ‬وشكلت‭ ‬تحولاً‭ ‬نوعيًا‭ ‬في‭ ‬الحساسية‭ ‬الفنية‭ ‬والأدبية،‭ ‬وأكدت‭ ‬الإبداع‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬تلك‭ ‬التقاليد،‭ ‬وعمقت‭ ‬الوعي‭ ‬مجدداً‭ ‬بالأجناس‭ ‬الأدبية،‭ ‬وحولت‭ ‬التراث‭ ‬الأدبي‭ ‬كُلا‭ ‬متكاملاً،‭ ‬وهي‭ ‬النظرية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭-‬الناقد‭ ‬تي‭. ‬إس‭. ‬إليوت‭ ‬T‭. ‬S‭. ‬Eliot‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬رواد‭ ‬الحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الأنكلو‭ - ‬سكسونية،‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬دعاتها‭ ‬في‭ ‬إبداعاته‭ ‬الشعرية‭ ‬وكتاباته‭ ‬النقدية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭. ‬

 

نظرية‭ ‬المحاكاة

  ‬هذه‭ ‬النظريات‭ ‬النقدية‭ ‬الأدبية‭ ‬تكشف‭ ‬مضامينَها‭ ‬وأبعادَها‭ ‬النظرياتُ‭ ‬الفلسفية‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬والمعرفة‭ ‬التي‭ ‬واكبتها‭ ‬وارتبطت‭ ‬بها‭. ‬فالتوجهات‭ ‬الفلسفية‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬العصور‭ ‬هي‭ ‬أساس‭ ‬النظرية‭ ‬النقدية‭ ‬الأدبية‭. ‬فنظرية‭ ‬أفلاطون‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬مثلا،‭ ‬تَعُد‭ ‬المحسوسات‭ ‬من‭ ‬أشياء‭ ‬طبيعية‭ ‬ومصنوعة،‭ ‬محاكاة‭ ‬ناقصة‭ ‬لحقائق‭ ‬مطلقة‭ ‬هي‭ ‬المُثُل‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬فوق‭ ‬العالم‭ ‬المحسوس‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬كانت‭ ‬نظريته‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬المحاكاة،‭ ‬فقد‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬والأدب‭ ‬صورة‭ ‬لتلك‭ ‬المحاكاة‭ ‬الوجودية،‭ ‬فوضعه‭ ‬في‭ ‬مرتبة‭ ‬دنيا‭ ‬لكونه‭ ‬خيالاً‭ ‬لذلك‭ ‬الانعكاس‭. ‬فالمحاكاة‭ ‬في‭ ‬مذهب‭ ‬أفلاطون‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬إلا‭ ‬ظواهر‭ ‬الأشياء،‭ ‬وعالَم‭ ‬الظواهر‭ ‬بطبيعته‭ ‬متحوِّل،‭ ‬بينما‭ ‬يتميز‭ ‬عالَم‭ ‬المُثُل‭ ‬لديه‭ ‬بالثبات‭. ‬والثبات‭ ‬في‭ ‬مذهبه‭ ‬أساس‭ ‬السعادة،‭ ‬بينما‭ ‬يحمل‭ ‬التحول‭ ‬الشقاء‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬الإحساس،‭ ‬المتصف‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬أفلاطون‭ ‬بالتحول‭ ‬والمرتبط‭ ‬بالشعر،‭ ‬أدنى‭ ‬مرتبة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬رأى،‭ ‬من‭ ‬العقل‭ ‬الذي‭ ‬خصه‭ ‬بطلب‭ ‬المعرفة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُبلَغ‭ ‬في‭ ‬مذهبه،‭ ‬إلا‭ ‬بالفلسفة‭. ‬وقد‭ ‬نفى‭ ‬ذلك‭ ‬الهدفَ‭ ‬عن‭ ‬الشعر،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬غايته‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه،‭ ‬محاكاة‭ ‬ظواهر‭ ‬الأشياء‭ ‬وإثارة‭ ‬العاطفة‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬يمكن‭ ‬إدراك‭ ‬الصراع‭ ‬العنيف‭ ‬الذي‭ ‬ساد‭ ‬الحضارة‭ ‬اليونانية‭ ‬القديمة‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والفلسفة‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬المجتمع‭ ‬أهي‭ ‬أساطير‭ ‬هوميروس‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬مذهب‭ ‬أفلاطون‭ ‬الفلسفي؟

ظلت‭ ‬فكرة‭ ‬ارتباط‭ ‬الثبات‭ ‬بالحقيقة‭ ‬المطلقة‭ ‬التي‭ ‬قررتها‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬سائدة‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬وظل‭ ‬الفلاسفة‭ ‬اليونانيون‭ ‬المرجع‭ ‬الثقة‭ ‬لمراعاتهم‭ ‬قوانين‭ ‬العقل‭ ‬والطبيعة،‭ ‬وهي‭ ‬القوانين‭ ‬الثابتة‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬مفكرو‭ ‬عصر‭ ‬التنوير‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬شاعت‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المُستحدَثة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والفنون،‭ ‬وقد‭ ‬غلبت‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬الحس‭ ‬والكُلي‭ ‬على‭ ‬الجزئي،‭ ‬ووضعت‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬في‭ ‬منزلة‭ ‬المثال‭ ‬الواجب‭ ‬احتذاؤه،‭ ‬وجعلت‭ ‬مذهب‭ ‬أرسطو‭ ‬بمنزلة‭ ‬دين‭ ‬ينبغي‭ ‬الإيمان‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مساءلة‭. ‬لقد‭ ‬أكدت‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المُستحدَثة‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬هو‭ ‬المَلَكة‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬النفس،‭ ‬تضبط‭ ‬الخيال‭ ‬وتكبح‭ ‬جماح‭ ‬العاطفة‭ ‬وتفرق‭ ‬بين‭ ‬الوهم‭ ‬والحقيقة،‭ ‬فقالت‭ ‬بوجود‭ ‬مبادئ‭ ‬ثابتة‭ ‬تنتظم‭ ‬عملية‭ ‬الخلق‭ ‬الشعري‭ ‬ومعايير‭ ‬مطلقة‭ ‬للحكم‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬وتقويمه‭. ‬

وقد‭ ‬استندت‭ ‬إلى‭ ‬مذهب‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬ديكارت‭ ‬Descartes‭ ‬الداعي‭ ‬إلى‭ ‬وضوح‭ ‬الأفكار‭ ‬وتميزها،‭ ‬وذلك‭ ‬ما‭ ‬قرر‭ ‬كونه‭ ‬معيار‭ ‬الصدق‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬رأى‭ ‬الكلاسيكيون‭ ‬المُسْتحدَثون‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يُستمد‭ ‬من‭ ‬الحواس‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬صادقاً،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬واضحاً‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬العقل‭. ‬وكان‭ ‬الشاعر‭ ‬والناقد‭ ‬الفرنسي‭ ‬بوالو‭ ‬Boileau‭ ‬مشرع‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المستحدَثة،‭ ‬هو‭ ‬ديكارت‭ ‬الفن‭ ‬الشعري‭. ‬وفي‭ ‬الإطار‭ ‬الفلسفي‭ ‬نفسه‭ ‬قال‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الإنجليزي‭ ‬جون‭ ‬لوك‭ ‬John‭ ‬Locke‭ ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يبدعه‭ ‬الخيال،‭ ‬وأكد‭ ‬أن‭ ‬الوضوح‭ ‬والدقة‭ ‬هما‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬العقل،‭ ‬وكان‭ ‬لفلسفته‭ ‬تأثير‭ ‬على‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المستحدَثة‭.‬

متى‭ ‬بدأت‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المستحدثَة‭ ‬بالانحسار؟‭ ‬لقد‭ ‬هيمنت‭ ‬نظرية‭ ‬المحاكاة‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬قروناً‭ ‬طويلة،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬مبدأ‭ ‬المطلق‭ ‬الثابت‭ ‬هو‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬الوجود،‭ ‬وكانت‭ ‬المعرفة‭ ‬الحقة‭ ‬هي‭ ‬معرفة‭ ‬المبادئ‭ ‬الثابتة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُدرك‭ ‬إلا‭ ‬بالعقل،‭ ‬وكان‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الإنجليزي‭ ‬ديفيد‭ ‬هيوم‭ ‬David‭ ‬Hume‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬زعزع‭ ‬بشكه‭ ‬الحقيقي‭ ‬المختلف‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬شك‭ ‬ديكارت‭ ‬المنهجي،‭ ‬الأسس‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬عليها‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المستحدَثة‭. ‬لقد‭ ‬أدى‭ ‬منهجه‭ ‬الفلسفي‭ ‬إلى‭ ‬نقد‭ ‬المذاهب‭ ‬الفلسفية‭ ‬التقليدية‭ ‬القائلة‭ ‬بجوهرية‭ ‬العقل،‭ ‬فنسف‭ ‬بذلك‭ ‬مبدأ‭ ‬الثبات‭ ‬في‭ ‬الكون،‭ ‬وهو‭ ‬محور‭ ‬الفلسفة‭ ‬الكلاسيكية‭. ‬وبهذا‭ ‬حطم‭ ‬هيوم‭ ‬منهج‭ ‬الإيمان‭ ‬العقلي‭ ‬بالحقائق‭ ‬المطلقة،‭ ‬وغلب‭ ‬المحسوس،‭ ‬ورأى‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬مجرد‭ ‬كائن‭ ‬حسي‭ ‬يتشوف‭ ‬إلى‭ ‬المنفعة‭ ‬أساساً‭ ‬للعمل،‭ ‬وإلى‭ ‬اللذة‭ ‬غاية،‭ ‬فغدت‭ ‬نسبية‭ ‬القِيم‭ ‬أساس‭ ‬النظام‭ ‬الأخلاقي،‭ ‬وبدأ‭ ‬إذ‭ ‬ذاك‭ ‬انهيار‭ ‬الجوهر‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬الحديث،‭ ‬لأن‭ ‬النسبية‭ ‬تجنح‭ ‬بطبيعتها‭ ‬إلى‭ ‬العدمية‭. ‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬الفلسفي‭ ‬تنتفي‭ ‬الأسس‭ ‬الثابتة‭ ‬التي‭ ‬استند‭ ‬إليها‭ ‬كلٌ‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬والكلاسيكي‭ ‬المستحدَث،‭ ‬ويتحلل‭ ‬الذوق‭ ‬الفني‭ ‬من‭ ‬أسر‭ ‬النماذج‭ ‬القديمة،‭ ‬ويبدأ‭ ‬الوعي‭ ‬بوجود‭ ‬مقاييس‭ ‬نسبية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬وفي‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬وتبدأ‭ ‬مساءلة‭ ‬المبادئ‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬رسخها‭ ‬أرسطو‭ ‬ووجهت‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬الغربي‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬المأساة‭ ‬التي‭ ‬احتفل‭ ‬بها‭ ‬أرسطو‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬فن‭ ‬الشعر‭ (‬Poetics‭)‬‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬احتفل،‭ ‬انتفت‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الفلسفة‭ ‬التجريبية‭ ‬بانتفاء‭ ‬المطامح‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬تولد‭ ‬تأزماً‭ ‬مأساويًا‭. ‬ولا‭ ‬تقوم‭ ‬المأساة‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬جو‭ ‬الإيمان‭ ‬بالحقائق‭ ‬الثابتة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬بالتراجع‭ ‬أمام‭ ‬هجومات‭ ‬هيوم‭ ‬العنيفة‭. ‬

 

نظرية‭ ‬الخلق‭ ‬العضوي

  ‬كان‭ ‬انهيار‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المستحدثَة‭ ‬ونظرية‭ ‬المحاكاة‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬عليها‭ ‬نقطة‭ ‬تحول‭ ‬حاسمة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬الغربي‭. ‬وبانهيارهما‭ ‬أُفسح‭ ‬المجال‭ ‬لانطلاق‭ ‬المذاهب‭ ‬النقدية‭ ‬الحديثة،‭ ‬ويُرجعها‭ ‬الباحثون‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية‭ ‬إلى‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬إيمانويل‭ ‬كانْت‭ (‬Emmanuel‭ ‬Kant‭)‬‭. ‬وقد‭ ‬انطلق‭ ‬كانْت‭ ‬من‭ ‬مقولة‭ ‬‮«‬أن‭ ‬العقل‭ ‬لا‭ ‬يُدرِك‭ ‬الحقائق‭ ‬المطلقة‮»‬،‭ ‬فغدت‭ ‬المعرفة‭ ‬لديه،‭ ‬معرفة‭ ‬ظواهر‭ ‬لا‭ ‬معرفة‭ ‬جواهر‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬حد‭ ‬كانْت‭ ‬عمل‭ ‬العقل‭ ‬بإدراك‭ ‬عالم‭ ‬الظواهر،‭ ‬وهو‭ ‬عالم‭ ‬الطبيعة‭ ‬حيث‭ ‬تسيطر‭ ‬الجبرية،‭ ‬اكتشف‭ ‬النماء‭ ‬العضوي‭ ‬في‭ ‬الطبيعة،‭ ‬فقرر‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬النماء‭ ‬لا‭ ‬يُدرك‭ ‬بالعقل‭ ‬ولا‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬العلم‭. ‬وقد‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬التطور‭ ‬الحي‭ ‬يتجاوز‭ ‬الطبيعة‭ ‬إلى‭ ‬الفنون،‭ ‬فقال‭ ‬إن‭ ‬النظرة‭ ‬العضوية‭ ‬أساس‭ ‬الخلق‭ ‬الفني‭. ‬وبانحسار‭ ‬دور‭ ‬العقل،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يختص‭ ‬بمعرفة‭ ‬عالم‭ ‬الظاهر،‭ ‬يصبح‭ ‬الخيال‭ ‬هو‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬كانْت‭. ‬وتكون‭ ‬النتيجة‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬آرثر‭ ‬شوبنهاور‭ (‬Arthur‭ ‬Schopenhauer‭)‬،‭ ‬إن‭ ‬العالَم‭ ‬تصوري،‭ ‬وبذلك‭ ‬يتحول‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬حلم‭. ‬إذن،‭ ‬فإن‭ ‬الخيال،‭ ‬وهو‭ ‬الطاقة‭ ‬القَبْلية‭ ‬التلقائية‭ ‬المرتبطة‭ ‬باللاشعور‭ ‬في‭ ‬مذهب‭ ‬كانْت،‭ ‬هو‭ ‬المطلَق‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬وليس‭ ‬الفِكْر‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬ديكارت؛‭ ‬فالفِكَر‭ ‬القَبْلية‭ ‬عند‭ ‬ديكارت‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬تصورات‭ ‬ذهنية‭ ‬عند‭ ‬كانْت‭. ‬إن‭ ‬الخيال،‭ ‬وهو‭ ‬فعل‭ ‬خلاق،‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬المقولات‭ ‬والتجربة‭ ‬الحسية‭ ‬حسب‭ ‬قول‭ ‬كانْت،‭ ‬وذلك‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬العقل‭ ‬وحده‭ ‬أن‭ ‬يتولاه‭. ‬

هذه‭ ‬النظرية‭ ‬نقلها‭ ‬كولريدج‭ ‬إلى‭ ‬مجال‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬رفع‭ ‬الرومنطيقيون‭ ‬الخيال‭ ‬فوق‭ ‬العقل‭ ‬والتجربة‭ ‬وجعلوه‭ ‬مطلَقاً‭. ‬كذلك‭ ‬تأثر‭ ‬الرمزيون‭ ‬والسرياليون‭ ‬بكانْت،‭ ‬كما‭ ‬أول‭ ‬مذهبه‭ ‬كلٌ‭ ‬من‭ ‬شلنغ‭ ‬وشليغل،‭ ‬فكان‭ ‬كانْت،‭ ‬بحق،‭ ‬أساس‭ ‬المذاهب‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬الغرب‭. ‬فقد‭ ‬انطلق‭ ‬شلنغ‭ ‬من‭ ‬نظرية‭ ‬الخيال‭ ‬في‭ ‬مذهب‭ ‬كانْت‭ ‬فعده‭ ‬الوسيلة‭ ‬الأم‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬المعرفة،‭ ‬فتخطى‭ ‬الخيال‭ ‬في‭ ‬مذهبه‭ ‬كونه‭ ‬فعالية‭ ‬إنسانية‭ ‬خاصة،‭ ‬وغدت‭ ‬فعالية‭ ‬الخيال‭ ‬ذات‭ ‬قيمة‭ ‬ميتافيزيقية‭ ‬عامة‭ ‬وكلية‭. ‬ويعتبر‭ ‬شلنغ‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬ذروة‭ ‬الفلسفة،‭ ‬وأن‭ ‬يظل‭ ‬الإنسان‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬وفي‭ ‬الأخلاق‭ ‬وفي‭ ‬التاريخ‭ ‬عند‭ ‬أعتاب‭ ‬الحكمة‭ ‬الفلسفية،‭ ‬وإذا‭ ‬وصل‭ ‬مرتبة‭ ‬الشعر‭ - ‬الفن،‭ ‬بلغ‭ ‬حرمَ‭ ‬الفلسفة‭ ‬نفسه‭. ‬وأصبحت‭ ‬أعلى‭ ‬غاية‭ ‬المفكرين‭ ‬الرومنطيقيين‭ ‬هي‭ ‬وسْم‭ ‬الشعر‭ ‬بالفلسفة،‭ ‬ووسْم‭ ‬الفلسفة‭ ‬بالشعر‭. ‬قال‭ ‬الشاعر‭ - ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬نوفاليس‭ (‬Novalis‭)‬‭: ‬‮«‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬حقيقيًا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مطلق‭ ‬وأصيل‭. ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬نواة‭ ‬فلسفتي‭. ‬وكلما‭ ‬كان‭ ‬الشيء‭ ‬أشد‭ ‬حظًا‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬كان‭ ‬أعظم‭ ‬نصيباً‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‮»‬‭. ‬

  ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬العضوية‭ ‬التي‭ ‬أطلقها‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الألمان‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬كولريدج‭ ‬الشاعر‭-‬الناقد‭-‬الفيلسوف‭ ‬أعظم‭ ‬معبر‭ ‬عنها،‭ ‬فحولها‭ ‬إلى‭ ‬نظرية‭ ‬نقدية‭ ‬شكلت‭ ‬أحد‭ ‬الأسس‭ ‬الرئيسة‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬الرومنطيقية‭ ‬الغربية‭. ‬وقد‭ ‬رأى‭ ‬الناقد‭ ‬التشكيلي‭ ‬والأدبي‭ ‬الإنجليزي‭ ‬هربرت‭ ‬ريد‭ (‬Herbert‭ ‬Read‭)‬‭ ‬في‭ ‬كولريدج‭ ‬مشاركاً‭ ‬أساسيًا‭ ‬في‭ ‬ثورة‭ ‬فكرية‭ ‬تشكل‭ ‬أحد‭ ‬المنعطفات‭ ‬الكبرى‭ ‬النادرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفكر،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية،‭ ‬تحولت‭ ‬بالفكر‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬الآلية‭ ‬إلى‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬عضوية،‭ ‬وأحلت‭ ‬الحدْس‭ ‬محل‭ ‬العقل،‭ ‬وغلبت‭ ‬الروحَ‭ ‬على‭ ‬المادة،‭ ‬والمثالَ‭ ‬على‭ ‬الواقع‭. ‬ويمكننا‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬نظرية‭ ‬كولريدج‭ ‬في‭ ‬الخيال‭ ‬تختصر‭ ‬الحركة‭ ‬الرومنطيقية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والأدب‭ ‬بأسرها‭. ‬

وقد‭ ‬اقترنت‭ ‬نظرية‭ ‬كولريدج‭ ‬النقدية‭ ‬بنظرية‭ ‬فلسفية‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬الطبيعة‭ ‬بكليتها‭ ‬حية،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الصخور‭ ‬والجماد،‭ ‬وإن‭ ‬الخيال‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬الأشياء،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يصهرها‭ ‬ليكون‭ ‬منها‭ ‬وحدة‭ ‬عضويّة‭. ‬وقد‭ ‬رأى‭ ‬كولريدج‭ ‬أن‭ ‬الخيال‭ ‬يختلف‭ ‬اختلافاً‭ ‬جذريًا‭ ‬عن‭ ‬الوهم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يحول‭ ‬طبيعة‭ ‬ما‭ ‬يجمع‭ ‬من‭ ‬عناصر،‭ ‬فيبقى‭ ‬كُلٌ‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬العناصر‭ ‬على‭ ‬طبيعته‭ ‬الأصلية،‭ ‬فيكون‭ ‬التآلف‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬تآلفاً‭ ‬آليًا‭ ‬وليس‭ ‬صهراً‭ ‬يعيد‭ ‬صوغ‭ ‬طبائعها‭ ‬في‭ ‬كيان‭ ‬عضوي‭ ‬ذي‭ ‬طبيعة‭ ‬خاصة‭. ‬وقد‭ ‬عارض‭ ‬كولريدج‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الألمان‭ ‬في‭ ‬نظريته‭ ‬الشعرية،‭ ‬حيث‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الشعر‭ ‬يأتي‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التداعي‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬يتألف‭ ‬تألفاً‭ ‬عضويًا،‭ ‬بينما‭ ‬اشترط‭ ‬أولئك‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الشعر‭ ‬عضويًا‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يكون‭. ‬وبذلك‭ ‬يكون‭ ‬كولريدج‭ ‬قد‭ ‬راعى‭ ‬طبيعة‭ ‬النفس‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬الاتجاهين‭ ‬معاً‭: ‬العضوي‭ ‬والآلي‭ ‬أو‭ ‬التجريدي‭ ‬كما‭ ‬بينت‭ ‬النظريات‭ ‬النقدية‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد،‭ ‬وبخاصة‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬نقاد‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬الألمان‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬فورنغر‭ (‬Worringer‭)‬‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المهم‭ ‬التجريد‭ ‬والتقمص‭ ‬الوجداني‭ (‬Abstraction‭ ‬and‭ ‬Empathy‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬نشره‭ ‬عام‭ ‬1908،‭ ‬وقد‭ ‬ارتكز‭ ‬عليه‭ ‬هربرت‭ ‬ريد‭ ‬في‭ ‬فلسفته‭ ‬التشكيلية‭ ‬ونظريته‭ ‬النقدية‭. ‬

 

نظرية‭ ‬الخلق‭ ‬من‭ ‬عدم

  ‬غير‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬مذاهب‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭ - ‬الرمزية‭ ‬والسريالية‭ ‬والدادائية‭ ‬خاصة‭ - ‬لم‭ ‬تقنع‭ ‬بالحدود‭ ‬التي‭ ‬أقامتها‭ ‬فلسفة‭ ‬كانْت‭ ‬دون‭ ‬المطلق،‭ ‬ولم‭ ‬ترْضَ‭ ‬ألا‭ ‬تتجاوز‭ ‬المعرفةُ‭ ‬إدراك‭ ‬عالَم‭ ‬الظاهر،‭ ‬فحنَت‭ ‬إلى‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬المطلق‭ ‬والتعبير‭ ‬عنه،‭ ‬لكن‭ ‬بأداة‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬حددها‭ ‬كلٌ‭ ‬من‭ ‬أفلاطون‭ ‬وأرسطو،‭ ‬بالحدْس‭ ‬والرؤيا‭. ‬لقد‭ ‬رفع‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألماني‭ ‬مارتن‭ ‬هيدغر‭ (‬Martin‭ ‬Heidegger‭)‬الشعراءَ‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬النبوة،‭ ‬وأكد‭ ‬أن‭ ‬مذهبه‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬معادلة‭ ‬فكرية‭ ‬لما‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬الشاعر‭ ‬الألماني‭ ‬رلكه‭ (‬Rilke‭)‬‭ ‬في‭ ‬الشعر‭. ‬فأصبح‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬باعتراف‭ ‬الفلاسفة‭ ‬أنفسهم،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬الفلسفة،‭ ‬لأنه‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬رأوا،‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬من‭ ‬الفلسفة‭ ‬على‭ ‬بلوغ‭ ‬المطلق‭. ‬فالحدْس‭ ‬يتجاوز‭ ‬التخوم‭ ‬التي‭ ‬يقف‭ ‬العقل‭ ‬عندها،‭ ‬ليبلغ‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يحيط‭ ‬به‭ ‬العقل‭ ‬الإنساني‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬أحس‭ ‬الشاعر‭ ‬الغربي‭ ‬الحديث‭ ‬بأنه‭ ‬يتميز‭ ‬بقوى‭ ‬إبداعية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لمَن‭ ‬سبقه‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬السالفة،‭ ‬وأنه‭ ‬يمتلك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الخلق‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬ألغت‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية‭ ‬الحديثة‭ ‬الإيمان‭ ‬بما‭ ‬دعاه‭ ‬أرسطو‭ ‬العلة‭ ‬الأولى،‭ ‬والمُحرك‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتحرك،‭ ‬أخذ‭ ‬الشاعر‭ ‬الحديث‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬فعل‭ ‬الخلق،‭ ‬وكان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يرد‭ ‬الأشياء‭ ‬إلى‭ ‬حُكْم‭ ‬العدم،‭ ‬ليتسنى‭ ‬له‭ ‬الفعل‭ ‬الإبداعي‭. ‬

بهذا‭ ‬تكتمل‭ ‬الثورة‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬المحاكاة‭ ‬في‭ ‬الفنون،‭ ‬وتصل‭ ‬إلى‭ ‬فلسفة‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬والمعرفة‭ ‬والفن‭ ‬معارضة‭ ‬تماماً‭ ‬بل‭ ‬ومناقضة‭ ‬للفلسفة‭ ‬الكلاسيكية‭. ‬لقد‭ ‬قررت‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يولد‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬شيء،‭ ‬فقالت‭ ‬بقِدَم‭ ‬العالم،‭ ‬وتأتي‭ ‬بعض‭ ‬التجارب‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الغربي‭ ‬الحديث‭ ‬لتحيل‭ ‬الوجود‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬فتُفرِغ‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬ماهياتها‭ ‬ومعانيها‭ ‬لتعيد‭ ‬إبداعها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬مثال،‭ ‬مُلْغية‭ ‬الحد‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬الغيب‭ ‬والواقع،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حافظت‭ ‬عليه‭ ‬الرومنطيقية‭. ‬وكان‭ ‬على‭ ‬الفن،‭ ‬المُعرف‭ ‬بالخلق،‭ ‬أن‭ ‬يفتدي‭ ‬الوجود‭ ‬الهالك،‭ ‬فادعى‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬رسالة‭ ‬الفادي‭. ‬وتنتهي‭ ‬مغامرة‭ ‬الخلق‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬التي‭ ‬خاضتها‭ ‬بعض‭ ‬مذاهب‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث،‭ ‬إلى‭ ‬إثبات‭ ‬المبدأ‭ ‬الذي‭ ‬قررته‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭: ‬إن‭ ‬شيئاً‭ ‬لا‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬شيء،‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬خلقٌ‭ ‬من‭ ‬العدم‭.‬

 

نظرية‭ ‬التقاليد‭ ‬الشعرية

  ‬ولئن‭ ‬اتجهت‭ ‬بعض‭ ‬مذاهب‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬المطلق‭ ‬والتعبير‭ ‬عنه‭ ‬ولم‭ ‬تقنع‭ ‬بالواقع‭ ‬المحسوس‭ ‬وعالَم‭ ‬الظاهر،‭ ‬فإن‭ ‬مذاهب‭ ‬أخرى‭ ‬أبرزها‭ ‬الحركة‭ ‬التصويرية‭ (‬Imagism‭)‬‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والنقد‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الشاعران‭ ‬الإنجليزيان،‭ ‬تي‭. ‬إي‭. ‬هيوم‭ (‬T‭. ‬E‭. ‬Hulme‭)‬‭ ‬وإزرا‭ ‬باوند‭ ‬Ezra‭)‬‭ (‬Pound،‭ ‬سارت‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬الاتجاه‭. ‬وقد‭ ‬أكد‭ ‬شعراء‭ ‬حركة‭ ‬الحداثة‭ ‬هؤلاء‭ ‬أهمية‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬بوصفها‭ ‬انطباعاً‭ ‬حسيًا،‭ ‬واستند‭ ‬منظر‭ ‬الحركة‭ ‬الأساسي،‭ ‬هيوم،‭ ‬إلى‭ ‬آراء‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬هنري‭ ‬برغسون‭ (‬Henri‭ ‬Bergson‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬تحولٌ‭ ‬متواصل‭ ‬ومجموعةٌ‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬المتداخلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إدراكها‭ ‬بالمنطق‭ ‬أو‭ ‬التعبير‭ ‬عنها‭ ‬باللغة‭ ‬المجردة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الشعراء‭ ‬التصويريين،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬باوند،‭ ‬لم‭ ‬يقولوا‭ ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬يتجنب‭ ‬الكلي،‭ ‬بل‭ ‬رأوا‭ ‬أنه‭ ‬ينفذ‭ ‬إليه‭ ‬بقوة‭ ‬أكبر‭ ‬لأنه‭ ‬يبلغه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الخصوصي‭. ‬

واستناداً‭ ‬إلى‭ ‬تعريف‭ ‬الشعر‭ ‬بـ«الكلي‭ -‬العيني‮»‬‭ ‬رسخ‭ ‬الشعراءُ‭ - ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬وعياً‭ ‬عميقاً‭ ‬بالتراث‭ ‬الثقافي‭ ‬والشعري‭ ‬والفلسفي،‭ ‬وعلى‭ ‬رأس‭ ‬هؤلاء‭ ‬تي‭. ‬إس‭. ‬إليوت،‭ ‬وقد‭ ‬عبر‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المبدأ‭ ‬في‭ ‬مقالته‭ ‬المهمة‭ ‬والذائعة‭ ‬الصيت‭: ‬‮«‬التراث‭ ‬والموهبة‭ ‬الفردية‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬علاقة‭ ‬الشاعر‭ ‬الحديث‭ ‬بتراثه‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬‮«‬الحس‭ ‬التاريخي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يُلزم‭ ‬الشاعر‭ ‬ويقصد‭ ‬الشاعر‭ ‬الغربي‭ ‬المعاصر‭ ‬بأن‭ ‬يكتب‭ ‬لا‭ ‬بوعي‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬جيله‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬بتأثير‭ ‬الشعور‭ ‬بأن‭ ‬أدب‭ ‬أوربا‭ ‬بأسره‭ ‬منذ‭ ‬هوميروس،‭ ‬ومن‭ ‬ضمنه‭ ‬أدب‭ ‬بلاده‭ ‬كله،‭ ‬موجود‭ ‬بشكل‭ ‬متزامن‭ ‬ويؤلف‭ ‬نظاماً‭ ‬متزامناً‭. ‬وقد‭ ‬استنتج‭ ‬إليوت‭ ‬مبدأ‭ ‬نقديًا‭ ‬عظيم‭ ‬الدلالة‭ ‬فتح‭ ‬آفاقاً‭ ‬جديدة‭ ‬تحولت‭ ‬بالنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬إلى‭ ‬مسار‭ ‬المنهجية،‭ ‬وذلك‭ ‬بنظرته‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬الأدبي‭ ‬والفني‭ ‬القومي‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬نظام‭ ‬متكامل‭ ‬وحي‭. ‬

‭ ‬لعل‭ ‬تأكيد‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الإبداع‭ ‬الشعري‭ ‬المعاصر‭ ‬والتراث‭ ‬الشعري‭ ‬يُعد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المبادئ‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬عليها‭ ‬حركة‭ ‬الحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نفت‭ ‬الرومنطيقية‭ ‬زمناً‭ ‬تلك‭ ‬العلاقة،‭ ‬فعرفت‭ ‬الإبداع‭ ‬بالذاتية‭ ‬وأنكرت‭ ‬مرجعية‭ ‬التقاليد‭ ‬الشعرية‭. ‬وقد‭ ‬وصف‭ ‬إليوت‭ ‬نفسَه‭ ‬بأنه‭ ‬شاعر‭ ‬‮«‬كلاسيكي‭ ‬في‭ ‬الأدب‮»‬،‭ ‬وعد‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬هدفاً‭ ‬يسعى‭ ‬إليه‭ ‬كلُ‭ ‬أدب‭ ‬جيد‭. ‬وتجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬كلاسيكية‮»‬‭ ‬إليوت‭ ‬ليست‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬اليونانية‭ ‬القديمة‭ ‬كما‭ ‬رسختها‭ ‬فلسفة‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬أفلاطون‭ ‬وأرسطو،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬المستحدثَة‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬الأوربية‭ ‬وعصر‭ ‬التنوير‭ ‬الأوربي،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬كلاسيكية‭ ‬تستمد‭ ‬ماهيتها‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬معارض‭ ‬للمذهب‭ ‬الرومنطيقي‭ ‬الأوربي‭ ‬بخاصة‭ ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬إليوت‭ ‬في‭ ‬‮«‬لاذاتية‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬التي‭ ‬عدها‭ ‬النقاد‭ ‬أعظم‭ ‬نظرية‭ ‬حول‭ ‬طبيعة‭ ‬الشعر‭ ‬بعد‭ ‬المفهوم‭ ‬الرومنطيقي‭ ‬للشعر‭ ‬الذي‭ ‬وضعه‭ ‬الشاعر‭ ‬الإنجليزي‭ ‬وليم‭ ‬وردزورث‭ ‬William‭) (‬Wordsworth‭. ‬

ويعني‭ ‬إليوت‭ ‬بـ«اللاذاتية‮»‬‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬ليس‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬العــــواطـــف‭ ‬وعن‭ ‬شخصية‭ ‬الشاعر‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬هروب‭ ‬منهـــما،‭ ‬فالقصــــيدة‭ ‬لا‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬‮«‬ذات‮»‬‭ ‬الشاعر‭ ‬بل‭ ‬تمثل‭ ‬كياناً‭ ‬مستقلا‭ ‬عن‭ ‬شخصه‭ ‬أو‭ ‬ذاته،‭ ‬فهي‭ ‬أكثر‭ ‬ارتباطاً‭ ‬بالإبداعات‭ ‬السابقة‭ ‬لإبداعه‭ ‬في‭ ‬تراثــــه‭ ‬الأدبــــي،‭ ‬وبالتــــقاليد‭ ‬الشعرية‭ ‬الراسخة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التراث‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬كلاسيكية‮»‬‭ ‬إليوت‭ ‬تأكيداً‭ ‬لتولد‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬صلب‭ ‬التراث‭ ‬وإعلاء‭ ‬لشأنه‭ ‬في‭ ‬العملية‭ ‬الإبداعية،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬اعترافاً‭ ‬بـ«النظام‮»‬‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ما‭ ‬ساد‭ ‬النتاج‭ ‬السريالي،‭ ‬نظرية‭ ‬وفنا‭ ‬شعريًا،‭ ‬من‭ ‬دعوة‭ ‬للفوضى‭ ‬وممارسة‭ ‬لها‭ ‬