من المكتبة الأجنبية: مثلهم، أنا هناك

من المكتبة الأجنبية: مثلهم، أنا هناك
        

          نقابل في هذا الكتاب، «بارك نوهاي» الشاعر والمصور الكوري الجنوبي، يتمنطق بآلته التصويرية، ويجول في ربوع مناطق الشقاء الجنوبية إن جاز لنا التعبير - عبر عشر سنوات كاملة قضاها بين الناس الذين يقدم لنا حكاياتهم من خلال كاميرته.

          جال بارك نوهاي طوال تلك الفترة الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا الوسطى واللاتينية، مصطحبا معه كاميرته وحاسته الشعرية. والكتاب يقدم لنا لمحات من تلك الانطباعات التي التقطتها عين بارك نوهاي خلال رحلته.

          وتطرح الصور علينا أسئلة جدية من قبيل: ما الذي يفعله شاعر في مناطق الشقاء؟

          ما الذي يمكن أن يراه؟ وما الذي يمكن أن ينقله؟ وما الذي يمكن أن يساهم به؟ وكيف يلتقي الجمال مع الفقر؟

          تلك هي بالضبط الأسئلة الجوهرية التي يطرحها كتاب بارك نوهاي الحالي.

          لكنه لا يطرحها في شكل حروف ونصوص، بل يطرحها في شكل صور ولقطات.

          أطلق بارك نوهاي على كتابه عنوان: «مثلهم، أنا هناك»، ليعبر عن اندماج الفنان بالمحيط والبشر من حوله. فتضحى قصتهم هي قصته، وتصبح حياتهم هي حياته.

          وتحت هذا العنوان البسيط، جمع بارك نوهاي 160 صورة فوتوغرافية، انتقاها بعناية من بين 130 ألف صورة التقطها خلال السنوات العشر التي قضاها في مناطق الشقاء تلك.

          وبهذه الصور يقدم كتاب بارك نوهاي أطروحة تصويرية معمقة عن الإنسان داخل الزمان والمكان في الجنوب. فهو يقدم لنا تلك اللحظات الشفافة عالية الكثافة التي يتجرد فيها جمال الوضع الإنساني من بين مخالب الشقاء ليحيطه ويبدده ويصنع لنفسه حيزا مستقلا لا يقدر الشقاء على محاصرته أو السيطرة عليه أو إلغائه، بل يتصاعد الجمال الإنساني وكأنما بطرف خفي فيظل حاضرا لا يلغيه الشقاء ولكن دون أن يقدر الجمال على إلغاء الشقاء، فتنشأ جدلية الجمال والشقاء الأبدية التي تحكم مصير البشر. وتقدمها لنا صور بارك نوهاي دون تزييف أو تجميل أو اصطناع أو مبالغة.

          فبين الصور تشاهد لحظات الصلاة وسط ربوع الشقاء، حيث تختلط الروحانيات بأحط الماديات، وكأن هذه تعوض تلك وتصححها. وترى صورا لحياة اللاجئين التي تمتلئ بانتصار الحياة على جميع المظالم التي تفرضها قوة البطش.

          هكذا تمثل صور بارك نوهاي أشعاراً كتبت بإضاءات الكاميرات، عوضا عن ضربات القلم.

          في صور بارك نوهاي تصدمنا الأرض بحضورها الطاغي، المتمثل في صلابتها وقسوتها من ناحية، ولكنها أيضا تفاجئنا برحابتها وخصوبتها من ناحية ثانية. وبهذا تكون في تمظهرها الأول غاية في القسوة والإمعان في إشقاء الفقراء وإدماء أرجلهم وأجسادهم، بينما هي نفسها في تمظهرها الثاني تصبح غاية في العطف والاستجابة لأياديهم العاملة ولمشروعاتهم الصغيرة التي تعينهم على الحياة.

          هذه الجدلية الشقية، لكن الخصبة في الوقت ذاته، ربما، كانت السبب وراء سيادة اللونين الأبيض والأسود على الغالبية العظمى من صور بارك نوهاي»، فمن بين 160 صورة

          - هي مجمل صور الكتاب الحالي- لا توجد سوى ست صور فقط بالألوان.

          في هذا الاختيار اللوني البسيط، كأنما يعلن بارك نوهاي رفضه للاصطناع والتزييف مهما كان، حتى لو كان اصطناعا لونيا. وفي هذا الاختيار اللوني الجذري العازف عن التلون، يعلن بارك نوهاي عدم مهادنته في رفض الظروف التي يصورها بكل حزم.

          قد يرى بعض النقاد أن حزم بارك نوهاي في هذه الصور مكرس مثلما جرى من خلال اختياره الحاسم للونين الأبيض والأسود دون التلوين، على أنه يعبر عن أن بارك نوهاي ربما كان أشد قسوة من حزم الطبيعة نفسها مع ظروف الشقاء التي يصورها في كتابه. فالطبيعة نفسها قد حبت الكون جميعه بالألوان، لتضفي عليه درجة رائعة من الجمال، مهما بلغت قسوتها، إلا أن بارك نوهاي قد اختار إطفاء الألوان وإسدال ستائر التعتيم على ألوان الطبيعة وإغماض عيون الكاميرا عن زخرفية الألوان التي تمنحها الطبيعة للحياة مهما اشتدت حدتها. وهذا القرار والاختيار من جانب بارك نوهاي ربما جاء ليعبر عن صرامة وقسوة رفضه هو، باعتباره شاعرا ملتزما لهذه الظروف. وربما بالغ بارك نوهاي في رفضه لقسوة وشقاء الصور التي التقطها، حيث إنه رفض أن يجملها أو أن يمتع نفسه بالانشغال بألوانها الطبيعية التي ربما كانت ستعبر عن خصوبة الطبيعة، بحيث إنها قد تخفي عن العين - لوهلة ليس إلا - درجة القسوة التي تتجلى فيها.

          ربما اختار بارك نوهاي أن يكتم ويقمع الجمال الطبيعي للصور، بقرار شخصي منه ومن كاميرته، بهدف أن يبرز ويركز منظور المشاهد على الجانب اللاجمالي في هذه الصور. وبهذا فإن «بارك نوهاي» إنما يعبر عن فلسفته الواقعية كشاعر ملتزم.

          إلا أن هناك قدرا من السخرية يتضح بجلاء هنا، فحتى عندما حاول بارك نوهاي قمع وإخفاء جمال الطبيعة، بقرار واعٍ منه، باختياره طغيان اللونين الأسود والأبيض، فإن محاولته تلك الواعية، قد فشلت في تجريم الطبيعة أو اتهامها بممارسة القسوة والتسبب في الشقاء للبشر. فرغم كل ما حاوله بارك نوهاي إلا أن حاسته الشاعرية نفسها قد تجلت بشكل غير واعٍ في تصويراته، بحيث تنفس فيها عنصر الجمال، حتى رغماً عن القرار الواعي بمحاولة قمع الجمال في الصور.

          وهكذا تقدم صور بارك نوهاي نفسها عن البؤس والشقاء أطروحة جمالية بكل ما في الكلمة من معنى، يصرخ فيها الجمال رغماً عن كل البؤس البادي في الصور. فعنصر الجمال المتمظهر في كل صورة من صور الكتاب، يدفعنا إلى الظن بأنه مهما كان بؤس الحياة، فإنه يبقى فيها جزء ما يمنحها قيمة خالدة، ففي جميع الظروف تتجادل مختلف عناصر الحق والخير والجمال معا، رغماً عن كل شيء لتمثل في جدليتها تلك، التي تتمظهر متحدية كل شيء، سر الوجود بكامله.

مثلهم، أنا هناك

  • تاريخ الإصدار: 23 سبتمبر، 2010
  • الناشر: هيو تايك سلووك سيول كوريا

المؤلف:

  • بارك نوهاي، من مواليد عام 1957، في منطقة ريفية جنوبية، في كوريا الجنوبية
    نشر مجموعته الشعرية الأولى بعنوان «فجر العمل» عام 1976، وهو لم يتخط بعد سن العشرين عاما.
    في عام 1989 أسس مع رفاقه «تحالف العمال الاشتراكيين الكوريين الجنوبيين».
    تم اعتقاله عام 1991، وحكم عليه بالإعدام، لكن تم إطلاق سراحه مع سقوط النظام الديكتاتوري في كوريا الجنوبية.

 

 

 

تأليف وتصوير: بارك نوهاي