دراسة تأويلية في معارضة شعرية تفاعلية
أنموذج المعارضة التي سأقرأها تدخل في إطار الأدب التفاعلي الرقمي، الذي يتم في اللحظة الزمنية لإنتاج النص، وهي حالة لا يتمكن منها إلا الشاعر الذي يمتلك ناصية الإبداع الفعلي، وإنتاج الفكرة، وإنشاء صورة فنية جديدة، مع الزاد اللغوي، وهو مسألة تحضر مع الشاعر وتجعله ينتج نصاً فيه ملامح النص الذي استفزه - إن جاز القول هنا – ومواكبة التدرج الفعلي لتلك الحالة... وسأحاول في هذه القراءة تطبيق نظرية محمد عابد الجابري «النظام المعرفي البياني».
هذه المعارضة هي تجاوب على المباشر وعلى الصفحة الفيسبوكية، وهي ظاهرة تحيي القديم في الإبداع لكنها وفق تطورات التقنية الحديثة، لأن تطويع المنتج المادي للمنتج الفكري والإبداعي ضرورة راهنة وحاجة ملحة لتسهيل الفهم والتواصل، والأصل في فن المعارضة هو أن يقول شاعر قصيدة في موضوع ما، فيقوم شاعر آخر، وينظم قصيدة أخرى على منوالها، في الوزن والقافية والموضوع. وهكذا تقتضي «المعارضة» وجود نموذج فني ماثل أمام الشاعر المعارض، ليقتدي به، ويحاكيه، أو يحاول تجاوزه.
ولهذا لم تكن في الشعر الجاهلي «معارضات»، لأن المثال (أو النموذج) الشعري قبله كان مجهولاً. وهذا التعريف المبسط يخفي وراءه كثيراً من الدلالات الثقافية والحضارية التي تُنتج فيها النصوص المعارِضة، وهي ترتبط ذ في ما أعتقد ذ ببنية ثقافية وفكرية سائدة لها منهجها في إنتاج المعرفة والإبداع، قوامه قياس الغائب على الشاهد، والفرع على الأصل.
وهو النظام الفكري الذي أطلق عليه محمد عابد الجابري «النظام المعرفي البياني»، حيث الإبداع لا يعني عملية الخلق من عدم، بل إنشاء شيء جديد انطلاقاً من التعامل، مع شيء أو أشياء قديمة. قد يكون هذا التعامل إعادة تأسيس أو تركيب، وقد يكون نفياً وتجاوزاً، ومن هنا يمكن القول إن الإبداع في الفن هو إنتاج نوع جديد بواسطة إعادة تركيب أصيلة للعناصر الموجودة، لذلك تعبر المعارضات بصورة ما عن مفهوم الشعر وطرائق إنتاجه في وعي الإحيائيين، وفي تسميتهم (الإحياء والبعث)، حيث يكمن ذلك المفهوم القائم على بعث الشعرية العربية القديمة في مراحل عنفوانها وتوهجها، وما شقته من مسارات على يد البحتري وأبي تمام وأبي نواس والمتنبي وأبي العلاء... إلخ.
ـــ جمعة السعيد:
أمامكِ هذا الْفضَاء البهـيّ
ومِنْ خلْـفكِ الْمـوْج والزَّوْرقُ
هُنَا الْبحْـر ساحلُـهُ قامَــــةٌ
يُــــزَيِّـنُــهَـا لـوْنُــــــهُ الأَزْرقُ
تَهِيمِيـن سحْرًا علَى رمْلِـهِ
كَمَا نخْلَــة للْمـدَى تَبْسـقُ
تمُـدُّ عـراجينَـهَـا نحْـــوَهُ
وبيْـن جــوَانـــحــه تخْــفـــقُ
ـــ رابح بلطرش:
وأَبْدَعْتَ في وَصْفِهَا سيِّدي
فمِنْ حُسْنهَا الْموْجُ قدْ يغْـرِقُ
فإِنْ غطسَتْ فشِفاف الْجمال
يغازلُهَا، بالـنَّدى يشْــــرِقُ
وإِنْ جلَسَتْ فضفاف الْخلِيج
تـــذوبُ - حــنـيــنــا - وتنـــْـدَفِــــــقُ
طيورُ النَّوارِسِ جاءتْ تحوم
لعلَّــها منْ حُسْنهَا تسْـــرقُ
ــ جمعة السعيد:
علَى شاطئ الْبوْح شِعْرًا عزفْنا
بلَحْــن الْقـوافـي سينْطـــلـقُ
فكانتْ، وكُنْتَ، وكنَّـا جميعًا
وكان الْقصـيـدُ هـوَ الأَصْدَقُ
فــــبـورِكَ فيـكَ أَيا صَـاحـبِـــي
ففي بوْحك الْحسْنُ والأَلقُ
فـكَـمْ ذَا يُعـطِّــرُ قـافِـيــتـــــي
كَمـا الَّروْض، أَزهـارهُ تعْبقُ
ـــ بوخاتم حمداني:
وكمْ في الْجمال وكمْ في الْخيال
مرَاكِبُ ترْسُــو وقـدْ تغْـرقُ
علَى ضفَّة الْعمْر كنَّا سكــارى
وكَانتْ بِزَهْـو لنَـا تعْشــــــقُ
أَيا صاحِبَـيَّ اْسْتقَـالَ الْجمـال
وهَاجَــر نَحْــوَ الَّتي تخْلــــقُ
أَيا صاحبـيَّ تفــاعــلْتُـمَـــا
وهـــذي قَصَــائِـدُنَا تَنْطِـــــقُ
ـــ أحسن شيبان:
أَجادَ الثَّلاثَةُ عزْفَ الْجمَــال
فأَضْحَـى الْقصـيدُ، هـُوَ الرَّوْنَـــقُ
ومثْـلي سجـينٌ وما فكّــه
من الْهجْـر إلَّا السَّما تعنــــق
ورفْقة صفْو بشاطئ بحْــر
وشيء من الشِّعْر قدْ يعْبــقُ
وخطْوِ علَى الرَّمْل لكنْ يدوم
فلا الْموْجُ ينسَى ولا المشْرقُ
ـــ بوخاتم حمداني:
أيَا جامـــعَ الشُّعــــراءِ تلطَّفْ
بنـَـا، وانْتظرْ خيْلَـنا تشْهَـقُ
حصَانُكَ برْقٌ بغَــيْــرِ لجـــامٍ
فرفقًا بنا، فالعـــدى ترْمُـقُ
أيا صاحِبِي أَنْتَ شهْمٌ أنيــقٌ
أَتيتَ بشعْرٍ سَنًـا يشْــرِقُ
فكـانتْ شمــوعًا قصَائِـدُنــا
وكنَّا على البَـوْحِ نحْتَـــرقُ
ــ جمعة السعيد:
علَى مشْهَدِ الشَّعْرِ كنَّا الْتقيْنَا
ومِنْ مُنتَهَـــاهُ، سنفْتَــرقُ
فطُوبَى لكُمْ، ما شَدوْتُمْ بِشِعْر
ترانِيمُـــهُ بالنَّـدى تهْـــرِقُ
فهدْهدَنا «رَابِـــحٌ» في انْتشَاءٍ
وراحَ «أَبُـو خَاتـمٍ» يَنْـمُـقُ
وَ«شيْبانُ» عانَقَنَا بقصِيدٍ
تَبَاهَى بِهِ الْحِـبْـرُ والْـــوَرَقُ
هذا السجال شهد حضور أربعة شعراء «جمعة السعيد، رابح بلطرش، بوخاتم حمداني، أحسن شيبان»، افتتح المعارضة الشاعر جمعة السعيد بقوله:
أمامكِ هذا الْفضَاء البهـيّ
ومِنْ خلْـفكِ الْمـوْج والزَّوْرقُ
هُنَا الْبحْـر ساحلُـهُ قامَــــةٌ
يُـــزَيِّـنُــهَـا لــوْنُــــــهُ الأَزْرقُ
تَهِيمِيـن سحْرًا علَى رمْلِـهِ
كَمَا نخْلَــة للْمـدَى تَبْسـقُ
تمُـدُّ عـراجينَـهَـا نحْـــوَهُ
وبيْـن جــوَانحــه تخْــفـــقُ
بين البحر ورمله وساحله والصحراء ونخيلها تكتمل الصورة، لأن أيقونة الاستفزاز تقف على هذه الحدود، وعليه يرسم الشاعر هذا التجاوب اللامنتهي، حيث وظف الإيقاع المستمد من الفضاء الأزرق للبحر وفضاء الصحراء، كلاهما يتكئ على هذه الصورة في مخيلة المبدع والقارئ للنص، والمتتبع للأبيات يجد فيها سلاسة اللفظ ووضوح الصورة الفنية من دون عناء يؤسس لتفاعل منتج للفكرة صارم الملامح حي في التعاطي مع المشهد.
ردّ الشاعر رابح بلطرش:
وأَبْدَعْتَ في وَصْفِهَا سيِّدي
فمِنْ حُسْنهَا الْموْجُ قدْ يغْـرِقُ
فإِنْ غطسَتْ فشِفاف الْجمال
يغــــازلُهَا، بــالـنَّدى يشْــــرِقُ
وإِنْ جلَسَتْ فضفاف الْخلِيج
تـــذوبُ حـنــــيــــــنا وتنْـــــدَفِــــــقُ
طيورُ النَّوارِسِ جاءتْ تحوم
لعلَّــها منْ حُسْـنهَا تسْـــرقُ
الأبيات تتبع قانون النّص الحاضر واستمراره وهو محاكاة وتصوير، وتتلخّص الفكرة بينهما في تلك اللحظة التفاعلية وفق قانون الامتصاص وقبول للنص الغائب الذي سبقه، لكنه حاضر باستمرار، وإعادة كتابته بطريقة لا تمسّ جوهره، وينطلق الردّ هنا من قناعة راسخة، وهي أنّ هذا النص غير قابل للرفض، ويعني هذا دعم النص السابق والدفاع عنه وتحقيق سيرورته التفاعلية والتاريخية لسياق اللحظة وفق قانون الحوار من دون اعتراض، فيبرز الشاعر رابح بلطرش هنا قدرة فائقة على إنتاج نص لا يتوقف غالباً عند حدود بنية النص السابق، بل نجده يعيد بناءه مضيفاً للنص القديم حياة جديدة وفق حالة شعورية واحدة منتجة تجمع بين الجدة والتشابه. على مستوى بعث الصورة الفنية في الوصف وروعة إنتاج صورة، فكانت الروعة على الروعة في إنتاج مقابلة تفاعلية حية في نص بلطرش أكثر إثارة وفق مخيلة إبداعية حاضرة بكل قوة في قوله: «فإن غطسَتْ فشفافُ الجمالْ يُغَــازلُهـَا، بالندى يشْـــــرقُ/ وإن جلستْ فَضفافُ الخليــج تذوب - حنينًــا - وتندفِــقُ»، هنا يبرز النظام الفكري الذي أطلق عليه محمد عابد الجابري النظام المعرفي البياني»، وهو بناء وإنشاء شيء جديد, انطلاقاً من التعامل مع لفظ ونص وصورة، كلها تعيد تأسيس أو تركيب صورة فنية جديدة.
والمتتبع لهذه المعارضة يجد في أيقونة الردّ لدى الشاعر جمعة السعيد وعياً تفاعلياً منتجاً فيه قيمة أخلاقية وفنية في قوله:
علَى شاطئ الْبوْح شِعْرًا عزفْنا
بلَحْــن الْقوافـي سينْطلـقُ
فكانتْ، وكُنْتَ، وكنَّـا جميعًا
وكان الْقصـيـدُ هـوَ الأَصْدَقُ
فبـورِكَ فيـكَ أَيا صَـاحـبِـــي
ففي بوْحك الْحسْنُ والأَلقُ
فـــكَـمْ ذَا يـُعـــطِّـرُ قـــــافِـيــتـــــي
كَمـا الَّروْض، أَزهـارهُ تعْبقُ
احترام البوح وفق عقلانية سردية إيقاعها جمال على جمال، تقرأه بمتعة، لأنه إضافة لمنتج الفكرة وليس تكراراً، يمتعك ويجعلك في صحبة هذه الأيقونة إلى آخر حرف فيها. هذه المتعة قيمية لا تفصل ذاتها عن واقع الحياة والسلوك، بحكم الوضوح وعدم الإيغال في الرمزية، يدرك معانيها المتلقي من دون عناء أو تنفير، بل يضرب للعقل موعداً آخر لاطلاع جديد.
ردّ الشاعر بوخاتم حمداني:
وكمْ في الْجمال وكمْ في الْخيال
مرَاكِبُ ترْسُــو وقـدْ تغْـرقُ
علَى ضفَّة الْعمْر كنَّا سكــارى
وكَانتْ بِزَهْـو لنَـا تعْشــــــقُ
أَيا صاحِبَـيَّ اْسْتقَـالَ الْجمـال
وهَاجَــر نَحْــوَ الَّتي تخْلــــقُ
أَيا صاحبـيَّ تفــاعــلْتُـمَـــا
وهـــذي قَصَــائِـدُنَا تَنْطِـــــقُ
حضور الشاعر بوخاتم كـــان تعليقاً على التفاعل كما ألاحظه هنا، لكنه كان حضوراً بمعنى تعليق تفاعلي، رصد الجمــال وروح الخيال في مسيرة الأعمار، لأن الموقف الذي أمامه رسم له صورة استفـــزت روح الشعر لديه
فكتب عـــشقاً وزهـــوا وذاكــــرة لمراكب الجمال، يراها غرقت ولم تعد كما كانـــت، سلطة الماضي جعلت بوحـــه فيه من الحزن والشجن على حال تمرد وغرق في غير كينونة الجماليات «أيا صاحبي استقال الجمال»، خطاب تمركز الذات أقوى وهي منطلق لكل فن، بدل سلطة المجتمع المؤسساتي، ويواصل ليختم بوحه بقوله:
أَيـــا صـــــاحبـيَّ تفــاعــلــــْتُـمَـــا
وهـــذي قَصَــائِـدُنَا تَنْطِـــــقُ
تفاعل وتمركز للمساجلة رغم منطلق التعليق الذي وضع مسار الأبيات في صميم العملية الفكرية والتجاوب الجمالي، فكان البياض كتابة جديدة لشاعر له على صاحبيه أريج استنطاق زاوية يراها ضرورية فــــي هـذا الألق والسجال. ولكن يبدو أن الحوار الشعري اتسع بوحه بروح تدهشك، فتذهب مع الحروف لتبنيها بأسوار الخيال المشرق، فيقول الشاعر أحسن شيبان:
أَجادَ الثَّلاثَةُ عزْفَ الْجمَــال
فأَضْحَـى الْقصـيدُ، هـُوَ الرَّوْنَـــقُ
ومثْـلي سجـينٌ وما فكّــه
من الْهجْـر إلَّا السَّما تعنــــق
ورفْقة صفْو بشاطئ بحْــر
وشيء من الشِّعْر قدْ يعْبــقُ
وخطْوِ علَى الرَّمْل لكنْ يدوم
فلا الْموْجُ ينسَى ولا المشْرقُ
رسم ببياض الورقة حياة أخرى التحق بهم وشده الموقف/ يدهشك/ في عزف الجمال بإشادته لمن رسموا الجمال لوحة ناطقة تكاد تلمسها من الحسن، فجعل من الخطى على الرمل أثراً لا يزول، والموج لا ينسى رغم أن حالة كل من الرمل والموج متجددة تُذهبُ هذا وتأتي بذاك.
خيال خصب وروعة تحدٍّ تضعنا أمام مشهد لا يتكرر كثيرا في السرد الشعري، فيه رمزية ممتعة غير مقلقة وبيان فكرة تقرب الخيال من الواقع. بصمته تعكس قيمة إبداعية يمكنها أن توقع بياضاً آخر على واجهة السرد الشعري يشرقُ.
المتابعة تأخذنا مرة أخرى مع الشاعر بوخاتم في رده:
أيَا جامـــعَ الشُّعــــراءِ تلطَّفْ بنـَـا
وانْتظرْ خيْلَـنا تشْهَـقُ
حصَانُكَ برْقٌ بغَــيْــرِ لجـــامٍ
فرفقًا بنا، فالعـــدى ترْمُـقُ
أيا صاحِبِي أَنْتَ شهْمٌ أنيــقٌ
أَتيتَ بشعْرٍ سَنًـا يشْــرِقُ
فكـانتْ شمــوعًا قصَائِـدُنــا
وكنَّا على البَـوْحِ نحْتَـــرقُ
يعود شاعرنا للتعليق التفاعلي الذي نجح في رصده ومتابعته لمجريات السجال، فكان منه أن شبه الشاعر السعيد بالحصان البرق يمر سريعاً لا لجام لـــه، طابــــع الحياة ومرور إيقاعاتها المتواصلة والمستمرة وفق وتيرة زمنية متلاحقة لا تنتظر، الآن فيها والحين لا توقيت لهما إلا في زمن الذاكرة المراقبة لواقعها وتفاصيل تفاصيلها، بوح فيه من احتراق اللحظة التي نعيشها، لا يرغب شاعرنا في تجاوزها أو القفز عليها، بل يقف معلقاً معاتباً الزمن والشاعر على هذا الرحيل، بل الحل والترحال للبوح الجميل.
إنها محاولة صادقة إلى حد الألم للتعبير عن واقع نتشنج منه، وكأنها غيبوبة تتبع يقظة دائمة في عالم سرمدي لا حديث فيه لتفاصيل الزمن بل كله الآن، وهو يأخذنا لاكتشاف اللحظة العابرة.
وفي ختام هذه المساجلة كما بدأها رونقا ينهيها الشاعر جمعة السعيد أريجاً لقوله:
علَى مشْهَدِ الشَّعْرِ كنَّا الْتقيْنَا
ومِنْ مُنتَهَـــاهُ، سنفْتَــرقُ
فطُوبَى لكُمْ، ما شَدوْتُمْ بِشِعْر
ترانِيمُـــهُ بالنَّـدى تهْـــرِقُ
فهدْهدَنا «رَابِـــحٌ» في انْتشَاءٍ
وراحَ «أَبُـو خَاتـمٍ» يَنْـمُـقُ
وَ«شيْبانُ» عانَقَنَا بقصِيد
تَبَاهَى بِهِ الْحِـبْـرُ والْـــوَرَقُ
جمعهم شهدُ الشعر والقوافي، وعليهما افترقوا، كان الانتشاء والنمقُ والتباهي والرونق، وهنا أؤكد أن فن المساجلات الشعرية يغيب عن مسرح الإبداع الشعري لدى فئة الشباب الذين امتلكوا الموهبة الجيدة، ولكنهم لم يُحسنوا استغلالها أو التعامل معها بشكل جيد، فبعض أولئك الشعراء شغلهم عن الإبداع الحقيقي ميلهم الشديد إلى الاستعراض وادعاء التميز عن الشعراء الآخرين بوسائل شعرية عديدة خذلتهم وأسهمت في إضعاف مستوى قصائدهم.
فنظم الشاعر لقصيدة مفرطـــة الطول هو نوع من الاستعراض الشعري العقــــيــم، إذ لا يُمكن أن تنجح قصائد من هذا النوع، أو نظم قوافي صعبة أو بحور شعــرية طويلة وغير مطروقة دون اهتمام بفكرة القصيدة أو بعناصرها الفنية، أضــــف إلى ذلك تلك القصائد المصنوعة التي يحشـــوها الشاعر بكثير من الكلمات المغرقة في الغموض أو بمعلومات علمية وثقــــافية كـــــنوع من الاستـــــعراض للثقافة وسعة المعرفة، قد يُعذر الـــشـــاعر المُبتدئ عندما ينظم مثل تلك القصائد على سبيل المحاولة والتجريب لأساليب شـــعرية لم يسبق له ممارسة الكتابة عليها، أو من باب لفت الأنظار لاستعراض قدراته ومهاراته الشعرية الوليدة، لكن المستغرب هو استمرار بعض الشعراء على الإسراف في عرض نماذج على المتلقين، وكأنها معجزات أدبية وإنجازات خارقة لا يتقنها إلا فحول الشعراء، مع أن معظمها لا يعدو أن يكون شكلاً من أشكال العبث الذي لا يستفز المتلقي ولا يُحرك فيه تفاعلاً.
من الأساليب الشعرية الجميلة التي تقلص حجم اهتمام الشعراء بها، لاسيــــما شعراء الحداثة اليوم أسلوب المساجلات، فـــــفي الماضي القريب كانت المساجلات تستحوذ على نصيب وافر من اهتمام وتجربة الشاعر خلافاً لشعراء اليوم الذين لا يرون فيها سوى قصــــائد مجاملات أو منظومات فارغة من الشعر، فلم يعد أحد منهم حريصاً على توجيه أي قصيدة لغيره ولا على التفـــاعل مع القصائد التي قد تصله من الشعراء، مع أن المساجلات لم يقتصر دورها الإيجابي على صقل موهبة الشاعر من خلال احتكاكه بشعراء تتفاوت قدراتهم وأساليبهم في كتابة القصيدة، فالمساجلات ميدان خصب للإبداع، فكان ارتفاع عدد القصائد التي توجه للشاعر مؤشراً قوياً على ارتفاع وعلو مكانته الشعرية، كذلك كانت المساجلات ميداناً يتعلم فيه الشاعر بعض الأدبيات التي ينبغي أن يلتزم بها في تعامله مع الشعراء، وهي أدبيات أعتقد أنه لا يستطيع تطبيقها والتزامها إلا قِلة ممــــن يمتلكون الموهبة والثقة الكبيرة بقدراتهم الفنية واللغوية.
أخيراً، أتمنى أن تشهد ساحتنا الإبداعية الشعرية مثل هذه المعارضات المنتجة ذ أقول المنتجة للفكرة ذ لا التي تكرر بنيتها طبعاً، هذا المستوى لا ينجــــح فيه كل الشعراء، بل فئة نوعية نخبوية في المشهد الشعري الراهن تعيد لنا زمن الزهو والروعة والإبــداع الحقيقي للشعراء الذين أسسوا إبداعاً حقيقياً، وأرى في هذه المعارضة التفاعلية شمعة تـــضيء دهاليز كهف العقلانية العربية التي انبرت في راهنها حول منابـــــــــــر القراءات الشعرية، وغابت المتابعات والمعارضات والانتقـــــادات الجــــادة والموضوعية ■