دراسة تأويلية في معارضة شعرية تفاعلية

دراسة تأويلية  في معارضة شعرية تفاعلية

أنموذج‭ ‬المعارضة‭ ‬التي‭ ‬سأقرأها‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الأدب‭ ‬التفاعلي‭ ‬الرقمي،‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الزمنية‭ ‬لإنتاج‭ ‬النص،‭ ‬وهي‭ ‬حالة‭ ‬لا‭ ‬يتمكن‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يمتلك‭ ‬ناصية‭ ‬الإبداع‭ ‬الفعلي،‭ ‬وإنتاج‭ ‬الفكرة،‭ ‬وإنشاء‭ ‬صورة‭ ‬فنية‭ ‬جديدة،‭ ‬مع‭ ‬الزاد‭ ‬اللغوي،‭ ‬وهو‭ ‬مسألة‭ ‬تحضر‭ ‬مع‭ ‬الشاعر‭ ‬وتجعله‭ ‬ينتج‭ ‬نصاً‭ ‬فيه‭ ‬ملامح‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬استفزه‭ - ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬القول‭ ‬هنا‭ ‬‭ ‬ومواكبة‭ ‬التدرج‭ ‬الفعلي‭ ‬لتلك‭ ‬الحالة‭... ‬وسأحاول‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬تطبيق‭ ‬نظرية‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬‮«‬النظام‭ ‬المعرفي‭ ‬البياني‮»‬‭.‬

هذه‭ ‬المعارضة‭ ‬هي‭ ‬تجاوب‭ ‬على‭ ‬المباشر‭ ‬وعلى‭ ‬الصفحة‭ ‬الفيسبوكية،‭ ‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬تحيي‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬لكنها‭ ‬وفق‭ ‬تطورات‭ ‬التقنية‭ ‬الحديثة،‭ ‬لأن‭ ‬تطويع‭ ‬المنتج‭ ‬المادي‭ ‬للمنتج‭ ‬الفكري‭ ‬والإبداعي‭ ‬ضرورة‭ ‬راهنة‭ ‬وحاجة‭ ‬ملحة‭ ‬لتسهيل‭ ‬الفهم‭ ‬والتواصل،‭ ‬والأصل‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬المعارضة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬شاعر‭ ‬قصيدة‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬ما،‭ ‬فيقوم‭ ‬شاعر‭ ‬آخر،‭ ‬وينظم‭ ‬قصيدة‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬منوالها،‭ ‬في‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬والموضوع‭. ‬وهكذا‭ ‬تقتضي‭ ‬‮«‬المعارضة‮»‬‭ ‬وجود‭ ‬نموذج‭ ‬فني‭ ‬ماثل‭ ‬أمام‭ ‬الشاعر‭ ‬المعارض،‭ ‬ليقتدي‭ ‬به،‭ ‬ويحاكيه،‭ ‬أو‭ ‬يحاول‭ ‬تجاوزه‭. ‬

ولهذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬‮«‬معارضات‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬المثال‭ (‬أو‭ ‬النموذج‭) ‬الشعري‭ ‬قبله‭ ‬كان‭ ‬مجهولاً‭. ‬وهذا‭ ‬التعريف‭ ‬المبسط‭ ‬يخفي‭ ‬وراءه‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الدلالات‭ ‬الثقافية‭ ‬والحضارية‭ ‬التي‭ ‬تُنتج‭ ‬فيها‭ ‬النصوص‭ ‬المعارِضة،‭ ‬وهي‭ ‬ترتبط‭ ‬ذ‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أعتقد‭ ‬ذ‭ ‬ببنية‭ ‬ثقافية‭ ‬وفكرية‭ ‬سائدة‭ ‬لها‭ ‬منهجها‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬المعرفة‭ ‬والإبداع،‭ ‬قوامه‭ ‬قياس‭ ‬الغائب‭ ‬على‭ ‬الشاهد،‮ ‬والفرع‭ ‬على‭ ‬الأصل‭. ‬

وهو‭ ‬النظام‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬‮«‬النظام‭ ‬المعرفي‭ ‬البياني‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬الإبداع‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬عملية‭ ‬الخلق‭ ‬من‭ ‬عدم،‭ ‬بل‭ ‬إنشاء‭ ‬شيء‭ ‬جديد‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬التعامل،‭ ‬مع‭ ‬شيء‭ ‬أو‭ ‬أشياء‭ ‬قديمة‭. ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬التعامل‭ ‬إعادة‭ ‬تأسيس‭ ‬أو‭ ‬تركيب،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬نفياً‭ ‬وتجاوزاً،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬هو‭ ‬إنتاج‭ ‬نوع‭ ‬جديد‭ ‬بواسطة‭ ‬إعادة‭ ‬تركيب‭ ‬أصيلة‭ ‬للعناصر‭ ‬الموجودة،‭ ‬لذلك‭ ‬تعبر‭ ‬المعارضات‭ ‬بصورة‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الشعر‭ ‬وطرائق‭ ‬إنتاجه‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬الإحيائيين،‭ ‬وفي‭ ‬تسميتهم‭ (‬الإحياء‭ ‬والبعث‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬يكمن‭ ‬ذلك‭ ‬المفهوم‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬بعث‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬عنفوانها‭ ‬وتوهجها،‭ ‬وما‭ ‬شقته‭ ‬من‭ ‬مسارات‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬البحتري‭ ‬وأبي‭ ‬تمام‭ ‬وأبي‭ ‬نواس‭ ‬والمتنبي‭ ‬وأبي‭ ‬العلاء‭... ‬إلخ‭. ‬

‭ ‬

ـــ‭ ‬جمعة‭ ‬السعيد‭:‬

أمامكِ‭ ‬هذا‭ ‬الْفضَاء‭ ‬البهـيّ‭ ‬

‭ ‬ومِنْ‭ ‬خلْـفكِ‭ ‬الْمـوْج‭ ‬والزَّوْرقُ

هُنَا‭ ‬الْبحْـر‭ ‬ساحلُـهُ‭ ‬قامَــــةٌ

يُــــزَيِّـنُــهَـا‭ ‬لـوْنُــــــهُ‭ ‬الأَزْرقُ

تَهِيمِيـن‭ ‬سحْرًا‭ ‬علَى‭ ‬رمْلِـهِ

كَمَا‭ ‬نخْلَــة‭ ‬للْمـدَى‭ ‬تَبْسـقُ

تمُـدُّ‭ ‬عـراجينَـهَـا‭ ‬نحْـــوَهُ

وبيْـن‭ ‬جــوَانـــحــه‭ ‬تخْــفـــقُ

 

ـــ‭ ‬رابح‭ ‬بلطرش‭:‬

وأَبْدَعْتَ‭ ‬في‭ ‬وَصْفِهَا‭ ‬سيِّدي

فمِنْ‭ ‬حُسْنهَا‭ ‬الْموْجُ‭ ‬قدْ‭ ‬يغْـرِقُ

فإِنْ‭ ‬غطسَتْ‭ ‬فشِفاف‭ ‬الْجمال‭ ‬

يغازلُهَا،‭ ‬بالـنَّدى‭ ‬يشْــــرِقُ

وإِنْ‭ ‬جلَسَتْ‭ ‬فضفاف‭ ‬الْخلِيج

تـــذوبُ‭ - ‬حــنـيــنــا‭ - ‬وتنـــْـدَفِــــــقُ

طيورُ‭ ‬النَّوارِسِ‭ ‬جاءتْ‭ ‬تحوم

لعلَّــها‭ ‬منْ‭ ‬حُسْنهَا‭ ‬تسْـــرقُ

ــ‭ ‬جمعة‭ ‬السعيد‭:‬

علَى‭ ‬شاطئ‭ ‬الْبوْح‭ ‬شِعْرًا‭ ‬عزفْنا

بلَحْــن‭ ‬الْقـوافـي‭ ‬سينْطـــلـقُ

فكانتْ،‭ ‬وكُنْتَ،‭ ‬وكنَّـا‭ ‬جميعًا

‭ ‬وكان‭ ‬الْقصـيـدُ‭ ‬هـوَ‭ ‬الأَصْدَقُ

فــــبـورِكَ‭ ‬فيـكَ‭ ‬أَيا‭ ‬صَـاحـبِـــي

‭ ‬ففي‭ ‬بوْحك‭ ‬الْحسْنُ‭ ‬والأَلقُ

فـكَـمْ‭ ‬ذَا‭ ‬يُعـطِّــرُ‭ ‬قـافِـيــتـــــي

كَمـا‭ ‬الَّروْض،‭ ‬أَزهـارهُ‭ ‬تعْبقُ

 

ـــ‭ ‬بوخاتم‭ ‬حمداني‭:‬

وكمْ‭ ‬في‭ ‬الْجمال‭ ‬وكمْ‭ ‬في‭ ‬الْخيال

‭ ‬مرَاكِبُ‭ ‬ترْسُــو‭ ‬وقـدْ‭ ‬تغْـرقُ

علَى‭ ‬ضفَّة‭ ‬الْعمْر‭ ‬كنَّا‭ ‬سكــارى

وكَانتْ‭ ‬بِزَهْـو‭ ‬لنَـا‭ ‬تعْشــــــقُ

أَيا‭ ‬صاحِبَـيَّ‭ ‬اْسْتقَـالَ‭ ‬الْجمـال‭ ‬

وهَاجَــر‭ ‬نَحْــوَ‭ ‬الَّتي‭ ‬تخْلــــقُ

أَيا‭ ‬صاحبـيَّ‭ ‬تفــاعــلْتُـمَـــا

وهـــذي‭ ‬قَصَــائِـدُنَا‭ ‬تَنْطِـــــقُ

 

ـــ‭ ‬أحسن‭ ‬شيبان‭:‬

أَجادَ‭ ‬الثَّلاثَةُ‭ ‬عزْفَ‭ ‬الْجمَــال

فأَضْحَـى‭ ‬الْقصـيدُ،‭ ‬هـُوَ‭ ‬الرَّوْنَـــقُ

ومثْـلي‭ ‬سجـينٌ‭ ‬وما‭ ‬فكّــه

من‭ ‬الْهجْـر‭ ‬إلَّا‭ ‬السَّما‭ ‬تعنــــق

ورفْقة‭ ‬صفْو‭ ‬بشاطئ‭ ‬بحْــر

‭ ‬وشيء‭ ‬من‭ ‬الشِّعْر‭ ‬قدْ‭ ‬يعْبــقُ

وخطْوِ‭ ‬علَى‭ ‬الرَّمْل‭ ‬لكنْ‭ ‬يدوم

فلا‭ ‬الْموْجُ‭ ‬ينسَى‭ ‬ولا‭ ‬المشْرقُ

 

ـــ‭ ‬بوخاتم‭ ‬حمداني‭:‬

أيَا‭ ‬جامـــعَ‭ ‬الشُّعــــراءِ‭ ‬تلطَّفْ

بنـَـا،‭ ‬وانْتظرْ‭ ‬خيْلَـنا‭ ‬تشْهَـقُ

حصَانُكَ‭ ‬برْقٌ‭ ‬بغَــيْــرِ‭ ‬لجـــامٍ

‭ ‬فرفقًا‭ ‬بنا،‭ ‬فالعـــدى‭ ‬ترْمُـقُ

أيا‭ ‬صاحِبِي‭ ‬أَنْتَ‭ ‬شهْمٌ‭ ‬أنيــقٌ‭ ‬

أَتيتَ‭ ‬بشعْرٍ‭ ‬سَنًـا‭ ‬يشْــرِقُ

فكـانتْ‭ ‬شمــوعًا‭ ‬قصَائِـدُنــا

وكنَّا‭ ‬على‭ ‬البَـوْحِ‭ ‬نحْتَـــرقُ

ــ‭ ‬جمعة‭ ‬السعيد‭:‬

علَى‭ ‬مشْهَدِ‭ ‬الشَّعْرِ‭ ‬كنَّا‭ ‬الْتقيْنَا

ومِنْ‭ ‬مُنتَهَـــاهُ،‭ ‬سنفْتَــرقُ

فطُوبَى‭ ‬لكُمْ،‭ ‬ما‭ ‬شَدوْتُمْ‭ ‬بِشِعْر

ترانِيمُـــهُ‭ ‬بالنَّـدى‭ ‬تهْـــرِقُ

فهدْهدَنا‭ ‬‮«‬رَابِـــحٌ‮»‬‭ ‬في‭ ‬انْتشَاءٍ

وراحَ‭ ‬‮«‬أَبُـو‭ ‬خَاتـمٍ‮»‬‭ ‬يَنْـمُـقُ

وَ‮«‬شيْبانُ‮»‬‭ ‬عانَقَنَا‭ ‬بقصِيدٍ

‭ ‬تَبَاهَى‭ ‬بِهِ‭ ‬الْحِـبْـرُ‭ ‬والْـــوَرَقُ

 

هذا‭ ‬السجال‭ ‬شهد‭ ‬حضور‭ ‬أربعة‭ ‬شعراء‭ ‬‮«‬جمعة‭ ‬السعيد،‭ ‬رابح‭ ‬بلطرش،‭ ‬بوخاتم‭ ‬حمداني،‭ ‬أحسن‭ ‬شيبان‮»‬،‭ ‬افتتح‭ ‬المعارضة‭ ‬الشاعر‭ ‬جمعة‭ ‬السعيد‭ ‬بقوله‭:‬

أمامكِ‭ ‬هذا‭ ‬الْفضَاء‭ ‬البهـيّ‭ ‬

‭ ‬ومِنْ‭ ‬خلْـفكِ‭ ‬الْمـوْج‭ ‬والزَّوْرقُ

هُنَا‭ ‬الْبحْـر‭ ‬ساحلُـهُ‭ ‬قامَــــةٌ

‭ ‬يُـــزَيِّـنُــهَـا‭ ‬لــوْنُــــــهُ‭ ‬الأَزْرقُ

تَهِيمِيـن‭ ‬سحْرًا‭ ‬علَى‭ ‬رمْلِـهِ

كَمَا‭ ‬نخْلَــة‭ ‬للْمـدَى‭ ‬تَبْسـقُ

تمُـدُّ‭ ‬عـراجينَـهَـا‭ ‬نحْـــوَهُ

‭ ‬وبيْـن‭ ‬جــوَانحــه‭ ‬تخْــفـــقُ

 

بين‭ ‬البحر‭ ‬ورمله‭ ‬وساحله‭ ‬والصحراء‭ ‬ونخيلها‭ ‬تكتمل‭ ‬الصورة،‭ ‬لأن‭ ‬أيقونة‭ ‬الاستفزاز‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحدود،‭ ‬وعليه‭ ‬يرسم‭ ‬الشاعر‭ ‬هذا‭ ‬التجاوب‭ ‬اللامنتهي،‭ ‬حيث‭ ‬وظف‭ ‬الإيقاع‭ ‬المستمد‭ ‬من‭ ‬الفضاء‭ ‬الأزرق‭ ‬للبحر‭ ‬وفضاء‭ ‬الصحراء،‭ ‬كلاهما‭ ‬يتكئ‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬في‭ ‬مخيلة‭ ‬المبدع‭ ‬والقارئ‭ ‬للنص،‭ ‬والمتتبع‭ ‬للأبيات‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬سلاسة‭ ‬اللفظ‭ ‬ووضوح‭ ‬الصورة‭ ‬الفنية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬عناء‭ ‬يؤسس‭ ‬لتفاعل‭ ‬منتج‭ ‬للفكرة‭ ‬صارم‭ ‬الملامح‭ ‬حي‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬المشهد‭.‬

ردّ‭ ‬الشاعر‭ ‬رابح‭ ‬بلطرش‭:‬

وأَبْدَعْتَ‭ ‬في‭ ‬وَصْفِهَا‭ ‬سيِّدي

فمِنْ‭ ‬حُسْنهَا‭ ‬الْموْجُ‭ ‬قدْ‭ ‬يغْـرِقُ

فإِنْ‭ ‬غطسَتْ‭ ‬فشِفاف‭ ‬الْجمال‭ ‬

يغــــازلُهَا،‭ ‬بــالـنَّدى‭ ‬يشْــــرِقُ

وإِنْ‭ ‬جلَسَتْ‭ ‬فضفاف‭ ‬الْخلِيج

تـــذوبُ‭ ‬حـنــــيــــــنا‭ ‬وتنْـــــدَفِــــــقُ

طيورُ‭ ‬النَّوارِسِ‭ ‬جاءتْ‭ ‬تحوم

لعلَّــها‭ ‬منْ‭ ‬حُسْـنهَا‭ ‬تسْـــرقُ

 

‭ ‬الأبيات‭ ‬تتبع‭ ‬قانون‭ ‬النّص‭ ‬الحاضر‭ ‬واستمراره‭ ‬وهو‭ ‬محاكاة‭ ‬وتصوير،‭ ‬وتتلخّص‭ ‬الفكرة‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬التفاعلية‭ ‬وفق‭ ‬قانون‭ ‬الامتصاص‭ ‬وقبول‭ ‬للنص‭ ‬الغائب‭ ‬الذي‭ ‬سبقه،‭ ‬لكنه‭ ‬حاضر‭ ‬باستمرار،‭ ‬وإعادة‭ ‬كتابته‭ ‬بطريقة‭ ‬لا‭ ‬تمسّ‭ ‬جوهره،‭ ‬وينطلق‭ ‬الردّ‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬قناعة‭ ‬راسخة،‭ ‬وهي‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للرفض،‭ ‬ويعني‭ ‬هذا‭ ‬دعم‭ ‬النص‭ ‬السابق‭ ‬والدفاع‭ ‬عنه‭ ‬وتحقيق‭ ‬سيرورته‭ ‬التفاعلية‭ ‬والتاريخية‭ ‬لسياق‭ ‬اللحظة‭ ‬وفق‭ ‬قانون‭ ‬الحوار‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اعتراض،‭ ‬فيبرز‭ ‬الشاعر‭ ‬رابح‭ ‬بلطرش‭ ‬هنا‭ ‬قدرة‭ ‬فائقة‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬نص‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬غالباً‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬بنية‭ ‬النص‭ ‬السابق،‭ ‬بل‭ ‬نجده‭ ‬يعيد‭ ‬بناءه‭ ‬مضيفاً‭ ‬للنص‭ ‬القديم‭ ‬حياة‭ ‬جديدة‭ ‬وفق‭ ‬حالة‭ ‬شعورية‭ ‬واحدة‭ ‬منتجة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الجدة‭ ‬والتشابه‭. ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬بعث‭ ‬الصورة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬الوصف‭ ‬وروعة‭ ‬إنتاج‭ ‬صورة،‭ ‬فكانت‭ ‬الروعة‭ ‬على‭ ‬الروعة‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬مقابلة‭ ‬تفاعلية‭ ‬حية‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬بلطرش‭ ‬أكثر‭ ‬إثارة‭ ‬وفق‭ ‬مخيلة‭ ‬إبداعية‭ ‬حاضرة‭ ‬بكل‭ ‬قوة‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬فإن‭ ‬غطسَتْ‭ ‬فشفافُ‭ ‬الجمالْ‭ ‬يُغَــازلُهـَا،‭ ‬بالندى‭ ‬يشْـــــرقُ‭/ ‬وإن‭ ‬جلستْ‭ ‬فَضفافُ‭ ‬الخليــج‭ ‬تذوب‭ - ‬حنينًــا‭ - ‬وتندفِــقُ‮»‬،‭ ‬هنا‭ ‬يبرز‭ ‬النظام‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬النظام‭ ‬المعرفي‭ ‬البياني‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬بناء‭ ‬وإنشاء‭ ‬شيء‭ ‬جديد‭,‬‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬لفظ‭ ‬ونص‭ ‬وصورة،‭ ‬كلها‭ ‬تعيد‭ ‬تأسيس‭ ‬أو‭ ‬تركيب‭ ‬صورة‭ ‬فنية‭ ‬جديدة‭. ‬

والمتتبع‭ ‬لهذه‭ ‬المعارضة‭ ‬يجد‭ ‬في‭ ‬أيقونة‭ ‬الردّ‭ ‬لدى‭ ‬الشاعر‭ ‬جمعة‭ ‬السعيد‭ ‬وعياً‭ ‬تفاعلياً‭ ‬منتجاً‭ ‬فيه‭ ‬قيمة‭ ‬أخلاقية‭ ‬وفنية‭ ‬في‭ ‬قوله‭: ‬

علَى‭ ‬شاطئ‭ ‬الْبوْح‭ ‬شِعْرًا‭ ‬عزفْنا

بلَحْــن‭ ‬الْقوافـي‭ ‬سينْطلـقُ

فكانتْ،‭ ‬وكُنْتَ،‭ ‬وكنَّـا‭ ‬جميعًا

وكان‭ ‬الْقصـيـدُ‭ ‬هـوَ‭ ‬الأَصْدَقُ

فبـورِكَ‭ ‬فيـكَ‭ ‬أَيا‭ ‬صَـاحـبِـــي

ففي‭ ‬بوْحك‭ ‬الْحسْنُ‭ ‬والأَلقُ

فـــكَـمْ‭ ‬ذَا‭ ‬يـُعـــطِّـرُ‭ ‬قـــــافِـيــتـــــي

كَمـا‭ ‬الَّروْض،‭ ‬أَزهـارهُ‭ ‬تعْبقُ

 

احترام‭ ‬البوح‭ ‬وفق‭ ‬عقلانية‭ ‬سردية‭ ‬إيقاعها‭ ‬جمال‭ ‬على‭ ‬جمال،‭ ‬تقرأه‭ ‬بمتعة،‭ ‬لأنه‭ ‬إضافة‭ ‬لمنتج‭ ‬الفكرة‭ ‬وليس‭ ‬تكراراً،‭ ‬يمتعك‭ ‬ويجعلك‭ ‬في‭ ‬صحبة‭ ‬هذه‭ ‬الأيقونة‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬حرف‭ ‬فيها‭. ‬هذه‭ ‬المتعة‭ ‬قيمية‭ ‬لا‭ ‬تفصل‭ ‬ذاتها‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬الحياة‭ ‬والسلوك،‭ ‬بحكم‭ ‬الوضوح‭ ‬وعدم‭ ‬الإيغال‭ ‬في‭ ‬الرمزية،‭ ‬يدرك‭ ‬معانيها‭ ‬المتلقي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬عناء‭ ‬أو‭ ‬تنفير،‭ ‬بل‭ ‬يضرب‭ ‬للعقل‭ ‬موعداً‭ ‬آخر‭ ‬لاطلاع‭ ‬جديد‭.‬

 

ردّ‭ ‬الشاعر‭ ‬بوخاتم‭ ‬حمداني‭:‬

وكمْ‭ ‬في‭ ‬الْجمال‭ ‬وكمْ‭ ‬في‭ ‬الْخيال

مرَاكِبُ‭ ‬ترْسُــو‭ ‬وقـدْ‭ ‬تغْـرقُ

علَى‭ ‬ضفَّة‭ ‬الْعمْر‭ ‬كنَّا‭ ‬سكــارى

وكَانتْ‭ ‬بِزَهْـو‭ ‬لنَـا‭ ‬تعْشــــــقُ

أَيا‭ ‬صاحِبَـيَّ‭ ‬اْسْتقَـالَ‭ ‬الْجمـال‭ ‬

وهَاجَــر‭ ‬نَحْــوَ‭ ‬الَّتي‭ ‬تخْلــــقُ

أَيا‭ ‬صاحبـيَّ‭ ‬تفــاعــلْتُـمَـــا

‭ ‬وهـــذي‭ ‬قَصَــائِـدُنَا‭ ‬تَنْطِـــــقُ

 

حضور‭ ‬الشاعر‭ ‬بوخاتم‭ ‬كـــان‭ ‬تعليقاً‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬كما‭ ‬ألاحظه‭ ‬هنا،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬حضوراً‭ ‬بمعنى‭ ‬تعليق‭ ‬تفاعلي،‭ ‬رصد‭ ‬الجمــال‭ ‬وروح‭ ‬الخيال‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الأعمار،‭ ‬لأن‭ ‬الموقف‭ ‬الذي‭ ‬أمامه‭ ‬رسم‭ ‬له‭ ‬صورة‭ ‬استفـــزت‭ ‬روح‭ ‬الشعر‭ ‬لديه‭ ‬

فكتب‭ ‬عـــشقاً‭ ‬وزهـــوا‭ ‬وذاكــــرة‭ ‬لمراكب‭ ‬الجمال،‭ ‬يراها‭ ‬غرقت‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬كما‭ ‬كانـــت،‭ ‬سلطة‭ ‬الماضي‭ ‬جعلت‭ ‬بوحـــه‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الحزن‭ ‬والشجن‭ ‬على‭ ‬حال‭ ‬تمرد‭ ‬وغرق‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬كينونة‭ ‬الجماليات‭ ‬‮«‬أيا‭ ‬صاحبي‭ ‬استقال‭ ‬الجمال‮»‬،‭ ‬خطاب‭ ‬تمركز‭ ‬الذات‭ ‬أقوى‭ ‬وهي‭ ‬منطلق‭ ‬لكل‭ ‬فن،‭ ‬بدل‭ ‬سلطة‭ ‬المجتمع‭ ‬المؤسساتي،‭ ‬ويواصل‭ ‬ليختم‭ ‬بوحه‭ ‬بقوله‭: ‬

أَيـــا‭ ‬صـــــاحبـيَّ‭ ‬تفــاعــلــــْتُـمَـــا

وهـــذي‭ ‬قَصَــائِـدُنَا‭ ‬تَنْطِـــــقُ

تفاعل‭ ‬وتمركز‭ ‬للمساجلة‭ ‬رغم‭ ‬منطلق‭ ‬التعليق‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬مسار‭ ‬الأبيات‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬العملية‭ ‬الفكرية‭ ‬والتجاوب‭ ‬الجمالي،‭ ‬فكان‭ ‬البياض‭ ‬كتابة‭ ‬جديدة‭ ‬لشاعر‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬صاحبيه‭ ‬أريج‭ ‬استنطاق‭ ‬زاوية‭ ‬يراها‭ ‬ضرورية‭ ‬فــــي‭ ‬هـذا‭ ‬الألق‭ ‬والسجال‭. ‬ولكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الحوار‭ ‬الشعري‭ ‬اتسع‭ ‬بوحه‭ ‬بروح‭ ‬تدهشك،‭ ‬فتذهب‭ ‬مع‭ ‬الحروف‭ ‬لتبنيها‭ ‬بأسوار‭ ‬الخيال‭ ‬المشرق،‭ ‬فيقول‭ ‬الشاعر‭ ‬أحسن‭ ‬شيبان‭:‬

أَجادَ‭ ‬الثَّلاثَةُ‭ ‬عزْفَ‭ ‬الْجمَــال

فأَضْحَـى‭ ‬الْقصـيدُ،‭ ‬هـُوَ‭ ‬الرَّوْنَـــقُ

ومثْـلي‭ ‬سجـينٌ‭ ‬وما‭ ‬فكّــه

من‭ ‬الْهجْـر‭ ‬إلَّا‭ ‬السَّما‭ ‬تعنــــق

ورفْقة‭ ‬صفْو‭ ‬بشاطئ‭ ‬بحْــر

وشيء‭ ‬من‭ ‬الشِّعْر‭ ‬قدْ‭ ‬يعْبــقُ

وخطْوِ‭ ‬علَى‭ ‬الرَّمْل‭ ‬لكنْ‭ ‬يدوم

فلا‭ ‬الْموْجُ‭ ‬ينسَى‭ ‬ولا‭ ‬المشْرقُ

 

‭ ‬رسم‭ ‬ببياض‭ ‬الورقة‭ ‬حياة‭ ‬أخرى‭ ‬التحق‭ ‬بهم‭ ‬وشده‭ ‬الموقف‭/ ‬يدهشك‭/ ‬في‭ ‬عزف‭ ‬الجمال‭ ‬بإشادته‭ ‬لمن‭ ‬رسموا‭ ‬الجمال‭ ‬لوحة‭ ‬ناطقة‭ ‬تكاد‭ ‬تلمسها‭ ‬من‭ ‬الحسن،‭ ‬فجعل‭ ‬من‭ ‬الخطى‭ ‬على‭ ‬الرمل‭ ‬أثراً‭ ‬لا‭ ‬يزول،‭ ‬والموج‭ ‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬حالة‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الرمل‭ ‬والموج‭ ‬متجددة‭ ‬تُذهبُ‭ ‬هذا‭ ‬وتأتي‭ ‬بذاك‭. ‬

خيال‭ ‬خصب‭ ‬وروعة‭ ‬تحدٍّ‭ ‬تضعنا‭ ‬أمام‭ ‬مشهد‭ ‬لا‭ ‬يتكرر‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬الشعري،‭ ‬فيه‭ ‬رمزية‭ ‬ممتعة‭ ‬غير‭ ‬مقلقة‭ ‬وبيان‭ ‬فكرة‭ ‬تقرب‭ ‬الخيال‭ ‬من‭ ‬الواقع‭.‬‭ ‬بصمته‭ ‬تعكس‭ ‬قيمة‭ ‬إبداعية‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬توقع‭ ‬بياضاً‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬واجهة‭ ‬السرد‭ ‬الشعري‭ ‬يشرقُ‭.‬

المتابعة‭ ‬تأخذنا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬مع‭ ‬الشاعر‭ ‬بوخاتم‭ ‬في‭ ‬رده‭:‬

أيَا‭ ‬جامـــعَ‭ ‬الشُّعــــراءِ‭ ‬تلطَّفْ‭ ‬بنـَـا

وانْتظرْ‭ ‬خيْلَـنا‭ ‬تشْهَـقُ

حصَانُكَ‭ ‬برْقٌ‭ ‬بغَــيْــرِ‭ ‬لجـــامٍ

فرفقًا‭ ‬بنا،‭ ‬فالعـــدى‭ ‬ترْمُـقُ

أيا‭ ‬صاحِبِي‭ ‬أَنْتَ‭ ‬شهْمٌ‭ ‬أنيــقٌ‭ ‬

أَتيتَ‭ ‬بشعْرٍ‭ ‬سَنًـا‭ ‬يشْــرِقُ

فكـانتْ‭ ‬شمــوعًا‭ ‬قصَائِـدُنــا

وكنَّا‭ ‬على‭ ‬البَـوْحِ‭ ‬نحْتَـــرقُ

يعود‭ ‬شاعرنا‭ ‬للتعليق‭ ‬التفاعلي‭ ‬الذي‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬رصده‭ ‬ومتابعته‭ ‬لمجريات‭ ‬السجال،‭ ‬فكان‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬شبه‭ ‬الشاعر‭ ‬السعيد‭ ‬بالحصان‭ ‬البرق‭ ‬يمر‭ ‬سريعاً‭ ‬لا‭ ‬لجام‭ ‬لـــه،‭ ‬طابــــع‭ ‬الحياة‭ ‬ومرور‭ ‬إيقاعاتها‭ ‬المتواصلة‭ ‬والمستمرة‭ ‬وفق‭ ‬وتيرة‭ ‬زمنية‭ ‬متلاحقة‭ ‬لا‭ ‬تنتظر،‭ ‬الآن‭ ‬فيها‭ ‬والحين‭ ‬لا‭ ‬توقيت‭ ‬لهما‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الذاكرة‭ ‬المراقبة‭ ‬لواقعها‭ ‬وتفاصيل‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬بوح‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬احتراق‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬نعيشها،‭ ‬لا‭ ‬يرغب‭ ‬شاعرنا‭ ‬في‭ ‬تجاوزها‭ ‬أو‭ ‬القفز‭ ‬عليها،‭ ‬بل‭ ‬يقف‭ ‬معلقاً‭ ‬معاتباً‭ ‬الزمن‭ ‬والشاعر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الرحيل،‭ ‬بل‭ ‬الحل‭ ‬والترحال‭ ‬للبوح‭ ‬الجميل‭. ‬

إنها‭ ‬محاولة‭ ‬صادقة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الألم‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬نتشنج‭ ‬منه،‭ ‬وكأنها‭ ‬غيبوبة‭ ‬تتبع‭ ‬يقظة‭ ‬دائمة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬سرمدي‭ ‬لا‭ ‬حديث‭ ‬فيه‭ ‬لتفاصيل‭ ‬الزمن‭ ‬بل‭ ‬كله‭ ‬الآن،‭ ‬وهو‭ ‬يأخذنا‭ ‬لاكتشاف‭ ‬اللحظة‭ ‬العابرة‭.‬

وفي‭ ‬ختام‭ ‬هذه‭ ‬المساجلة‭ ‬كما‭ ‬بدأها‭ ‬رونقا‭ ‬ينهيها‭ ‬الشاعر‭ ‬جمعة‭ ‬السعيد‭ ‬أريجاً‭ ‬لقوله‭:‬

علَى‭ ‬مشْهَدِ‭ ‬الشَّعْرِ‭ ‬كنَّا‭ ‬الْتقيْنَا

ومِنْ‭ ‬مُنتَهَـــاهُ،‭ ‬سنفْتَــرقُ

فطُوبَى‭ ‬لكُمْ،‭ ‬ما‭ ‬شَدوْتُمْ‭ ‬بِشِعْر

ترانِيمُـــهُ‭ ‬بالنَّـدى‭ ‬تهْـــرِقُ

فهدْهدَنا‭ ‬‮«‬رَابِـــحٌ‮»‬‭ ‬في‭ ‬انْتشَاءٍ

وراحَ‭ ‬‮«‬أَبُـو‭ ‬خَاتـمٍ‮»‬‭ ‬يَنْـمُـقُ

وَ‮«‬شيْبانُ‮»‬‭ ‬عانَقَنَا‭ ‬بقصِيد

تَبَاهَى‭ ‬بِهِ‭ ‬الْحِـبْـرُ‭ ‬والْـــوَرَقُ

 

جمعهم‭ ‬شهدُ‭ ‬الشعر‭ ‬والقوافي،‭ ‬وعليهما‭ ‬افترقوا،‭ ‬كان‭ ‬الانتشاء‭ ‬والنمقُ‭ ‬والتباهي‭ ‬والرونق،‭ ‬وهنا‭ ‬أؤكد‭ ‬أن‭ ‬فن‭ ‬المساجلات‭ ‬الشعرية‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬مسرح‭ ‬الإبداع‭ ‬الشعري‭ ‬لدى‭ ‬فئة‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬امتلكوا‭ ‬الموهبة‭ ‬الجيدة،‭ ‬ولكنهم‭ ‬لم‭ ‬يُحسنوا‭ ‬استغلالها‭ ‬أو‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬بشكل‭ ‬جيد،‭ ‬فبعض‭ ‬أولئك‭ ‬الشعراء‭ ‬شغلهم‭ ‬عن‭ ‬الإبداع‭ ‬الحقيقي‭ ‬ميلهم‭ ‬الشديد‭ ‬إلى‭ ‬الاستعراض‭ ‬وادعاء‭ ‬التميز‭ ‬عن‭ ‬الشعراء‭ ‬الآخرين‭ ‬بوسائل‭ ‬شعرية‭ ‬عديدة‭ ‬خذلتهم‭ ‬وأسهمت‭ ‬في‭ ‬إضعاف‭ ‬مستوى‭ ‬قصائدهم‭. ‬

فنظم‭ ‬الشاعر‭ ‬لقصيدة‭ ‬مفرطـــة‭ ‬الطول‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الاستعراض‭ ‬الشعري‭ ‬العقــــيــم،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يُمكن‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬قصائد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع،‭ ‬أو‭ ‬نظم‭ ‬قوافي‭ ‬صعبة‭ ‬أو‭ ‬بحور‭ ‬شعــرية‭ ‬طويلة‭ ‬وغير‭ ‬مطروقة‭ ‬دون‭ ‬اهتمام‭ ‬بفكرة‭ ‬القصيدة‭ ‬أو‭ ‬بعناصرها‭ ‬الفنية،‭ ‬أضــــف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭ ‬المصنوعة‭ ‬التي‭ ‬يحشـــوها‭ ‬الشاعر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الكلمات‭ ‬المغرقة‭ ‬في‭ ‬الغموض‭ ‬أو‭ ‬بمعلومات‭ ‬علمية‭ ‬وثقــــافية‭ ‬كـــــنوع‭ ‬من‭ ‬الاستـــــعراض‭ ‬للثقافة‭ ‬وسعة‭ ‬المعرفة،‭ ‬قد‭ ‬يُعذر‭ ‬الـــشـــاعر‭ ‬المُبتدئ‭ ‬عندما‭ ‬ينظم‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المحاولة‭ ‬والتجريب‭ ‬لأساليب‭ ‬شـــعرية‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬ممارسة‭ ‬الكتابة‭ ‬عليها،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬لفت‭ ‬الأنظار‭ ‬لاستعراض‭ ‬قدراته‭ ‬ومهاراته‭ ‬الشعرية‭ ‬الوليدة،‭ ‬لكن‭ ‬المستغرب‭ ‬هو‭ ‬استمرار‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬على‭ ‬الإسراف‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬نماذج‭ ‬على‭ ‬المتلقين،‭ ‬وكأنها‭ ‬معجزات‭ ‬أدبية‭ ‬وإنجازات‭ ‬خارقة‭ ‬لا‭ ‬يتقنها‭ ‬إلا‭ ‬فحول‭ ‬الشعراء،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬معظمها‭ ‬لا‭ ‬يعدو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شكلاً‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬العبث‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يستفز‭ ‬المتلقي‭ ‬ولا‭ ‬يُحرك‭ ‬فيه‭ ‬تفاعلاً‭.‬

من‭ ‬الأساليب‭ ‬الشعرية‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬تقلص‭ ‬حجم‭ ‬اهتمام‭ ‬الشعراء‭ ‬بها،‭ ‬لاسيــــما‭ ‬شعراء‭ ‬الحداثة‭ ‬اليوم‭ ‬أسلوب‭ ‬المساجلات،‭ ‬فـــــفي‭ ‬الماضي‭ ‬القريب‭ ‬كانت‭ ‬المساجلات‭ ‬تستحوذ‭ ‬على‭ ‬نصيب‭ ‬وافر‭ ‬من‭ ‬اهتمام‭ ‬وتجربة‭ ‬الشاعر‭ ‬خلافاً‭ ‬لشعراء‭ ‬اليوم‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬قصــــائد‭ ‬مجاملات‭ ‬أو‭ ‬منظومات‭ ‬فارغة‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬فلم‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬حريصاً‭ ‬على‭ ‬توجيه‭ ‬أي‭ ‬قصيدة‭ ‬لغيره‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬التفـــاعل‭ ‬مع‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تصله‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬المساجلات‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬دورها‭ ‬الإيجابي‭ ‬على‭ ‬صقل‭ ‬موهبة‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬احتكاكه‭ ‬بشعراء‭ ‬تتفاوت‭ ‬قدراتهم‭ ‬وأساليبهم‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬القصيدة،‭ ‬فالمساجلات‭ ‬ميدان‭ ‬خصب‭ ‬للإبداع،‭ ‬فكان‭ ‬ارتفاع‭ ‬عدد‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬توجه‭ ‬للشاعر‭ ‬مؤشراً‭ ‬قوياً‭ ‬على‭ ‬ارتفاع‭ ‬وعلو‭ ‬مكانته‭ ‬الشعرية،‭ ‬كذلك‭ ‬كانت‭ ‬المساجلات‭ ‬ميداناً‭ ‬يتعلم‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬بعض‭ ‬الأدبيات‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يلتزم‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬الشعراء،‭ ‬وهي‭ ‬أدبيات‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬تطبيقها‭ ‬والتزامها‭ ‬إلا‭ ‬قِلة‭ ‬ممــــن‭ ‬يمتلكون‭ ‬الموهبة‭ ‬والثقة‭ ‬الكبيرة‭ ‬بقدراتهم‭ ‬الفنية‭ ‬واللغوية‭.‬

أخيراً،‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬تشهد‭ ‬ساحتنا‭ ‬الإبداعية‭ ‬الشعرية‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المعارضات‭ ‬المنتجة‭ ‬ذ‭ ‬أقول‭ ‬المنتجة‭ ‬للفكرة‭ ‬ذ‭ ‬لا‭ ‬التي‭ ‬تكرر‭ ‬بنيتها‭ ‬طبعاً،‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬لا‭ ‬ينجــــح‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬الشعراء،‭ ‬بل‭ ‬فئة‭ ‬نوعية‭ ‬نخبوية‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري‭ ‬الراهن‭ ‬تعيد‭ ‬لنا‭ ‬زمن‭ ‬الزهو‭ ‬والروعة‭ ‬والإبــداع‭ ‬الحقيقي‭ ‬للشعراء‭ ‬الذين‭ ‬أسسوا‭ ‬إبداعاً‭ ‬حقيقياً،‭ ‬وأرى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المعارضة‭ ‬التفاعلية‭ ‬شمعة‭ ‬تـــضيء‭ ‬دهاليز‭ ‬كهف‭ ‬العقلانية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬انبرت‭ ‬في‭ ‬راهنها‭ ‬حول‭ ‬منابـــــــــــر‭ ‬القراءات‭ ‬الشعرية،‭ ‬وغابت‭ ‬المتابعات‭ ‬والمعارضات‭ ‬والانتقـــــادات‭ ‬الجــــادة‭ ‬والموضوعية‭ ‬