بين الشيخ إردوش والشاب تاو كيف تتقدم الرياضيات؟

بين الشيخ إردوش والشاب تاو كيف تتقدم الرياضيات؟

العلوم‭ ‬بشتى‭ ‬فروعها‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬مستمر،‭ ‬وكل‭ ‬منها‭ ‬يتطور‭ ‬بطريقته‭ ‬ويتفاعل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬آليات‭ ‬يرسمها‭ ‬التقليد‭ ‬العلمي‭ ‬لهذا‭ ‬الاختصاص‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭. ‬والرياضيات‭ ‬هي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العلوم،‭ ‬ولعلمائها‭ ‬تقاليد‭ ‬وإبداعات‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والعلمي‭. ‬نقدم‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يلي‭ ‬عينة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬سلوك‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬رياضيي‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وعبقرية‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭.‬

تختلف‭ ‬سيرة‭ ‬الرياضي‭ ‬المجري‭ ‬الأصل‭ ‬بول‭ ‬إردوش‭ (‬1996‭-‬1913‭) ‬Paul‭ ‬Erdös‭ ‬عن‭ ‬سائر‭ ‬سير‭ ‬الرياضيين‭ ‬الآخرين‭. ‬فقد‭ ‬لُقب‭ ‬بـ‭ ‬املك‭ ‬ملوك‭ ‬طارحي‭ ‬المسائلب،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يتميز‭ ‬بطرح‭ ‬مسائل‭ ‬لا‭ ‬تستدعي‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬الأولية‭ ‬لفهمها،‭ ‬وغالباً‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬متناول‭ ‬تلاميذ‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭. ‬لكن‭ ‬حلولها‭ ‬ليست‭ ‬بسيطة،‭ ‬ولذلك‭ ‬يحاول‭ ‬حلها‭ ‬كبار‭ ‬الرياضيين‭. ‬فمنها‭ ‬ما‭ ‬يُعمّر‭ ‬سنوات،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يُعمّر‭ ‬عقوداً‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬أحدهم‭ ‬بالحل‭. ‬وما‭ ‬ميّز‭ ‬إردوش‭ ‬أيضا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يكافئ‭ ‬من‭ ‬يجد‭ ‬حلاً‭ ‬لإحدى‭ ‬مسائله،‭ ‬وفق‭ ‬درجة‭ ‬الصعوبة‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مسألة‭. ‬فمنها‭ ‬ما‭ ‬سعرها‭ ‬50‭ ‬دولاراً،‭ ‬ومنها‭ ‬100‭ ‬دولار،‭ ‬ومنها‭ ‬500‭ ‬دولار‭.‬

كما‭ ‬تميّز‭ ‬إردوش‭ ‬بكونه‭ ‬اابن‭ ‬بطوطة‭ ‬زمانهب،‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬تعدد‭ ‬ترحاله،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يتزوج‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬له‭ ‬وظيفة‭. ‬وكان‭ ‬يقضي‭ ‬وقته‭ ‬متنقلاً‭ ‬بين‭ ‬الجامعات‭ ‬عبر‭ ‬العالم‭ ‬ينشر‭ ‬المعارف‭ ‬العلمية‭. ‬ويُذكر‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يقضي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬10‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬وقته‭ ‬في‭ ‬بيته،‭ ‬ولذلك‭ ‬بلغ‭ ‬إنتاجه‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الرياضيات‭ ‬1500‭ ‬بحث،‭ ‬وهو‭ ‬رقم‭ ‬قياسي‭ ‬لم‭ ‬يبلغه‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬العلماء‭. ‬

ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تميّز‭ ‬بالاشتراك‭ ‬مع‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬المقالات،‭ ‬وهكذا‭ ‬بلغ‭ ‬عدد‭ ‬الذين‭ ‬شاركوه‭ ‬النشر‭ ‬ووضعوا‭ ‬أسماءهم‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬اسمه‭ ‬في‭ ‬المقالات‭ ‬المنشورة‭ ‬رقماً‭ ‬قياسياً‭ ‬آخر،‭ ‬وهو‭ ‬500‭ ‬باحث‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭. ‬والطريف‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬أن‭ ‬اسمه‭ ‬اقترن‭ ‬بأرقام‭ ‬تحدد‭ ‬علاقة‭ ‬كل‭ ‬باحث‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭ ‬بإردوش‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تراتبية‭ ‬النشر،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬أحدهم‭ ‬قد‭ ‬نشر‭ ‬مثلاً‭ ‬مع‭ ‬إردوش‭ ‬فسيحمل‭ ‬الرقم‭ ‬1،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الباحث‭ (‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬مع‭ ‬إردوش‭) ‬قد‭ ‬نشر‭ ‬أيضاً‭ ‬مع‭ ‬باحث‭ ‬ثان‭ ‬مقالاً‭ ‬ما،‭ ‬فهذا‭ ‬الأخير‭ ‬سيحمل‭ ‬الرقم‭ ‬2،‭ ‬وهكذا‭ ‬دواليك‭. ‬

ونشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬النتائج‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬الأعداد،‭ ‬تلك‭ ‬المتعلقة‭ ‬بمواقع‭ ‬الأعداد‭ ‬الأولية‭ (‬أي‭ ‬الأعداد‭ ‬الطبيعية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقسم‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬عدد‭ ‬سوى‭ ‬1‭ ‬أو‭ ‬العدد‭ ‬نفسه‭ ‬مثل‭ ‬2‭ ‬و3‭ ‬و7‭ ‬و19‭...)‬،‭ ‬وتوزيعها‭ ‬بين‭ ‬الأعداد‭ ‬الأخرى،‭ ‬وهي‭ ‬مسألة‭ ‬مازالت‭ ‬مطروحة‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬من‭ ‬جملة‭ ‬اهتمامات‭ ‬إردوش،‭ ‬ومن‭ ‬المعلوم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مخمنة‭ ‬
‭(‬أي‭ ‬تخمين‭ ‬رياضي‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬إثباته‭) ‬
أُعلن‭ ‬عنها‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬تقول‭: ‬عندما‭ ‬يكبر‭ ‬العدد‭ ‬الطبيعي‭ (‬ن‭) ‬فإن‭ ‬عدد‭ ‬الأعداد‭ ‬الأولية‭ ‬الأصغر‭ ‬من‭ (‬ن‭) ‬يقارب‭ ‬نسبة‭ (‬ن‭) ‬
على‭ ‬لوغاريتم‭ (‬ن‭). ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المخمنة‭ ‬لم‭ ‬تثبت‭ ‬إلا‭ ‬
عام‭ ‬1896‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬الفرنسي‭ ‬جاك‭ ‬هادامار‭ ‬‭ (‬1963‭-‬1865‭) ‬Hadamard‭ ‬‭ ‬والبلجيكي‭ ‬دي‭ ‬فالي‭ ‬بوسان‭ ‬‭ .(‬1962‭-‬1866‭) ‬De‭ ‬Vallée‭ ‬Poussin‭ ‬

واللافت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬أن‭ ‬إردوش‭ ‬اكتشف‭ ‬بمعية‭ ‬النرويجي‭ ‬آتل‭ ‬سيلبرغ
‭(‬1917‭-‬2007‭) ‬Selberg‭ ‬عام‭ ‬1949‭ ‬برهانا‭ ‬يتسم‭ ‬بالبساطة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المخمنة‭. ‬لكن‭ ‬سيلبرغ‭ ‬سارع‭ ‬إلى‭ ‬نشر‭ ‬هذا‭ ‬البرهان‭ ‬على‭ ‬انفراد‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إذن‭ ‬من‭ ‬إردوش،‭ ‬فنال‭ ‬بفضله‭ ‬ميدالية‭ ‬فيلدز‭ (‬أعلى‭ ‬وسام‭ ‬في‭ ‬الرياضيات،‭ ‬يعادل‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭) ‬عام‭ ‬1950‭. ‬ولم‭ ‬ينزعج‭ ‬إردوش‭ ‬ذ‭ ‬المعروف‭ ‬بسخائه‭ ‬وتسامحه‭ - ‬من‭ ‬تصرف‭ ‬زميله‭. ‬وذلك‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬المسائل‭ ‬الذي‭ ‬اهتم‭ ‬به‭ ‬بول‭ ‬إردوش‭ : ‬المسائل‭ ‬البسيطة‭ ‬الطرح‭ ‬العويصة‭ ‬الحل‭.‬

وقد‭ ‬توفي‭ ‬إردوش‭ ‬في‭ ‬وارسو،‭ ‬عاصمة‭ ‬بولندا،‭ ‬يوم‭ ‬20‭ ‬سبتمبر‭ ‬عام‭ ‬1996‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬دولي‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭.‬

 

تاو‭ ‬يتألق‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬المسائل

ولد‭ ‬تيرنس‭ ‬تاو‭ ‬عام‭ ‬1975،‭ ‬وعائلته‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬صيني،‭ ‬رحلت‭ ‬من‭ ‬هونج‭ ‬كونج‭ ‬إلى‭ ‬أستراليا‭. ‬كان‭ ‬والده‭ ‬طبيب‭ ‬أطفال‭ ‬وأمه‭ ‬مدرّسة‭ ‬رياضيات‭ ‬في‭ ‬هونج‭ ‬كونج‭. ‬كان‭ ‬منذ‭ ‬نعومة‭ ‬أظفاره‭ ‬طفلاً‭ ‬موهوباً‭ ‬وظهر‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يشرح‭ ‬العمليات‭ ‬الحسابية‭ ‬لأطفال‭ ‬كانوا‭ ‬يتجاوزونه‭ ‬سنًا‭. ‬ولما‭ ‬بلغ‭ ‬التاسعة‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬كان‭ ‬يحضُر‭ ‬دروساً‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭ ‬بالجامعة‭. ‬

ومن‭ ‬أصعب‭ ‬المنافسات‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الرياضيات‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بالمنافسات‭ ‬الأولمبية‭ ‬العالمية‭ ‬السنوية‭ ‬التي‭ ‬يشارك‭ ‬فيها‭ ‬تلاميذ‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ (‬دون‭ ‬المستوى‭ ‬الجامعي‭). ‬وقد‭ ‬برع‭ ‬تيرنس‭ ‬تاو‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنافسات‭ ‬التي‭ ‬شارك‭ ‬فيها‭ ‬3‭ ‬مرات‭ ‬متتالية‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬1986‭ ‬و1987‭ ‬و1988،‭ ‬وهي‭ ‬حالة‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها‭. ‬كان‭ ‬تاو‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنافسات‭ ‬ولم‭ ‬يتجاوز‭ ‬عمره‭ ‬10‭ ‬سنوات‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬نال‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنافسات‭ ‬كل‭ ‬الميداليات،‭ ‬من‭ ‬البرونزية‭ ‬إلى‭ ‬الذهبية‭.‬

حصل‭ ‬تاو‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬الماستر‭ ‬في‭ ‬أستراليا‭ ‬وعمره‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬17‭ ‬سنة‭. ‬ثم‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬منحة‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬برينستون‭ ‬Princton‭ ‬الأمريكية‭ ‬الشهيرة،‭ ‬فأحرز‭ ‬هناك‭ ‬شهادة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬وكان‭ ‬عمره‭ ‬20‭ ‬سنة‭. ‬ونظراً‭ ‬لتفوقه‭ ‬الباهر‭ ‬عُيّن‭ ‬مدرساً‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬ورُقي‭ ‬إلى‭ ‬رتبة‭ ‬أستاذ‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬كاليفورنيا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بسنة‭ ‬واحدة‭. ‬وهي‭ ‬سابقة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الجامعات،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬ينل‭ ‬هذه‭ ‬المرتبة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السن‭ ‬أحد‭ ‬قبله‭. ‬

ومعلوم‭ ‬أن‭ ‬أرقى‭ ‬جائزة‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭ ‬تسمى‭ ‬ميدالية‭ ‬فيلدز،‭ ‬كما‭ ‬أسلفنا،‭ ‬وتمنح‭ ‬مرة‭ ‬كل‭ ‬4‭ ‬سنوات‭ ‬لأبرز‭ ‬الرياضيين‭. ‬ومن‭ ‬حظ‭ ‬تاو‭ ‬أنه‭ ‬فاز‭ ‬بها‭ ‬عام‭ ‬2006،‭ ‬وعمره‭ ‬31‭ ‬سنة،‭ ‬سلمها‭ ‬له‭ ‬ملك‭ ‬إسبانيا‭ ‬حين‭ ‬انعقد‭ ‬في‭ ‬مدريد‭ ‬المؤتمر‭ ‬العالمي‭ ‬للرياضيات‭. ‬وتوالت‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬الاستحقاقات‭ ‬والتشريفات،‭ ‬فصار‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬أكاديميات‭ ‬علمية‭ ‬عالمية‭ ‬عدة،‭ ‬كما‭ ‬نال‭ ‬جوائز‭ ‬عديدة،‭ ‬منها‭ ‬جائزة‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬عام‭ ‬2010‭.‬

تميّز‭ ‬تاو‭ ‬بكونه‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬رياضية‭ ‬وعلمية‭ ‬عدة،‭ ‬وهو‭ ‬يتقن‭ ‬كيفية‭ ‬الربط‭ ‬بينها‭ ‬بطرق‭ ‬عجيبة،‭ ‬فيستعمل‭ ‬النتائج‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفرع‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬لإثبات‭ ‬نتائج‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬فروع‭ ‬أخرى‭ ‬لم‭ ‬تخطر‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭. ‬وهكذا،‭ ‬برهن‭ ‬مثلا‭ ‬عام‭ ‬1999‭ ‬على‭ ‬مخمنة‭ ‬معقدة‭ ‬ظهرت‭ ‬عام‭ ‬1962،‭ ‬تسمى‭ ‬امخمنة‭ ‬التشبعب،‭ ‬كما‭ ‬أثبت‭ ‬مخمنات‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬القبيل‭ ‬نفسه‭. 

يقول‭ ‬عنه‭ ‬الرياضي‭ ‬البريطاني‭ ‬اللامع،‭ ‬الأستاذ‭ ‬بجامعة‭ ‬كمبريدج‭ ‬ولْيَم‭ ‬تيموثي‭ ‬غورس‭ ‬William‭ ‬Timothy‭ ‬Gowers‭ ‬الذي‭ ‬نال‭ ‬بدوره‭ ‬ميدالية‭ ‬فيلدز‭ ‬عام‭ ‬1998‭:‬

امعارف‭ ‬تاو‭ ‬الرياضية‭ ‬لديها‭ ‬مزيج‭ ‬خارق‭ ‬من‭ ‬الاتساع‭ ‬والعمق،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬تاو‭ ‬بثقة‭ ‬كاملة‭ ‬وبإبداع‭ ‬حول‭ ‬موضوعات‭ ‬مختلفة‭ ‬اختلافاً‭ ‬كبيراً،‭ ‬مثل‭ ‬المعادلات‭ ‬التفاضلية‭ ‬الجزئية،‭ ‬ونظرية‭ ‬الأعداد‭ ‬التحليلية،‭ ‬وهندسة‭ ‬المنوعات‭ ‬الثلاثية،‭ ‬والتحليل‭ ‬غير‭ ‬المعياري،‭ ‬ونظرية‭ ‬المجموعات،‭ ‬ونظرية‭ ‬النمذجة،‭ ‬وميكانيكا‭ ‬الكم،‭ ‬والاحتمالات،‭ ‬والنظرية‭ ‬الطاقيّة‭ ‬ergodic،‭ ‬والتحليل‭ ‬التوفيقي،‭ ‬والتحليل‭ ‬التوافقي،‭ ‬ومعالجة‭ ‬الصور،‭ ‬والتحليل‭ ‬الدالي،‭ ‬وغيرها‭ ‬الكثير‭. ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬قدم‭ ‬إسهامات‭ ‬جوهرية‭ ‬في‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفروع‭ ‬العلمية‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬الفروع‭ ‬الأخرى،‭ ‬فيبدو‭ ‬تاو‭ ‬مدركًا‭ ‬لها‭ ‬بعمق‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬شأن‭ ‬الخبراء،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يشتغل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقول‭ ‬بشكل‭ ‬رسمي‭. ‬كيف‭ ‬يقوم‭ ‬بكل‭ ‬ذلك،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬أبحاث‭ ‬وتأليف‭ ‬كتب‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مذهل؟‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يعتبر‭ ‬لغزاً‭ ‬قائماً‭. ‬لقد‭ ‬قيل‭ ‬إن‭ ‬هيلبرت
‭ (‬1943‭-‬1862‭) ‬Hilbert‭ ‬كان‭ ‬آخر‭ ‬شخص‭ ‬يلمّ‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الرياضيات؛‭ ‬ولكنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬إيجاد‭ ‬ثغرات‭ ‬في‭ ‬معارف‭ ‬تاو‭ ‬الرياضية،‭ ‬وإن‭ ‬وجدتم‭ ‬بعضاً‭ ‬منها،‭ ‬فتلك‭ ‬الفجوات‭ ‬ستكون‭ ‬في‭ ‬خبر‭ ‬كان‭ ‬بحلول‭ ‬العام‭ ‬التاليب‭.‬

 

‮«‬مسألة‭ ‬التفاوت‮»‬‭... ‬عَمّرت‭ ‬82‭ ‬سنة‭!‬

كان‭ ‬إردوش‭ ‬قد‭ ‬طرح‭ ‬مسألة،‭ ‬عرفت‭ ‬بـامسألة‭ ‬التفاوتب‭ ‬عام‭ ‬1632‭ ‬تتناول‭ ‬الأعداد‭ ‬الصحيحة،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬خواص‭ ‬تقدير‭ ‬المجموع‭ ‬عندما‭ ‬نجمع‭ ‬1‭ ‬و‭- ‬1‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬انقطاع‭ ‬بشكل‭ ‬عشوائي،‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضرورة‭ ‬التقيّد‭ ‬بخاصية‭ ‬تناوب‭ ‬العددين،‭ ‬مثال‭ ‬ذلك‭: ‬1‭+‬1‭+‬1‭-‬1‭-‬1‭+‬1‭+‬1‭-‬1 ‭+‬‭.‬

وكما‭ ‬أسلفنا،‭ ‬فمن‭ ‬عادة‭ ‬إردوش‭ ‬رصد‭ ‬مبلغ‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬يفوز‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬يحل‭ ‬مسائله‭ ‬كمكافأة‭ ‬على‭ ‬الاهتمام‭ ‬والجهد‭ ‬المبذول‭. ‬وهكذا‭ ‬خصص‭ ‬لهذه‭ ‬المسألة‭ ‬مبلغاً،‭ ‬يُقَدر‭ ‬
بـ‭ ‬500‭ ‬دولار،‭ ‬ولصعوبتها،‭ ‬وبحث‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬عديد‭ ‬المهتمين،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬جدوى،‭ ‬وظلت‭ ‬مطروحة‭ ‬طوال‭ ‬82‭ ‬سنة‭. ‬

غير‭ ‬أن‭ ‬تاو‭ ‬قدم‭ ‬بحثاً‭ ‬أولياً‭ ‬يوم‭ ‬17‭ ‬سبتمبر‭ ‬2015‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬حر‭ ‬مختص‭ ‬في‭ ‬الرياضيات،‭ ‬يزعم‭ ‬فيه‭ ‬أنه‭ ‬حل‭ ‬امسألة‭ ‬التفاوتب‭. ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬حتى‭ ‬تاريخ‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬التأكد‭ ‬من‭ ‬حل‭ ‬تاو،‭ ‬لكن‭ ‬هناك‭ ‬مؤشرات‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬الخبراء‭ ‬بآراء‭ ‬مطمئنة‭ ‬جداً‭. ‬وجدير‭ ‬بالذكر‭ ‬أن‭ ‬المسألة‭ ‬عرفت‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬المحاولات،‭ ‬بل‭ ‬الحملات‭ ‬لفك‭ ‬رموزها‭. ‬وآخر‭ ‬هذه‭ ‬الحملات‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬برزت‭ ‬عام‭ ‬2009‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬الرياضي‭ ‬غورس‭ ‬بمبادرة‭ ‬تقترح‭ ‬على‭ ‬الباحثين‭ ‬الاعتناء‭ ‬جماعياً‭ ‬بهذه‭ ‬المسألة‭ ‬للإتيان‭ ‬عليها‭ ‬والتشاور‭ ‬والتعاون‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭. ‬فشارك‭ ‬تاو‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجهد‭ ‬الجماعي،‭ ‬وقد‭ ‬سمح‭ ‬ذلك‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬بالبرهان‭ ‬على‭ ‬حالات‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬النظرية،‭ ‬واستعملوا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحواسيب‭.‬

وبدأت‭ ‬الجهود‭ ‬تعرف‭ ‬بعض‭ ‬الفتور،‭ ‬وفجأة‭ ‬نشر‭ ‬تاو‭ ‬بحثه‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬سبتمبر‭ ‬2015‭ ‬فأيقظ‭ ‬النائمين‭! ‬والطريف‭ ‬أن‭ ‬تاو‭ ‬كان‭ ‬منهمكاً‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حل‭ ‬مسألة‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بمسألة‭ ‬التفاوت‭. ‬ومن‭ ‬عادته‭ ‬أن‭ ‬يسجل‭ ‬في‭ ‬مدوّنته‭ ‬على‭ ‬شبكة‭ ‬الإنترنت‭ ‬أعماله‭ ‬الجارية‭ ‬ويعقّب‭ ‬عليها،‭ ‬كما‭ ‬يعقب‭ ‬عليها‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬القراء‭. ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬علّق‭ ‬أحدهم‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬تاو‭ ‬الخاص‭ ‬بالمسألة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشغله،‭ ‬مشيراً‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬عديمة‭ ‬الصلة‭ ‬بمسألة‭ ‬إردوش‭ (‬مسألة‭ ‬التفاوت‭. 

ولم‭ ‬يعر‭ ‬تاو‭ ‬لهذه‭ ‬الملاحظة‭ ‬اهتماماً‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأمر،‭ ‬معتبراً‭ ‬أن‭ ‬الربط‭ ‬الذي‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭ ‬المعلق‭ ‬كان‭ ‬سطحياً‭. ‬ثم‭ ‬لفتت‭ ‬تلك‭ ‬الملاحظة‭ ‬انتباهه‭ ‬مجدداً،‭ ‬وكانت‭ ‬نتيجة‭ ‬هذا‭ ‬الانتباه‭ ‬أنه‭ ‬اهتدى‭ ‬إلى‭ ‬حل‭ ‬امسألة‭ ‬التفاوتب،‭ ‬ثم‭ ‬نشره‭. ‬وقد‭ ‬روى‭ ‬تاو‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة‭ ‬في‭ ‬مقاله‭ ‬وشكر‭ ‬المعلق‭ - ‬وهو‭ ‬أستاذ‭ ‬للرياضيات‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬ألمانية‭ - ‬على‭ ‬ملاحظته‭ ‬القيمة‭ ‬التي‭ ‬مكنته‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحل‭.‬

هكذا‭ ‬يعمل‭ ‬تيرنس‭ ‬تاو،‭ ‬وكذلك‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬بول‭ ‬إردوش،‭ ‬وكلاهما‭ ‬أسهم‭ ‬ويسهم‭ ‬بطريقته‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬تقدم‭ ‬العلوم‭ ‬الرياضية‭. ‬ولولا‭ ‬هذين‭ ‬وأمثالهما‭ ‬لما‭ ‬عرف‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬هذه‭ ‬الوتيرة‭ ‬وهذه‭ ‬الإنجازات‭ .