بين الشيخ إردوش والشاب تاو كيف تتقدم الرياضيات؟

العلوم بشتى فروعها في تطور مستمر، وكل منها يتطور بطريقته ويتفاعل من خلال آليات يرسمها التقليد العلمي لهذا الاختصاص أو ذاك. والرياضيات هي واحدة من هذه العلوم، ولعلمائها تقاليد وإبداعات في التعامل الاجتماعي والعلمي. نقدم في ما يلي عينة من هذا القبيل تركز على سلوك أحد أبرز رياضيي القرن العشرين، وعبقرية آخر من القرن الحادي والعشرين.
تختلف سيرة الرياضي المجري الأصل بول إردوش (1996-1913) Paul Erdös عن سائر سير الرياضيين الآخرين. فقد لُقب بـ املك ملوك طارحي المسائلب، لأنه كان يتميز بطرح مسائل لا تستدعي كثيراً من المعارف الأولية لفهمها، وغالباً ما تكون في متناول تلاميذ المرحلة الثانوية. لكن حلولها ليست بسيطة، ولذلك يحاول حلها كبار الرياضيين. فمنها ما يُعمّر سنوات، ومنها ما يُعمّر عقوداً من الزمن قبل أن يأتي أحدهم بالحل. وما ميّز إردوش أيضا أنه كان يكافئ من يجد حلاً لإحدى مسائله، وفق درجة الصعوبة التي يراها في كل مسألة. فمنها ما سعرها 50 دولاراً، ومنها 100 دولار، ومنها 500 دولار.
كما تميّز إردوش بكونه اابن بطوطة زمانهب، بالنظر إلى تعدد ترحاله، فهو لم يتزوج ولم تكن له وظيفة. وكان يقضي وقته متنقلاً بين الجامعات عبر العالم ينشر المعارف العلمية. ويُذكر أنه لم يكن يقضي أكثر من 10 في المائة من وقته في بيته، ولذلك بلغ إنتاجه في مجال الرياضيات 1500 بحث، وهو رقم قياسي لم يبلغه غيره من العلماء.
ليس هذا فحسب، بل تميّز بالاشتراك مع غيره من الباحثين في كتابة المقالات، وهكذا بلغ عدد الذين شاركوه النشر ووضعوا أسماءهم إلى جانب اسمه في المقالات المنشورة رقماً قياسياً آخر، وهو 500 باحث من مختلف بلدان العالم. والطريف في هذا السياق أن اسمه اقترن بأرقام تحدد علاقة كل باحث في الرياضيات بإردوش من حيث تراتبية النشر، فإذا كان أحدهم قد نشر مثلاً مع إردوش فسيحمل الرقم 1، وإن كان هذا الباحث (الذي نشر مع إردوش) قد نشر أيضاً مع باحث ثان مقالاً ما، فهذا الأخير سيحمل الرقم 2، وهكذا دواليك.
ونشير إلى أن من بين النتائج المهمة في نظرية الأعداد، تلك المتعلقة بمواقع الأعداد الأولية (أي الأعداد الطبيعية التي لا تقسم على أي عدد سوى 1 أو العدد نفسه مثل 2 و3 و7 و19...)، وتوزيعها بين الأعداد الأخرى، وهي مسألة مازالت مطروحة إلى اليوم. لقد كان هذا الموضوع من جملة اهتمامات إردوش، ومن المعلوم أن هناك مخمنة
(أي تخمين رياضي لم يتم التوصل إلى إثباته)
أُعلن عنها منذ القرن الثامن عشر تقول: عندما يكبر العدد الطبيعي (ن) فإن عدد الأعداد الأولية الأصغر من (ن) يقارب نسبة (ن)
على لوغاريتم (ن). لكن هذه المخمنة لم تثبت إلا
عام 1896 على يدي الفرنسي جاك هادامار (1963-1865) Hadamard والبلجيكي دي فالي بوسان .(1962-1866) De Vallée Poussin
واللافت في هذا الموضوع أن إردوش اكتشف بمعية النرويجي آتل سيلبرغ
(1917-2007) Selberg عام 1949 برهانا يتسم بالبساطة على هذه المخمنة. لكن سيلبرغ سارع إلى نشر هذا البرهان على انفراد من دون إذن من إردوش، فنال بفضله ميدالية فيلدز (أعلى وسام في الرياضيات، يعادل جائزة نوبل) عام 1950. ولم ينزعج إردوش ذ المعروف بسخائه وتسامحه - من تصرف زميله. وذلك هو نوع المسائل الذي اهتم به بول إردوش : المسائل البسيطة الطرح العويصة الحل.
وقد توفي إردوش في وارسو، عاصمة بولندا، يوم 20 سبتمبر عام 1996 حين كان يشارك في مؤتمر دولي في الرياضيات.
تاو يتألق في حل المسائل
ولد تيرنس تاو عام 1975، وعائلته من أصل صيني، رحلت من هونج كونج إلى أستراليا. كان والده طبيب أطفال وأمه مدرّسة رياضيات في هونج كونج. كان منذ نعومة أظفاره طفلاً موهوباً وظهر ذلك عندما كان يشرح العمليات الحسابية لأطفال كانوا يتجاوزونه سنًا. ولما بلغ التاسعة من العمر كان يحضُر دروساً في الرياضيات بالجامعة.
ومن أصعب المنافسات في مجال الرياضيات ما يعرف بالمنافسات الأولمبية العالمية السنوية التي يشارك فيها تلاميذ المرحلة الثانوية (دون المستوى الجامعي). وقد برع تيرنس تاو في هذه المنافسات التي شارك فيها 3 مرات متتالية خلال السنوات 1986 و1987 و1988، وهي حالة فريدة من نوعها. كان تاو الوحيد الذي شارك في هذه المنافسات ولم يتجاوز عمره 10 سنوات. ومع ذلك نال في هذه المنافسات كل الميداليات، من البرونزية إلى الذهبية.
حصل تاو على شهادة الماستر في أستراليا وعمره لم يتجاوز 17 سنة. ثم حصل على منحة إلى جامعة برينستون Princton الأمريكية الشهيرة، فأحرز هناك شهادة الدكتوراه وكان عمره 20 سنة. ونظراً لتفوقه الباهر عُيّن مدرساً في الجامعة ورُقي إلى رتبة أستاذ في جامعة كاليفورنيا بعد ذلك بسنة واحدة. وهي سابقة في تاريخ الجامعات، إذ لم ينل هذه المرتبة في هذه السن أحد قبله.
ومعلوم أن أرقى جائزة في الرياضيات تسمى ميدالية فيلدز، كما أسلفنا، وتمنح مرة كل 4 سنوات لأبرز الرياضيين. ومن حظ تاو أنه فاز بها عام 2006، وعمره 31 سنة، سلمها له ملك إسبانيا حين انعقد في مدريد المؤتمر العالمي للرياضيات. وتوالت عليه بعد ذلك الاستحقاقات والتشريفات، فصار عضواً في أكاديميات علمية عالمية عدة، كما نال جوائز عديدة، منها جائزة الملك فيصل عام 2010.
تميّز تاو بكونه يعمل في حقول رياضية وعلمية عدة، وهو يتقن كيفية الربط بينها بطرق عجيبة، فيستعمل النتائج المعروفة في هذا الفرع أو ذاك لإثبات نتائج عالقة في فروع أخرى لم تخطر على بال غيره من الباحثين. وهكذا، برهن مثلا عام 1999 على مخمنة معقدة ظهرت عام 1962، تسمى امخمنة التشبعب، كما أثبت مخمنات أخرى من القبيل نفسه.
يقول عنه الرياضي البريطاني اللامع، الأستاذ بجامعة كمبريدج ولْيَم تيموثي غورس William Timothy Gowers الذي نال بدوره ميدالية فيلدز عام 1998:
امعارف تاو الرياضية لديها مزيج خارق من الاتساع والعمق، يمكن أن يكتب تاو بثقة كاملة وبإبداع حول موضوعات مختلفة اختلافاً كبيراً، مثل المعادلات التفاضلية الجزئية، ونظرية الأعداد التحليلية، وهندسة المنوعات الثلاثية، والتحليل غير المعياري، ونظرية المجموعات، ونظرية النمذجة، وميكانيكا الكم، والاحتمالات، والنظرية الطاقيّة ergodic، والتحليل التوفيقي، والتحليل التوافقي، ومعالجة الصور، والتحليل الدالي، وغيرها الكثير. بل إنه قدم إسهامات جوهرية في البعض من هذه الفروع العلمية. أما في الفروع الأخرى، فيبدو تاو مدركًا لها بعمق كما هو شأن الخبراء، على الرغم من أنه لا يشتغل في تلك الحقول بشكل رسمي. كيف يقوم بكل ذلك، إضافة إلى كتابة أبحاث وتأليف كتب على نحو مذهل؟ كل هذا يعتبر لغزاً قائماً. لقد قيل إن هيلبرت
(1943-1862) Hilbert كان آخر شخص يلمّ بكل ما يوجد في حقل الرياضيات؛ ولكنه ليس من السهل إيجاد ثغرات في معارف تاو الرياضية، وإن وجدتم بعضاً منها، فتلك الفجوات ستكون في خبر كان بحلول العام التاليب.
«مسألة التفاوت»... عَمّرت 82 سنة!
كان إردوش قد طرح مسألة، عرفت بـامسألة التفاوتب عام 1632 تتناول الأعداد الصحيحة، وبالتحديد تبحث في خواص تقدير المجموع عندما نجمع 1 و- 1 من دون انقطاع بشكل عشوائي، أي من دون ضرورة التقيّد بخاصية تناوب العددين، مثال ذلك: 1+1+1-1-1+1+1-1 +.
وكما أسلفنا، فمن عادة إردوش رصد مبلغ من المال يفوز به من يحل مسائله كمكافأة على الاهتمام والجهد المبذول. وهكذا خصص لهذه المسألة مبلغاً، يُقَدر
بـ 500 دولار، ولصعوبتها، وبحث في المسألة عديد المهتمين، لكن من دون جدوى، وظلت مطروحة طوال 82 سنة.
غير أن تاو قدم بحثاً أولياً يوم 17 سبتمبر 2015 في موقع حر مختص في الرياضيات، يزعم فيه أنه حل امسألة التفاوتب. لم يتم حتى تاريخ كتابة هذه السطور التأكد من حل تاو، لكن هناك مؤشرات تأتي من الخبراء بآراء مطمئنة جداً. وجدير بالذكر أن المسألة عرفت عديداً من المحاولات، بل الحملات لفك رموزها. وآخر هذه الحملات تلك التي برزت عام 2009 بعد أن جاء الرياضي غورس بمبادرة تقترح على الباحثين الاعتناء جماعياً بهذه المسألة للإتيان عليها والتشاور والتعاون عبر الإنترنت. فشارك تاو في هذا الجهد الجماعي، وقد سمح ذلك خلال هذه السنوات الأخيرة بالبرهان على حالات خاصة من النظرية، واستعملوا في ذلك الحواسيب.
وبدأت الجهود تعرف بعض الفتور، وفجأة نشر تاو بحثه في منتصف سبتمبر 2015 فأيقظ النائمين! والطريف أن تاو كان منهمكاً في البحث عن حل مسألة لا علاقة لها بمسألة التفاوت. ومن عادته أن يسجل في مدوّنته على شبكة الإنترنت أعماله الجارية ويعقّب عليها، كما يعقب عليها غيره من القراء. وذات مرة علّق أحدهم على عمل تاو الخاص بالمسألة التي كانت تشغله، مشيراً إلى أنها ليست عديمة الصلة بمسألة إردوش (مسألة التفاوت.
ولم يعر تاو لهذه الملاحظة اهتماماً في بداية الأمر، معتبراً أن الربط الذي أشار إليه المعلق كان سطحياً. ثم لفتت تلك الملاحظة انتباهه مجدداً، وكانت نتيجة هذا الانتباه أنه اهتدى إلى حل امسألة التفاوتب، ثم نشره. وقد روى تاو هذه الحادثة في مقاله وشكر المعلق - وهو أستاذ للرياضيات في جامعة ألمانية - على ملاحظته القيمة التي مكنته من الوصول إلى الحل.
هكذا يعمل تيرنس تاو، وكذلك كان يعمل بول إردوش، وكلاهما أسهم ويسهم بطريقته الخاصة في تقدم العلوم الرياضية. ولولا هذين وأمثالهما لما عرف التقدم العلمي هذه الوتيرة وهذه الإنجازات .