سيرة وعي ناقد أدبي

سيرة وعي ناقد أدبي

ترجع‭ ‬رغبتي‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬إلى‭ ‬بدايات‭ ‬بعيدة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أدخل‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة،‭ ‬فلاأزال‭ ‬أذكر‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬كنت‭ ‬قارئاً‭ ‬نهماً‭ ‬للأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬تشدني،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬أعمال‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬التي‭ ‬دفعتني‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عنها‭ ‬مقالات‭ ‬قصيرة‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬الحائط،‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نكتبها‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الثانوية،‭ ‬بوصفها‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬النشاط‭ ‬الثقافي‭. ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أغادر‭ ‬الثانوية‭ ‬كتبت‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬شاعرية‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬فيه‭ ‬ناقداً‭ ‬بمعنى‭ ‬الكلمة،‭ ‬وإنما‭ ‬كنت‭ ‬معتمداً‭ ‬على‭ ‬أفكاري‭ ‬الساذجة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬وآراء‭ ‬غيري‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أراها‭ ‬الآن‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬السرقة‭ ‬الأدبية‭ ‬البريئة‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬وطه‭ ‬حسين‭ ‬وشكيب‭ ‬أرسلان‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬عن‭ ‬شاعرية‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭. ‬

عندما‭ ‬دخلت‭ ‬الجامعة‭ ‬في‭ ‬سبتمبر‭ ‬1961،‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬فرغت‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬فيه‭ ‬متابعاً‭ ‬نهماً‭ ‬لكتابات‭ ‬تلامذته‭ ‬المباشرين‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭ ‬ولويس‭ ‬عوض‭. ‬وكان‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭ ‬يجذبني‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭ ‬بسبب‭ ‬سهولة‭ ‬أسلوبه‭ ‬التعليمي‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬جعلتني‭ ‬أتعلق‭ ‬به‭ ‬قارئاً‭ ‬وأتتبعه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الندوات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يحضرها‭ ‬أو‭ ‬يقدمها‭ ‬في‭ ‬المنتديات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬يوم‭ ‬وفاته‭ ‬في‭ ‬يونيو‭ ‬1965،‭ ‬وكنت‭ ‬أؤدي‭ ‬امتحانات‭ ‬الليسانس‭ ‬وفاجأني‭ ‬زميلي‭ ‬المرحوم‭ ‬حسن‭ ‬توفيق‭ ‬بنبأ‭ ‬وفاة‭ ‬مندور‭ ‬الذي‭ ‬كانوا‭ ‬يطلقون‭ ‬عليه‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬شيخ‭ ‬النقاد‮»‬،‭ ‬وبكينا‭ ‬معاً‭ ‬على‭ ‬فقد‭ ‬هذا‭ ‬الناقد‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬فيّ‭ ‬أثراً‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬نسيانه،‭ ‬ولذلك‭ ‬ظللت‭ ‬منطوياً‭ ‬على‭ ‬رغبتي‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عنه‭ ‬كتاباً،‭ ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬مقالات،‭ ‬ولكني‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬تنفيذ‭ ‬ما‭ ‬وعدت‭ ‬نفسي‭ ‬بأن‭ ‬أنجزه‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬بعيدة‭. ‬وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬طلب‭ ‬منا‭ ‬أستاذي‭ ‬عبدالمحسن‭ ‬طه‭ ‬بدر‭ ‬كتابة‭ ‬بحث‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة،‭ ‬اخترت‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬إحدى‭ ‬شخصيات‭ ‬‮«‬بداية‭ ‬ونهاية‮»‬‭ ‬لنجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬متابعاً‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬نماذج‭ ‬بشرية‮»‬‭ (‬1944‭)‬،‭ ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬تكويني‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬‭ ‬عشقته‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أراه،‭ ‬وحدد‭ ‬لى‭ ‬طريق‭ ‬حياتي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ألتقيه‭ ‬مع‭ ‬أستاذتي‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬التي‭ ‬أدين‭ ‬لها‭ ‬بالكثير‭. ‬فقد‭ ‬علمني‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬أن‭ ‬أتمسك‭ ‬بالمنهجية‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬معناها‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬كتاباته،‭ ‬مؤكداً‭ ‬العقلانية‭ ‬التي‭ ‬تتوسل‭ ‬بالشك‭ ‬لكي‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬اليقين،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬المبادئ‭ ‬النقدية‭ ‬أو‭ ‬المنهجية‭ ‬التي‭ ‬تعلمتها‭ ‬من‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬الذي‭  ‬أسعدني‭ ‬الحظ‭ ‬بمقابلته‭ ‬في‭ ‬صحبة‭ ‬أستاذتي‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭. ‬وكنت‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أراه‭ ‬أحفظ‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬الأدبي،‭ ‬وكيف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬ألزم‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬للمبدع‭ ‬والدارس‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬ولاأزال‭ ‬أسترجع‭ ‬كلماته‭ ‬عن‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الأدب‭ ‬وناقده‭ ‬والحرية‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬كل‭ ‬الأولوية‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬خصوصاً‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬نطلبها‭ ‬للأدب‭ ‬لن‭ ‬تنال‭ ‬لأننا‭ ‬نتمناها،‭ ‬فنحن‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نتمنى،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬الأمل‭ ‬وحده‭ ‬منتجاً،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬تتمنى‭ ‬لتحقق‭ ‬أمانيك‭. ‬إنما‭ ‬ننال‭ ‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬يوم‭ ‬نأخذها‭ ‬بأنفسنا،‭ ‬لا‭ ‬ننتظر‭ ‬أن‭ ‬تمنحنا‭ ‬إياها‭ ‬سلطة‭ ‬ما،‭ ‬فقد‭ ‬أراد‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬حقاً‭ ‬للعلم،‭ ‬وقد‭ ‬أراد‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مصر‭ ‬بلداً‭ ‬متحضراً‭ ‬يتمتع‭ ‬بالحرية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الدستور‭ ‬والقانون‮»‬‭.‬

وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬إيمان‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بالحرية‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬جعلها‭ ‬عدالة‭ ‬ثقافية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬نزعته‭ ‬الإنسانية‭ ‬وإيمانه‭ ‬الدائم‭ ‬بالتطور‭... ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬جعلني‭ ‬محباً‭ ‬له‭ ‬وحريصاً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عنه‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬المرايا‭ ‬المتجاورة‭... ‬دراسة‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬طه‭ ‬حسين‮»‬‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬هو‭ ‬الجد‭ ‬الذي‭ ‬أفخر‭ ‬بالانتساب‭ ‬إليه،‭ ‬وإنما‭ ‬أضيف‭ ‬إليه‭ ‬كل‭ ‬تلامذته‭ ‬الذين‭ ‬أصبحوا‭ ‬أساتذة‭ ‬مباشرين‭ ‬لي؛‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬سهير‭ ‬القلماوي‭ ‬مروراً‭ ‬بعبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭ ‬وشكري‭ ‬عياد‭ ‬ومحمد‭ ‬مندور‭. ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬أقدمهم‭ ‬تأثيراً‭ ‬في‭ ‬تكويني‭ ‬العقلي‭ ‬محمد‭ ‬مندور،‭ ‬الذي‭  ‬كنت‭ ‬أقرأ‭ ‬له‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أدخل‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬وأختار‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بها‭. ‬ولقد‭ ‬كان‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬تعلمته‭ ‬من‭ ‬مندور‭ ‬رهافة‭ ‬القراءة‭ ‬النصية‭ ‬التي‭ ‬تعلمها‭ ‬من‭ ‬مدرسة‭ ‬شرح‭ ‬النصوص‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬كتبه‭ ‬المختلفة‭ ‬عن‭ ‬الشعراء‭ ‬بوجه‭ ‬خاص‭ ‬تطبيقاً‭ ‬لمبادئها‭. ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬النقد‭ ‬والنقاد‭ ‬المعاصرين،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬جملته‭ ‬الأثيرة‭ ‬إلى‭ ‬نفسي‭: ‬‮«‬الفهم‭ ‬تملك‭ ‬للمفهوم‮»‬‭ ‬لم‭ ‬تفارق‭ ‬ذهني‭ ‬قط‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭. ‬ومازلت‭ ‬مؤمنا‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬يرمي‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الذوق‭ ‬المدرب‭ ‬هو‭ ‬المحرك‭ ‬الأول‭ ‬لكل‭ ‬عملية‭ ‬نقدية‭. ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غريباً‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬بحث‭ ‬الليسانس‭ ‬في‭ ‬مادة‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬حسنين‭ ‬قمة‭ ‬المأساة‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬ونهاية‮»‬،‭ ‬متابعاً‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭ ‬عن‭ ‬النماذج‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬اختارها‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الروايات‭ ‬العربية‭ ‬والأجنبية،‭ ‬خصوصاً‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬أحمد‭ ‬عاكف‭... ‬البرجوازي‭ ‬الصغير‮»‬‭. ‬

والمؤكد‭ ‬أنني‭ ‬تعلمت‭ ‬من‭ ‬مندور‭ ‬الثقة‭ ‬بالذوق‭ ‬المدرب،‭ ‬كما‭ ‬تعلمت‭ ‬من‭ ‬القلماوي‭ ‬أن‭ ‬الناقد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬ناقداً‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يتقن‭ ‬لغة‭ ‬أجنبية‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يبحر‭ ‬بها‭ ‬بعيداً‭ ‬في‭ ‬آداب‭ ‬العالم‭ ‬لكي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أدبه‭ ‬مزوداً‭ ‬بخبرات‭ ‬جديدة‭. ‬كما‭ ‬تعلمت‭ ‬من‭ ‬أستاذي‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭ ‬أنه‭ ‬لابد‭ ‬للناقد‭ ‬من‭ ‬أساس‭ ‬فلسفي‭ ‬يستند‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬رؤيته‭ ‬للعالم‭ ‬والأدب‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬وكان‭ ‬المشهد‭ ‬الأدبي‭ ‬النقدي‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الستينيات‭ ‬موزعاً‭ ‬بين‭ ‬قطبين‭: ‬أنصار‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬البعد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للأدب،‭ ‬أمثال‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭ ‬ولويس‭ ‬عوض،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬أصحاب‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬البعد‭ ‬الجمالي‭ ‬دون‭ ‬سواه،‭ ‬وتمثلهم‭ ‬مدرسة‭ ‬رشاد‭ ‬رشدي‭ ‬وكتابات‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬مندور‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬لويس‭ ‬عوض‭ ‬يحتكران‭ ‬حبي‭ ‬وتقديري،‭ ‬وذلك‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬نفرت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬محمود‭ ‬أمين‭ ‬العالم‭ ‬وعبدالعظيم‭ ‬أنيس‭ ‬‮«‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬المصرية‮»‬،‭ ‬الذي‭  ‬صدر‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬سنة‭ ‬1955،‭ ‬ولكني‭ ‬لم‭ ‬أقرأه‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬مطالع‭ ‬الستينيات‭ ‬عندما‭ ‬أصبحت‭ ‬طالباً‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭. ‬والحق‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أرتح‭ ‬قط‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬وأسلوبه‭ ‬‮«‬الدوجماطي‮»‬‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬قضايا‭ ‬الأدب‭ ‬والثقافة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬العالم‭ ‬وعبدالعظيم‭ ‬أنيس‭ ‬ناقدين‭ ‬أيديولوجيين‭ ‬بالمعنى‭ ‬السلبي‭ ‬لكلمة‭ ‬الأيديولوجية‭. ‬ولم‭ ‬يكونا‭ ‬معاصرين‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬قارئين‭ ‬لتيارات‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬التي‭ ‬ظل‭ ‬يموج‭ ‬بها‭ ‬العالم‭ ‬المعاصر،‭ ‬فحق‭ ‬عليهما‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬كتابهما‭ ‬ناقداً‭ ‬وناقضاً،‭ ‬المثقف‭ ‬الماركسي‭ ‬الأكثر‭ ‬معاصرة‭ ‬والأكثر‭ ‬عمقاً‭ ‬في‭ ‬معاصرته،‭ ‬الأستاذ‭ ‬أبوسيف‭ ‬يوسف‭ ‬مقالاً‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬نقادنا‭ ‬المعاصرون‭ ‬غير‭ ‬معاصرين‮»‬‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬تخرجت‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬سنة‭ ‬1965،‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬تجمع‭ ‬أطروحتى‭ ‬للماجستير‭ ‬بين‭ ‬الحسنيين‭: ‬الاهتمام‭ ‬بالأبعاد‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للأدب‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ودراسة‭ ‬الجوانب‭ ‬الفنية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬موازية،‭ ‬هكذا‭ ‬قمت‭ ‬بتسجيل‭ ‬أطروحتى‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الصورة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬الإحياء‮»‬‭ ‬التي‭ ‬استغرقت‭ ‬مني‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬حتى‭ ‬أنجزتها،‭ ‬وعندما‭ ‬أتطلع‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الأطروحة‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬أجد‭ ‬أنني‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬حبائل‭ ‬أستاذي‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني،‭ ‬عليه‭ ‬رحمة‭ ‬الله،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أكده‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬سناء‭ ‬الملك‭ ‬ومشكلة‭ ‬العقم‭ ‬والابتكار‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ذ‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ - ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬دراسة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مراحله‭ ‬المتأخرة‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬معتمدة‭ ‬على‭ ‬اكتشاف‭ ‬كيف‭ ‬يسعى‭ ‬الشاعر‭ ‬المتأخر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الشعراء‭ ‬السابقين‭ ‬عليه،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬ازدهار‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الأولى‭. ‬وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬يصبح‭ ‬الناقد‭ ‬للشعر‭ ‬الإحيائي‭ ‬أشبه‭ ‬بقصاص‭ ‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬يتتبع‭ ‬الأصول‭ ‬المباشرة‭ ‬وغير‭ ‬المباشرة‭ ‬التي‭ ‬أخذ‭ ‬عنها‭ ‬الشعراء‭ ‬المتأخرون‭ ‬شعرهم،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬غدا‭ ‬معه‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬سبيكة‭ ‬امتزجت‭ ‬فيها‭ ‬أخلاط‭ ‬متنوعة‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الشعرى‭ ‬الأسبق‭. ‬وقد‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬قصاص‭ ‬للأثر‭ ‬حقاً،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬تتبعي‭ ‬علاقة‭ ‬شعراء‭ ‬النهضة،‭ ‬أو‭ ‬الإحياء،‭ ‬بأسلافهم‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الأوائل‭ ‬الذين‭ ‬أخذوا‭ ‬عنهم‭ ‬شعرهم‭. ‬وقد‭ ‬لامني‭ ‬أستاذي‭ ‬شكري‭ ‬عياد‭ ‬في‭ ‬لجنة‭ ‬المناقشة‭ ‬بأنني‭ ‬كتبت‭ ‬أطروحتي‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬تصور‭ ‬سابق‭. ‬وكان‭ ‬معه‭ ‬الحق،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬واقعاً‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الأهواني‭ ‬ومنهجه‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬ابن‭ ‬سناء‭ ‬الملك‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬الزمني‭ ‬صدمتنا‭ ‬هزيمة‭ ‬1967‭ ‬التي‭ ‬ناقشت‭ ‬الماجستير‭ ‬بعدها‭ ‬بعامين‭. ‬والمؤكد‭ ‬أن‭ ‬هزيمة‭ ‬1967م‭ ‬دفعت‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي‭ ‬إلى‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬والثورة‭ ‬على‭ ‬بطريركية‭ ‬الأب‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يمثله‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬فاختلط‭ ‬الأدبي‭ ‬بالسياسي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬لم‭ ‬ننجُ‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭. ‬وكانت‭ ‬أكثر‭ ‬المناهج‭ ‬شيوعاً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬بقايا‭ ‬المدرسة‭ ‬الجمالية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لايزال‭ ‬يمثلها‭ ‬رشاد‭ ‬رشدي‭ ‬وتلامذته‭ ‬مقابل‭ ‬مدرسة‭ ‬الالتزام‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يمثلها،‭ ‬بدرجات‭ ‬متفاوتة،‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭ ‬ولويس‭ ‬عوض،‭ ‬وعلى‭ ‬نحو‭ ‬‮«‬دوجماطي‮»‬‭ ‬محمود‭ ‬أمين‭ ‬العالم‭ ‬وعبدالعظيم‭ ‬أنيس‭.‬

لكن‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬ولدتها‭ ‬هزيمة‭ ‬1967‭ ‬في‭ ‬نفوسنا‭ ‬جعلتنا‭ ‬نتطلع‭ ‬إلى‭ ‬مدارس‭ ‬ومذاهب‭ ‬نقدية‭ ‬جديدة‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬الجدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬هي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬أسر‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭  ‬قادنا‭ ‬إلى‭ ‬الهزيمة‭ ‬المروعة‭ ‬في‭ ‬1967‭. ‬وهكذا‭ ‬ما‭ ‬كدنا‭ ‬نسمع‭ ‬عن‭ ‬البنيوية‭ ‬بنوعيها‭: ‬الشكلي‭ ‬والتوليدي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬حتى‭ ‬اندفعنا‭ ‬إليهما‭ ‬لنفاجأ‭ ‬بأن‭ ‬العداء‭ ‬بينهما‭ ‬يشبه‭ ‬العداء‭ ‬بين‭ ‬طرفي‭ ‬الثنائية‭ ‬الضدية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬قبل‭ ‬1967م،‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة؛‭ ‬فإذا‭ ‬بنا‭ ‬أمام‭ ‬البنيوية‭ ‬اللغوية‭ ‬المنسوبة‭ ‬إلى‭ ‬دي‭ ‬سوسير‭ ‬التي‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬أنصارها‭ ‬البنيوية‭ ‬الشكلية‭ ‬مقابل‭ ‬النقيض‭: ‬البنيوية‭ ‬التوليدية‭ ‬التي‭ ‬رآها‭ ‬نقاد‭ ‬اليسار‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬التغير‭ ‬الجذري‭ ‬الذي‭ ‬يخلصهم‭ ‬من‭ ‬مزالق‭ ‬الواقعية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬وفضائحها،‭ ‬بل‭ ‬يدفعهم‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬أبعد‭ ‬غوراً‭ ‬في‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬الأدبي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يؤكد‭ ‬لوسيان‭ ‬جولدمان‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬التي‭ ‬تأثرت‭ ‬بها‭ ‬وحاولت‭ ‬أن‭ ‬أتبعها‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬لي‭ ‬عن‭ ‬التراث‭ ‬النقدي،‭ ‬كان‭ ‬موضوعه‭ ‬‮«‬نقد‭ ‬ابن‭ ‬المعتز‮»‬‭.‬

‭ ‬وأعترف‭ ‬بأن‭ ‬عام‭ ‬1977‭ ‬كان‭ ‬عاماً‭ ‬حاسماً‭ ‬في‭ ‬تكويني‭ ‬الثقافي‭ ‬والنقدي‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد،‭ ‬فقد‭ ‬أتيح‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬جامعة‭ ‬ماديسون‭ ‬ذ‭ ‬وسكنسن،‭ ‬وأقضي‭ ‬فيها‭ ‬عاماً‭ ‬كاملاً‭ ‬متابعاً‭ ‬متغيرات‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬العالمي،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬المكتوب‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭. ‬وقد‭ ‬ظللت‭ ‬أعمل‭ ‬طوال‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬ليلاً‭ ‬ونهاراً،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬كلل‭ ‬أو‭ ‬ملل،‭ ‬لكي‭ ‬أرتفع‭ ‬بثقافتي‭ ‬النقدية‭ ‬إلى‭ ‬المستوى‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬النقد‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬وقد‭ ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬وأحسب‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المصادفات‭ ‬السعيدة‭ ‬أنني‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عدت‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تناقشت‭ ‬مع‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬في‭ ‬ضرورة‭ ‬إنشاء‭ ‬مجلة‭ ‬نقدية‭ ‬متخصصة‭ ‬ذات‭ ‬مستوى‭ ‬متميز‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬وبالفعل‭ ‬نجحنا‭ ‬في‭ ‬إصدار‭ ‬هذه‭ ‬المجلة‭ ‬التي‭ ‬رأس‭ ‬تحريرها‭ ‬عز‭ ‬الدين‭ ‬إسماعيل،‭ ‬وكنت‭ ‬أنا‭ ‬وصلاح‭ ‬فضل‭ ‬نائبي‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭. ‬وأؤمن‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المجلة‭ ‬قد‭ ‬أبرزت‭ ‬جيلاً‭ ‬جديداً‭ ‬من‭ ‬النقاد،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬تغيرت‭ ‬معه‭ ‬لغة‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬ومصطلحاته‭ ‬الأساسية‭.‬

وعندما‭ ‬أستعيد‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬البعيدة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬أجد‭ ‬نفسي‭ ‬منطوياً‭ ‬على‭ ‬ناقد‭ ‬عقلاني‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬وأن‭ ‬يرى‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬الفوضى،‭ ‬ولذلك‭ ‬كنت‭ ‬أردد‭ ‬دائماً‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬نفسي‭ ‬هذين‭ ‬السطرين‭ ‬اللذين‭ ‬كتبهما‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬مرثية‭ ‬رجل‭ ‬عظيم‮»‬‭ ‬ضمن‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬تأملات‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬جريح‮»‬‭ (‬1970‭). ‬وواضح‭ ‬أن‭ ‬تكراري‭ ‬لهذين‭ ‬البيتين‭ ‬كان‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬طريقة‭ ‬بعينها‭ ‬في‭ ‬رؤية‭ ‬العالم،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬حقاً‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬فوضى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬العام‭ ‬السابع‭ ‬والستين‭. ‬ولم‭ ‬أكن،‭ ‬ولاأزال،‭ ‬أدرك‭ ‬بوضوح‭ ‬ذ‭ ‬كما‭ ‬أدرك‭ ‬الآن‭ - ‬أن‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬نسق‭ ‬معقول‭ ‬هو‭ ‬مفتاح‭ ‬فهم‭ ‬الأشياء،‭ ‬وهو‭ ‬الدليل‭ ‬على‭ ‬تملكها‭ ‬معرفياً‭ ‬ما‭ ‬ظل‭ ‬الفهم‭ ‬تملكا‭ ‬للمفهوم،‭ ‬كما‭ ‬تعلمت‭ ‬من‭ ‬محمد‭ ‬مندور‭. ‬ولهذا‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬نزوعي‭ ‬إلى‭ ‬الإفادة‭ ‬من‭ ‬النقيضين‭: ‬البنيوية‭ ‬اللغوية‭ (‬الشكلية‭) ‬والبنيوية‭ ‬التوليدية،‭ ‬فكلتاهما‭ - ‬رغم‭ ‬التباعد‭ ‬الجذري‭ ‬بينهما،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬البنية‭ ‬نفسها‭ - ‬تؤكد‭ ‬هذه‭ ‬العقلانية‭ ‬التي‭ ‬أنطوي‭ ‬عليها،‭ ‬وكلتاهما‭ ‬تحيل‭ ‬الأعمال‭ ‬الإبداعية‭ ‬إلى‭ ‬عمليات‭ ‬مفهومة‭ ‬وأبنية‭ ‬معقولة‭ ‬يمكن‭ ‬للعقل‭ ‬أن‭ ‬يتملكها‭ ‬معرفياً،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أسعى‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬مقاربة‭ ‬الأعمال‭ ‬الإبداعية‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬ذ‭ ‬ولاأزال‭ - ‬أراها‭ ‬أشبه‭ ‬بعوالم‭ ‬نتأملها،‭ ‬باحثين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عالم‭ ‬منها‭ ‬عن‭ ‬الخيط‭ ‬أو‭ ‬الخيوط‭ ‬التي‭ ‬تلم‭ ‬شتاتها،‭ ‬وتنتظمها،‭ ‬مختفية‭ ‬وراء‭ ‬تشتت‭ ‬الأشكال‭ ‬والصور‭ ‬وخلف‭ ‬تغير‭ ‬الأمزجة‭ ‬والعقول‭. ‬هل‭ ‬كنت‭ ‬واعياً‭ ‬بهذه‭ ‬العقلانية‭ ‬التي‭ ‬انطويت‭ ‬عليها؟‭ ‬المؤكد‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬التأمل‭ ‬الذاتي‭ ‬والتجريب‭ ‬النقدي،‭ ‬فقد‭ ‬لاحظت‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الممارسة‭ ‬النقدية‭ ‬وما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬استبطان‭ ‬ذاتي،‭ ‬أنني‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬وضوح‭ ‬‮«‬أبوللو‮»‬‭ ‬الإله‭ ‬الشمسي‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬التناسب‭ ‬والاتزان‭ ‬الكلاسيكي،‭ ‬وأبعد‭ ‬ما‭ ‬أكون‭ ‬عن‭ ‬ديونيسيوس‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬الاندفاع‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬النشوة‭ ‬والجنون،‭ ‬ولذلك‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬أنحاز‭ ‬بقلبي‭ ‬إلى‭ ‬شعر‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬العقلاني،‭ ‬وأعجب‭ ‬بدرجة‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬التحفظ‭ ‬أحياناً‭ ‬بشعر‭ ‬أدونيس‭ ‬الذي‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬نقيضاً‭ ‬للعقلانية،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬شطحاته‭ ‬الصوفية‭ ‬في‭ ‬أندلس‭ ‬الأعماق،‭ ‬أو‭ ‬الهجرة‭ ‬الدائمة‭ ‬بين‭ ‬أقاليم‭ ‬الوعي‭ ‬واللاوعي‭.‬

وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬المدارس‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬المد‭ ‬البنيوي،‭ ‬كنت‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أفكار‭ ‬ميشيل‭ ‬ﭬوكو‭ ‬وإعادة‭ ‬صياغتها‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬ولم‭ ‬أتعاطف‭ ‬تماماً‭ ‬مع‭ ‬تفكيكية‭ ‬جاك‭ ‬دريدا،‭ ‬رغم‭ ‬أني‭ ‬دعوته‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬وقضى‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬الغنية‭ ‬بالنقاش‭ ‬معي‭ ‬والمجموعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تترجم‭ ‬كتابه‭ ‬الأشهر‭ ‬‮«‬في‭ ‬علم‭ ‬الكتابة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬جراماتولوجي‮»‬‭. ‬هذه‭ ‬النزعة‭ ‬العقلانية‭ ‬التي‭ ‬أنطوي‭ ‬عليها‭ ‬هي‭ ‬نزعة‭ ‬رحبة‭ ‬مفتوحة‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يتناقض‭ ‬ظاهرياً‭ ‬والعقلانية‭. ‬فما‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬غير‭ ‬المعقول‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬معقولاً‭ ‬ونسقياً،‭ ‬خصوصاً‭ ‬عندما‭ ‬نمحصه‭ ‬ونسلط‭ ‬عليه‭ ‬أنوار‭ ‬العقل،‭ ‬فنكتشف‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬خارج‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬العقل‭ ‬المرنة‭ ‬في‭ ‬النهاية‭. ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬إعجابي‭ ‬بإدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬الذي‭  ‬تأثرت‭ ‬به‭ ‬شخصياً‭ ‬وبكتاباته‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬نقيضاً‭ ‬لهذه‭ ‬العقلانية،‭ ‬فإدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬نفسه‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نصفه‭ ‬بأنه‭ ‬عقلاني‭ ‬ينتسب‭ ‬إلى‭ ‬اليسار‭ ‬الأمريكي‭. ‬ولذلك‭ ‬ظل‭ ‬نموذجاً‭ ‬لالتزام‭ ‬الناقد‭ ‬بقضايا‭ ‬أمته‭ ‬والجماعة‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها،‭ ‬والهوية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المدنية‭ ‬التي‭ ‬ينتسب‭ ‬إليها،‭ ‬وكتب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إيمانه‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬المدني‮»‬‭ ‬بوصفه‭ ‬نقداً‭ ‬مضاداً‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أصولي،‭ ‬متعصب‭ ‬وعرقي،‭ ‬ومعادٍ‭ ‬للإنسانية‭.‬

وكان‭ ‬وصولي‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الإدراك‭ ‬ينعكس‭ ‬على‭ ‬كتاباتي،‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬النقد‭ ‬التطبيقي‭ ‬أو‭ ‬النقد‭ ‬النظري،‭ ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬أؤكد‭ ‬اهتمامي‭ ‬المبرر‭ ‬بالنقد‭ ‬النظري‭ ‬أو‭ ‬النقد‭ ‬الشارح‭ ‬أو‭ ‬نقد‭ ‬النقد،‭ ‬وكلها‭ ‬دلالات‭ ‬مختلفة‭ ‬لمدلول‭ ‬واحد،‭ ‬فالنقدذ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬عملية‭ ‬تصورية‭ ‬وإجرائية‭- ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يراجع‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬اللحظات‭ ‬المتوترة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬أو‭ ‬المتغيرات‭ ‬الجذرية‭ ‬للزمن‭  ‬الذي‭  ‬يكتب‭ ‬فيه‭. ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬نقد‭ ‬النقد‭ ‬أو‭ ‬النقد‭ ‬النظري‭ ‬عملية‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬التوازي‭ ‬بين‭ ‬متغيرات‭ ‬الزمن‭ ‬ومتغيرات‭ ‬الأفكار‭ ‬النقدية،‭ ‬ولهذا‭ ‬اهتممت‭ ‬بالنقد‭ ‬النظري،‭ ‬ولعلي‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬النقاد‭ ‬لأبناء‭ ‬جيلي‭ ‬كتابة‭ ‬في‭ ‬مجاله‭. ‬فكتبي‭ ‬الأربعة‭ ‬الأولى‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬النقد‭ ‬الشارح‭ ‬أو‭ ‬نقد‭ ‬النقد،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬الصورة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬البلاغى‭ ‬والنقدي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬1974،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬مفهوم‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نشرت‭ ‬طبعته‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬1998،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المرايا‭ ‬المتجاورة‭: ‬دراسة‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬طه‭ ‬حسين‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬‭ ‬نشرت‭ ‬طبعته‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1983،‭ ‬وأضيف‭ ‬إليها‭ ‬‮«‬قراءة‭ ‬التراث‭ ‬النقدي‮»‬‭ ‬الذي‭  ‬صدرت‭ ‬طبعته‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬1991،‭ ‬ولا‭ ‬أستثني‭ ‬منها‭ ‬‮«‬آفاق‭ ‬العصر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬سنة‭ ‬1977‭ ‬أو‭ ‬‮«‬نظريات‭ ‬معاصرة‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1998‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬‮«‬زمن‭ ‬الرواية‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1999‭ ‬أو‭ ‬‮«‬قراءة‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‮»‬‭  ‬الذي‭  ‬صدر‭ ‬سنة‭ ‬2002،‭ ‬وأخيرا‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والهوية‭ ‬الثقافية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬صدرت‭ ‬طبعته‭ ‬سنة‭ ‬2010‭.‬

إن‭ ‬اهتمامي‭ ‬بالنقد‭ ‬النظري‭ ‬أو‭ ‬نقد‭ ‬النقد‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬إحساس‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬إدراكي‭ ‬بأهمية‭ ‬مراجعة‭ ‬القواعد‭ ‬النظرية‭ ‬التي‭ ‬ينبني‭ ‬عليها‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرحلة‭ ‬زمنية‭ ‬متوترة،‭ ‬أو‭ ‬متأزمة،‭ ‬أو‭ ‬تختلط‭ ‬فيها‭ ‬الأمور‭. ‬ولاأزال‭ ‬أعتقد‭ ‬ذكذلك‭- ‬أن‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬يشبه‭ ‬القاطرة‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬الصيانة‭ ‬والكشف‭ ‬على‭ ‬آلياتها،‭ ‬خصوصاً‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬شعر‭ ‬الناقد‭ ‬بأن‭ ‬سرعة‭ ‬القاطرة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬بالكفاءة‭ ‬نفسها‭. ‬والمؤكد‭ ‬أنه‭ ‬تمر‭ ‬فترات‭ ‬زمنية‭ ‬يرتبك‭ ‬فيها‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬وتختلط‭ ‬فيها‭ ‬الأشياء،‭ ‬وعندئذٍ‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬المراجعة‭ ‬لكي‭ ‬تعود‭ ‬الأجزاء‭ ‬المحركة‭ ‬للقاطرة‭ ‬إلى‭ ‬حالتها‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الكفاءة‭ ‬والسرعة‭. ‬ولهذا‭ ‬أشعر‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬كتبته‭ ‬من‭ ‬نقد‭ ‬شارح‭ ‬أو‭ ‬نقد‭ ‬للنقد‭ ‬لا‭ ‬ينفصل‭ ‬أبداً‭ ‬عما‭ ‬كتبته‭ ‬من‭ ‬نقد‭ ‬تطبيقي،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬اهتممت‭ ‬بدراسته‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬الإحياء‭ ‬إلى‭ ‬السبعينيات‭ ‬أو‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تنبأت‭ ‬بأننا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬زمنها‭ ‬وأنها‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي‭ ‬الصاعد‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬التغير‭ ‬والتحول‭. ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬كتاباً‭ ‬من‭ ‬كتبي‭ ‬أثار‭ ‬من‭ ‬الضجة،‭ ‬ومن‭ ‬تناقضات‭ ‬القبول‭ ‬أو‭ ‬الرفض،‭ ‬كما‭ ‬أثار‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬زمن‭ ‬الرواية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬صدرت‭ ‬طبعته‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬1999،‭ ‬ولايزال‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬ذ‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ - ‬أشبه‭ ‬بالنبوءة‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬الوجود‭ ‬الحقيقي‭ ‬لهذا‭ ‬السيل‭ ‬العرم‭ ‬الذي‭  ‬نعيشه‭ ‬على‭ ‬مستويات‭ ‬الإبداع‭ ‬الروائي‭.‬

يبقى‭ ‬أن‭ ‬أؤكد‭ ‬أن‭ ‬العقلانية‭ ‬التي‭ ‬أنطوي‭ ‬عليها‭ ‬لا‭ ‬تنفصل‭ ‬عن‭ ‬مفاهيم‭ ‬معينة‭ ‬تظل‭ ‬أشبه‭ ‬بالثوابت‭ ‬في‭ ‬عملي‭ ‬النقدي‭. ‬أولها‭ ‬إيماني‭ ‬بأن‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬له‭ ‬وظيفة‭ ‬اجتماعية،‭ ‬وأن‭ ‬الناقد‭ ‬الأدبي‭ ‬فاعل‭ ‬اجتماعي‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬فرد‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬نشاط‭ ‬اجتماعي‭ ‬بالضرورة،‭ ‬مشروط‭ ‬بشروط‭ ‬اللحظة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬مجتمعه،‭ ‬فهو‭ ‬يكتب‭ ‬داخل‭ ‬مجتمع‭ ‬يعي‭ ‬مسؤوليته‭ ‬ودوره‭ ‬فيه،‭ ‬خصوصاً‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬كونه‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يسهم‭ ‬مع‭ ‬غيره،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬دوره‭ ‬المتعين،‭ ‬وعلى‭ ‬نحو‭ ‬مباشر‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مباشر،‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬بالمجتمع‭ ‬من‭ ‬وهاد‭ ‬الضرورة‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬الحرية،‭ ‬سبيله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أداته‭ ‬النوعية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬فاعل‭ ‬اجتماعي‭. ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭  ‬يفرض‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يؤسس‭ ‬لنفسه‭ ‬أولاً،‭ ‬وللآخرين‭ ‬ثانياً،‭ ‬وظيفة‭ ‬لهذا‭ ‬النقد‭ ‬الذي‭ ‬يمارسه‭ ‬تطبيقاً‭ ‬وتنظيراً،‭ ‬مؤكداً‭ ‬أن‭ ‬نشاطه‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬نشاطاً‭ ‬إكمالياً‭ ‬أو‭ ‬ثانوياً‭ ‬لحضور‭ ‬الإبداع‭ ‬بأنواعه‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬نشاط‭ ‬موازٍ‭ ‬يتفق‭ ‬في‭ ‬الهدف‭ ‬والقيمة‭ ‬ما‭ ‬ظلت‭ ‬وظيفة‭ ‬الإبداع‭ ‬مرتبطة‭ ‬بتحرير‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬شروط‭ ‬الضرورة‭ ‬لينعم‭ ‬بآفاق‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬لأبعادها،‭ ‬ما‭ ‬ظلت‭ ‬منطوية‭ ‬على‭ ‬المسؤولية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬معناها‭. ‬

وكما‭ ‬يدرك‭ ‬المبدع‭ ‬أنه‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الخاص،‭ ‬وإلى‭ ‬الإنساني‭ ‬عبر‭ ‬المحلي،‭ ‬فإن‭ ‬الناقد‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬نشاطه‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬النصوص‭ ‬المتعينة‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬حضورها‭ ‬عليه‭ ‬سلباً‭ ‬أو‭ ‬إيجاباً،‭ ‬وتقوده‭ ‬قراءاتها،‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬بعينها،‭ ‬إلى‭ ‬مراجعة‭ ‬أدواته‭ ‬المزود‭ ‬بها،‭ ‬كي‭ ‬تستوعب‭ ‬النظرية‭ ‬التي‭ ‬يتبناها‭ ‬‮«‬التنوع‭ ‬اللانهائي‮»‬‭ ‬لأعمال‭ ‬الإبداع‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تتأبى‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬النظرية‭ ‬وأدواتها‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬الاستيعاب‭. ‬وعندئذٍ‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬امتداد‭ ‬فعل‭ ‬المساءلة‭ ‬إلى‭ ‬النظرية‭ ‬نفسها،‭ ‬ووضعها‭ ‬موضع‭ ‬المساءلة،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬اكتمالها‭ ‬وسلامة‭ ‬أدواتها‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تقبل‭ ‬التطوير‭ ‬نتيجة‭ ‬هذه‭ ‬المساءلة،‭ ‬أو‭ ‬يثبت‭ ‬للناقد‭ ‬ضرورة‭ ‬تغييرها،‭ ‬ومساءلة‭ ‬غيرها‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬فاعلية‭. ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬الأولى‭ ‬يمكن‭ ‬تغيير‭ ‬هذه‭ ‬الأداة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬من‭ ‬الأدوات‭ ‬التقنية‭ ‬لتغدو‭ ‬النظرية‭ ‬أكثر‭ ‬فاعلية،‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬النسق‭ ‬الكلي‭ ‬الذي‭ ‬يحتويها‭ ‬ويشد‭ ‬عناصرها‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أدواتها‭ ‬وتقنياتها،‭ ‬حتى‭ ‬المستعارة‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭. ‬وفي‭ ‬الحالة‭ ‬الثانية،‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬اللحمة‭ ‬والسداة،‭ ‬واستبدال‭ ‬نظرية‭ ‬بغيرها‭.‬

والحق‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أصل‭ ‬إلى‭ ‬إدراكي‭ ‬هذه‭ ‬الوظيفة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للنقد‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وعيت‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬الناقد‭ ‬الأدبي‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬مجتمعه،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بوصفه‭ ‬مثقفاً،‭ ‬تؤرقه‭ ‬قضايا‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬ومستقبله،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬نعيشها‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يسيطر‭ ‬عليه‭ ‬القمع‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جوانبه‭ ‬وينتشر‭ ‬فيه‭ ‬الإرهاب‭ ‬الديني،‭ ‬كما‭ ‬ينتشر‭ ‬الطاعون‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬قابلة‭ ‬للأوبئة‭.‬

ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الإيمان‭ ‬بالدور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للنقد‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬عنه‭ ‬خصوصيته‭ ‬المائزة،‭ ‬فالفارق‭ ‬بين‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬فارق‭ ‬جذري‭ ‬في‭ ‬الكيفية‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الهدف‭. ‬إن‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬فردي‭ ‬من‭ ‬نتاج‭ ‬شخص‭ ‬بعينه،‭ ‬يصوغ‭ ‬رؤية‭ ‬جمالية‭ ‬هي‭ ‬موازاة‭ ‬رمزية‭ ‬لواقع‭ ‬محدد،‭ ‬ومتغير،‭ ‬وهي‭ ‬رؤية‭ ‬تجاوز‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬المتعين‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إنساني،‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬شروط‭ ‬الضرورة‭. ‬أما‭ ‬الإبداع‭ ‬الثاني‭ ‬فهو‭ ‬الإبداع‭ ‬الذي‭  ‬يتصل‭ ‬بصياغة‭ ‬النظرية‭ ‬النقدية،‭ ‬أو‭ ‬تطبيقها،‭ ‬فهو‭ ‬بناء‭ ‬تصوري‭ ‬يجاوز‭ ‬الفرد‭ ‬عابراً‭ ‬للأقطار‭ ‬والقارات،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬نسبته‭ ‬إلى‭ ‬دين‭ ‬ولا‭ ‬قومية،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬فرد‭ ‬بعينه‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬بدأت‭ ‬نواة‭ ‬النظرية‭ ‬من‭ ‬فرد،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬البنيوية‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬تشكلها‭ ‬من‭ ‬محاضرات‭ ‬دي‭ ‬سوسير‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬جنيف‭ ‬بسويسرا،‭ ‬مع‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬والتي‭ ‬انتهت‭ ‬رسمياً،‭ ‬مع‭ ‬ثورة‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬سنة‭ ‬1968‭. ‬وما‭ ‬بين‭ ‬سقوط‭ ‬البنيوية‭ ‬وعامنا‭ ‬هذا،‭ ‬2016،‭ ‬سنوات‭ ‬ليست‭ ‬قليلة‭ ‬انقلب‭ ‬فيها‭ ‬العالم‭ ‬رأساً‭ ‬على‭ ‬عقب،‭ ‬سياسياً‭ ‬واجتماعياً‭ ‬واقتصادياً،‭ ‬وفكرياً‭ ‬مرات‭ ‬ومرات‭. ‬وتبدو‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬تجاوز‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬كأنها‭ ‬عصور‭ ‬متطاولة‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬الجسام‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬كل‭ ‬الموازين‭ ‬والمعايير‭ ‬سلباً‭ ‬وإيجاباً‭. ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬عناصر‭ ‬الإيجاب‭ ‬ما‭ ‬أحدثته‭ ‬الطفرة‭ ‬المذهلة‭ ‬في‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬من‭ ‬ثورة‭ ‬معرفية‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجال،‭ ‬ومنها‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الذي‭  ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬منقسماً‭ ‬بين‭ ‬قطبي‭ ‬البنيوية‭ ‬اللغوية‭ (‬الشكلية‭) ‬والبنيوية‭ ‬التوليدية،‭ ‬في‭ ‬انقسام‭ ‬بدا‭ ‬كأنه‭ ‬رجع‭ ‬صدى‭ ‬للثنائية‭ ‬الضدية‭ ‬للحرب‭ ‬الباردة‭ ‬بين‭ ‬الرأسمالية‭ ‬والاشتراكية‭.‬

لقد‭ ‬ترك‭ ‬العالم‭ ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬وتخلى‭ ‬عنها‭ ‬ليدخل‭ ‬زمناً‭ ‬مغايراً‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تنعم‭ ‬فيه‭ ‬بدور‭ ‬القطب‭ ‬الواحد،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬أوهامها‭ ‬لاتزال‭ ‬تخايلها‭ ‬بذلك،‭ ‬ودخلنا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب،‭ ‬انزاحت‭ ‬فيه‭ ‬المركزية‭ ‬الأوربية‭ - ‬الأمريكية‭ ‬من‭ ‬صدارة‭ ‬المشهد،‭ ‬ليظهر‭ ‬عالم‭ ‬جديد‭ ‬مزاح‭ ‬المركز،‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬التنوع‭ ‬البشري‭ ‬الخلاق‭ ‬الذي‭  ‬يضع‭ ‬النمور‭ ‬الآسيوية،‭ ‬متواصلة‭ ‬الصعود،‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬الصدارة‭ ‬من‭ ‬تعددية‭ ‬المركز‭ ‬التي‭ ‬حلت‭ ‬محل‭ ‬الثنائية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الأحادية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬رحلة‭ ‬الأفول‭. ‬وفي‭ ‬مقابل‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬وفي‭ ‬موازاته،‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬آلي‭ ‬انداحت‭ ‬فيه‭ ‬الثنائية‭ ‬القديمة‭ ‬للبنيوية‭ ‬اللغوية‭ ‬والبنيوية‭ ‬التوليدية‭ ‬إلى‭ ‬تعددية‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البنيوية،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬المابعد،‭ ‬فأصبحنا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬التفكيك‭ ‬الذي‭  ‬تغيرت‭ ‬صور‭ ‬أواخره‭ ‬عن‭ ‬صور‭ ‬أوائله،‭ ‬ومثله‭ ‬‮«‬السميوطيقا‮»‬‭. ‬وأضف‭ ‬إليها‭ ‬‮«‬الهرمنيوطيقا‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬نظرية‭ ‬الخطاب‮»‬‭ ‬و«خطاب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الاستعمار‮»‬‭ ‬الذي‭  ‬أصبح‭ ‬مدارس‭ ‬واتجاهات‭. ‬وأضيف‭ ‬إلى‭ ‬الأسماء‭ ‬القديمة‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬والإنجازات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تفلت‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬التعدد‭ ‬والتنوع‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬نظريات‭ ‬الاستقبال‮»‬‭ ‬و«جماليات‭ ‬التلقي‮»‬‭ ‬في‭ ‬موازاة‭ ‬إنجازات‭ ‬مدارس‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬المختلفة،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬تلامذة‭ ‬لاكان‭ ‬في‭ ‬التحليل‭ ‬وليس‭ ‬انتهاء‭ ‬بدراسات‭ ‬المدارس‭ ‬التجريبية‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الإبداعي‭ ‬والتلقي‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬الأخذ‭ ‬من‭ ‬النظريات‭ ‬النقدية‭ ‬لم‭ ‬يقض‭ ‬على‭ ‬الجديد‭ ‬الأصيل،‭ ‬ولكن‭ ‬مشهد‭ ‬التنوع‭ ‬الخلاق‭ ‬الذي‭ ‬تتراكم‭ ‬إنجازاته‭ ‬عاماً‭ ‬بعد‭ ‬عام،‭ ‬اختلف‭ ‬اختلافاً‭ ‬جذرياً‭ ‬عما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬السبعينيات‭. ‬والتعدد‭ ‬الذي‭ ‬‭ ‬يلازم‭ ‬التنوع‭ ‬الخلاق‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬تغير‭ ‬مشهد‭ ‬النقد‭ ‬العالمي،‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬المتغيرات‭ ‬الجذرية‭ ‬العالمية،‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬الناقد‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬أن‭ ‬يراجع‭ ‬موقفه‭ ‬وموقعه،‭ ‬ويسائل‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬المعرفية،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مجاله‭ ‬النوعي،‭ ‬أو‭ ‬بما‭ ‬يتأثر‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬النوعي،‭ ‬خصوصاً‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬صاعد‭ ‬من‭ ‬علاقات‭ ‬المعرفة‭ ‬البينية‭. ‬

هذه‭ ‬المتغيرات‭ ‬تفرض‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬الناقد‭ ‬المعاصر‭ ‬الذي‭  ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬مساءلة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جديد‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬قديم‭ ‬كان‭ ‬مؤمناً‭ ‬به،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يخرجه‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬الاتّباع‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬الابتداع‭. ‬وبالقدر‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الناقد‭ ‬أن‭ ‬يؤمن‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬نظرية‭ ‬ذ‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬جديدة‭ ‬أو‭ ‬قديمة‭ - ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬إمكان‭ ‬أيديولوجي،‭ ‬يوحي‭ ‬بأنها‭ ‬الأكمل‭ ‬والأشمل،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬فعل‭ ‬المساءلة‭ ‬الدائم‭ ‬يحرر‭ ‬الناقد‭ ‬من‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬أسر‭ ‬الإمكان‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬لأي‭ ‬نظرية‭ ‬من‭ ‬النظريات‭. ‬وحتى‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬بها‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬أنها‭ ‬نظرية‭ ‬لا‭ ‬صيغة‭ ‬نهائية‭ ‬لها،‭ ‬وأنها‭ ‬تصبح‭ ‬أكثر‭ ‬فاعلية‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭  ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬قط‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬موضوعاً‭ ‬للمساءلة‭ ‬التي‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬اختياره‭ ‬لها،‭ ‬ولا‭ ‬تتوقف‭ ‬هذه‭ ‬المساءلة‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬ممارستها‭ ‬بوصفها‭ ‬موضوعاً،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬فاعل‭ ‬المساءلة،‭ ‬بوصفه‭ ‬ذاتاً‭ ‬للموضوع‭.‬

هل‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬ثوابت‭ ‬في‭ ‬رحلتي‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬منذ‭ ‬تخرجي‭ ‬سنة‭ ‬1965‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬زمنية‭ ‬تنبسط‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬كنت‭ ‬شاهداً‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬أحداث‭ ‬واقعنا‭ ‬المتحول‭ ‬وفاعلاً‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬المتحول‭ ‬بدوره؟

أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الإجابة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬المظاهر‭ ‬التالية‭:‬

الرغبة‭ ‬الدائمة‭ ‬في‭ ‬التجدد‭ ‬وعدم‭ ‬الركون‭ ‬إلى‭ ‬الثابت‭ ‬وغير‭ ‬المتحول‭. ‬فمن‭ ‬خصائص‭ ‬الحياة‭ ‬الحركة‭ ‬الدائمة‭ ‬والتحول‭ ‬المستمر،‭ ‬ولذلك‭ ‬فلا‭ ‬أظن‭ ‬أنني‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬عامي‭ ‬الثاني‭ ‬والسبعين‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬عامي‭ ‬الخمسين‭ ‬أو‭ ‬الأربعين،‭ ‬فلاأزال‭ ‬قابلاً‭ ‬للتجدد‭ ‬وحريصاً‭ ‬عليه‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬ما‭ ‬يقدره‭ ‬لي‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬عمر‭.‬

إنني‭ ‬كنت‭ ‬فاعلاً‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬أستطيع‭ ‬في‭ ‬تأكيدي‭ ‬تطوير‭ ‬الثقافة‭ ‬النقدية‭ ‬للحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬المصرية‭ ‬والعربية،‭ ‬ولذلك‭ ‬انضممت‭ ‬إلى‭ ‬أستاذي‭ ‬عزالدين‭ ‬إسماعيل‭ ‬وصديقي‭ ‬صلاح‭ ‬فضل‭ ‬وأسسنا‭ ‬معا‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬فصول‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬ذ‭ ‬ولايزال‭ - ‬تأثيرها‭ ‬الحاسم‭ ‬في‭ ‬إبراز‭ ‬جيل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬النقاد؛‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬كمال‭ ‬أبوديب‭ ‬من‭ ‬سورية،‭ ‬وعبدالله‭ ‬الغذامي‭ ‬من‭ ‬السعودية،‭ ‬ومحمد‭ ‬برادة‭ ‬ومحمد‭ ‬بنيس‭ ‬من‭ ‬المغرب،‭ ‬وحمادي‭ ‬صمود‭ ‬وعبدالسلام‭ ‬المسدي‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬تونس،‭ ‬وفريال‭ ‬غزول‭ ‬من‭ ‬العراق،‭ ‬ولايزال‭ ‬تتابع‭ ‬الأجيال‭ ‬مستمراً،‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬إبرازه‭  ‬هيئة‭ ‬تحرير‭ ‬‮«‬فصول‮»‬‭ ‬الجديدة‭.‬

لقد‭ ‬حافظت‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الروح‭ ‬عندما‭ ‬أصبحت‭ ‬أميناً‭ ‬عاماً‭ ‬للمجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للثقافة،‭ ‬فأسست‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة‭ ‬الذي‭  ‬أصبح‭ ‬المركز‭ ‬القومى‭ ‬للترجمة،‭ ‬وأعترف‭ ‬بأنني‭ ‬كنت،‭ ‬ولاأزال،‭ ‬منحازاً‭ ‬لكتب‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والدراسات‭ ‬الأدبية،‭ ‬وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬لدينا‭ ‬أكبر‭ ‬مكتبة‭ ‬نقدية‭ ‬مترجمة،‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭. ‬ولاتزال‭ ‬فرحتي‭ ‬غامرة‭ ‬بأن‭ ‬تلامذتي‭ ‬وتلامذة‭ ‬تلامذتي‭ ‬يواصلون‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬بنجاح‭ ‬يفرحني‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬حد‭.‬

إن‭ ‬عقلانيتي‭ ‬قادتني‭ ‬إلى‭ ‬التمسك‭ ‬بفعل‭ ‬التنوير‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬وحده،‭ ‬وإنما‭ ‬يمتد‭ ‬ليواجه‭ ‬تيارات‭ ‬الإظلام‭ ‬والنقل‭ ‬والتقليد‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الفكر‭ ‬وليس‭ ‬النقد‭. ‬ولاأزال‭ ‬مؤمنا‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬تجدد‭ ‬حيوياً‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬أو‭ ‬النقد‭ ‬أو‭ ‬غيرهما‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المجتمع‭ ‬مستنيراً‭ ‬قابلا‭ ‬للتغير‭ ‬إلى‭ ‬الأفضل،‭ ‬نزاعاً‭ ‬بحكم‭ ‬استنارته‭ ‬إلى‭ ‬محاربة‭ ‬قوى‭ ‬الإظلام‭ ‬الفكري‭ ‬والإرهاب‭ ‬الديني‭ ‬على‭ ‬السواء‭. ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬أتردد‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أمزج‭ ‬بين‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬وأفكاري‭ ‬التنويرية‭ ‬لكي‭ ‬نصنع‭ ‬حلم‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الحديثة،‭ ‬وهو‭ ‬الحلم‭ ‬الذي‭  ‬لم‭ ‬يتحقق‭ ‬بعد،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬يناير‭ ‬2011‭ ‬و30‭ ‬يونيو‭ ‬2013‭. ‬فالمجتمع‭ ‬الذي‭  ‬نعيش‭ ‬فيه‭ ‬لايزال‭ ‬منغلقاً‭ ‬تسيطر‭ ‬عليه‭ ‬بطريركية‭ ‬تحول‭ ‬بينه‭ ‬واستعادة‭ ‬حيويته‭ ‬أو‭ ‬انطلاقه‭ ‬الكامل‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭.‬

وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬عقلانيتي‭ ‬النقدية‭ ‬لا‭ ‬تنفصل‭ ‬عن‭ ‬عقلانيتي‭ ‬التنويرية،‭ ‬فأنا‭ ‬ناقد‭ ‬تنويري‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬قصد‭ ‬إليه‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬حينما‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬الناقد‭ ‬المدني‭. ‬

ولذلك‭ ‬لاأزال‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أنا‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬الناقد‭ ‬الثقافي‭ ‬والناقد‭ ‬التنويري‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬حالة،‭ ‬ومثال‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬عن‭ ‬الرواية‭ ‬والاستنارة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬صدرت‭ ‬طبعته‭ ‬الأولى‭ ‬سنة‭ ‬2011،‭ ‬وكتابي‭ ‬عن‭ ‬الرواية‭ ‬‮«‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الإرهاب‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬2003،‭ ‬وكتابي‭ ‬الأخير‭ ‬‮«‬المقاومة‭ ‬بالكتابة‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬2016،‭ ‬وهو‭ ‬عن‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬واجهت‭ ‬الاستبداد‭ ‬السياسي‭.‬

لقد‭ ‬أتاح‭ ‬لي‭ ‬عملي‭ ‬أميناً‭ ‬عاماً‭ ‬للمجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للثقافة‭ ‬أن‭ ‬أدعو‭ ‬كبار‭ ‬النقاد‭ ‬والكتاب‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬ترتب‭ ‬عليه‭ ‬قضاء‭ ‬جاك‭ ‬دريدا‭ ‬عشرة‭ ‬أيام‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ومناقشات‭ ‬مطولة‭ ‬حول‭ ‬معنى‭ ‬التفكيك‭ ‬وأهداف‭ ‬فلسفته،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬كبار‭ ‬آخرين‭ ‬وعالميين،‭ ‬منهم‭ ‬ماريو‭ ‬فارغاس‭ ‬يوسا‭ ‬الذي‭  ‬حصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬سنة‭ ‬2010،‭ ‬وروبرت‭ ‬يونج‭ ‬ناقد‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الاستعمار،‭ ‬وميشيل‭ ‬بوتور‭ ‬الناقد‭ ‬العالمي‭ ‬الذي‭  ‬شارك‭ ‬بكتاباته‭ ‬الروائية‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬الرواية‭ ‬الجديدة‮»‬،‭ ‬وغير‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات،‭ ‬أسماء‭ ‬غابت‭ ‬عن‭ ‬ذاكرتي‭. ‬وعن‭ ‬طريق‭ ‬هذه‭ ‬الدعوات‭ ‬استطاع‭ ‬المثقف‭ ‬المصري‭ ‬والعربي‭ ‬أن‭ ‬يطرح‭ ‬أسئلته‭ ‬المباشرة‭ ‬على‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأعلام‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله‭. ‬وأرجو‭ ‬أن‭ ‬تتواصل‭ ‬هذه‭ ‬التقاليد‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للثقافة‭.‬

إن‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬كما‭ ‬يعني‭ ‬لي‭ ‬ذ‭ ‬في‭ ‬التحليل‭ ‬الأخير‭ -  ‬أنه‭ ‬عملية‭ ‬مساءلة‭ ‬متعددة‭ ‬الأطراف‭ ‬والأوجه‭ (‬سواء‭ ‬بالمعنى‭ ‬الأفقي‭ ‬السنتجماتي‭ ‬أو‭ ‬الرأسي‭ ‬الباراجماتي‭). ‬وهذه‭ ‬المساءلة‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬لحظات‭ ‬اختيار‭ ‬النظرية‭ ‬أو‭ ‬لحظات‭ ‬ممارستها،‭ ‬أو‭ ‬لحظات‭ ‬اختبار‭ ‬سلامة‭ ‬نتائج‭ ‬عملها،‭ ‬أعني‭ ‬فعل‭ ‬اليقين‭ ‬من‭ ‬سلامة‭ ‬النتائج‭ ‬التي‭ ‬يتوصل‭ ‬إليها‭ ‬الناقد‭ ‬في‭ ‬مرحلته‭ ‬النهائية،‭ ‬والأمر‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬معنى‭ ‬الـ‭ ‬Verification‭ ‬بل‭ ‬يجاوزه‭ ‬إلى‭ ‬معنى‭ ‬التقييم‭ ‬Evaluation  ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يصل‭ ‬الناقد‭ ‬بمباحث‭ ‬الإبستمولوجيا‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬موضع‭ ‬الوصل‭ ‬الأول‭ ‬بين‭ ‬الناقد‭ ‬والمفكر،‭ ‬فكل‭ ‬ناقد‭ ‬كبير‭ ‬ينطوي‭ ‬نقده‭ ‬ذ‭ ‬دائماً‭ - ‬على‭ ‬ما‭ ‬يصله‭ ‬بالفلسفة،‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬أفلاطون‭ ‬وأرسطو‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬دريدا‭ ‬وزيزاك‭ ‬