سيرة وعي ناقد أدبي
ترجع رغبتي في ممارسة النقد الأدبي إلى بدايات بعيدة، قبل أن أدخل إلى الجامعة، فلاأزال أذكر أنني في المرحلة الثانوية كنت قارئاً نهماً للأعمال الأدبية التي تشدني، وكان على رأسها أعمال نجيب محفوظ التي دفعتني إلى أن أكتب عنها مقالات قصيرة في صحيفة الحائط، التي كنا نكتبها في المدرسة الثانوية، بوصفها نوعاً من النشاط الثقافي. وأذكر أنني قبل أن أغادر الثانوية كتبت بحثاً عن شاعرية أحمد شوقي ولم أكن فيه ناقداً بمعنى الكلمة، وإنما كنت معتمداً على أفكاري الساذجة في ذلك الوقت، وآراء غيري المنشورة في الكتب إلى درجة أراها الآن نوعاً من السرقة الأدبية البريئة من كتب شوقي ضيف وطه حسين وشكيب أرسلان وغيرهم من الذين كتبوا عن شاعرية أحمد شوقي.
عندما دخلت الجامعة في سبتمبر 1961، كنت قد فرغت من قراءة ما كتبه طه حسين في النقد الأدبي بالقدر الذي كنت فيه متابعاً نهماً لكتابات تلامذته المباشرين من أمثال محمد مندور ولويس عوض. وكان محمد مندور يجذبني على نحو خاص بسبب سهولة أسلوبه التعليمي إلى درجة جعلتني أتعلق به قارئاً وأتتبعه في كل الندوات التي كان يحضرها أو يقدمها في المنتديات الثقافية في القاهرة، ولا أنسى يوم وفاته في يونيو 1965، وكنت أؤدي امتحانات الليسانس وفاجأني زميلي المرحوم حسن توفيق بنبأ وفاة مندور الذي كانوا يطلقون عليه لقب «شيخ النقاد»، وبكينا معاً على فقد هذا الناقد الكبير الذي ترك فيّ أثراً لا يمكن نسيانه، ولذلك ظللت منطوياً على رغبتي أن أكتب عنه كتاباً، وما أكثر ما كتبت عنه من مقالات، ولكني لم أستطع إلى اليوم تنفيذ ما وعدت نفسي بأن أنجزه منذ سنوات بعيدة. وأذكر أنه عندما طلب منا أستاذي عبدالمحسن طه بدر كتابة بحث في الرواية العربية الحديثة، اخترت أن أكتب عن إحدى شخصيات «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ، متابعاً ما فعله محمد مندور في كتابه «نماذج بشرية» (1944)، وأظن أن تكويني لم يقتصر على طه حسين الذي عشقته قبل أن أراه، وحدد لى طريق حياتي قبل أن ألتقيه مع أستاذتي سهير القلماوي التي أدين لها بالكثير. فقد علمني طه حسين أن أتمسك بالمنهجية التي عرفت معناها للمرة الأولى من كتاباته، مؤكداً العقلانية التي تتوسل بالشك لكي تصل إلى اليقين، فضلاً عن بقية المبادئ النقدية أو المنهجية التي تعلمتها من طه حسين، الذي أسعدني الحظ بمقابلته في صحبة أستاذتي سهير القلماوي. وكنت قبل أن أراه أحفظ عن ظهر قلب ما قاله عن أهمية الحرية في البحث الأدبي، وكيف أن هذه الحرية ألزم ما تكون للمبدع والدارس على السواء. ولاأزال أسترجع كلماته عن العلاقة بين الأدب وناقده والحرية التي لها كل الأولوية في فكر طه حسين، خصوصاً حين يقول: «هذه الحرية التي نطلبها للأدب لن تنال لأننا نتمناها، فنحن نستطيع أن نتمنى، وما كان الأمل وحده منتجاً، وما كان يكفي أن تتمنى لتحقق أمانيك. إنما ننال هذه الحرية يوم نأخذها بأنفسنا، لا ننتظر أن تمنحنا إياها سلطة ما، فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقاً للعلم، وقد أراد الله أن تكون مصر بلداً متحضراً يتمتع بالحرية في ظل الدستور والقانون».
وأعتقد أن إيمان طه حسين بالحرية والعدالة الاجتماعية التي جعلها عدالة ثقافية، فضلاً عن نزعته الإنسانية وإيمانه الدائم بالتطور... كل ذلك جعلني محباً له وحريصاً على أن أكتب عنه كتابي «المرايا المتجاورة... دراسة في نقد طه حسين».
ولم يكن طه حسين هو الجد الذي أفخر بالانتساب إليه، وإنما أضيف إليه كل تلامذته الذين أصبحوا أساتذة مباشرين لي؛ ابتداء من سهير القلماوي مروراً بعبدالعزيز الأهواني وشكري عياد ومحمد مندور. وربما كان أقدمهم تأثيراً في تكويني العقلي محمد مندور، الذي كنت أقرأ له قبل أن أدخل جامعة القاهرة وأختار الدراسة في قسم اللغة العربية بها. ولقد كان أهم ما تعلمته من مندور رهافة القراءة النصية التي تعلمها من مدرسة شرح النصوص في فرنسا، والتي كانت كتبه المختلفة عن الشعراء بوجه خاص تطبيقاً لمبادئها. ولا أنسى كتابه عن النقد والنقاد المعاصرين، ولا شك في أن جملته الأثيرة إلى نفسي: «الفهم تملك للمفهوم» لم تفارق ذهني قط إلى اليوم. ومازلت مؤمنا بما كان يرمي إليه من أن الذوق المدرب هو المحرك الأول لكل عملية نقدية. ولذلك لم يكن غريباً أن أكتب بحث الليسانس في مادة الأدب العربي الحديث بعنوان: «حسنين قمة المأساة في بداية ونهاية»، متابعاً ما كتبه محمد مندور عن النماذج البشرية التي اختارها من بين الروايات العربية والأجنبية، خصوصاً ما كتبه عن «أحمد عاكف... البرجوازي الصغير».
والمؤكد أنني تعلمت من مندور الثقة بالذوق المدرب، كما تعلمت من القلماوي أن الناقد لا يكون ناقداً إلا بعد أن يتقن لغة أجنبية على الأقل، يستطيع أن يبحر بها بعيداً في آداب العالم لكي يعود إلى أدبه مزوداً بخبرات جديدة. كما تعلمت من أستاذي شكري عياد أنه لابد للناقد من أساس فلسفي يستند إليه في رؤيته للعالم والأدب على السواء. وكان المشهد الأدبي النقدي في منتصف الستينيات موزعاً بين قطبين: أنصار البحث عن البعد الاجتماعي للأدب، أمثال محمد مندور ولويس عوض، في مقابل أصحاب البحث عن البعد الجمالي دون سواه، وتمثلهم مدرسة رشاد رشدي وكتابات زكي نجيب محمود. وقد كان مندور إلى جانب لويس عوض يحتكران حبي وتقديري، وذلك بالقدر الذي نفرت به من كتاب محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس «في الثقافة المصرية»، الذي صدر في بيروت سنة 1955، ولكني لم أقرأه إلا في مطالع الستينيات عندما أصبحت طالباً في قسم اللغة العربية. والحق أنني لم أرتح قط إلى هذا الكتاب وأسلوبه «الدوجماطي» في معالجة قضايا الأدب والثقافة، فقد كان العالم وعبدالعظيم أنيس ناقدين أيديولوجيين بالمعنى السلبي لكلمة الأيديولوجية. ولم يكونا معاصرين أو حتى قارئين لتيارات النقد الأدبي التي ظل يموج بها العالم المعاصر، فحق عليهما أن يكتب عن كتابهما ناقداً وناقضاً، المثقف الماركسي الأكثر معاصرة والأكثر عمقاً في معاصرته، الأستاذ أبوسيف يوسف مقالاً بعنوان: «نقادنا المعاصرون غير معاصرين».
وبعد أن تخرجت في الجامعة سنة 1965، قررت أن تجمع أطروحتى للماجستير بين الحسنيين: الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية للأدب من ناحية ودراسة الجوانب الفنية من ناحية موازية، هكذا قمت بتسجيل أطروحتى عن «الصورة الفنية في شعر الإحياء» التي استغرقت مني أربع سنوات حتى أنجزتها، وعندما أتطلع الآن إلى هذه الأطروحة من بعيد، أجد أنني وقعت في حبائل أستاذي عبدالعزيز الأهواني، عليه رحمة الله، خصوصاً في ما أكده في كتابه عن «ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار»، فقد كان ذ رحمه الله - يرى أن دراسة الشعر العربي في مراحله المتأخرة ينبغي أن تكون معتمدة على اكتشاف كيف يسعى الشاعر المتأخر إلى أن يعتمد على الشعراء السابقين عليه، خصوصاً في مراحل ازدهار الشعر العربي الأولى. وعلى ذلك يصبح الناقد للشعر الإحيائي أشبه بقصاص الأثر الذي يتتبع الأصول المباشرة وغير المباشرة التي أخذ عنها الشعراء المتأخرون شعرهم، على نحو غدا معه هذا الشعر كما لو كان سبيكة امتزجت فيها أخلاط متنوعة من التراث الشعرى الأسبق. وقد تحولت إلى قصاص للأثر حقاً، خصوصاً في تتبعي علاقة شعراء النهضة، أو الإحياء، بأسلافهم من الشعراء الأوائل الذين أخذوا عنهم شعرهم. وقد لامني أستاذي شكري عياد في لجنة المناقشة بأنني كتبت أطروحتي بناء على تصور سابق. وكان معه الحق، فقد كنت واقعاً تحت تأثير عبدالعزيز الأهواني ومنهجه في دراسة ابن سناء الملك إلى أبعد حد. وفي هذا السياق الزمني صدمتنا هزيمة 1967 التي ناقشت الماجستير بعدها بعامين. والمؤكد أن هزيمة 1967م دفعت كثيرين من أبناء جيلي إلى الشك في كل شيء، والثورة على بطريركية الأب السياسي الذي كان يمثله جمال عبدالناصر في ذلك الوقت. فاختلط الأدبي بالسياسي على نحو لم ننجُ منه إلى اليوم. وكانت أكثر المناهج شيوعاً في ذلك الوقت بقايا المدرسة الجمالية التي كان لايزال يمثلها رشاد رشدي وتلامذته مقابل مدرسة الالتزام الاجتماعي التي كان يمثلها، بدرجات متفاوتة، كل من محمد مندور ولويس عوض، وعلى نحو «دوجماطي» محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس.
لكن الثورة التي ولدتها هزيمة 1967 في نفوسنا جعلتنا نتطلع إلى مدارس ومذاهب نقدية جديدة كما لو كانت الجدة في هذا الوقت هي نوع من التخلص من أسر الماضي الذي قادنا إلى الهزيمة المروعة في 1967. وهكذا ما كدنا نسمع عن البنيوية بنوعيها: الشكلي والتوليدي في ذلك الوقت حتى اندفعنا إليهما لنفاجأ بأن العداء بينهما يشبه العداء بين طرفي الثنائية الضدية التي كانت موجودة قبل 1967م، في مرحلة الحرب الباردة؛ فإذا بنا أمام البنيوية اللغوية المنسوبة إلى دي سوسير التي يطلق عليها أنصارها البنيوية الشكلية مقابل النقيض: البنيوية التوليدية التي رآها نقاد اليسار نوعاً من التغير الجذري الذي يخلصهم من مزالق الواقعية الاشتراكية وفضائحها، بل يدفعهم إلى منطقة أبعد غوراً في الاقتراب من النص الأدبي على نحو ما كان يؤكد لوسيان جولدمان في كتاباته التي تأثرت بها وحاولت أن أتبعها في بحث لي عن التراث النقدي، كان موضوعه «نقد ابن المعتز».
وأعترف بأن عام 1977 كان عاماً حاسماً في تكويني الثقافي والنقدي إلى أبعد حد، فقد أتيح لي أن أذهب إلى الولايات المتحدة، جامعة ماديسون ذ وسكنسن، وأقضي فيها عاماً كاملاً متابعاً متغيرات النقد الأدبي العالمي، على الأقل المكتوب باللغة الإنجليزية. وقد ظللت أعمل طوال هذا العام ليلاً ونهاراً، من دون كلل أو ملل، لكي أرتفع بثقافتي النقدية إلى المستوى الذي وصل إليه النقد العالمي في ذلك الوقت. وقد كتبت عن ذلك أكثر من مرة، وأحسب أنه من المصادفات السعيدة أنني بعد أن عدت من الولايات المتحدة تناقشت مع صلاح عبدالصبور في ضرورة إنشاء مجلة نقدية متخصصة ذات مستوى متميز في النقد الأدبي، وبالفعل نجحنا في إصدار هذه المجلة التي رأس تحريرها عز الدين إسماعيل، وكنت أنا وصلاح فضل نائبي رئيس التحرير. وأؤمن أن هذه المجلة قد أبرزت جيلاً جديداً من النقاد، على نحو تغيرت معه لغة النقد الأدبي ومصطلحاته الأساسية.
وعندما أستعيد هذه الفترة البعيدة من الزمن، أجد نفسي منطوياً على ناقد عقلاني يريد أن يرى الجمال في النظام وأن يرى النظام في الفوضى، ولذلك كنت أردد دائماً بيني وبين نفسي هذين السطرين اللذين كتبهما صلاح عبدالصبور في قصيدته «مرثية رجل عظيم» ضمن ديوانه «تأملات في زمن جريح» (1970). وواضح أن تكراري لهذين البيتين كان تعبيراً عن طريقة بعينها في رؤية العالم، فقد كنت حقاً أريد أن أرى النظام في فوضى ما بعد العام السابع والستين. ولم أكن، ولاأزال، أدرك بوضوح ذ كما أدرك الآن - أن البحث عن نسق معقول هو مفتاح فهم الأشياء، وهو الدليل على تملكها معرفياً ما ظل الفهم تملكا للمفهوم، كما تعلمت من محمد مندور. ولهذا لم أجد غرابة في نزوعي إلى الإفادة من النقيضين: البنيوية اللغوية (الشكلية) والبنيوية التوليدية، فكلتاهما - رغم التباعد الجذري بينهما، حتى في مفهوم البنية نفسها - تؤكد هذه العقلانية التي أنطوي عليها، وكلتاهما تحيل الأعمال الإبداعية إلى عمليات مفهومة وأبنية معقولة يمكن للعقل أن يتملكها معرفياً، وهذا ما كنت أسعى إليه في مقاربة الأعمال الإبداعية التي كنت ذ ولاأزال - أراها أشبه بعوالم نتأملها، باحثين في كل عالم منها عن الخيط أو الخيوط التي تلم شتاتها، وتنتظمها، مختفية وراء تشتت الأشكال والصور وخلف تغير الأمزجة والعقول. هل كنت واعياً بهذه العقلانية التي انطويت عليها؟ المؤكد أنني لم أعرف ذلك إلا بعد سنوات من التأمل الذاتي والتجريب النقدي، فقد لاحظت على مستوى الممارسة النقدية وما تنطوي عليه من استبطان ذاتي، أنني أقرب إلى وضوح «أبوللو» الإله الشمسي الذي يمثل التناسب والاتزان الكلاسيكي، وأبعد ما أكون عن ديونيسيوس الذي يمثل الاندفاع في عوالم النشوة والجنون، ولذلك وجدت نفسي أنحاز بقلبي إلى شعر صلاح عبدالصبور العقلاني، وأعجب بدرجة لا تخلو من التحفظ أحياناً بشعر أدونيس الذي يكاد يكون نقيضاً للعقلانية، خصوصاً في شطحاته الصوفية في أندلس الأعماق، أو الهجرة الدائمة بين أقاليم الوعي واللاوعي.
وعلى مستوى المدارس النقدية التي جاءت في أعقاب المد البنيوي، كنت أقرب إلى أفكار ميشيل ﭬوكو وإعادة صياغتها في نقد إدوارد سعيد، ولم أتعاطف تماماً مع تفكيكية جاك دريدا، رغم أني دعوته إلى القاهرة، وقضى عدداً من الأيام الغنية بالنقاش معي والمجموعة التي كانت تترجم كتابه الأشهر «في علم الكتابة» أو «جراماتولوجي». هذه النزعة العقلانية التي أنطوي عليها هي نزعة رحبة مفتوحة لكل ما يتناقض ظاهرياً والعقلانية. فما أكثر ما يبدو غير المعقول في الأدب معقولاً ونسقياً، خصوصاً عندما نمحصه ونسلط عليه أنوار العقل، فنكتشف أنه غير خارج على قواعد العقل المرنة في النهاية. وأظن أن إعجابي بإدوارد سعيد الذي تأثرت به شخصياً وبكتاباته لم يكن نقيضاً لهذه العقلانية، فإدوارد سعيد نفسه يمكن أن نصفه بأنه عقلاني ينتسب إلى اليسار الأمريكي. ولذلك ظل نموذجاً لالتزام الناقد بقضايا أمته والجماعة الإنسانية التي ينتمي إليها، والهوية الفلسطينية المدنية التي ينتسب إليها، وكتب من أجل إيمانه بها عن «النقد المدني» بوصفه نقداً مضاداً لكل ما هو أصولي، متعصب وعرقي، ومعادٍ للإنسانية.
وكان وصولي إلى هذا النوع من الإدراك ينعكس على كتاباتي، سواء على مستوى النقد التطبيقي أو النقد النظري، ولعل من المهم هنا أن أؤكد اهتمامي المبرر بالنقد النظري أو النقد الشارح أو نقد النقد، وكلها دلالات مختلفة لمدلول واحد، فالنقدذ من حيث هو عملية تصورية وإجرائية- لابد أن يراجع نفسه في اللحظات المتوترة من التاريخ أو المتغيرات الجذرية للزمن الذي يكتب فيه. ومن المؤكد أن نقد النقد أو النقد النظري عملية بالغة الأهمية في إدراك التوازي بين متغيرات الزمن ومتغيرات الأفكار النقدية، ولهذا اهتممت بالنقد النظري، ولعلي من أكثر النقاد لأبناء جيلي كتابة في مجاله. فكتبي الأربعة الأولى تدخل في باب النقد الشارح أو نقد النقد، سواء كانت «الصورة الفنية في التراث البلاغى والنقدي» التي نشرت للمرة الأولى سنة 1974، أو «مفهوم الشعر» الذي نشرت طبعته الأولى سنة 1998، أو «المرايا المتجاورة: دراسة في نقد طه حسين» الذي نشرت طبعته الأولى في سنة 1983، وأضيف إليها «قراءة التراث النقدي» الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1991، ولا أستثني منها «آفاق العصر» الذي صدر سنة 1977 أو «نظريات معاصرة» سنة 1998 أو حتى «زمن الرواية» سنة 1999 أو «قراءة النقد الأدبي» الذي صدر سنة 2002، وأخيرا «النقد الأدبي والهوية الثقافية» الذي صدرت طبعته سنة 2010.
إن اهتمامي بالنقد النظري أو نقد النقد هو أمر ناتج عن إحساس ينبع من إدراكي بأهمية مراجعة القواعد النظرية التي ينبني عليها النقد الأدبي في كل مرحلة زمنية متوترة، أو متأزمة، أو تختلط فيها الأمور. ولاأزال أعتقد ذكذلك- أن النقد الأدبي يشبه القاطرة التي تحتاج إلى الصيانة والكشف على آلياتها، خصوصاً إذا ما شعر الناقد بأن سرعة القاطرة لم تعد بالكفاءة نفسها. والمؤكد أنه تمر فترات زمنية يرتبك فيها النقد الأدبي وتختلط فيها الأشياء، وعندئذٍ لابد من المراجعة لكي تعود الأجزاء المحركة للقاطرة إلى حالتها الأولى من الكفاءة والسرعة. ولهذا أشعر بأن ما كتبته من نقد شارح أو نقد للنقد لا ينفصل أبداً عما كتبته من نقد تطبيقي، سواء في مجال الشعر الذي اهتممت بدراسته من عصر الإحياء إلى السبعينيات أو الرواية التي تنبأت بأننا نعيش في زمنها وأنها النوع الأدبي الصاعد في زمن التغير والتحول. ولا أظن أن كتاباً من كتبي أثار من الضجة، ومن تناقضات القبول أو الرفض، كما أثار كتابي «زمن الرواية» الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1999، ولايزال هذا الكتاب ذ في تقديري - أشبه بالنبوءة التي سبقت الوجود الحقيقي لهذا السيل العرم الذي نعيشه على مستويات الإبداع الروائي.
يبقى أن أؤكد أن العقلانية التي أنطوي عليها لا تنفصل عن مفاهيم معينة تظل أشبه بالثوابت في عملي النقدي. أولها إيماني بأن النقد الأدبي له وظيفة اجتماعية، وأن الناقد الأدبي فاعل اجتماعي من حيث هو فرد في المجتمع، وأن ما يقوم به هو نشاط اجتماعي بالضرورة، مشروط بشروط اللحظة التاريخية التي يمر بها مجتمعه، فهو يكتب داخل مجتمع يعي مسؤوليته ودوره فيه، خصوصاً من حيث كونه يسعى إلى أن يسهم مع غيره، عن طريق دوره المتعين، وعلى نحو مباشر أو غير مباشر، في الانتقال بالمجتمع من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية، سبيله في ذلك هو أداته النوعية من حيث هو فاعل اجتماعي. وهو الأمر الذي يفرض عليه أن يؤسس لنفسه أولاً، وللآخرين ثانياً، وظيفة لهذا النقد الذي يمارسه تطبيقاً وتنظيراً، مؤكداً أن نشاطه هذا ليس نشاطاً إكمالياً أو ثانوياً لحضور الإبداع بأنواعه في المجتمع، وإنما هو نشاط موازٍ يتفق في الهدف والقيمة ما ظلت وظيفة الإبداع مرتبطة بتحرير الإنسان من شروط الضرورة لينعم بآفاق الحرية التي لا نهاية لأبعادها، ما ظلت منطوية على المسؤولية التي هي جزء من معناها.
وكما يدرك المبدع أنه يصل إلى العام من خلال الخاص، وإلى الإنساني عبر المحلي، فإن الناقد يدرك أن نشاطه يبدأ من قراءة النصوص المتعينة التي تفرض حضورها عليه سلباً أو إيجاباً، وتقوده قراءاتها، في حالات بعينها، إلى مراجعة أدواته المزود بها، كي تستوعب النظرية التي يتبناها «التنوع اللانهائي» لأعمال الإبداع التي قد تتأبى على حدود النظرية وأدواتها وقدرتها على الاستيعاب. وعندئذٍ لابد من امتداد فعل المساءلة إلى النظرية نفسها، ووضعها موضع المساءلة، سواء من منظور اكتمالها وسلامة أدواتها الذاتية التي قد تقبل التطوير نتيجة هذه المساءلة، أو يثبت للناقد ضرورة تغييرها، ومساءلة غيرها الذي يمكن أن يكون أكثر منها فاعلية. في الحالة الأولى يمكن تغيير هذه الأداة أو تلك من الأدوات التقنية لتغدو النظرية أكثر فاعلية، في إطار الحفاظ على النسق الكلي الذي يحتويها ويشد عناصرها التي هي أدواتها وتقنياتها، حتى المستعارة عن غيرها. وفي الحالة الثانية، لابد من تغيير اللحمة والسداة، واستبدال نظرية بغيرها.
والحق أنني لم أصل إلى إدراكي هذه الوظيفة الاجتماعية للنقد إلا بعد أن وعيت أنه حتى الناقد الأدبي لابد أن يكون له دور في مجتمعه، على الأقل بوصفه مثقفاً، تؤرقه قضايا هذا المجتمع ومستقبله، خصوصاً في لحظات مثل تلك اللحظات التي نعيشها في عالم يسيطر عليه القمع من كل جوانبه وينتشر فيه الإرهاب الديني، كما ينتشر الطاعون في بيئة قابلة للأوبئة.
ولكن هذا الإيمان بالدور الاجتماعي للنقد لا ينفي عنه خصوصيته المائزة، فالفارق بين النقد الأدبي والإبداع الأدبي فارق جذري في الكيفية ولكن ليس في الهدف. إن الإبداع الأدبي فردي من نتاج شخص بعينه، يصوغ رؤية جمالية هي موازاة رمزية لواقع محدد، ومتغير، وهي رؤية تجاوز هذا الواقع المتعين إلى كل ما هو إنساني، يخلو من شروط الضرورة. أما الإبداع الثاني فهو الإبداع الذي يتصل بصياغة النظرية النقدية، أو تطبيقها، فهو بناء تصوري يجاوز الفرد عابراً للأقطار والقارات، ولا يمكن نسبته إلى دين ولا قومية، ولا حتى إلى فرد بعينه حتى ولو بدأت نواة النظرية من فرد، كما حدث مع البنيوية التي بدأ تشكلها من محاضرات دي سوسير في جامعة جنيف بسويسرا، مع السنوات الأولى من القرن العشرين، والتي انتهت رسمياً، مع ثورة الطلاب في باريس سنة 1968. وما بين سقوط البنيوية وعامنا هذا، 2016، سنوات ليست قليلة انقلب فيها العالم رأساً على عقب، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وفكرياً مرات ومرات. وتبدو هذه السنوات التي تجاوز نصف قرن كأنها عصور متطاولة من الأحداث الجسام التي ساهمت في تغيير كل الموازين والمعايير سلباً وإيجاباً. ربما كان أهم ما في عناصر الإيجاب ما أحدثته الطفرة المذهلة في التكنولوجيا من ثورة معرفية غير مسبوقة في كل مجال، ومنها النقد الأدبي الذي لم يعد منقسماً بين قطبي البنيوية اللغوية (الشكلية) والبنيوية التوليدية، في انقسام بدا كأنه رجع صدى للثنائية الضدية للحرب الباردة بين الرأسمالية والاشتراكية.
لقد ترك العالم هذه الثنائية وتخلى عنها ليدخل زمناً مغايراً لم تعد الولايات المتحدة تنعم فيه بدور القطب الواحد، حتى لو كانت أوهامها لاتزال تخايلها بذلك، ودخلنا في زمن متعدد الأقطاب، انزاحت فيه المركزية الأوربية - الأمريكية من صدارة المشهد، ليظهر عالم جديد مزاح المركز، قائم على التنوع البشري الخلاق الذي يضع النمور الآسيوية، متواصلة الصعود، في موقع الصدارة من تعددية المركز التي حلت محل الثنائية أو حتى الأحادية التي بدأت رحلة الأفول. وفي مقابل هذا التحول وفي موازاته، وليس على نحو آلي انداحت فيه الثنائية القديمة للبنيوية اللغوية والبنيوية التوليدية إلى تعددية ما بعد البنيوية، بل ما بعد المابعد، فأصبحنا في مواجهة التفكيك الذي تغيرت صور أواخره عن صور أوائله، ومثله «السميوطيقا». وأضف إليها «الهرمنيوطيقا» أو «نظرية الخطاب» و«خطاب ما بعد الاستعمار» الذي أصبح مدارس واتجاهات. وأضيف إلى الأسماء القديمة العشرات من الأسماء والإنجازات التي لم تفلت من صفات التعدد والتنوع فيها «نظريات الاستقبال» و«جماليات التلقي» في موازاة إنجازات مدارس علم النفس المختلفة، ابتداء من تلامذة لاكان في التحليل وليس انتهاء بدراسات المدارس التجريبية في علم النفس الإبداعي والتلقي على السواء.
صحيح أن الأخذ من النظريات النقدية لم يقض على الجديد الأصيل، ولكن مشهد التنوع الخلاق الذي تتراكم إنجازاته عاماً بعد عام، اختلف اختلافاً جذرياً عما كان عليه في السبعينيات. والتعدد الذي يلازم التنوع الخلاق بقدر ما يشير إلى تغير مشهد النقد العالمي، وفي سياق أوسع من المتغيرات الجذرية العالمية، يفرض على الناقد الأدبي في العالم العربي أن يراجع موقفه وموقعه، ويسائل نفسه في مواجهة هذه التحولات المعرفية، سواء في مجاله النوعي، أو بما يتأثر به في هذا المجال النوعي، خصوصاً في زمن صاعد من علاقات المعرفة البينية.
هذه المتغيرات تفرض نفسها على الناقد المعاصر الذي ينبغي ألا يتوقف عن مساءلة كل ما هو جديد وكل ما هو قديم كان مؤمناً به، وذلك على نحو يخرجه من موقف الاتّباع إلى موقف الابتداع. وبالقدر نفسه، على هذا الناقد أن يؤمن بأن كل نظرية ذ سواء كانت جديدة أو قديمة - تنطوي على إمكان أيديولوجي، يوحي بأنها الأكمل والأشمل، ولذلك فإن فعل المساءلة الدائم يحرر الناقد من الوقوع في أسر الإمكان الأيديولوجي لأي نظرية من النظريات. وحتى تلك التي لا يؤمن بها عليه أن يدرك أنها نظرية لا صيغة نهائية لها، وأنها تصبح أكثر فاعلية بالقدر الذي لا تتوقف قط على أن تكون موضوعاً للمساءلة التي تبدأ من اختياره لها، ولا تتوقف هذه المساءلة حتى في ممارستها بوصفها موضوعاً، ولا عن فاعل المساءلة، بوصفه ذاتاً للموضوع.
هل أستطيع أن أتحدث عن ثوابت في رحلتي النقدية التي بدأت منذ تخرجي سنة 1965 إلى اليوم، وهي مرحلة زمنية تنبسط على ما يزيد من نصف قرن كنت شاهداً فيها على أحداث واقعنا المتحول وفاعلاً في المشهد المتحول بدوره؟
أعتقد أن الإجابة يمكن أن تتحدث عن المظاهر التالية:
الرغبة الدائمة في التجدد وعدم الركون إلى الثابت وغير المتحول. فمن خصائص الحياة الحركة الدائمة والتحول المستمر، ولذلك فلا أظن أنني الآن في عامي الثاني والسبعين هو ما كنت عليه في عامي الخمسين أو الأربعين، فلاأزال قابلاً للتجدد وحريصاً عليه إلى نهاية ما يقدره لي الله من عمر.
إنني كنت فاعلاً بكل ما أستطيع في تأكيدي تطوير الثقافة النقدية للحياة الثقافية المصرية والعربية، ولذلك انضممت إلى أستاذي عزالدين إسماعيل وصديقي صلاح فضل وأسسنا معا مجلة «فصول» التي كان لها ذ ولايزال - تأثيرها الحاسم في إبراز جيل جديد من النقاد؛ ابتداء من كمال أبوديب من سورية، وعبدالله الغذامي من السعودية، ومحمد برادة ومحمد بنيس من المغرب، وحمادي صمود وعبدالسلام المسدي وغيرهم من تونس، وفريال غزول من العراق، ولايزال تتابع الأجيال مستمراً، تسعى إلى إبرازه هيئة تحرير «فصول» الجديدة.
لقد حافظت على هذه الروح عندما أصبحت أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة، فأسست المشروع القومي للترجمة الذي أصبح المركز القومى للترجمة، وأعترف بأنني كنت، ولاأزال، منحازاً لكتب النقد الأدبي والدراسات الأدبية، وكانت النتيجة أن أصبح لدينا أكبر مكتبة نقدية مترجمة، على امتداد العالم العربي. ولاتزال فرحتي غامرة بأن تلامذتي وتلامذة تلامذتي يواصلون هذه المهمة بنجاح يفرحني إلى أبعد حد.
إن عقلانيتي قادتني إلى التمسك بفعل التنوير الذي لا يقتصر على النقد الأدبي وحده، وإنما يمتد ليواجه تيارات الإظلام والنقل والتقليد على مستوى الفكر وليس النقد. ولاأزال مؤمنا بأنه لا تجدد حيوياً في الأدب أو النقد أو غيرهما إلا إذا كان المجتمع مستنيراً قابلا للتغير إلى الأفضل، نزاعاً بحكم استنارته إلى محاربة قوى الإظلام الفكري والإرهاب الديني على السواء. ولذلك لم أتردد في أن أمزج بين النقد الأدبي وأفكاري التنويرية لكي نصنع حلم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وهو الحلم الذي لم يتحقق بعد، رغم كل ما فعله الشباب في 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013. فالمجتمع الذي نعيش فيه لايزال منغلقاً تسيطر عليه بطريركية تحول بينه واستعادة حيويته أو انطلاقه الكامل إلى المستقبل.
وهذا يعني أن عقلانيتي النقدية لا تنفصل عن عقلانيتي التنويرية، فأنا ناقد تنويري بالمعنى الذي قصد إليه إدوارد سعيد حينما تحدث عن الناقد المدني.
ولذلك لاأزال على ما أنا عليه من المزج بين الناقد الثقافي والناقد التنويري في غير حالة، ومثال ذلك ما فعلته في كتابي «عن الرواية والاستنارة» الذي صدرت طبعته الأولى سنة 2011، وكتابي عن الرواية «في مواجهة الإرهاب» سنة 2003، وكتابي الأخير «المقاومة بالكتابة» سنة 2016، وهو عن الروايات التي واجهت الاستبداد السياسي.
لقد أتاح لي عملي أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة أن أدعو كبار النقاد والكتاب في العالم، الأمر الذي ترتب عليه قضاء جاك دريدا عشرة أيام في مصر، ومناقشات مطولة حول معنى التفكيك وأهداف فلسفته، فضلاً عن كتاب كبار آخرين وعالميين، منهم ماريو فارغاس يوسا الذي حصل على جائزة نوبل سنة 2010، وروبرت يونج ناقد ما بعد الاستعمار، وميشيل بوتور الناقد العالمي الذي شارك بكتاباته الروائية في ما كان يطلق عليه «الرواية الجديدة»، وغير هذه الشخصيات، أسماء غابت عن ذاكرتي. وعن طريق هذه الدعوات استطاع المثقف المصري والعربي أن يطرح أسئلته المباشرة على هؤلاء الأعلام في العالم كله. وأرجو أن تتواصل هذه التقاليد في المجلس الأعلى للثقافة.
إن النقد الأدبي كما يعني لي ذ في التحليل الأخير - أنه عملية مساءلة متعددة الأطراف والأوجه (سواء بالمعنى الأفقي السنتجماتي أو الرأسي الباراجماتي). وهذه المساءلة تبدأ من لحظات اختيار النظرية أو لحظات ممارستها، أو لحظات اختبار سلامة نتائج عملها، أعني فعل اليقين من سلامة النتائج التي يتوصل إليها الناقد في مرحلته النهائية، والأمر هنا لا يقتصر على معنى الـ Verification بل يجاوزه إلى معنى التقييم Evaluation وكل ما يصل الناقد بمباحث الإبستمولوجيا التي هي موضع الوصل الأول بين الناقد والمفكر، فكل ناقد كبير ينطوي نقده ذ دائماً - على ما يصله بالفلسفة، منذ زمن أفلاطون وأرسطو إلى زمن دريدا وزيزاك ■