بُلَنْد الحيْدري الرائد الذي أغفلوه
قبل قرابة سبعين عاماً كتب الناقد والمفكر اللبناني الكبير مارون عبود يقول: «ليس فينا من قدّر الصمت واستوحاه كما استوحاه هذا الشاعر، وقلّ في الأدب العربي من أوحت إليه الطريق ما أوحت إلى بلند الحيدري.
أشهد أن ديوان بلند الحيدري «خفقة الطين» أحفل ما رأيت من دواوين الشباب بالشعر، ولعله الشاعر الذي تحلم به بغداد».
ولم يكن هذا الشاعر الذي تحلم به بغداد منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي، إلا واحداً من شعراء المدرسة الحديثة ورواد حركة الشعر الذين التمع من أسمائهم نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي. وفي حين ازدادت هذه الأسماء الثلاثة تألقاً ولمعاناً ودوراناً في كتابات النقاد والباحثين بوصفهم الممثلين الكبار للحركة الشعرية الحديثة في العراق، فقد ظل اسم بلند الحيدري متوارياً، يلي هؤلاء في الأهمية والترتيب ودوران الكلام, بالرغم من الضجة التي صاحبت ديوانه الأول «خفقة الطين» الذي نشره عام 1946، ثم نشر ديوانه الثاني «أغاني المدينة الميتة» عام 1951، وبعده «جئتم مع الفجر» عام 1960، وتوالت دواوينه: «خطوات في الغربة»، و«رحلة الحروف الصفر»، و«حوار عبر الأبعاد الثلاثة»، و«أغاني الحارس المتعب»، و«إلى بيروت مع تحياتي»، و«أبواب إلى البيت الضيق»، و«آخر الدرب»، وأخيراً «دروب في المنفى»، وجمعت هذه الأعمال كلها في ديوان واحد بعنوان الأعمال الكاملة عام 1993، قبل رحيله بثلاث سنوات.
تلقى الحيدري - كما يقول محسن الموسوي في قاموس الأدب الحديث - تعليماً متقطعاً حتى سن الثامنة عشرة، فتفرَّغ للعمل وتعليم نفسه، وبدأ الكتابة في سن مبكرة مشاركاً في الحركة الفنية والثقافية، وتنقل في أعمال ترتبط بالصحافة الأدبية والأنشطة الثقافية في العراق وبيروت ولندن حيث كانت وفاته. وقصائده تعكس نفسيته الجامحة، وتجسد مواقف أبناء جيله المتمردين، كما تعكس تأثراً بشعراء المهجر، وتشيع فيها نبرة هادئة حزينة.
فما الذي جعله إذن لا ينال حظ أقرانه في الشهرة والذيوع والسبق إلى الألسنة والأقلام؟ أهو انكفاؤه على ذاته، عاكفاً على تأمل أعماقها، متأملاً ما يجيش في وجدانه، وما تضطرب به أفكاره ومشاعره، رفضاً للواقع الخارجي من حوله، وميلاً إلى الوحشة والانفراد، والبعد عن المشاركة في حركة المجتمع والحياة من حوله؟ وهل هذا التوحد والانعزال الوجودي تسببا في انعزاله عن الذكر وعدم الاهتمام بشعره، في عصر كان عصر الصوت العالي والاصطخاب والانغماس اليومي في المعارك السياسية والنضالية، وتبادل التهم والتصنيفات والحكم بالخيانة والتآمر بين مثقفي زمانه ومناضليه ومبدعيه في العراق؟
أم هي لغته السهلة البعيدة عن الزخرف والبلاغة، الخالية من تعقيد الصورة ووعورة العبارة، المكتفية بواقعيتها وتلقائيتها وبساطتها دون بهرجة أو زينة، بالمقارنة إلى لغات أقرانه ممن اعتبروا فحولاً في قصائدهم بما اصطنعوه من زخرف لغوي، وكسوا به شعرهم من طنطنة حيناً، ومن جلبة الإيقاع أحياناً، فحققوا جماهيرية التلقي التي لم يتح مثلها لشعر بلند الحيدري؟ أم أن الأمر يتعلق بإحساسه الداخلي بكرديته، الذي قعد به عن أن يكون سبّاقاً إلى إعلان الرأي والموقف، والمشاركة التي لا ينقصها الإقدام والجسارة، مثلما كان يفعل الآخرون؟
لكل هذا، ولغيره من الأسباب، فإن شعر بلند تأخر في الوصول إلى مُتلقّيه، ولم يكن هو معنيًّا بنشره في صورة تُيسّره لقرائه ومريديه، وتجعله متاحاً لهم، فأصبح البحث عن دواوينه - المتباعدة - يمثل صعوبة كبيرة، في متابعة شعره، وتلقف قصائده، واكتمال المعرفة بعالمه الإبداعي.
ولقد كنت واحداً من هؤلاء، أتيح له أن يطالع نموذجاً لشعر بلند الحيدري - لأول مرة - منشوراً في مجلة «الأديب» البيروتية عام 1954، في قصيدة عنوانها «لُعِنْتِ», يقول في مستهلها:
لُعِنْتِ
لا كُنتِ
ولا كان لي
هذا الهوى الممزوجُ بالموتِ
وفي غدٍ إذ يمّحي صوتي
وتيْبسُ الألوان في صمتي
لُعنْتِ..
وضاعت من ذاكرتي بقية القصيدة، لكنها دفعتني دفعاً إلى البحث عن بلند الحيدري، وشعره الذي لم أكن قد سمعتُ به حتى ذلك الحين.
في قصيدة عنوانها «سأم»، يقول:
يا طيوف الفناء هذي حياتي
دمّريها
فقد سئمتُ الوجودا
بدّلي النور بالظلام، ودوسي
تحت رجليْكِ عُمريَ المكدودا
قد سئمتُ الحياة أطلال صمتٍ
ودموعاً،
ينسجن حولي الشقاءَ
وركاما من الهموم الجواثي
فوق قلبي، تهدُّه إعياءَ
قد صحبنا الزمان حتى مللْنا،
وجرعنا من السنين الكفاية
أسدل السّتْر يا فناءُ،
ومزّقْ
قارئَ الأمس والهوى
والرواية
كنتُ بالأمسِ إن بكيتُ، تمشّت
فوق جفنيَّ كفُّها بحنانِ
ولَكمْ بالشفاه سلّت دموعي
لتُروّى جِنانها
من جِناني
كم رتعْنا على شواطئ حُلْمٍ
نتغنّى برائعات الأماني
فرأيت الحياة أطياف حُبّ
حالماتٍ
سماؤها عينانِ
وإذا ما الزمان لملم أُفْقي
أفسحت بين مُقلتيْها
زماناً
وأراقت من ناظريْن سماءً
كم تنقّلْتُ بينها نشوانا
أين ذاك الصباحُ؟
لا شيء منه
غير ذكرى تزيد قلبيَ حُزنا
ونشيج مغلّفٍ ببقايا
من فؤادٍ يذوب يأسا ويفنى
يا طيوف الفناء مُرّي سريعاً
قد خَبْرتُ الحياة في كلِّ دوْرِ
فعرفتُ الهدوءَ في الموت يحيا
ومهاوي الرجاء أرجاءُ قبْرِ
وفي قصيدة مبكرة من شعره - في ديوانه الأول - نتابع النغمة نفسها، التي ترددت في قصيدته التي كانت سبباً في تعرفي عليه، ولم يبق منها في الذاكرة إلا استهلالها، وهي نغمة السخط والقطيعة والانفجار الغاضب، حيث يقول - والقصيدة بعنوان: ودِدْتُ لو -:
وددتُ لو حطَّمْتُها
لو دُسْتُها
لو أنني قتلْتُها
وددتُ لو جبَلْتُ من عظامها
مرآتيَ المُحدّبة
أظلُّ فيها مُبحراً، تحملني أشرعتي
حكاية، أجمل ما فيها أنا
ونقمتي الملتهبة
وددت لو صيّرْتُ كلَّ جسمها
مَنافضاً
أطفئ ما أحرقُ من سجائري في عتْمها
لو أنني بصقْتُ في الوجه الذي
لي فيه ما ليس لها
لي فيه من نفسي التي حَبَبْتُها
نقاوة ليست لها
وددت لو عرْفتُها ككلّ من يعرفُها
ألعوبة تُغلق عينيْها
لأي عابرٍ إذا اشتهى
وددتُ لو عرفتُها
ككلِّ من يعرفها
فنادقاً يغرق فيها موتُها
وددتُ لو حفظتُ ما كانوا يقولون لها:
- سيدتي شكرا لما قد انتهى!
وفي مقطوعة كاشفة عن لغة الشاعر المنسابة في تلقائية وشفافية وإحكام، يقول:
إيه كم من عالمٍ
في صمتي الدامي، يموتُ
كم أمانٍ
في طريق الوهم أعياها السُّكوتُ
كم شفاهٍ
في دمى أطبقها اليأسُ المقيتُ
ثم ماذا
كلُّها ولّت، وظلَّ العنكبوتُ
ينسج الموت لصمتي
وهو مثلي سيموتُ
***
أيها القابع في زاوية مثل حياتي
لفّها ظلٌّ بليد اللونِ
يحكي أمنياتي
نفضَتْ وحدةُ أياميَ فيه
بعْضَ ذاتي
أنا في معبدك المهجور قدّستُ انفلاتي
إن تكن تنسجُ لي الموتَ
فمثلي ستموتُ!
من أصدق ما قيل عن شعر بلند الحيدري من نقاده ودارسيه ومتابعي رحلته الشعرية، أنه يتميز بالتصميم المتقن، والتركيز، وتصفية القصيدة من الشوائب، وتخليصها من الخطابة والتقرير وبنائها بناءً عفويًّا، يعتمد فيه الشاعر على الهجس والإيحاء، ويعبر بالصور، ويهتم بالحادثة الداخلية وخلق التوتر النفسي حولها، والتعبير عنها بشكل حدسي، وتوزيعها على أزمان مختلفة لخلق العمق في الصورة، مستعملاً الصمت كمكمل للتفعيلة أحياناً، ومستنداً إلى القوافي المتداخلة مع بقاء القافية الرئيسة مسيطرة على القصيدة. وهي سطور للناقد أحمد أبوسعد، أحد المتابعين لتجليات الإبداع الشعري عند بلند الحيدري، والمتوفرين على كشف دوائره ومنعطفاته. في قصيدة عنوانها «الطريق إلى بيروت»، يقول بلند:
مشينا إليك مسافة أجيال
ويوم وصلناكِ كنت بعيدة
وكان بأعيننا لايزال اشتياقٌ إليكِ
وكنّا هرِمْنا
فأرجلُنا المتعبات تساقطْن جزءاً فجزءاً
وأنّ غبار الطريق أضلّ سُرانا سنينا
وأنّا دمينا
وجال بنا ألف درب ودرب
وفي كل دربٍ نقول بحبٍّ ونحيا لحب
ويوم وصلناكِ كنت بعيدة
وكنا هرِمْنا
وكنا لبعض جموح نُكابُر، شلْواً تمنّى
لو أن المسافة لم تكُ ظنّا
وأنّ الهوى ليس مرمى لحيّ
وأنّ الهوى ليس مسعى لمْيت
أسيدتي
إذا ما تناهى إلى صمت ليلك صوتي
وكنتِ
على بعض خطوٍ لبيتٍ تهاوى لحافة جرحِ
فذلك بيتي
فكوني إليّ
فإني تعبتُ
وإني سقطتُ فلستُ لليلٍ ولستُ لصبْحِ
ومسّي جراحيَ علَّ لنا
لقاءً هنا
يصيرُ بنا الموطنا
فأدركُ بعثي
بموتي!
وفي قصيدة عنوانها «اغتيال» أصداء للمطاردات والملاحقات التي تعرض لها بلند الحيدري في كل مكان، بدءاً من طقوس حياته المرعبة في بغداد، وتوقعه الموت في كل لحظة، إلى رعب دائم لاحقه في كل العواصم العربية والأجنبية، وهو يحمل بين جنبيه قلب عصفور وديع، وفي شفتيه كلمات سلام ومحبة، يقول بلند الحيدري مخاطباً كلَّ من يترصده ويتهدد حياته ووجوده:
تترصَدني
وتطارد خطوي من ظلٍّ يغرق
في الوحلِ،
لظلٍّ يتلاشى في ألفيْ ظلِّ
وتقول: ستقتلني
تترصدني
حتى في رعشة كفَّيّ وفي غمضة جفني
حتى في حنجرتي الخرساء
تقوم كبوّابة سجنِ،
تترصّدني
من زمنٍ أعلن عبر لسانٍ مقطوعٍ
كلَّ براءته مني
وإلى زمن يسترجعُ بي،
خشية عبدٍ قِنٍّ أو زهوكَ
في وجهٍ أقبحَ من وثنِ
وتقول: ستقتلني
تترصدني
حتى في حلم يوشك أن يهرب بي من جُبْني
وتقول وتقسم أن تقتلني
عيناكَ تغوران بعيداً، ولحدِّ الصمتِ
الآسنِ في عتمة عيني
ما أقسى فُوّهتيْ بركانك يا وطني!
ما أقسى هذا الوجع الأسودَ
في عينك يا وطني
يا أنت المترصد لي
من خلف شفاعة خنجرك المسموم
اقتلني،
اقتلني
اقتلني
لكن قل لي:
ما جدوى أن تقتل إنساناً مهزوما
يا وطني؟!
ويقول بلند الحيدري وهو يقدم لقصيدته «لكي لا ننسى»: «في السابع عشر من شهر آذار 1988 قصف النظام العراقي مدينة «حلبجة» في كردستان العراق بالقنابل الكيماوية، وراح ضحيتها آلاف القتلى»:
مازلت وإن غبشت ذاكرتي
مازلت وإن أطفأها الهرمُ
مازلت وإن جفّ على طرفيْ عينيَّ
قذى ودمُ
مازلت أراود بيتاً كان لنا
كان يمدّ ذراعيه على وهجٍ في فجرٍ
سيجيءُ به وعدٌ أو حُلُمُ
كان لبيتي شباكان صغيران
أتذكر أنهما كانا أصغر من عينيْ إنسانْ
أصغر من أن تعلق في الخشب المتهرئ
شمسٌ، أو تكبر أكوان
باحة بيتي كانت لا تعدو فرْجة
راحة طفل
إن سرتُ تعثّرتُ بظلي
ولقد علّمني ابني
أن حدود الدنيا في بيتي دون مكان
علّمني أن أعرف نفسي في قطرة طلّ
علّمني أن لبيتي درباً يمتدُّ لألفيْ بستان
أنَّ لبيتي باباً
يتهدج عبر سؤالٍ وسؤال
وطوال ليالٍ وليال
ويقول تعال إليَّ
يا أنت الآتيَ من أيّ مكانٍ كان
ومن أيّ زمان
علمني أن أترك أبواب الدارْ
مُشرعةً
فادخلها يا أنت الآتي من أيّ زمان ومكان
ادخلها بسلام وأمان
ولكم كان البيت صغيراً
كان صغيراً كالقلب
وكان كبيراً كالقلب
غنيًّا بالدفء وبالحبّ
أذكرُ أنّا كُنّا
وكشباكيْ بيتي، وكبابِ البيت
ننامُ بعين ملأى بالأحلام الخضْرِ
على سفحٍ من جبلٍ في كردستان
أمسِ
وإن كانت كلُّ عيون صغارك يا بيتي
يا بلدي
تسبحُ في ألق الشمس
وتطلُّ ندًى من كل زهيرات النرجسِ
والوردِ
هبّت ريح مسمومة
نفَثتْها عينا بومة
لتسمّم كلَّ صغارك يا بيتي، يا بلدي
قتلت - فيمن قتَلتْ - ولدي
سرقتْ - فيما سرقتْ - ظلّي
الدرب لبيتي أمسى مقبرة تمتدُّ لألفيْ مقبرةٍ
في كردستان
لا شيء سوى الموت وظلّ الموتِ
ما من نرجسةٍ تحلم أن تكبر في بستان
ما ترك الأوغاد
إلا القتلى ورماد القتلى وسواد دخان
لكنَّ غدي الآتي
وحساب الأمواتِ
ودماء القتلى ستطارد وجه الشيطانْ
من هذي المرآةِ لتلك المرآةِ
من ألف زمانٍ ولألف زمان
وسيلتفُّ الحبل على عُنق الجلاد
وستعلن أمسكَ كردستان
وستبرأ من رجْسكَ بغداد
وسترجع للأرض الحلوة كلُّ بساتين
النرجسِ والأوراد
وسيولد ثانية ولدي، في كلِّ الأولاد!
وفي قصيدته القصيرة «مع الصمت المقرور» توحُّد وجودي قاسٍ، ونزف روحٍ لا ترى في العالم خيراً سوف يجيء، وخيبة ظن جعل منها عنواناً للرحلة والسّفر الدائم في العالم. يقول بلند:
لا أحدٌ في الدار سوايا
تكْ... تكْ... تكْ
صوت الساعة، ذات الصوت المكرور
لا أحد في الدار سوايا
غير عواء الكلب المسعورِ
وراء جدار الدارِ
وغير الصمت المقرور
تك .. تكْ .. تكْ
لا، لن أُرجع للساعة
ميليْها المكسورين
ولماذا؟
لا أمل في بحرٍ
يحملني أبعد من مدِّ رؤايا
لا وعدٌ في ضوءٍ لمنارٍ
لن أرجع، لا، لن أرجع للساعة
ميليْها المكسورينِ
ولماذا أسأل عن زمن لا يعْنيني
لي زمني
هذا المتوحد مثلي في خيبة ظني
هذا المتوزع ما بين عواء الكلب المسعورِ
وما بيني
تك... تكْ... تكْ
ذات الصوت المكرور
لا، لن أُرجع
للساعةِ ميليْها المكسورين
ما أروع أن نحيا في زمنٍ ميت
ما أروع أن أسرق موتي من موتي!
وفي قصيدته البديعة «لمَ لمْ يعتذروا»، يصور بلند الحيدري في حسٍّ مأساوي ولغة ضارعة، ووجود شاحب، لحظات انتظاره لمن لم يجيئوا ولم يعتذروا عن عدم حضور حفل ميلاده الثالث والستين، بعد أن زيّن الدار وأعدَّ العدة وأخذ يعدُّ الساعات والدقائق، يقول:
زينت الدارا
أعددت سنادين الورد ورتّبت الأزهارا
الخمر على مقربة من أزهار بيض
الزرق بجانب حُمرٍ
وقلتُ سأنتظرُ
كلُّ الأشياء تُعدُّ لميعادٍ
فلماذا لا أنتظرُ؟
الليل طويلٌ
والصبر على الليل طويلٌ
والشمعة حُبلى بضياء لن يخفت قبل الفجر
اليوم اجتزت السّتين
بثلاث سنين
فلماذا لا أنتظرُ
ورفاق طريقي كُثرٌ
منتصف الليل يدقُّ الواحدة، الثانية، الثالثة
ما من أحدٍ
الرابعة، الخامسة
ما من أحدٍ
هل شتَّ بهم وعدٌ عن وعدي
هل نسيَ الكلُّ بأني اجتزتُ السّتين
بثلاث سنين
وبأن الموعد
قد لا يصبح مرمى في وعد؟
الشمعة تجمع آخر ما أبقى منها الزمنُ النّذْرُ
ما أبقى من ظلٍّ سدَّ جدارا
من ظلٍّ لملم في جُنحيْه النّارا
وظلال أخرى باهتة
وسؤال يلتفّ على شفتي
ويغور بعيداً في الصمت
لمَ لمْ يعتذروا؟!
لمَ لمْ يعتذروا؟!
***
منضدة صماءْ
رأس مرميٌّ فوق المنضدة الصّماء
ما من أحدٍ
إلا دقات الساعة تجتاز حدود الوعد
وإلا الرأس المرميُّ
وإلا الشمعة تتآكل دون رجاء
***
أدنى كفّيْه لعينيه وأغفى
في صمت مُرّ
في ليل قد لا يسأل عن معنى الفجر!
بين عاميْ 1926و 1996 عاش بلند الحيدري، كتب عليه أن يولد في كردستان العراق وأن يوارى الثرى في لندن. وعبر هذه السنوات السبعين كانت رحلة حياة وشعر، لإنسان رائع من البشر وشاعر متفرد من شعراء العراق الأفذاذ، وخفوت صوت ونبرة لدى من أغفلوا شعره ولم يجعلوه في موضعه المتقدم من ديوان الشعر العراقي والعربي الحديث، فظلموه مرتين حيًّا وميتاً. لكن شعره الحييّ الهامس المتوحد، المتسّرب في البنية التحتية من الوجدان الإنساني، سيظل شاهداً وعلامة على مكانة شاغرة لشاعر كبير مختلف ■