بُلَنْد الحيْدري الرائد الذي أغفلوه

بُلَنْد الحيْدري  الرائد الذي أغفلوه

‭ ‬قبل‭ ‬قرابة‭ ‬سبعين‭ ‬عاماً‭ ‬كتب‭ ‬الناقد‭ ‬والمفكر‭ ‬اللبناني‭ ‬الكبير‭ ‬مارون‭ ‬عبود‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬ليس‭ ‬فينا‭ ‬من‭ ‬قدّر‭ ‬الصمت‭ ‬واستوحاه‭ ‬كما‭ ‬استوحاه‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر،‭ ‬وقلّ‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬أوحت‭ ‬إليه‭ ‬الطريق‭ ‬ما‭ ‬أوحت‭ ‬إلى‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري‭.‬

  ‬أشهد‭ ‬أن‭ ‬ديوان‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري‭ ‬‮«‬خفقة‭ ‬الطين‮»‬‭ ‬أحفل‭ ‬ما‭ ‬رأيت‭ ‬من‭ ‬دواوين‭ ‬الشباب‭ ‬بالشعر،‭ ‬ولعله‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬تحلم‭ ‬به‭ ‬بغداد‮»‬‭.‬

‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬تحلم‭ ‬به‭ ‬بغداد‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬إلا‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬المدرسة‭ ‬الحديثة‭ ‬ورواد‭ ‬حركة‭ ‬الشعر‭ ‬الذين‭ ‬التمع‭ ‬من‭ ‬أسمائهم‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬وبدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ ‬وعبدالوهاب‭ ‬البياتي‭. ‬وفي‭ ‬حين‭ ‬ازدادت‭ ‬هذه‭ ‬الأسماء‭ ‬الثلاثة‭ ‬تألقاً‭ ‬ولمعاناً‭ ‬ودوراناً‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬النقاد‭ ‬والباحثين‭ ‬بوصفهم‭ ‬الممثلين‭ ‬الكبار‭ ‬للحركة‭ ‬الشعرية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬فقد‭ ‬ظل‭ ‬اسم‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري‭ ‬متوارياً،‭ ‬يلي‭ ‬هؤلاء‭ ‬في‭ ‬الأهمية‭ ‬والترتيب‭ ‬ودوران‭ ‬الكلام‭,‬‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬الضجة‭ ‬التي‭ ‬صاحبت‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬خفقة‭ ‬الطين‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نشره‭ ‬عام‭ ‬1946،‭ ‬ثم‭ ‬نشر‭ ‬ديوانه‭ ‬الثاني‭ ‬‮«‬أغاني‭ ‬المدينة‭ ‬الميتة‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1951،‭ ‬وبعده‭ ‬‮«‬جئتم‭ ‬مع‭ ‬الفجر‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1960،‭ ‬وتوالت‭ ‬دواوينه‭: ‬‮«‬خطوات‭ ‬في‭ ‬الغربة‮»‬،‭ ‬و«رحلة‭ ‬الحروف‭ ‬الصفر‮»‬،‭ ‬و«حوار‭ ‬عبر‭ ‬الأبعاد‭ ‬الثلاثة‮»‬،‭ ‬و«أغاني‭ ‬الحارس‭ ‬المتعب‮»‬،‭ ‬و«إلى‭ ‬بيروت‭ ‬مع‭ ‬تحياتي‮»‬،‭ ‬و«أبواب‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬الضيق‮»‬،‭ ‬و«آخر‭ ‬الدرب‮»‬،‭ ‬وأخيراً‭ ‬‮«‬دروب‭ ‬في‭ ‬المنفى‮»‬،‭ ‬وجمعت‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬واحد‭ ‬بعنوان‭ ‬الأعمال‭ ‬الكاملة‭ ‬عام‭ ‬1993،‭ ‬قبل‭ ‬رحيله‭ ‬بثلاث‭ ‬سنوات‭.‬

‭ ‬تلقى‭ ‬الحيدري‭ - ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬محسن‭ ‬الموسوي‭ ‬في‭ ‬قاموس‭ ‬الأدب‭ ‬الحديث‭ - ‬تعليماً‭ ‬متقطعاً‭ ‬حتى‭ ‬سن‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة،‭ ‬فتفرَّغ‭ ‬للعمل‭ ‬وتعليم‭ ‬نفسه،‭ ‬وبدأ‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬مبكرة‭ ‬مشاركاً‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬الفنية‭ ‬والثقافية،‭ ‬وتنقل‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬ترتبط‭ ‬بالصحافة‭ ‬الأدبية‭ ‬والأنشطة‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وبيروت‭ ‬ولندن‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬وفاته‭. ‬وقصائده‭ ‬تعكس‭ ‬نفسيته‭ ‬الجامحة،‭ ‬وتجسد‭ ‬مواقف‭ ‬أبناء‭ ‬جيله‭ ‬المتمردين،‭ ‬كما‭ ‬تعكس‭ ‬تأثراً‭ ‬بشعراء‭ ‬المهجر،‭ ‬وتشيع‭ ‬فيها‭ ‬نبرة‭ ‬هادئة‭ ‬حزينة‭. ‬

‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬إذن‭ ‬لا‭ ‬ينال‭ ‬حظ‭ ‬أقرانه‭ ‬في‭ ‬الشهرة‭ ‬والذيوع‭ ‬والسبق‭ ‬إلى‭ ‬الألسنة‭ ‬والأقلام؟‭ ‬أهو‭ ‬انكفاؤه‭ ‬على‭ ‬ذاته،‭ ‬عاكفاً‭ ‬على‭ ‬تأمل‭ ‬أعماقها،‭ ‬متأملاً‭ ‬ما‭ ‬يجيش‭ ‬في‭ ‬وجدانه،‭ ‬وما‭ ‬تضطرب‭ ‬به‭ ‬أفكاره‭ ‬ومشاعره،‭ ‬رفضاً‭ ‬للواقع‭ ‬الخارجي‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬وميلاً‭ ‬إلى‭ ‬الوحشة‭ ‬والانفراد،‭ ‬والبعد‭ ‬عن‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬المجتمع‭ ‬والحياة‭ ‬من‭ ‬حوله؟‭ ‬وهل‭ ‬هذا‭ ‬التوحد‭ ‬والانعزال‭ ‬الوجودي‭ ‬تسببا‭ ‬في‭ ‬انعزاله‭ ‬عن‭ ‬الذكر‭ ‬وعدم‭ ‬الاهتمام‭ ‬بشعره،‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬كان‭ ‬عصر‭ ‬الصوت‭ ‬العالي‭ ‬والاصطخاب‭ ‬والانغماس‭ ‬اليومي‭ ‬في‭ ‬المعارك‭ ‬السياسية‭ ‬والنضالية،‭ ‬وتبادل‭ ‬التهم‭ ‬والتصنيفات‭ ‬والحكم‭ ‬بالخيانة‭ ‬والتآمر‭ ‬بين‭ ‬مثقفي‭ ‬زمانه‭ ‬ومناضليه‭ ‬ومبدعيه‭ ‬في‭ ‬العراق؟

‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬لغته‭ ‬السهلة‭ ‬البعيدة‭ ‬عن‭ ‬الزخرف‭ ‬والبلاغة،‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬تعقيد‭ ‬الصورة‭ ‬ووعورة‭ ‬العبارة،‭ ‬المكتفية‭ ‬بواقعيتها‭ ‬وتلقائيتها‭ ‬وبساطتها‭ ‬دون‭ ‬بهرجة‭ ‬أو‭ ‬زينة،‭ ‬بالمقارنة‭ ‬إلى‭ ‬لغات‭ ‬أقرانه‭ ‬ممن‭ ‬اعتبروا‭ ‬فحولاً‭ ‬في‭ ‬قصائدهم‭ ‬بما‭ ‬اصطنعوه‭ ‬من‭ ‬زخرف‭ ‬لغوي،‭ ‬وكسوا‭ ‬به‭ ‬شعرهم‭ ‬من‭ ‬طنطنة‭ ‬حيناً،‭ ‬ومن‭ ‬جلبة‭ ‬الإيقاع‭ ‬أحياناً،‭ ‬فحققوا‭ ‬جماهيرية‭ ‬التلقي‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يتح‭ ‬مثلها‭ ‬لشعر‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري؟‭  ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بإحساسه‭ ‬الداخلي‭ ‬بكرديته،‭ ‬الذي‭ ‬قعد‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سبّاقاً‭ ‬إلى‭ ‬إعلان‭ ‬الرأي‭ ‬والموقف،‭ ‬والمشاركة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ينقصها‭ ‬الإقدام‭ ‬والجسارة،‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭ ‬الآخرون؟

‭ ‬لكل‭ ‬هذا،‭ ‬ولغيره‭ ‬من‭ ‬الأسباب،‭ ‬فإن‭ ‬شعر‭ ‬بلند‭ ‬تأخر‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مُتلقّيه،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هو‭ ‬معنيًّا‭ ‬بنشره‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬تُيسّره‭ ‬لقرائه‭ ‬ومريديه،‭ ‬وتجعله‭ ‬متاحاً‭ ‬لهم،‭ ‬فأصبح‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬دواوينه‭ - ‬المتباعدة‭ - ‬يمثل‭ ‬صعوبة‭ ‬كبيرة،‭ ‬في‭ ‬متابعة‭ ‬شعره،‭ ‬وتلقف‭ ‬قصائده،‭ ‬واكتمال‭ ‬المعرفة‭ ‬بعالمه‭ ‬الإبداعي‭.‬

‭ ‬ولقد‭ ‬كنت‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬هؤلاء،‭ ‬أتيح‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يطالع‭ ‬نموذجاً‭ ‬لشعر‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري‭ - ‬لأول‭ ‬مرة‭ - ‬منشوراً‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الأديب‮»‬‭ ‬البيروتية‭ ‬عام‭ ‬1954،‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬لُعِنْتِ‮»‬‭,‬‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مستهلها‭: ‬

لُعِنْتِ

لا‭ ‬كُنتِ

ولا‭ ‬كان‭ ‬لي

هذا‭ ‬الهوى‭ ‬الممزوجُ‭ ‬بالموتِ

وفي‭ ‬غدٍ‭ ‬إذ‭ ‬يمّحي‭ ‬صوتي

وتيْبسُ‭ ‬الألوان‭ ‬في‭ ‬صمتي

لُعنْتِ‭..‬

‭ ‬وضاعت‭ ‬من‭ ‬ذاكرتي‭ ‬بقية‭ ‬القصيدة،‭ ‬لكنها‭ ‬دفعتني‭ ‬دفعاً‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري،‭ ‬وشعره‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬قد‭ ‬سمعتُ‭ ‬به‭ ‬حتى‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭.‬

‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬سأم‮»‬،‭ ‬يقول‭: ‬

يا‭ ‬طيوف‭ ‬الفناء‭ ‬هذي‭ ‬حياتي‭ ‬

دمّريها

فقد‭ ‬سئمتُ‭ ‬الوجودا

بدّلي‭ ‬النور‭ ‬بالظلام،‭ ‬ودوسي

تحت‭ ‬رجليْكِ‭ ‬عُمريَ‭ ‬المكدودا

قد‭ ‬سئمتُ‭ ‬الحياة‭ ‬أطلال‭ ‬صمتٍ

ودموعاً،‭ ‬

ينسجن‭ ‬حولي‭ ‬الشقاءَ

وركاما‭ ‬من‭ ‬الهموم‭ ‬الجواثي

فوق‭ ‬قلبي،‭ ‬تهدُّه‭ ‬إعياءَ

قد‭ ‬صحبنا‭ ‬الزمان‭ ‬حتى‭ ‬مللْنا،

وجرعنا‭ ‬من‭ ‬السنين‭ ‬الكفاية

أسدل‭ ‬السّتْر‭ ‬يا‭ ‬فناءُ،

ومزّقْ

قارئَ‭ ‬الأمس‭ ‬والهوى

والرواية

كنتُ‭ ‬بالأمسِ‭ ‬إن‭ ‬بكيتُ،‭ ‬تمشّت

فوق‭ ‬جفنيَّ‭ ‬كفُّها‭ ‬بحنانِ

ولَكمْ‭ ‬بالشفاه‭ ‬سلّت‭ ‬دموعي‭ ‬

لتُروّى‭ ‬جِنانها

من‭ ‬جِناني

كم‭ ‬رتعْنا‭ ‬على‭ ‬شواطئ‭ ‬حُلْمٍ

نتغنّى‭ ‬برائعات‭ ‬الأماني

فرأيت‭ ‬الحياة‭ ‬أطياف‭ ‬حُبّ

حالماتٍ

سماؤها‭ ‬عينانِ

وإذا‭ ‬ما‭ ‬الزمان‭ ‬لملم‭ ‬أُفْقي

أفسحت‭ ‬بين‭ ‬مُقلتيْها

زماناً

وأراقت‭ ‬من‭ ‬ناظريْن‭ ‬سماءً

كم‭ ‬تنقّلْتُ‭ ‬بينها‭ ‬نشوانا

أين‭ ‬ذاك‭ ‬الصباحُ؟

لا‭ ‬شيء‭ ‬منه

غير‭ ‬ذكرى‭ ‬تزيد‭ ‬قلبيَ‭ ‬حُزنا

ونشيج‭ ‬مغلّفٍ‭ ‬ببقايا

من‭ ‬فؤادٍ‭ ‬يذوب‭ ‬يأسا‭ ‬ويفنى

يا‭ ‬طيوف‭ ‬الفناء‭ ‬مُرّي‭ ‬سريعاً

قد‭ ‬خَبْرتُ‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬كلِّ‭ ‬دوْرِ

فعرفتُ‭ ‬الهدوءَ‭ ‬في‭ ‬الموت‭ ‬يحيا

ومهاوي‭ ‬الرجاء‭ ‬أرجاءُ‭ ‬قبْرِ

‭ ‬وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬مبكرة‭ ‬من‭ ‬شعره‭ - ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ - ‬نتابع‭ ‬النغمة‭ ‬نفسها،‭ ‬التي‭ ‬ترددت‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬تعرفي‭ ‬عليه،‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬إلا‭ ‬استهلالها،‭ ‬وهي‭ ‬نغمة‭ ‬السخط‭ ‬والقطيعة‭ ‬والانفجار‭ ‬الغاضب،‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ - ‬والقصيدة‭ ‬بعنوان‭: ‬ودِدْتُ‭ ‬لو‭ -: ‬

وددتُ‭ ‬لو‭ ‬حطَّمْتُها

لو‭ ‬دُسْتُها

لو‭ ‬أنني‭ ‬قتلْتُها

وددتُ‭ ‬لو‭ ‬جبَلْتُ‭ ‬من‭ ‬عظامها

مرآتيَ‭ ‬المُحدّبة

أظلُّ‭ ‬فيها‭ ‬مُبحراً،‭ ‬تحملني‭ ‬أشرعتي‭ ‬

حكاية،‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬أنا

ونقمتي‭ ‬الملتهبة

وددت‭ ‬لو‭ ‬صيّرْتُ‭ ‬كلَّ‭ ‬جسمها

مَنافضاً

أطفئ‭ ‬ما‭ ‬أحرقُ‭ ‬من‭ ‬سجائري‭ ‬في‭ ‬عتْمها

لو‭ ‬أنني‭ ‬بصقْتُ‭ ‬في‭ ‬الوجه‭ ‬الذي

لي‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬لها

لي‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬نفسي‭ ‬التي‭ ‬حَبَبْتُها

نقاوة‭ ‬ليست‭ ‬لها

وددت‭ ‬لو‭ ‬عرْفتُها‭ ‬ككلّ‭ ‬من‭ ‬يعرفُها

ألعوبة‭ ‬تُغلق‭ ‬عينيْها

لأي‭ ‬عابرٍ‭ ‬إذا‭ ‬اشتهى

وددتُ‭ ‬لو‭ ‬عرفتُها

ككلِّ‭ ‬من‭ ‬يعرفها

فنادقاً‭ ‬يغرق‭ ‬فيها‭ ‬موتُها

وددتُ‭ ‬لو‭ ‬حفظتُ‭ ‬ما‭ ‬كانوا‭ ‬يقولون‭ ‬لها‭:‬

‭- ‬سيدتي‭ ‬شكرا‭ ‬لما‭ ‬قد‭ ‬انتهى‭!‬

‭ ‬وفي‭ ‬مقطوعة‭ ‬كاشفة‭ ‬عن‭ ‬لغة‭ ‬الشاعر‭ ‬المنسابة‭ ‬في‭ ‬تلقائية‭ ‬وشفافية‭ ‬وإحكام،‭ ‬يقول‭: ‬

إيه‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬عالمٍ

في‭ ‬صمتي‭ ‬الدامي،‭ ‬يموتُ

كم‭ ‬أمانٍ

في‭ ‬طريق‭ ‬الوهم‭ ‬أعياها‭ ‬السُّكوتُ

كم‭ ‬شفاهٍ

في‭ ‬دمى‭ ‬أطبقها‭ ‬اليأسُ‭ ‬المقيتُ

ثم‭ ‬ماذا

كلُّها‭ ‬ولّت،‭ ‬وظلَّ‭ ‬العنكبوتُ

ينسج‭ ‬الموت‭ ‬لصمتي

وهو‭ ‬مثلي‭ ‬سيموتُ

‭***‬

أيها‭ ‬القابع‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬مثل‭ ‬حياتي

لفّها‭ ‬ظلٌّ‭ ‬بليد‭ ‬اللونِ

يحكي‭ ‬أمنياتي

نفضَتْ‭ ‬وحدةُ‭ ‬أياميَ‭ ‬فيه

بعْضَ‭ ‬ذاتي

أنا‭ ‬في‭ ‬معبدك‭ ‬المهجور‭ ‬قدّستُ‭ ‬انفلاتي

إن‭ ‬تكن‭ ‬تنسجُ‭ ‬لي‭ ‬الموتَ‭ ‬

فمثلي‭ ‬ستموتُ‭!‬

‭ ‬من‭ ‬أصدق‭ ‬ما‭ ‬قيل‭ ‬عن‭ ‬شعر‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري‭ ‬من‭ ‬نقاده‭ ‬ودارسيه‭ ‬ومتابعي‭ ‬رحلته‭ ‬الشعرية،‭ ‬أنه‭ ‬يتميز‭ ‬بالتصميم‭ ‬المتقن،‭ ‬والتركيز،‭ ‬وتصفية‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬الشوائب،‭ ‬وتخليصها‭ ‬من‭ ‬الخطابة‭ ‬والتقرير‭ ‬وبنائها‭ ‬بناءً‭ ‬عفويًّا،‭ ‬يعتمد‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬الهجس‭ ‬والإيحاء،‭ ‬ويعبر‭ ‬بالصور،‭ ‬ويهتم‭ ‬بالحادثة‭ ‬الداخلية‭ ‬وخلق‭ ‬التوتر‭ ‬النفسي‭ ‬حولها،‭ ‬والتعبير‭ ‬عنها‭ ‬بشكل‭ ‬حدسي،‭ ‬وتوزيعها‭ ‬على‭ ‬أزمان‭ ‬مختلفة‭ ‬لخلق‭ ‬العمق‭ ‬في‭ ‬الصورة،‭ ‬مستعملاً‭ ‬الصمت‭ ‬كمكمل‭ ‬للتفعيلة‭ ‬أحياناً،‭ ‬ومستنداً‭ ‬إلى‭ ‬القوافي‭ ‬المتداخلة‭ ‬مع‭ ‬بقاء‭ ‬القافية‭ ‬الرئيسة‭ ‬مسيطرة‭ ‬على‭ ‬القصيدة‭. ‬وهي‭ ‬سطور‭ ‬للناقد‭ ‬أحمد‭ ‬أبوسعد،‭ ‬أحد‭ ‬المتابعين‭ ‬لتجليات‭ ‬الإبداع‭ ‬الشعري‭ ‬عند‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري،‭ ‬والمتوفرين‭ ‬على‭ ‬كشف‭ ‬دوائره‭ ‬ومنعطفاته‭.  ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‮»‬،‭ ‬يقول‭ ‬بلند‭: ‬

مشينا‭ ‬إليك‭ ‬مسافة‭ ‬أجيال

ويوم‭ ‬وصلناكِ‭ ‬كنت‭ ‬بعيدة

وكان‭ ‬بأعيننا‭ ‬لايزال‭ ‬اشتياقٌ‭ ‬إليكِ

وكنّا‭ ‬هرِمْنا

فأرجلُنا‭ ‬المتعبات‭ ‬تساقطْن‭ ‬جزءاً‭ ‬فجزءاً

وأنّ‭ ‬غبار‭ ‬الطريق‭ ‬أضلّ‭ ‬سُرانا‭ ‬سنينا‭ ‬

وأنّا‭ ‬دمينا

وجال‭ ‬بنا‭ ‬ألف‭ ‬درب‭ ‬ودرب

وفي‭ ‬كل‭ ‬دربٍ‭ ‬نقول‭ ‬بحبٍّ‭ ‬ونحيا‭ ‬لحب

ويوم‭ ‬وصلناكِ‭ ‬كنت‭ ‬بعيدة

وكنا‭ ‬هرِمْنا

وكنا‭ ‬لبعض‭ ‬جموح‭ ‬نُكابُر،‭ ‬شلْواً‭ ‬تمنّى

لو‭ ‬أن‭ ‬المسافة‭ ‬لم‭ ‬تكُ‭ ‬ظنّا

وأنّ‭ ‬الهوى‭ ‬ليس‭ ‬مرمى‭ ‬لحيّ

وأنّ‭ ‬الهوى‭ ‬ليس‭ ‬مسعى‭ ‬لمْيت

أسيدتي

إذا‭ ‬ما‭ ‬تناهى‭ ‬إلى‭ ‬صمت‭ ‬ليلك‭ ‬صوتي

وكنتِ

على‭ ‬بعض‭ ‬خطوٍ‭ ‬لبيتٍ‭ ‬تهاوى‭ ‬لحافة‭ ‬جرحِ

فذلك‭ ‬بيتي

فكوني‭ ‬إليّ

فإني‭ ‬تعبتُ

وإني‭ ‬سقطتُ‭ ‬فلستُ‭ ‬لليلٍ‭ ‬ولستُ‭ ‬لصبْحِ

ومسّي‭ ‬جراحيَ‭ ‬علَّ‭ ‬لنا

لقاءً‭ ‬هنا

‭ ‬يصيرُ‭ ‬بنا‭ ‬الموطنا

فأدركُ‭ ‬بعثي

بموتي‭!‬

‭ ‬وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬اغتيال‮»‬‭ ‬أصداء‭ ‬للمطاردات‭ ‬والملاحقات‭ ‬التي‭ ‬تعرض‭ ‬لها‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬طقوس‭ ‬حياته‭ ‬المرعبة‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬وتوقعه‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة،‭ ‬إلى‭ ‬رعب‭ ‬دائم‭ ‬لاحقه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬العواصم‭ ‬العربية‭ ‬والأجنبية،‭ ‬وهو‭ ‬يحمل‭ ‬بين‭ ‬جنبيه‭ ‬قلب‭ ‬عصفور‭ ‬وديع،‭ ‬وفي‭ ‬شفتيه‭ ‬كلمات‭ ‬سلام‭ ‬ومحبة،‭ ‬يقول‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري‭ ‬مخاطباً‭ ‬كلَّ‭ ‬من‭ ‬يترصده‭ ‬ويتهدد‭ ‬حياته‭ ‬ووجوده‭: ‬

تترصَدني

وتطارد‭ ‬خطوي‭ ‬من‭ ‬ظلٍّ‭ ‬يغرق

في‭ ‬الوحلِ،

لظلٍّ‭ ‬يتلاشى‭ ‬في‭ ‬ألفيْ‭ ‬ظلِّ

وتقول‭: ‬ستقتلني‭ ‬

تترصدني

حتى‭ ‬في‭ ‬رعشة‭ ‬كفَّيّ‭ ‬وفي‭ ‬غمضة‭ ‬جفني

حتى‭ ‬في‭ ‬حنجرتي‭ ‬الخرساء

تقوم‭ ‬كبوّابة‭ ‬سجنِ،

تترصّدني

من‭ ‬زمنٍ‭ ‬أعلن‭ ‬عبر‭ ‬لسانٍ‭ ‬مقطوعٍ

كلَّ‭ ‬براءته‭ ‬مني

وإلى‭ ‬زمن‭ ‬يسترجعُ‭ ‬بي،‭ ‬

خشية‭ ‬عبدٍ‭ ‬قِنٍّ‭ ‬أو‭ ‬زهوكَ

في‭ ‬وجهٍ‭ ‬أقبحَ‭ ‬من‭ ‬وثنِ

وتقول‭: ‬ستقتلني

تترصدني

حتى‭ ‬في‭ ‬حلم‭ ‬يوشك‭ ‬أن‭ ‬يهرب‭ ‬بي‭ ‬من‭ ‬جُبْني

وتقول‭ ‬وتقسم‭ ‬أن‭ ‬تقتلني

عيناكَ‭ ‬تغوران‭ ‬بعيداً،‭ ‬ولحدِّ‭ ‬الصمتِ

الآسنِ‭ ‬في‭ ‬عتمة‭ ‬عيني

ما‭ ‬أقسى‭ ‬فُوّهتيْ‭ ‬بركانك‭ ‬يا‭ ‬وطني‭!‬

ما‭ ‬أقسى‭ ‬هذا‭ ‬الوجع‭ ‬الأسودَ

في‭ ‬عينك‭ ‬يا‭ ‬وطني

يا‭ ‬أنت‭ ‬المترصد‭ ‬لي

من‭ ‬خلف‭ ‬شفاعة‭ ‬خنجرك‭ ‬المسموم

اقتلني،

اقتلني

اقتلني

لكن‭ ‬قل‭ ‬لي‭: ‬

ما‭ ‬جدوى‭ ‬أن‭ ‬تقتل‭ ‬إنساناً‭ ‬مهزوما

يا‭ ‬وطني؟‭!‬

‭ ‬ويقول‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري‭ ‬وهو‭ ‬يقدم‭ ‬لقصيدته‭ ‬‮«‬لكي‭ ‬لا‭ ‬ننسى‮»‬‭:  ‬‮«‬في‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬آذار‭ ‬1988‭ ‬قصف‭ ‬النظام‭ ‬العراقي‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬حلبجة‮»‬‭ ‬في‭ ‬كردستان‭ ‬العراق‭ ‬بالقنابل‭ ‬الكيماوية،‭ ‬وراح‭ ‬ضحيتها‭ ‬آلاف‭ ‬القتلى‮»‬‭: ‬

مازلت‭ ‬وإن‭ ‬غبشت‭ ‬ذاكرتي

مازلت‭ ‬وإن‭ ‬أطفأها‭ ‬الهرمُ

مازلت‭ ‬وإن‭ ‬جفّ‭ ‬على‭ ‬طرفيْ‭ ‬عينيَّ

قذى‭ ‬ودمُ

مازلت‭ ‬أراود‭ ‬بيتاً‭ ‬كان‭ ‬لنا

كان‭ ‬يمدّ‭ ‬ذراعيه‭ ‬على‭ ‬وهجٍ‭ ‬في‭ ‬فجرٍ

سيجيءُ‭ ‬به‭ ‬وعدٌ‭ ‬أو‭ ‬حُلُمُ

كان‭ ‬لبيتي‭ ‬شباكان‭ ‬صغيران

أتذكر‭ ‬أنهما‭ ‬كانا‭ ‬أصغر‭ ‬من‭ ‬عينيْ‭ ‬إنسانْ

أصغر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تعلق‭ ‬في‭ ‬الخشب‭ ‬المتهرئ

شمسٌ،‭ ‬أو‭ ‬تكبر‭ ‬أكوان

باحة‭ ‬بيتي‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تعدو‭ ‬فرْجة

راحة‭ ‬طفل

إن‭ ‬سرتُ‭ ‬تعثّرتُ‭ ‬بظلي

ولقد‭ ‬علّمني‭ ‬ابني

أن‭ ‬حدود‭ ‬الدنيا‭ ‬في‭ ‬بيتي‭ ‬دون‭ ‬مكان

علّمني‭ ‬أن‭ ‬أعرف‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬قطرة‭ ‬طلّ

علّمني‭ ‬أن‭ ‬لبيتي‭ ‬درباً‭ ‬يمتدُّ‭ ‬لألفيْ‭ ‬بستان

أنَّ‭ ‬لبيتي‭ ‬باباً

يتهدج‭ ‬عبر‭ ‬سؤالٍ‭ ‬وسؤال

وطوال‭ ‬ليالٍ‭ ‬وليال

ويقول‭ ‬تعال‭ ‬إليَّ

يا‭ ‬أنت‭ ‬الآتيَ‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬مكانٍ‭ ‬كان

ومن‭ ‬أيّ‭ ‬زمان

علمني‭ ‬أن‭ ‬أترك‭ ‬أبواب‭ ‬الدارْ

مُشرعةً

فادخلها‭ ‬يا‭ ‬أنت‭ ‬الآتي‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬زمان‭ ‬ومكان

ادخلها‭ ‬بسلام‭ ‬وأمان

ولكم‭ ‬كان‭ ‬البيت‭ ‬صغيراً

كان‭ ‬صغيراً‭ ‬كالقلب

وكان‭ ‬كبيراً‭ ‬كالقلب

غنيًّا‭ ‬بالدفء‭ ‬وبالحبّ

أذكرُ‭ ‬أنّا‭ ‬كُنّا

وكشباكيْ‭ ‬بيتي،‭ ‬وكبابِ‭ ‬البيت

ننامُ‭ ‬بعين‭ ‬ملأى‭ ‬بالأحلام‭ ‬الخضْرِ

على‭ ‬سفحٍ‭ ‬من‭ ‬جبلٍ‭ ‬في‭ ‬كردستان‭ ‬

أمسِ

وإن‭ ‬كانت‭ ‬كلُّ‭ ‬عيون‭ ‬صغارك‭ ‬يا‭ ‬بيتي‭ ‬

يا‭ ‬بلدي

تسبحُ‭ ‬في‭ ‬ألق‭ ‬الشمس

وتطلُّ‭ ‬ندًى‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬زهيرات‭ ‬النرجسِ‭ ‬

والوردِ

هبّت‭ ‬ريح‭ ‬مسمومة

نفَثتْها‭ ‬عينا‭ ‬بومة

لتسمّم‭ ‬كلَّ‭ ‬صغارك‭ ‬يا‭ ‬بيتي،‭ ‬يا‭ ‬بلدي

قتلت‭ - ‬فيمن‭ ‬قتَلتْ‭ - ‬ولدي

سرقتْ‭ - ‬فيما‭ ‬سرقتْ‭ - ‬ظلّي

الدرب‭ ‬لبيتي‭ ‬أمسى‭ ‬مقبرة‭ ‬تمتدُّ‭ ‬لألفيْ‭ ‬مقبرةٍ

في‭ ‬كردستان

لا‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬الموت‭ ‬وظلّ‭ ‬الموتِ

ما‭ ‬من‭ ‬نرجسةٍ‭ ‬تحلم‭ ‬أن‭ ‬تكبر‭ ‬في‭ ‬بستان

ما‭ ‬ترك‭ ‬الأوغاد

إلا‭ ‬القتلى‭ ‬ورماد‭ ‬القتلى‭ ‬وسواد‭ ‬دخان

لكنَّ‭ ‬غدي‭ ‬الآتي

وحساب‭ ‬الأمواتِ

ودماء‭ ‬القتلى‭ ‬ستطارد‭ ‬وجه‭ ‬الشيطانْ

من‭ ‬هذي‭ ‬المرآةِ‭ ‬لتلك‭ ‬المرآةِ

من‭ ‬ألف‭ ‬زمانٍ‭ ‬ولألف‭ ‬زمان

وسيلتفُّ‭ ‬الحبل‭ ‬على‭ ‬عُنق‭ ‬الجلاد

وستعلن‭ ‬أمسكَ‭ ‬كردستان‭ ‬

وستبرأ‭ ‬من‭ ‬رجْسكَ‭ ‬بغداد

وسترجع‭ ‬للأرض‭ ‬الحلوة‭ ‬كلُّ‭ ‬بساتين

النرجسِ‭ ‬والأوراد

وسيولد‭ ‬ثانية‭ ‬ولدي،‭ ‬في‭ ‬كلِّ‭ ‬الأولاد‭!‬

‭ ‬وفي‭ ‬قصيدته‭ ‬القصيرة‭ ‬‮«‬مع‭ ‬الصمت‭ ‬المقرور‮»‬‭ ‬توحُّد‭ ‬وجودي‭ ‬قاسٍ،‭ ‬ونزف‭ ‬روحٍ‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬خيراً‭ ‬سوف‭ ‬يجيء،‭ ‬وخيبة‭ ‬ظن‭ ‬جعل‭ ‬منها‭ ‬عنواناً‭ ‬للرحلة‭ ‬والسّفر‭ ‬الدائم‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬يقول‭ ‬بلند‭:‬

لا‭ ‬أحدٌ‭ ‬في‭ ‬الدار‭ ‬سوايا

تكْ‭... ‬تكْ‭... ‬تكْ

صوت‭ ‬الساعة،‭ ‬ذات‭ ‬الصوت‭ ‬المكرور

لا‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬الدار‭ ‬سوايا

‭ ‬غير‭ ‬عواء‭ ‬الكلب‭ ‬المسعورِ

وراء‭ ‬جدار‭ ‬الدارِ

وغير‭ ‬الصمت‭ ‬المقرور

تك‭ .. ‬تكْ‭ .. ‬تكْ

لا،‭ ‬لن‭ ‬أُرجع‭ ‬للساعة

ميليْها‭ ‬المكسورين

ولماذا؟

لا‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬بحرٍ

يحملني‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬مدِّ‭ ‬رؤايا

لا‭ ‬وعدٌ‭ ‬في‭ ‬ضوءٍ‭ ‬لمنارٍ

لن‭ ‬أرجع،‭ ‬لا،‭ ‬لن‭ ‬أرجع‭ ‬للساعة

ميليْها‭ ‬المكسورينِ

ولماذا‭ ‬أسأل‭ ‬عن‭ ‬زمن‭ ‬لا‭ ‬يعْنيني

لي‭ ‬زمني

هذا‭ ‬المتوحد‭ ‬مثلي‭ ‬في‭ ‬خيبة‭ ‬ظني

هذا‭ ‬المتوزع‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬عواء‭ ‬الكلب‭ ‬المسعورِ

وما‭ ‬بيني

تك‭... ‬تكْ‭... ‬تكْ

ذات‭ ‬الصوت‭ ‬المكرور

لا،‭ ‬لن‭ ‬أُرجع

للساعةِ‭ ‬ميليْها‭ ‬المكسورين

ما‭ ‬أروع‭ ‬أن‭ ‬نحيا‭ ‬في‭ ‬زمنٍ‭ ‬ميت

ما‭ ‬أروع‭ ‬أن‭ ‬أسرق‭ ‬موتي‭ ‬من‭ ‬موتي‭!‬

وفي‭ ‬قصيدته‭ ‬البديعة‭ ‬‮«‬لمَ‭ ‬لمْ‭ ‬يعتذروا‮»‬،‭ ‬يصور‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري‭ ‬في‭ ‬حسٍّ‭ ‬مأساوي‭ ‬ولغة‭ ‬ضارعة،‭ ‬ووجود‭ ‬شاحب،‭ ‬لحظات‭ ‬انتظاره‭ ‬لمن‭ ‬لم‭ ‬يجيئوا‭ ‬ولم‭ ‬يعتذروا‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬حضور‭ ‬حفل‭ ‬ميلاده‭ ‬الثالث‭ ‬والستين،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬زيّن‭ ‬الدار‭ ‬وأعدَّ‭ ‬العدة‭ ‬وأخذ‭ ‬يعدُّ‭ ‬الساعات‭ ‬والدقائق،‭ ‬يقول‭: ‬

زينت‭ ‬الدارا

أعددت‭ ‬سنادين‭ ‬الورد‭ ‬ورتّبت‭ ‬الأزهارا

الخمر‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬أزهار‭ ‬بيض

الزرق‭ ‬بجانب‭ ‬حُمرٍ

وقلتُ‭ ‬سأنتظرُ

كلُّ‭ ‬الأشياء‭ ‬تُعدُّ‭ ‬لميعادٍ

فلماذا‭ ‬لا‭ ‬أنتظرُ؟

الليل‭ ‬طويلٌ

والصبر‭ ‬على‭ ‬الليل‭ ‬طويلٌ

والشمعة‭ ‬حُبلى‭ ‬بضياء‭ ‬لن‭ ‬يخفت‭ ‬قبل‭ ‬الفجر

اليوم‭ ‬اجتزت‭ ‬السّتين

بثلاث‭ ‬سنين

فلماذا‭ ‬لا‭ ‬أنتظرُ

ورفاق‭ ‬طريقي‭ ‬كُثرٌ

منتصف‭ ‬الليل‭ ‬يدقُّ‭ ‬الواحدة،‭ ‬الثانية،‭ ‬الثالثة

ما‭ ‬من‭ ‬أحدٍ

الرابعة،‭ ‬الخامسة

ما‭ ‬من‭ ‬أحدٍ

هل‭ ‬شتَّ‭ ‬بهم‭ ‬وعدٌ‭ ‬عن‭ ‬وعدي

هل‭ ‬نسيَ‭ ‬الكلُّ‭ ‬بأني‭ ‬اجتزتُ‭ ‬السّتين

بثلاث‭ ‬سنين

وبأن‭ ‬الموعد

قد‭ ‬لا‭ ‬يصبح‭ ‬مرمى‭ ‬في‭ ‬وعد؟

الشمعة‭ ‬تجمع‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬أبقى‭ ‬منها‭ ‬الزمنُ‭ ‬النّذْرُ

ما‭ ‬أبقى‭ ‬من‭ ‬ظلٍّ‭ ‬سدَّ‭ ‬جدارا

من‭ ‬ظلٍّ‭ ‬لملم‭ ‬في‭ ‬جُنحيْه‭ ‬النّارا

وظلال‭ ‬أخرى‭ ‬باهتة

وسؤال‭ ‬يلتفّ‭ ‬على‭ ‬شفتي

ويغور‭ ‬بعيداً‭ ‬في‭ ‬الصمت‭ ‬

لمَ‭ ‬لمْ‭ ‬يعتذروا؟‭!‬

لمَ‭ ‬لمْ‭ ‬يعتذروا؟‭!‬

‭***‬

منضدة‭ ‬صماءْ

رأس‭ ‬مرميٌّ‭ ‬فوق‭ ‬المنضدة‭ ‬الصّماء‭ ‬

ما‭ ‬من‭ ‬أحدٍ

إلا‭ ‬دقات‭ ‬الساعة‭ ‬تجتاز‭ ‬حدود‭ ‬الوعد

وإلا‭ ‬الرأس‭ ‬المرميُّ

وإلا‭ ‬الشمعة‭ ‬تتآكل‭ ‬دون‭ ‬رجاء

‭***‬

أدنى‭ ‬كفّيْه‭ ‬لعينيه‭ ‬وأغفى

في‭ ‬صمت‭ ‬مُرّ

في‭ ‬ليل‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يسأل‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬الفجر‭!‬

بين‭ ‬عاميْ‭ ‬1926و‭ ‬1996‭ ‬عاش‭ ‬بلند‭ ‬الحيدري،‭ ‬كتب‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يولد‭ ‬في‭ ‬كردستان‭ ‬العراق‭ ‬وأن‭ ‬يوارى‭ ‬الثرى‭ ‬في‭ ‬لندن‭. ‬وعبر‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬السبعين‭ ‬كانت‭ ‬رحلة‭ ‬حياة‭ ‬وشعر،‭ ‬لإنسان‭ ‬رائع‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬وشاعر‭ ‬متفرد‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬العراق‭ ‬الأفذاذ،‭ ‬وخفوت‭ ‬صوت‭ ‬ونبرة‭ ‬لدى‭ ‬من‭ ‬أغفلوا‭ ‬شعره‭ ‬ولم‭ ‬يجعلوه‭ ‬في‭ ‬موضعه‭ ‬المتقدم‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬الشعر‭ ‬العراقي‭ ‬والعربي‭ ‬الحديث،‭ ‬فظلموه‭ ‬مرتين‭ ‬حيًّا‭ ‬وميتاً‭. ‬لكن‭ ‬شعره‭ ‬الحييّ‭ ‬الهامس‭ ‬المتوحد،‭ ‬المتسّرب‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬من‭ ‬الوجدان‭ ‬الإنساني،‭ ‬سيظل‭ ‬شاهداً‭ ‬وعلامة‭ ‬على‭ ‬مكانة‭ ‬شاغرة‭ ‬لشاعر‭ ‬كبير‭ ‬مختلف‭ ‬