المـد والجـزر... حكاية اختلاف في قوى الجذب الثقالي
حين يتقدم البحر في السواحل المنخفضة أميالاً إلى الداخل باتجاه القمر، فذلك من مفاعيل ظاهرة المد والجزر. لكن الظاهرة لا تقتصر على حركة المياه، بل تتعداها إلى نتائج كثيرة أخرى. فعندما تشظّى مذنب «آيزون» قبل ابتلاعه من قبل الشمس مطلع عام 2014، كان ذلك من مفاعيل المد والجزر. وعندما تشـــــظّى مــــــــذنّب «شومخر-ليفي - 9» عام 1994 قبل سقوط أجزائه على كوكب المشتري، فذلك أيضاً كان من مفعول «المد والجزر»، الذي سلّطه الكوكب العملاق على المذنّب.
وحين ننظر إلى القمر يدور حول الأرض يوماً بعد يوم، فلا نرى منه سوى صفحة واحدة، فذلك من مفعول المد والجزر!
وحين يدهشنا آيو، القمر الجليدي الأقرب إلى كوكب المشتري، بانبثاقاته البركانية، فذلك أيضاً بفعل المد والجزر!
هناك بالطبع علاقة أكيدة بين قوة الجاذبية وقوى المد والجزر، فهل ندرك تماماً ميكانيكية هذه الظاهرة وأسبابها التفصيلية وميادين فعلها وتأثيرها الفلكي؟!
«المدّ - جزر» ليست الجاذبية
من المعروف أن ظاهرة المد والجزر - وأفضّل تسميتها االمد- جزرب - ترتبط بالجاذبية بشكل رئيس، لنأخذ مثلاً حادثة اقتراب مذنب اشومخر - ليفي - 9ب من كوكب المشتري. فبما أن قوة الجاذبية تتراجع طرداً مع مربع المسافة، فإن قوى الجاذبية التي يشد بها المشتري الناحية المواجهة من المذنّب هي بالطبع أكبر من القوة التي يشد بها القسم الخلفي الأبعد من المذنّب. هذا الاختلاف لقوى الجذب الثقالي بين أجزاء المذنّب يعمل على تشويهه وتمغيطه، وإن لم تحتمل جزيئاته هذا التشوّه فسوف يتشظّى أجزاءً ويتفتت، وهذا ما حدث له بالفعل. إذاً االمد - جزرب ينبغي تحديده كقوة اختلاف الجذب الثقالي على جسم ذي أبعاد. وكلما كبر حجم الجسم المجذوب، كبر تأثير اختلاف قوى الجذب الثقالي عليه.
جذب الشمس لكوكبنا أقوى من جذب القمر لكن «مد - جزر» القمر أقوى!
ويبرهن علم الفيزياء على أن قوة جاذبية كوكبٍ ما، على مسافةٍ ما، تتناسب طرداً مع كتلة الكوكب وتتعاكس مع مربع المسافة، أما االمد - جزرب (أو اختلاف قوى الجذب الثقالي)، فيتناسب طرداً مع كتلة الكوكب الجاذب وقطر الجسم المجذوب وكتلته ويتعاكس مع مكعب المسافة لا تربيعها. وهذا ما يجعل مفعول االمد - جزرب للقمر على الأرض أكبر بـ 2.5 مرة من امد - جزرب الشمس علينا، رغم أن جذب الشمس للأرض هو أكبر بـ 150 مرة من جذب القمر للأرض! (كتلة الشمس أكبر من كتلة القمر بحوالي 25 مليون مرة، لكنها أبعد عنا من القمر بحوالي 400 مرة).
القوة الطاردة شريك في «المد - جزر»
من جهة أخرى، فإن كوكب الأرض يدور حول نفسه بسرعة كبيرة، بحيث تكون سرعة جسم ما على خط الاستواء حوالي 1675 كلم/ساعة، أي أسرع بمرتين من حركة الطائرات المدنية، وهذا يعني أن قوة الطرد المركزي مؤثّرة في ظاهرة المد والجزر. فالقوة الطاردة على القسم المواجه للقمر من الأرض تكون باتجاه القمر، وتضاف إلى قوة جاذبيته، بينما تكون القوة الطاردة في القسم غير المواجه للقمر من الأرض عكس اتجاه قوة جاذبية القمر، وبالتالي تطرح منها. وهكذا تزيد القوة الطاردة الناتجة عن دوران الأرض من اختلاف الجذب بين المنطقتين وبالتالي من قيمة مفاعيل االمد - جزرب.
حدود روش
إحدى نتائج قوى االمد - جزرب ما يعرف
بـ احدود روشب، وهي حدود افتراضية حول كوكب ما تحدد قدرة امد - جزرب الكوكب على تفتيت مذنّب أو أي جسم آخر يقترب من الكوكب. ويتعلق موقع هذا الشريط الوهمي حول الكوكب بقيمة قطر الكوكب وكتلته وكثافة مادة الجسم المقترب منه وطبيعته. فقطر كوكب المشتري مثلاً يبلغ 143 ألف كلم، وتصل حدود اروشب حول هذا الكوكب نسبة إلى بنية المذنبات حوالي 220 ألف كلم، لذلك تحطم المذنب اشومخر - ليفي - 9ب عام 1994 حين اقترابه إلى ما دون حدود روش، إذ وصل إلى مسافة 100 ألف كلم فقط من سطحه، ما تسبب بسحقه وتفتيته بقوة المد - جزر قبل أن يجذب المشتري شظاياه الكبيرة واحدة تلو أخرى.
مفاعيل «المد - جزر» على كوكب الأرض
نظراً لسرعة حركة القمر في السماء، فإن مدّين اثنين يحدثان كل يوم، يفرق بينهما مدة 12 ساعة و25 دقيقة. ويختلف ارتفاع مياه البحر بحسب الموقع، ويكون الأكبر عند خط العرض 28.5 درجة شمالي خط الاستواء، أو عند خط العرض 28.5 درجة جنوبي خط الاستواء، وذلك بسبب ميلان المسطح الاستوائي الأرضي 23.5 درجة نسبة للمسطح المداري للأرض (إكليبتيك أو دائرة البروج)، إضافة إلى ميلان مدار القمر 5 درجات نسبة لمسطح دوران الأرض (23.5 + 5 = 28.5).
أما قيمة الارتفاع الأقصى لمياه المدّ فتتعلق بعوامل عدة، بينها تداخل جذب الشمس على الأرض وموقعها الهندسي نسبة لموقع القمر، وموقع الشمس والقمر بالنسبة إلى خط الاستواء. فحين يكون القمر والأرض والشمس على خط واحد - كما في خسوف القمر أو كسوف الشمس - يكون المد في أعلى مستوى له. وكذلك حين يكون القمر في المحاق أو في البدر. أما في الأسبوعين الأول والثالث من كل شهر قمري، فيكون المد ضعيفاً بسبب وقوع كل من الشمس والقمر على ضلعي زاوية قائمة تقريباً، ما يجعل مفعول جاذبية الشمس يتعاكس مع مفعول جاذبية القمر.
ويكون المد أكبر على سواحل المحيطات وفي خلجانها التابعة. ففي خليج امون سان - ميشالب الفرنسي قرب النورماندي، يصل ارتفاع موج المد عند الذروة إلى 15 متراً، وفي خليج افونديب (كندا) إلى 17 متراً. وتستخدم طاقة أمواج المد والجزر لإنتاج الكهرباء كما في بريطانيا - فرنسا.
جدير بالذكر أن عملية المد لا تقتصر على رفع المياه فقط - وإن كانت أكثر قابلية للحركة من الأرض الصلبة - بل تتعداها إلى قشرة الأرض ومعطفها الأعلى اللذين ليسا خارج سلطة اختلاف الجذب الثقالي، وهما يستجيبان لقوة المد-جزر، حيث تصل استجابتهما إلى حدود متر واحد باتجاه القمر في أثناء المدّ الأقوى. مثل هذا التأثير يعني أن ظاهرة المد والجزر تزيد في اخضب قلب الأرض وتتراكم فيها ديناميكية إضافية تزيد من احتمال البراكين والزلازل.
مفاعيل المدّ- جزر على منظومة الأرض والقمر
في أثناء تفقده تواريخ الخسوفات الماضية للقمر عام 1695، ومقارنتها بتلك المرصودة خلال القرن السابع عشر، اكتشف الفلكي الإنجليزي إدمون هالي (الذي كان أول من تنبأ بظهور المذنب - الذي حمل اسمه- بعد 76 سنة من ظهوره)، أن مدة دوران القمر حول الأرض تتغير ببطء مع الزمن.
أ- إبطاء حركة دوران الأرض وتباعد القمر
في القرن الثامن عشر، توصّل الفيلسوف والعالم إيمانويل كانط إلى شرح منطقي لتلك الظاهرة، مفسراً الأمر أنه بسبب مفعول المد - جزر، فإن المنظومة الثنائية اأرض - قمرب تخسر من طاقتها بسبب الخض الداخلي لكوكب الأرض الذي يحول قسماً من الطاقة الحركية إلى حرارة احتكاك داخل الأرض، وبالتالي فإن حركة دوران الأرض حول نفسها تتباطأ تدريجياً، ما يعني أن اليوم على كوكب الأرض يطول بشكل تدريجي. ويقدّر علماء الفلك معدّل هذا الازدياد بحوالي 2.5 ميللي ثانية في القرن (جزءان ونصف الجزء في الألف من الثانية كل 100 عام)، أو بمعدل 25 ثانية كل مليون عام. ومنذ مائة مليون عام، في زمن الديناصور، كانت السنة تعد 380 يوماً، بمعدل 23 ساعة تقريبا لليوم الواحد. وهذا يعني أنه في الماضي السحيق كان اليوم على الأرض أقل مما هو اليوم، وأن السنة (المدة الثابتة لدوران الأرض حول الشمس) كانت تحتوي عدداً أكبر من الأيام. وتفيد بعض الأبحاث الجيولوجية، أنه منذ 400 مليون عام، كانت السنة تعدّ حوالي 400 يوم بطول 22 ساعة لليوم الواحد تقريباً.
كما أن خسارة منظومة الأرض والقمر للطاقة بسبب المد - جزر تبطئ من سرعة دوران القمر حول الأرض، ما يتسبب في ابتعاده التدريجي عنها. ويقدّر العلماء أن القمر يبتعد عن الأرض بمعدل 3.7 سنتيمترات في السنة. ومع ابتعاد القمر التدريجي عن الأرض، فإن قرصه الظاهري - الذي يوازي القرص الظاهري للشمس حالياً - يصغر مع الزمن، وسوف يأتي اليوم الذي يصبح فيه القمر عاجزاً عن تغطية كامل قرص الشمس في أثناء مروره بينها وبين الأرض، وبالتالي سوف يستحيل على الأرضيين مشاهدة كسوف كلّي للشمس، بل كسوف حلقي.
ب - دوران القمر المتزامن
إذا كان القمر قد تسبب بموجات المد البحري الناتج عن المدّ- جزر، وبإبطاء حركة دوران الأرض حول نفسها، فالأرض أثرت ليس فقط في إبطاء دوران القمر حولها وحول نفسه، بل في التحكم بهذا الدوران وجعله متزامناً، أي جعل مدة دورانه حول نفسه مساوية لمدة دورانه حول الأرض (اليوم القمري = الشهر القمري فلكياً = 27.33 يوماً)، والنتيجة أننا لا نرى سوى صفحة واحدة من سطح القمر. ويمكن تشبيه الأمر بتفاحة مربوطة بجذعها بخيط نمسك طرفه الآخر. وحين نجعل التفاحة تدور حولنا بواسطة الخيط، فإننا لا نرى منها سوى الجزء الذي يحتوي على الجذع. هكذا يثبت مد-جزر الأرض على القمر وضعية القمر وكأنه مربوط بخيط في دورانه حول الأرض. في هذا الوضع، ينفذ القمر دوراناً متزامناً حول نفسه وحول الأرض.
جـ - (مد ــ جزر) على أقمار أخرى
في المجموعة الشمسية
تزامنية دوران القمر نسبة إلى الأرض ليست شأناً استثنائياً في المنظومة الشمسية.
ويكفي أن يكون القمر كبيراً وقريباً بما فيه الكفاية نسبةً إلى الكوكب الجاذب، حتى يتمكن امد - جزرب الكوكب - خلال بضعة مليارات من السنين - من التحكم بتزامنية القمر. وهناك عدد من أقمار المنظومة الشمسية تتصرف مثل قمر الأرض وتنفذ دوراناً متزامناً حول كواكبها: القمران فوبوس وديموس حول المريخ، الأقمار الغاليلية (آيو ويوروبا وغانيميد وكاليستو) حول المشتري، قمر اأمالتياب الصغير حول المشتري أيضاً، قمر اجابيتب حول زحل، القمران ميرندا وآريل حول أورانوس، قمر ترايتون حول نبتون. وهذا الأخير، اترايتونب قمر كبير يبلغ قطره 4000 كلم، وهو يقترب بسرعة من كوكب نبتون في أثناء دورانه المداري حوله، ويقدّر الفلكيون أنه خلال 100 مليون عام فقط، سوف يتخطّى ترايتون احدود روشب الخاصة بكوكب نبتون، ما سيؤدّي لتشظّيه ثم سقوط أجزائه على الكوكب، كما حصل لمذنب اشومخر - ليفي - 9ب مع كوكب المشتري.
قسم من فتات القمر المتشظّي قد ينجح فتات الأقمار المتشظية في اكتساب طاقة حركية إضافية واتجاه مداري مناسب في أثناء انفجار القمر وبالتالي تنجح في تشكيل دوران مداري مناسب على مسافة مناسبة من الكوكب، مشكلة بذلك نوعاً من الحلقة المحيطة بالكوكب، تذكرنا بحلقات زحل الشهيرة. وبالمناسبة فإن حلقات زحل قد تكون عائدة للسبب نفسه.
وللتزامنية قصة أخرى بين بلوتو (الذي أُقيل من رتبة الكواكب) وقمره الأكبر اشارونب. فهذا القمر يؤثّر بدوره على اكوكبهب الجاذب (يبلغ قطر شارون 800 كلم بينما قطر بلوتو 2400 كلم). وهنا تلعب التزامنية بالاتجاهين، إذ يعرض كل من الجسمين الصفحة ذاتها للآخر، وكأنهما مربوطان بحبل ثابت في أثناء دورانهما حول نقطة مركزية.
وقد لا ينجح المد - جزر بين جسمين فلكيين بتحقيق تزامنية كاملة، وإنما بظاهرة ارنين ديناميكيب كما بين الشمس وكوكب عطارد القريب منها. يدور عطارد حول نفسه مرة كل 59 يوماً أرضياً، بينما ينهي دورة حول الشمس كل 88 يوماً أرضياً (المدة الدورانية تساوي ثلثي المدة المدارية). وهذا يعني أن عطارد يدور 3 دورات حول نفسه، بينما ينهي دورتين حول الشمس. ويكون اليوم الشمسي على عطارد (أي من الشروق إلى الشروق في المنطقة عينها) 176 يوماً أرضياً. لنتخيّل أنفسنا في منطقة معينة على كوكب عطارد، فإن اليوم الشمسي عليه يساوي سنتين: طوال السنة الأولى نكون في ظلامٍ دامس، وطوال السنة الثانية نشهد نهاراً حاراً.
مفاعيل أخرى للمد - جزر
يتسبب المد - جزر كما رأينا في تشوّه الجسم المجذوب الذي يظهر كموجات مدّ كبيرة على السطح في حال وجود الماء - كما على الأرض - وفي خفق المكونات الجوفية بين ذروة وأخرى. وهذا ما يزرع الحرارة في جوف الجسم المجذوب بسبب تحرّك الكتل الجوفية واحتكاكها. فقمر اآيوب القريب من الكوكب العملاق االمشتريب، يشهد انبثاقات بركانية حيّة رغم قشرته الجليدية السميكة. ولا يرى الفلكيون سبباً لهذا النشاط البركاني إلاّ مد - جزر المشتري عليه.
وقمر ايوروباب حول كوكب المشتري أيضاً، يشهد سطحه الجليدي السميك (سماكة 30 كلم تقريباً) تشققات طويلة وعريضة يعتقد أنها بسبب مد - جزر المشتري عليه. وقد سجلت انبثاقات رذاذٍ مائي من أكثر من موقع على سطحه، ما يعني أنه تحت هذا الغطاء الجليدي السميك هناك ماء سائل بسبب الحرارة الجوفية التي يساهم بالطبع مد - جزر المشتري فيها.
خاتمة
إن ظاهرة المد - جزر تصبح فاعلة، فهناك جسمان فلكيان لا يكون حجماهما صغيرين جداً نسبة للمسافة بينهما. ويمكن لهذه الظاهرة أن تفعل بين النجوم وبين المجرّات. فمجرّتنا العملاقة ادرب التبانةب في صدد تشويه وابتلاع المجرتين الصغيرتين اغيمة ماجلان الكبرىب واغيمة ماجلان الصغرىب. كما أن مجرّة اأندروميداب بصدد التشوه والاقتراب التدريجي من مجرتنا، ويحسب العلماء أن اصطدام المجرّتين سوف يبدأ بعد أقل من ملياري سنة من اليوم.
ونرى في بعض أفلام الخيال العلمي، تشوّه الأجسام أو المركبات التي تتجرّأ من الاقتراب من اثقب أسودب، حيث تكون الجاذبية كبيرة جداً، ما يفعل ليس فقط في الأجسام الفلكية المقتربة، بل حتى في المركبات الصغيرة .