«حكايات حارتنا» لنجيب محفوظ ... رجوع إلى الحكاية الشرقية

«حكايات حارتنا» لنجيب محفوظ ... رجوع إلى الحكاية الشرقية

لا يكتمل ما للإبداع الأدبي من دور فاعل في الحياة الثقافية في عصره، ومن حضور  في التاريخ الثقافي، ما  لم تواكبه حركة نقدية يتولاها نقّاد مبدعون يعملون على سبر  أغوار  ذلك الإبداع وإدراك أبعاده وكشف طبيعة العلاقات القائمة بينه وبين النوع الأدبي الذي ينتمي إليه، وبينه وبين الواقع الذي أبدع فيه. وفي زمن التحوّلات الأدبيّة والفنّية يضطلع النقاد المبدعون الكبار  بدور  رائد يفلسفون من خلاله مفهوم التحوّل في الرؤية والتجربة وأدوات التعبير الفني والأدبي ويكشفون دوافع ذلك التحوّل ويضعون الأسس الفكرية للمسيرة الإبداعية الجديدة.

هؤلاء النقاد المبدعون ينيرون السبيل للمبدع نفسه ويساهمون في خلق حساسيّة فنّية جديدة للمتلقّين، ليتقبّلوا الإبداع الجديد وليتفاعلوا معه، فتغتني الحياة الثقافية بذلك الإبداع بشقّيه الأدبي والنقدي. غير أنه يتبيّن للباحث المتأمل في الحركة النقدية العربية في العصر الحديث أن النقد بشكل عام قصّر في مواكبة الإبداع الأدبي العربي الحديث، ولعلّ هذا التقصير يتجلّى في نقد الرواية خاصة. ويمكن أن يكون ذلك عائداً إلى أسباب عدّة منها أن حركة النقد الأدبي العربي لاتزال، بشكل عام، تعتمد إلى حدّ كبير على النظريات النقدية الغربية، وأن النقد الغربي للرواية مازال حديث العهد نسبيّاً لأن الرواية نفسها شكل أدبي جديد نسبيّاً في الغرب قياساً على الشعر والمسرح والملحمة. كما أن تعدّد الاتجاهات الغربيّة في نقد الرواية التي قد تصل إلى حدّ التعارض والتناقض أحيانا، ساهم فيما اتصفت به الكتابات النقدية العربية حول الرواية عامة من تشتّت وضياع، وكأن النقاد العرب تتنوّع اختياراتهم من تلك الاتجاهات تنوّع أهوائهم وقراءاتهم. ولم يُتح للنقد العربي الحديث صوغ نظريّة نقديّة عربيّة جديدة وأصيلة تنبع من طبيعة الرواية العربيّة وتواكب مسارها.
وقد عبّر مبدعون عرب كبار، من شعراء وروائيين خاصة، مع انطلاق حركات التجديد منذ منتصف القرن العشرين، عن قناعتهم بأن الحركة النقديّة العربيّة لم تواكب، ولم تعاضد، ولم توجّه الإبداع الجديد كما كان مأمولاً. وقد أشار نجيب محفوظ، أحد أبرز الروائيين العرب في هذا العصر، إلى تقصير النقد الأدبي العربي، وعدّ ذلك مسؤولية يتحمّلها الروائيون والنقّاد في الوقت ذاته، برغم أنه حمّل النقاد الجانب الأعظم من هذه المسؤولية، يقول (مجلة حوار، مارس 1963): 
«.... فقَلَّ أن ندرس رواية دراسة نقديّة تكتيكيّة على وجه مشبع. ولا شك في أن الروائيين مسؤولون عن ذلك. ولكن مسؤوليّة النقد أفدح، إذ كان عليه أن ينشر مفهوم الرواية وأن يبصّر الروائيين بشكلهم الفنّي. ولكن النقّاد عندنا لا يَفْضلون الروائيين كثيرا في هذا المجال. ستجد نقّاداً من طراز ممتاز في المسرح والشعر، ولكن يندر أن تجد ناقداً في المستوى ذاته في الرواية. وأنا أعرف نقّادا يقولون بكل بساطة إن الرواية فنّ بلا تكنيك ولا قيود، أو يقولون بالبساطة نفسها: لا شكّ في أن المسرح أشقّ بكثير من الرواية للسبب السابق نفسه. لذلك لا تعجب إذا غلب على إنتاجنا الروائي مفهوم الحكاية، أو إذا تساءل ناقد عن كثرة التفاصيل في قصّة واقعيّة، أو إذا انتقد آخر اختفاء المؤلف من قصة، إلى آخره». 
لا شك في أن الأسلوب النقدي الجادّ يتمثّل في دراسة عمل روائي محدّد دراسة تحليليّة نقديّة، وهذا أمر نادر في نتاجنا النقدي في مجال الرواية. ولعل هذا ما عناه الروائي والناقد البريطاني إي إم فورستر E.M. Forster، حين قال إن على القارئ أن يجلس وحيداً ويصارع الكاتب، وهذا ما لن يفعله العالِم الزائف الذي قد يقيم رابطا بين الكتاب وتاريخ عصره، ويورد الحوادث التي ميّزت حياة مؤلفه ويروي الحوادث التي يصوّرها الكتاب، وفوق كلّ ذلك يربط تلك الرواية باتجاهات معيّنة. ويلاحظ الدارس أن عديداً مما يُسمّى بنقد الرواية العربية يندرج ضمن تلك الأساليب، وقَلَّ أن يجد دراسة تحليليّة متعمّقة لإحدى الروايات. ولعلّ أكثر الأساليب النقديّة العربيّة شيوعاً هو تصنيف الروايات في اتجاهات ومدارس مختلفة. ويبدو مما أورده فورستر بشأن غلبة هذا الأسلوب على النقد الغربي للرواية، أن هؤلاء النقاد العرب اقتبسوا هذا الاتجاه من دون التفكير في جدواه أو أهميته، ومن دون السؤال عن قيمة مَن اتّبعه من النقاد الغربيين. وقد كان أمراً شائعاً تصنيف روايات نجيب محفوظ في مراحل يُسمّى كلٌّ منها اتجاهاً يمتدّ ضمن سنوات محدّدة، فهي تارة واقعية وأخرى ميتافيزيقية وثالثة رمزية، إلى ما غير ذلك. 
   غير أن ذلك لا يُقصد به القول إن محفوظ لم يتأثر بمدارس غربيّة معيّنة في مراحل مختلفة من مسيرته الإبداعية، لكنه لم يكن «واقعيّاً» صرفاً أو «تاريخيّاً» صرفاً أو «رومانسيّا» صرفاً، بل كانت رواياته مزيجاً من تيارات مختلفة تميل ناحيةٌ فيها إلى التغلّب على الأخرى. ويبدو لي أن محفوظ لم يلتزم باتجاهات أدبية معيّنة في مراحل محدّدة، بل كان يختار الاتجاه حسب التجربة التي ينوي التعبير عنها، أو أن الاتجاه الأدبي المعيّن كان يفرض ذاته عليه، وهو نفسُه عبّر عن ذلك بقوله (الأسبوع العربي، مارس 1975):
«ولم تصادفني مشكلة في الموضوع والمضمون، فهما حتماً ينبعان من حياتي الخاصة والعامة، من أسرتي، من مصر، من الوطن العربي.
أما الشكل، فكنت أُلمّ بالأشكال كما وردت في الأدب الكلاسيكي والرومانسي والواقعي والتعبيري والرمزي والسريالي واللامعقول واللارواية. ثم عند الكتابة أترك نفسي تختار تلقائيّاً ما أشعر بغريزتي أنه يناسب رؤيتي، غير معتمد الإخلاص لأسلوب بعينه، وغير مكترثٍ بقِدمه أو بحداثته، فلم يكن للموضة أثر عليّ أبدا. وقد آويت إلى ظلال الواقعية وأنا أقرأ نعيها بقلم فيرجينيا وولف Virginia Woolf وطوّرتها فيما بعد مستلهما إحساسي الداخلي، وهكذا». 
    ويبدو لي أن الأسلوب الأقوم هو التوجّه إلى روايات محدّدة ودراستها دراسة تحليليّة عميقة بديل الانشغال بحشر ما لا يُحشر ضمن أصناف جاهزة وتيارات محدّدة. ولعلّ روايات محفوظ منذ مطلع سبعينيّات القرن الماضي يصعب أن تُصنَّف في اتجاهات مختلفة أو أن تُحشر في اتجاه واحد بسبب طبيعتها المركّبة من ناحية، ولكون الاختلاف فيما بينها كبيراً من ناحية ثانية. ولعلّ هناك تحوّلاً كبيراً في الأسلوب الروائي تجلّى في «حكايات حارتنا» الصادرة في عام 1975، أشار إليه نجيب محفوظ في حواره هذا بقوله: 
«اليوم طرأ عليّ تطوّر جديد يمكن تلخيصه في كلمتين هما: الاشمئزاز من الأسلوب الغربي الذي التزمت به طوال حياتي، اشمئزاز وجداني ليس إلّا، أي من دون اقتناع عقلي به. فليس لي اعتراض عقلي على هذه الأساليب وما تؤدّيه من خدمة للعمل الفنّي. ولكنني ضقت بها وجدانيّاً. فبعد أن انتهيت من روايتين هما «قلب الليل» و«حضرة المحترم»... كتبت «حكايات حارتنا» - نُشرت قبلها لأسباب اضطرارية - وهي رجوع إلى الحكاية الشرقية. ولم يكن من المستطاع أن أستمرّ في الكتابة من دون هذه المغامرة. و«حكايات حارتنا» ليست قصصاً قصيرة وليست رواية ولكنها بين بين. فيها حكايات ولكنها مستخدَمة لهدف روائي، وبها وجدت نفسي في آخر أطوارها في أحضان وطني القديم». 
ولعل ما يعنيه محفوظ بالرواية الشرقية هو الأسلوب الروائي لـ «ألف ليلة وليلة» التي تتألف من مجموعة قصص يكاد لا يربط بعضها بالبعض الآخر سوى الإطار العام، وهو قصّة الملك شهريار وشهرزاد التي تحدّثه بقصص مختلفة لليالٍ ألف وواحدة، لتنقذ بفنّ الرواية حياتها. ويبدو أن نجيب محفوظ أحسّ أنه يرتبط وجدانيّا وثقافيّا وتراثيّاً بهذا الأسلوب القصصي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأسلوب يميّز عدداً كبيراً من الروايات الغربية الحديثة، إذ إن روائيين غربيين عادوا هم أيضا إلى استلهام التراث الشرقي، مولّدين بذلك أشكالاً حديثة مغايرة لطبيعة الرواية الغربية في القرن التاسع عشر. 
نلاحظ أن نجيب محفوظ لا يستطيع أن يصنّف «حكايات حارتنا» في شكل أدبي محدّد، فهي بالنسبة إليه، ليست رواية كما أنها ليست قصصاً قصيرة. والتسمية هنا ليست ذات شأن عظيم، فقد وقف تي إس إليوت T.S. Eliot أمام يوليسيز Ulysses حائراً في إيجاد تسمية للعمل الكبير الذي قدّمه جيمس جويس James Joyce، وتساءل إن كان رواية أم ملحمة، ليخلص إلى القول إن ذلك لا يشكّل فارقاً كبيراً، «فإن لم تكن يوليسيز رواية فليس ذلك ببساطة، لأن الرواية شكل لم يعد يجدي نفعاً، بل لأن الرواية بدلاً من أن تكون شكلاً، كانت مجرّد تعبير عن عصر لم يفقد بما فيه الكفاية كلَّ شكل ليشعر بالحاجة إلى شيء أكثر تحديداً... لقد انتهت الرواية مع فلوبير Flaubert وهنري جيمس Henry James». 
قد يبدو ما يقوله إليوت غريباً للوهلة الأولى، ولعلّ ما قرّره من أن الرواية قد انتهت يحتاج إلى تفسير. إن ما يعنيه إليوت هو أن الشكل الكلاسيكي للرواية الذي كان سائدا في القرن التاسع عشر قد انتهى ولم يعد صالحاً للتعبير عن العصر الذي نعيش فيه. وقد حصلت تحوّلات كبيرة في هذا الفنّ، أدّت ببعض النقّاد إلى أن يرفضوا إطلاق اسم الرواية على النتاج القصصي الجديد. 
لكن روائيين ونقّاداً آخرين رأوا أن هذا التحوّل أمر طبيعي، وقالوا إن الرواية القديمة هي التي انتهت وحلّت محلّها الرواية الجديدة. وبرغم أن «الرواية الجديدة» أصبحت اسماً علماً لحركة تجديدية في فرنسا ابتدأت مع ألان روب-جرييه Alain Robbe-Grillet حين نشر في عام 1955 مجموعة مقالات قصيرة وواضحة حول مستقبل الرواية، فإن حركة التجديد تعود إلى العقد الثاني من القرن العشرين في إنجلترا لحين قدّم كلّ من فيرجينيا وولف وجيمس جويس نتاجهما الروائي. غير أن روب-جرييه شنّ في مقالاته حول الرواية أعنف هجوم على الأشكال التعبيرية القديمة في الرواية، وعلى النقاد الذين رفضوا التجديد. وقال إن الأشكال تحيا وتموت في الفنون جميعاً، وهي يجب أن تتجدّد بشكل مستمرّ في كلّ عصر من العصور، ورأى أن أسلوب كتابة الرواية في القرن التاسع عشر كان يتّفق مع أسلوب الحياة منذ مائة عام، وهو ليس الآن سوى معادلة فارغة لا تصلح إلّا مثالاً لمحاكاة تهكّمية مملّة. وأضاف: «إنه كان ومازال هناك، بخاصة في فرنسا، نظريّة في الرواية مقبولة ضمناً لدى الجميع يستخدمها الناس مثل الحائط يقابلون بها كلّ ما ننتج من كتب، فكان يقال لنا: إنكم لا تخلقون شخصيات، لذلك فأنتم لا تكتبون روايات حقيقية، إنكم لا تروون قصة، لذلك فأنتم لا تكتبون روايات حقيقية، إنكم لا تقدّمون دراسة للشخصيات أو الجوّ ولا تحلّلون العواطف، لذلك فأنتم لا تكتبون روايات حقيقية. لكننا بالرغم من اتهامنا بأننا نظريون، فإن العكس هو الصحيح، نحن لا نعرف كيف يجب أن تكون الرواية الحقيقية؛ كلّ ما نعرفه أن الرواية اليوم ستكون ما نقدّمه اليوم، وإن عملنا ليس إنتاج ما هو شبيه لما كان يوجد في الأمس، بل التقدّم إلى الأمام».
ويجدر بنا أن نلاحظ أن التجديد ليس قضيّة هامشيّة تتعلّق بالشكل الخارجي، لكنها قضيّة فلسفيّة تقوم في الأساس على نظرة الإنسان إلى الوجود والإنسان والمجتمع. من هنا كان التحوّل في نظرة الإنسان إلى الواقع الذي يعيش فيه أصلاً لكلّ تحوّل فنّي. وقد كان روب - جرييه على حقّ حين قال إن كلّ كاتب يظنّ نفسه واقعيّا، فكلّ مدرسة أدبية جديدة كانت تبتغي القضاء على تلك التي سبقتها باسم الواقعية. فالواقعية هي كلمة السرّ التي استخدمها الرومانطيقيون ضد الكلاسيكيين المستحدثين، وبعدهم الطبيعيون ضدّ الرومانطيقيين، وحتى السرياليين كانوا يقولون إن عالمهم ليس سوى عالم الواقع. ويؤكد روب-جرييه أنهم جميعاً على صواب وإن لم يتفقوا، لأن لكلّ منهم مفهومه الخاص للواقعية. 
ولعلّ جورج لوكاش Georg Lukacs، الناقد والفيلسوف الماركسي المجري، على ما بينه وبين روب - جرييه من اختلاف، كان يقصد الشيء ذاته حين قال إن الواقعية ليست أسلوباً واحداً من بين أساليب أخرى، لكنّها أساس الأدب، فالأساليب جميعاً، حتى تلك التي تبدو ظاهراً الأكثر معارضة للواقعية، تنشأ منها، أو أنها ترتبط بها ارتباطاً كبيراً. ويرى الناقد البريطاني إيان وات Ian Watt أن النظرة الأدبية «للواقعيين الفرنسيين» كان يجب ألّا تؤثّر في مفهومنا للعبارة، بحيث نظنّ أنه إذا كان بلزاك Balzac  «واقعياًً» فإننا نحتاج إلى عبارة أخرى لنصف بها بروست Proust.
لعل الروائية فيرجينيا وولف أصابت جوهر القضية حين نبّهت إلى أن الواقعية لا تعني مشابهة الحياة. ويبدو لي أن هذه الملاحظة تشكّل مفتاح اكتشاف الفوارق المختلفة لاستخدام مصطلح الواقعية. والقضية في أساسها نقدية فلسفية تتعلّق بمفهوم الإنسان للأدب ودوره: هل الأدب محاكاة للواقع أم أنه إعادة خلق لذلك الواقع؟ 
    يقول الروائي الأميركي هنري جيمس في مقالة له نُشرت في عام 1884 إن المبرّر الوحيد لوجود الرواية هو أنها تحاول تصوير الحياة. ويرى الناقد البريطاني بيرسي لوبوك Percy Lubbock  أن الأمر في غاية البساطة: «فالرواية صورة للحياة، والحياة معروفة جيّداً بالنسبة إلينا، دعْنا أوّلاً «نحقّقها» ثم باستخدام ذوقنا دعنا نحكم إذا كانت حقيقية ومتوهّجة ومقنعة، أي مثل الحياة». ولا شك في أن نظرة كهذه إلى الأدب تلغي أساساً فكرة الخلق الفني وتقضي على عمل الناقد.  
هذا التوجّه الذي أخذ به لوبوك أدى إلى نتيجة خطيرة كان لها انعكاس سلبي على تطوّر الرواية، وعلى النقد الأدبي الذي يتناولها في الوقت ذاته، لما كان لكتابه «The Craft of Fiction» من أهمية وسِعَة انتشار في الربع الأول من القرن العشرين. فقد قرّر أن الرواية حالة خاصة تختلف عن الفنون الأخرى، وبالتالي لا تنطبق عليها القوانين التي «تكبّل» تلك الفنون. ويقول إن هناك روايات يُقرّ «الجميع» أنها ذات بناء رديء، لكن ذلك لا يؤثّر في قيمتها لأنها ممتلئة حياة. ويستنتج أن للشكل والتصميم والبناء تأثيراً مختلفاً على الرواية عن تأثيرها على الفنون الأخرى.  
غير أن نقاداً آخرين شعروا بخطورة هذا التوجّه «النقدي» وسعوا إلى مناقشته ودحضه. فقد ناقش إدوين موئير Edwin Muir كتاب بيرسي لوبوك كما ناقش كتاب إي إم فورستر «Aspects of the Novel»، وقال إن النقاد الذين يربطون بين الرواية والحياة يبحثون شؤون الحياة وينسون الرواية. وأضاف قائلا إن الناقد لابدّ له كي يتذكّر الرواية، أن يفترض، أي أن ينسى، أنها تدور حول الحياة. فحقيقة أن الروائي يكتب عن الحياة ليست أمراً غير عادي، لأنها الشيء الوحيد الذي يُلمّ الكاتب بشيء عنه. ويقول بول وست Paul West  إن مهمة الروائي هي الإيهام بالواقع وليست نقل صورة للحياة، لأن المبرّر الوحيد لوجود الفنّ هو أن الفنّ ليس هو الحياة. وإذا كان يوجد فنّ لا يمكن التفريق بينه وبين الحياة، فإن الفن لا يعود جديراً بأن يُخلق. ويؤكد إدمون ويلسون Edmund Wilson  أنه من الخطأ أن نجعل شرعيّة الأعمال الفنية تعتمد على مماثلتها للواقع، لأن للفن شرعيّته الخاصة، وارتطامه بالواقع يقضي عليه ويلغي عمل الفنان. 
    من هنا اتجه نقّاد عديدون إلى الربط بين الرواية والشعر، لأن الإنتاج الأدبي واحد في جوهره: إنه رؤية تغذّيها التجربة وتعبّر عن ذاتها بالكلمة. وكلّما تعمّقت التجربة وكانت الرؤية أكثر نفاذا ارتقى التعبير الفنّي عنها إلى مستوى يتّحد فيه الخاص بالعام ويغدو شاعريّاً في كونه نظرة جديدة تتخطّى الواقع وتعيد خلق الأشياء من جديد. ولعلّ التجديد في الفنون في العصر الحديث ساهم في هذا التقارب: لم يعد الشعر في مفهوم الحداثة مجرّد كلام عادي منظوم، كما لم تعد الرواية مجرّد حكاية تقوم على الحبكة والشخصيات، وغدا كلّ من الشعر والرواية فنّاً يتميّز برؤية تعيد خلق الواقع ويتجسّد في اللغة. 
وفي هذا الاتجاه كتب الناقد الفني والأدبي هربرت ريد Herbert Read في مقالة له عام 1936، قائلا: «إنّ الرواية من حيث هي حكاية نثرية تنتظر تحوّلاً شاملاً. وبقدر ما تبتغي أن تبرّر ذاتها بوصفها فنّا، عليها أن تتحوّل إلى الشاعرية. لأنه في الأساس، لا يوجد فارق بين الفنّ النثري والفن الشعري؛ هناك فقط فنّ كلامي واحد هو الشاعرية». كذلك يقول دُني سورا Denis Saurat في مقالته حول الرواية في موسوعة الأدب العالمي إن أكبر مشكلة تواجه الروائي في الوقت الحاضر هي مشكلة كلّ كاتب: إنها مشكلة اللغة. ويضيف أن الكتابة الرديئة قد تكون أكثر خطراً على الروائي منها على أي فنان أدبي آخر، رغم أنها خطر مميت على الجميع، لأن جمهور الروائي أقلّ تشدّدا بشأن مسألة اللغة من جمهور الشاعر. فمن الأسهل أن يكون الإنسان كاتباً رديئاً وأن ينجح في الرواية من أن يكون كاتباً رديئاً في أي فنّ كلامي آخر. غير أن جميع الروايات العظيمة في الماضي كتبها أسياد في اللغة: فمن الممكن أن تقرأ كلّ كلمة عند رابوليه Rabelais وسيرفانتس Cervantes بالدقة نفسها وباللذة ذاتها التي يُقرأ بها الشعراء. وفي ذلك كما في أشياء كثيرة أخرى، فالروائي الحقيقي ينبغي أن يكون شاعراً حقيقياً: عليه أن يتخيّل عالم العقل والشعور، فضلاً عن أن يصوّر جزئياً العالم الموجود، كما أن عليه أن يعطي كلّ كلمة يستخدمها قيمتها الحقيقية تماماً كما يفعل الشعراء. 
غير أن عملية التخيّل والخلق والاتجاه إلى الشاعرية لا تعني أن الروائي ينفصل عن الواقع أو أنه يطلّق الواقعية ويتجه اتجاها آخر يوجب علينا أن نبحث عن اسم مناسب له. يقول إدوين موئير إن حبكة الرواية هي بالضرورة شاعريّة أو فنيّة كما هي حبكة أي شكل آخر من أشكال الإبداع الخيالي، إنها ستكون صورة للحياة، وليست مجرد تسجيل للتجربة، غير أنها بوصفها صورة ستلتزم حتماً بالشروط التي وحدها تجعل الصورة تامّة وكلّية، وتلك يمكن اختزالها في كونها تمثيلاً للفعل إما أن يكون غالباً في الزمان، وإما أن يكون غالباً في المكان. فبرؤية الحياة في الزمان أو برؤيتها في المكان، يمكن للكاتب أن يكتشف العلاقات والقيم الفعّالة والحيويّة لحبكته بصورة مُرضية وإلى غاية، وأن يحوّل حسّه الغامض بالحياة إلى صورة إيجابية، إلى حُكم خيالي. ويضيف قائلا إنّ لنا الحق في أن نطلب ذلك الحكم الخيالي من الرواية كحقّنا في طلبه من التراجيديا الشعرية والملحمة، لأن الرواية شكل فنّي، مثلهما، أو أنها لا شيء. وإذا لم يتحقّق ذلك التحوّل في معظم الروايات، فنعرف إذن أنها ليست أدباً بل مجرّد اعترافات. كذلك إذا اكتفى الكاتب في الرواية المختصة بفترة زمنيّة محدّدة بأن يرسم صورة التحوّلات المعاصرة في المجتمع، فإننا نعرف مجدداً أن ذلك ليس أدباً بل صحافة. 
لا شك في أنه من المفيد أن نتذكّر هذه القضايا النقدية حين نتناول الرواية العربية بالدراسة وبخاصة نتاج نجيب محفوظ. وعلينا أن نتذكّر أيضا أن تصنيف الاتجاهات المختلفة ليس عملية بسيطة كما قد يبدو للوهلة الأولى، فلم يكن محفوظ واقعيّاً ثم ميتافيزيقيّاً فرمزيّاً فعبثيّاً كما شاع القول بين عديد من الذين تناولوا نتاجه الروائي، بل كان دائماً واقعيّاً بالمعنى الحقيقي العميق للكلمة. لكن واقعيّته غلبت عليها أحياناً النظرة الاجتماعيّة، وأحياناً أخرى النظرة النفسيّة، أو الميتافيزيقيّة والنظرة الإنسانيّة الشاملة. ولم يكن محفوظ أبداً واقعيّاً بمعنى أنه كان يقدّم صورة فوتوغرافية للحياة أو لبعضٍ من جوانبها، إذ إن ما ميّزه دائماً وجعل منه أديباً كبيراً، كان امتلاكه رؤية نافذة ونظرة خاصة به إلى الأشياء، كما كان إحساسه الفنّي الخاص الذي أرشده إلى الجوانب الحياتيّة والإنسانيّة التي تصلح موضوعاً للفنّ.
كذلك تميّز محفوظ بطاقة كبيرة على التجديد وكان دائماً صادقاً لتجربته ومخلصاً لتراثه وبيئته: قرأ الروايات الغربيّة، لكنّه لم يقلّد أيّاً من اتجاهاتها المختلفة، بل ترك التجربة والرؤية تتخذان الصيغة المناسبة لهما، فظلّ بذلك وفيّاً للتربة التي أنبتته، وكان محليّاً إنسانيّاً في الوقت ذاته، وتلك إحدى مميّزات العمل الأدبي الكبير. يقول موئير إن «في العمل الأدبي العظيم يبدو كلّ شيء خاصّاً، وفي الوقت نفسه فإن كلّ شيء يبدو كلّياً، وحين يتمّ بلوغ الكلّي يطبع الأجزاء جميعاً بطابعه ويتغلغل في الشكل كلّه أو في الحركة بأسرها». فالتجربة الإنسانية واحدة في جوهرها، لكن تفاصيلها تختلف من زمن إلى آخر ومن مكان إلى آخر. وقد استطاع محفوظ أن يبرز هذه الاختلافات والتحوّلات ضمن إطار إنساني شامل. ولعل «حكايات حارتنا» تشكّل أفضل مثال على مقدرة محفوظ على التجدّد الدائم وعلى التجذّر في التربة المحلّية والانطلاق إلى أجواء إنسانية رحبة. 
و«حكايات حارتنا» ليست رواية وليست قصصاً قصيرة، كما قال محفوظ، إذا أخذنا بالتعريفات التقليدية لهذين الفنّين. لكنّنا إذا اعتمدنا اسم الرواية للأشكال الجديدة لهذا الفن، ولم نقصر استخدامه على الشكل الذي ساد في القرن التاسع عشر، فإن «حكايات حارتنا» هي رواية جديدة. وليس المقصود بذلك أن محفوظ يقلّد «الرواية الجديدة» التي شاعت في فرنسا، أو أنه ينسج على منوالها، بالرغم من وجود جوانب مشتركة بين رواية محفوظ هذه وبين «الرواية الجديدة». لكن المقصود أنّ محفوظ طلّق هنا نهائياً، الشكل الكلاسيكي للرواية واتجه إلى شكل جديد ألغى فيه التسلسل الزمني والحكاية الطويلة المتتالية الأحداث، كما ألغى دراسة الشخصيات المعرَّفة الرئيسة والثانوية وألغى الحبكة، وأبدع بديل هذه جميعاً لوحات متعدّدة في إطار روائي، مستلهماً الحكاية الشرقيّة. 
تقع «حكايات حارتنا» في مائة وتسع وثمانين صفحة من القطع الصغير وتتألف من ثمانٍ وسبعين حكاية يتراوح طول الواحدة منها بين صفحة واحدة وصفحات أربع. تدور «الرواية» حول شخصيات ومواقف تظهر في ومضات سريعة من خلال نظرة طفل من سكان الحارة يتحدّث بصيغة المتكلّم. ومن خلال هذه الشخصيات والمواقف يقدّم محفوظ صورة مصغّرة للنواحي الاجتماعيّة والسياسيّة والإنسانيّة لحارة فقيرة من أحياء القاهرة في العقد الثاني من القرن العشرين. وقد استطاع محفوظ في «حكايات حارتنا» أن ينطلق من الخاص إلى العام، من المحسوس إلى قضايا 
ما ورائيّة، فيصوّر أموراً نفسانيّة واجتماعيّة وسياسيّة ودينيّة وغيبيّة من خلال مئات الأسماء التي لا تُعدّ شخصيات بالمعنى التقليدي للمصطلح، لأنها لا تظهر إلّا من خلال قضيّة معيّنة يرغب محفوظ في إبرازها. كذلك لا يوجد تسلسل زمني في الكتاب، فبرغم أن معظم اللقطات التي يصوّرها تدور أحداثها حين كان المتحدّث طفلاً، فهو أحيانا في قفزة واحدة يعود ويلتقط الشخصيّة ذاتها بعد عشرات السنين.
هذه القضيّة الفنّية تستحقّ وقفة تأمل، لأنها على ما يبدو لي، المنطلق الأساسي الذي يكسب «حكايات حارتنا» أهمية خاصة. فالأسلوب القصصي الذي يعتمده محفوظ في هذا الكتاب يقوم على إلغاء الزمن من حيث هو امتداد عمودي متدرّج ومتتالٍ، والتوجّه نحو بسط العمل الأدبي في حيّز مكاني أفقي يمكن النظر إليه دفعة واحدة، فيتجاور الماضي والحاضر ويتفاعلان في حيّز مكانيّ لا زمنيّ. ويتحوّل الخيال التاريخي خيالاً أسطورياً ينتفي فيه الزمان لأنه يعلو على الزمن. وتولد عوالم أسطورية لا تاريخية في كونها تصهر في ذاتها كلّ العصور، ويتحقق الرمز الإنساني الكلّي الذي يكشف حقيقة النفس الإنسانية بأبعادها وأعماقها كافة.  
هذا التحوّل في التعبير الأدبي من الزمان إلى المكان هو ما عدّه الناقد الأمريكي جوزيف فرانك 
Joseph Frank في مقالته المهمة «الأسلوب المكاني في الأدب الحديث» Spatial Form in Modern Literature ميزة أساسية من مميّزات الحداثة في الأدب. ويرى فرانك أن الأدب الحديث يتحرّك باتجاه الشكل المكاني مما يدفع القارئ إلى إدراك العمل الأدبي مكانيّا في برهة من الزمن لا أن ينظر إليه على أنه تسلسل متتابع. ويقول إن هذا المبدأ هو صلة الوصل ما بين الشعر الحديث والرواية الحديثة، حيث لا ينغمس القارئ في مجرى الزمن بمتابعة شخصيات تتطوّر بشكل تصاعدي، بل يواجهه المؤلف بلقطات مختلفة لهذه الشخصيات «ساكنة في لحظة رؤيوية» في مراحل مختلفة من حياتها. ويرى أن هذا ما قصد إليه مرسيل بروست حين سعى إلى التغلّب على الزمن بإدراك الماضي والحاضر معاً في لحظة من «الزمن الصافي» الذي ليس زمناً على الإطلاق، بل مكاناً في كونه رؤية تتجسّد في لحظة من الزمن. 
وهذا ما يفعله نجيب محفوظ في «حكايات حارتنا» حين يركّز على لقطات سريعة للحارة لا تخضع لتسلسل زمني بل تتجاور كأنها فسيفساء تشكّل لوحة متكاملة يدركها القارئ دفعة واحدة.
وليس التحوّل في أسلوب التعبير الفنّي مجرّد تغيير شكلي، لكنّه تعبير عن موقف الفنّان من الحياة والوجود في عصر فقد فيه الإنسان انسجامه مع واقعه، فحاول تخطّي هذا الواقع بأعمال فنّية مغايرة لطبيعة ذلك الواقع. ولعل الرعب من الزمن المنتهي بالبشر إلى الموت هو أبرز ما يواجهه الإنسان في حياته، فيتجه بالفنّ إلى إبداع عالم لازمني يحقق فيه لنفسه الانتصار على الزمن العاتي. 
    من هنا يظهر الارتباط الحتمي بين مضمون «حكايات حارتنا» وأسلوب محفوظ في التعبير. فالرواية تصوّر مجتمعاً مفككاً في حارة تسيطر عليها الفتوّات ولا تخضع لسلطة واحدة تمسك بزمام الأمور. والرواية تبرز حالة سياسية متضعضعة تسود فيها التظاهرات ويعمّ القتل وتكثر الفوضى في ظل استعمار يقاومه التحرّك الوطني. والرواية لا تتحدّث عن قصة حبّ واحدة، بل تظهر نساء عدّة يتعلّق بهن الراوي في فترات مختلفة. وسط هذا التضعضع والتفسّخ والتعدديّة لا يبرز رابط منطقيّ أو نفسيّ أو روحيّ يوحّد ما تفسّخ في الحياة، فيأتي العمل الأدبيّ في تعبيره بالومضات واللمحات واللوحات موازياً لرؤية الأديب للحياة ويشكّل وحده سبيلا إلى الخلاص. وتحتّم الرؤية الجديدة إبداع تعبير جديد فتكون «الرواية الجديدة» وسيلة الفنان إلى مصالحة الحياة ■