الحضور العربي والإسلامي عند الشاعر الروسي جوميليوف

الحضور العربي والإسلامي  عند  الشاعر الروسي جوميليوف

يشكل الحوار  بين الثقافات الإنسانية انعكاساً لنزعة إنسانية فطرية في اللقاء بالمختلف والبحث في ما يسكنه من قيم، ويجلي هذه النزعة قول الله تعالى في سورة الحجرات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الآية 13). إن الحديث عن الشعوب والقبائل في جوهره الدلالي هو حديث عن حتمية الاختلاف التي تعد مدعاة للحوار  والتفاعل المبني على فضيلة الأخذ والعطاء، وما من شك في أن الحوار بين الثقافتين الروسية والعربية يمثل نموذجاً معبراً عن هذا الحوار.

إن شواهد التلاقي والتفاعل بين الثقافتين العربية والروسية تضرب بجذورها في عمق التاريخ، وكانت فترة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتي اصطلح على تسميتها في أدبيات الثقافة الروسية بـ «العصر الفضي»، واحدة من الفترات التي شهدت إنتاجا وفيرا يتعرض فيه رجال الأدب والثقافة لمكونات الحضارات الشرقية، ومن بينها الحضارة العربية بطبيعة الحال.
كان «نيكولاي جوميليوف» في هذه الفترة من العلامات الأدبية شديدة التألق والحضور على الساحة الثقافية، فلم يكن شاعراً بارزاً فحسب، بل كان مؤسساً ومنظراً لأحد التيارات الأدبية الناشئة حديثاً في ذلك الوقت؛ ألا وهو «تيار الذروة».
وتميزت الفترة التاريخية التي عاش فيها «جوميليوف» باهتمام خاص بعالم الشرق، هذا الاهتمام كان نتيجة لازدهار علم الاستشراق الروسي والفكر الفلسفي الذي كان يرى في روسيا حلقة وصل بين الغرب وحضارته المادية من ناحية، وبين الشرق وحضاراته وموروثاته الثقافية من ناحية أخرى؛ لذا تجدر الإشارة إلى أن اهتمام «جوميليوف» بمفردات الحضارة العربية والإسلامية لم يكن من منطلق ديني، إنما كان له بواعث فنية بحتة. أو بتعبير آخر يجب أن يُنظر إلى اهتمام «جوميليوف» بالشرق العربي الإسلامي من منظور ثقافي وفلسفي يتماشى مع السياق التاريخي للفترة المذكورة وظروف الواقع الأدبي فيها بمنأى عن منظور ديني ينطلق من موقف الأديب إزاء الإسلام.
علاوة على ذلك كان لاهتمام «جوميليوف» بالشرق مبررات أخرى نلمحها من واقع الحياة الشخصية للشاعر نفسه، كتأثير الأسرة التي وُلد ونشأ فيها، حيث كان أبوه طبيبا يعمل على إحدى سفن الأسطول الروسي في منطقة البلطيق، فكان الطفل الصغير يستمع لحكايات الأب عن مغامراته البحرية بشغف كبير. كما كان خاله أدميرالا بحريا، فأولع «جوميليوف» منذ صغره بالجغرافيا وقصص الرحلات والمغامرات التي عكف على قراءتها في مكتبة الأسرة. ثم في مرحلة الشباب ارتبط «جوميليوف» بعلاقة صداقة مع عدد من علماء الاستشراق، منهم عالم المصريات «تورايف» والمستعرب «كراتشكوفسكي». 
هذا بالإضافة إلى طبيعة «جوميليوف» الرومانسية الحالمة التي ارتبطت في وعيه بنوازع أسطورية تتعلق بالأماكن وبروح المغامرة. كل ذلك وجد له حضورا في إنتاج الشاعر منذ ظهور مؤلفاته الأولى التي نلحظ فيها ولعه بعالم الشرق، وفي مرحلة النضج الأدبي تتواصل مؤلفاته ويتضح معها جليا ولعه الشديد بهذا العالم. لقد كان «جوميليوف» مؤمنا بمقولة الفيلسوف الروسي بيرديايف بـ «إن الشرق مهد كل الديانات والحضارات العظيمة». فانطلق الشاعر نحو هذا العالم يستقي من حضاراته وثقافاته.
ولكونه شاعرا فإن أول ما استحوذ على اهتمام «جوميليوف» في ثقافة العرب إرثهم الأدبي بما يمتاز به من عمق في التناول، تعززه لغة شديدة الكثافة مغلفة بغلاف مجازي يعكس روحا وثابة لها القدرة على العبور فوق جسر الحقيقة، وصولا إلى عوالم مصنوعة من لبنات الخيال، تعمد إلى لغة الرمز.
وقد ارتبط ذلك بشكل وثيق بإعجاب «جوميليوف» بشخصية الشاعر المعروف «امرئ القيس» أمير شعراء الجاهلية الذي احتفى به في أحد أعماله المسرحية المسماة «البردة المسمومة» التي يرسم فيها صورة الشاعر البدوي الرحال المحب للحرية، ويورد وقائع حقيقية من سيرة الشاعر العربي كواقعة مقتل أبيه وقولته الشهيرة عندما بلغه خبر مقتله «اليوم خمر وغدا أمر»، واستعداد الشاعر للأخذ بثأره ولجوئه للحاكم البيزنطي يوليان طلبا للعون على إتمام هذا الأمر. ويتجلى ولع «جوميليوف» بموهبة امرئ القيس الشعرية الفذة في اقتباسه لأجزاء من معلقة الشاعر العربي التي يذكر فيها لقاءه بمحبوبته «عُنيزة». وكانت نظرته لامرئ القيس بوصفه نموذجا للشاعر المثالي الذي يجمع في مكونات شخصيته بين البدوي الرحال، والفارس المحارب، والرجل المفعم بمشاعر الحب.
إعجاب «جوميليوف» بالإرث الأدبي للعرب كان بالغ الوضوح في تأثره بالتقاليد الشعرية العربية، لا من حيث الموضوعات التي يتناولها فحسب، إنما في هيكل النص الشعري نفسه، حيث استخدم «جوميليوف» في إحدى قصائده القالب العربي المعروف بالبيت الشعري الذي يتألف من سطرين شعريين. كذلك استلهم «جوميليوف» الصور البلاغية التي كانت تتسم بها الأشعار العربية.
وتتشكل صورة العربي في عدد من أشعار «جوميليوف» بسمات فكرية متنوعة، مثل: العزة والحمية، والقوة والشجاعة، والمشاعر الفياضة وغيرها، وكلها قيم حظيت بإعجابه. 
كذلك كان للمجتمع الصحراوي والبيئة البدوية نصيب من اهتمام الشاعر الروسي، نرى ذلك حين يستلهم «جوميليوف» صورة الصحراء العربية بمفرداتها التقليدية كالبدوي والجمل والخيمة والنخل والفرس والقافلة وعيون الماء، كل ذلك في تشكيلات شعرية جمالية.
وبالنظر إلى إنتاج «جوميليوف» الأدبي نجد أن كثيرا من البلدان والمدن العربية كانت بمنزلة مسرح لأحداث عدد من مؤلفاته الأدبية، كالسودان ولبنان وسورية والجزائر وتونس والقاهرة ودمياط وبورسعيد وبيروت وجدة وبغداد والبصرة. وقد شغل موقع الصدارة في هذا التناول مصر التي أحبها «جوميليوف» شاعرا وإنسانا.
زار «جوميليوف» مصر عدة مرات وجسد حبه لهذا البلد في قصيدة تحمل اسمها التي وتمثل صورة جمالية ذات أجزاء ثلاثة، كل جزء يمثل مرحلة من تاريخها بدءا بمصر الفرعونية، حيث الأهرامات وأبو الهول وإيزيس وممفيس وطيبة والنقوش الفرعونية القديمة، ثم مصر البطلمية، حيث قصة الحب المعروفة بين أنطونيو وكليوباترا، مرورا بمصر الإسلامية، حيث مسجد السلطان حسن بمئذنته التي تكاد تلامس السحاب على حد وصف «جوميليوف»، وصولا إلى مصر التي عاصرها الشاعر الروسي عندما كانت مستعمرة إنجليزية. يورد «جوميليوف» صورا من الحياة الاجتماعية لمصر في ذلك الوقت. فهناك النساء اللاتي انشغلن بتنقية الحبوب والغلال، وهناك الشيوخ وهم يؤدون الصلاة ويتلون القرآن. كما أشار «جوميليوف» في قصيدته إلى أنه عندما زار القاهرة تردد على مقاهيها واستمع هناك لقصائد الشعر العربي من إلقاء مؤلفيها الشعراء مستمتعا بأصواتهم العذبة وبرائحة البن العربي الذكية. وقد أولى الشاعر الروسي في هذه القصيدة اهتماما خاصا بصورة المزارع المصري الذي يسميه بـ«الفلاح» ويرى فيه الملك الحقيقي لمصر. ومما أثار إعجاب «جوميليوف» في شخصية الفلاح المصري حبه للعمل وتفانيه فيه وكذلك ارتباطه الوثيق بالأرض التي ورثها عن أجداده. كما تمثل القصيدة أنشودة تمجيد لنهر النيل الذي اعتبره «جوميليوف» شريان الحياة في مصر. ومن الطريف أن الشاعر ذكر في هذه القصيدة أبياتا مستوحاة من المقولة المصرية الشهيرة «إن الذي يشرب من نيل مصر فحتما سيعود يوما إليها».
وبخلاف هذه القصيدة تناول «جوميليوف» صورة مصر في قصائد أخرى كقصيدة «البحر الأحمر» و«قناة السويس» و«الأزبكية» وقصة «إلى أعالي النيل». وفي قصيدة «التعويذة» و«الضبع» يتعرض «جوميليوف» لصورة الملكة المصرية «كليوباترا». كما يرد ذكر نهر النيل العظيم في قصيدة «التروماي التائه» وقصيدة «البحار بوفزاني».
لقصيدة «الأزبكية» مكانة خاصة لدى «جوميليوف»، فقد زار الشاعر هذه الحديقة خلال أولى رحلاته لمصر وبعدها بعشر سنوات كرس لها قصيدته التي تحمل اسمها. والطريف أن الشاعر وجد في حديقة الأزبكية حين زارها تعزية لنفسه الكلمى جراء خلاف وقع بينه وبين زوجته في ذلك الوقت الشاعرة الروسية المعروفة آنا أخماتوفا. أزالت الحديقة ما أصاب نفسية الشاعر الروسي من ضيق وكدر، وأعادت له بجمالها ورونقها بهجة الحياة فعاهد نفسه أن يعود مرة أخرى لزيارة الحديقة في آخر أيام حياته. عهد لم يسعفه القدر الوفاء به.
وقد بدا ولع «جوميليوف» بحكايات «ألف ليلة وليلة» التي استلهم قصصها وشخصياتها في عدد من مؤلفاته الأدبية، ولا غرابة في ذلك بالنسبة لشاعر أحب السفر والترحال والأماكن البعيدة والعوالم الأسطورية. ففي قصيدة «نسر سندباد» يتعرض «جوميليوف» للرحلة الثانية من «حكايات ألف ليلة وليلة»، وفي قصيدة «المبهر» يورد الشاعر الروسي وقائع من الرحلة السابعة من «الحكايات»، متناولا فيها شخصية «السندباد البحري» التي استهوت الشاعر الروسي. كذلك كان للرحلة الخامسة من رحلات السندباد نصيب من التناول الفني في إبداع «جوميليوف».
أما عن الحضور الإسلامي في مؤلفات «جوميليوف» فتجدر الإشارة إلى أننا لم نقف على حقيقة ما إذا تعرف الشاعر الروسي عن قرب على الإسلام والقرآن أم لا، فليس في سيرة حياته ما يشير إلى ذلك. لكن ولع الشاعر بالسفر والترحال دفعه لزيارة العديد من البلدان العربية والإسلامية. هذه الحقيقة تجعلنا نذهب إلى أن معايشة الشاعر الروسي للمسلمين كانت بمنزلة النواة الأولى لاهتمامه بالدين الإسلامي.
والمؤثرات الإسلامية في إبداع «جوميليوف» نجدها - على ندرتها - تجسدت في عدة محاور هي: القصص القرآني، حيث يتناول الشاعر في قصيدته «مصر» قصة النبي موسى كليم الله مع فرعون، كذلك يتناول قصة الرجل الصالح «الخضر» في إحدى مسرحياته التي تمتلئ بألفاظ ترتبط إما بالديانة الإسلامية أو بالبيئة العربية (الله، محمد عليه الصلاة والسلام، عزرائيل، القاضي، الشيخ، الأمير، مسرور، أمير المؤمنين، الصحابي عمر رضي الله عنه، عين سلسبيل في الجنة، إبليس).
تعرض «جوميليوف» كذلك لوصف بعض شعائر الدين الإسلامي؛ ففي قصيدته «الحاج» تناول الشاعر الروسي فريضة الحج في الإسلام، ناظرا إلى أهم شعائرها من سن الفريضة بـالأذان في الناس بالحج والتلبية والمشاق التي قد يواجهها الحاج في سيره للبلد المقدس «مكة» وفرحته عند وصوله إليها وتلبيته نداء ربه. وقد رسم «جوميليوف» من خلال صورة بطل القصيدة العجوز «أحمد أوجلي» نموذجا لقوة الإيمان والمجاهدة الروحية وتطهير النفس، وكلها معان كان لها دلالات رمزية عميقة لدى الشاعر الروسي. 
وفي قصيدة «السودان» يشير «جوميليوف» إلى سنن الوضوء والتيمم اللازمين لتأدية الصلاة. وفي القصيدة نفسها يستخدم الشاعر الروسي الإستعارة القرآنية الواردة في سورة البقرة عن التمييز بين الخط الأبيض والخط الأسود كناية عن حلول وقت الفجر، وإن كان استخدام الشاعر الروسي للتعبير ذاته جاء في معرض حديثه عن دخول وقت المساء.
وفي قصيدة «الإسلام» - التي كتبها «جوميليوف» في مرحلة سنية مبكرة وهو لايزال في بداية مسيرته الإبداعية - يظهر إلمام الشاعر بمقدسات المسلمين حين يذكر على سبيل المثال الحجر الأسود في الكعبة.
وقد تناول «جوميليوف» شخصية هارون الرشيد في واحدة من مسرحياته التي تحمل اسم الخليفة العباسي. تدور الأحداث في مدينة بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية في ذلك الحين، ويصف الشاعر الروسي بغداد بالمدينة البيضاء كما كان يطلق عليها في ذلك الوقت لبهائها وشدة جمالها. ولإضفاء الطابع التاريخي على المسرحية يذكر «جوميليوف» شخصيات حقيقية في حياة الخليفة الإسلامي كزوجته زبيدة ووزيره الشهير جعفر. كما يشير «جوميليوف» إلى العلاقات المتبادلة بين هارون الرشيد والملك الأوربي شارلمان العظيم حيث كانا يتبادلان الهدايا، ومنح الرشيد الملك الأوربي امتيازات خاصة في مدينة القدس.
لكننا نلاحظ أن معالجة «جوميليوف» الفنية لشخصية الرشيد تفتقد للموضوعية وتحمل في طياتها كثيرا من المغالطات التاريخية، وكان واضحا أن الشاعر الروسي وقع تحت تأثير الصورة النمطية الغربية عن الرشيد كرجل لا يحسن إدارة مملكته مترامية الأطراف ولا يولي اهتماما إلا لملذاته الشخصية فحسب.
تأثر «جوميليوف» كثيرا بشخصية وإبداع الشاعرين الإسلاميين محمد شمس الدين الملقب بـ «الحافظ الشيرازي» وناصر خسرو أبو معين، الأول جعله «جوميليوف» بطلا لإحدى مسرحياته، والطريف أن «جوميليوف» كان يحب أن ينادى باسم حافظ، اعجابا منه بهذا الشاعر الإسلامي. أما ناصر خسرو فقد اتخذ «جوميليوف» من ترجمة كتابه «الديوان» مصدرا لقصيدته «الدرويش السكران».
وقد جذب التصوف في السياق الثقافي العربي الإسلامي اهتمام «جوميليوف» وبدا ذلك جليا في إحدى مسرحياته، حيث نقف فيها على عدد من المفاهيم والمبادئ الصوفية كالفناء في الذات الإلهية، والسكر الصوفي، وعلاقة المريد بالمرشد، والعلم اللدني، والكرامات وغيرها. أما قصيدة «الدرويش السكران» فتقوم على الرمزية الصوفية؛ فالعنوان نفسه يشير إلى اثنين من المفاهيم الصوفية الرئيسة: الدرويش؛ أي السائر في الطريق نحو الحقيقة المطلقة (الله)، وحالة الاندماج الروحي التي ترمز إلى الانجذاب الصوفي؛ بوصفه نتيجة لإدراك الحقيقة المطلقة.
وهكذا كان للشرق العربي والإسلامي مكان في إبداع الشاعر الروسي «نيكولاي جوميليوف», فمؤلفاته التي يستلهم فيها بعض ما في هذا التراث وإن لم تكن كثيرة، فإنها قد وُفقت إلى تقديم ظلال لمفهوم جمالي يتميز بعمق الرؤية وقدرة تحملها الصيغ اللغوية الظاهرة على إحداث الأثر الإمتاعي والذهني المطلوب والمتمنى لدى المتلقي.
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نقول: إن القيمة الحقيقة للأدب ترتهن – وفق منظورنا – بما يحوزه من إمكانات تساعد على التقارب بين أصحاب القوميات والثقافات المختلفة.
لقد كان «نيكولاي جوميليوف» على وعي بهذه الحقيقة؛ ومن ثم كان سعيه إلى استيعاب ثقافة الآخر، حتى أضحت هذه الحقيقة مطلباً ملحاً في زماننا هذا .