الدكتور عبدالمالك مرتاض: يوم اللغة العربية إقرار بعظمتها وجمالها ووظيفيّتها

الدكتور عبدالمالك مرتاض: يوم اللغة العربية إقرار بعظمتها وجمالها ووظيفيّتها

علاقته باللغة العربية، في خوفه المستمر عليها وقلقه على أحوالها، وغيرته على مستقبلها، قد تبدو مثل علاقة أب مع ابنته، وهي مشاعر قديمة، جعلته يبذل لأجل الاهتمام باللغة جهداً كبيراً ومشهوداً في مراحل مبكرة في حياته، حاول بها أن يحميها ممن يدعون إتقانها. وإذ بدأ في دراستها تلميذاً مخلصاً، ودارساً نهماً لمعرفتها حق المعرفة، فقد انتهى إلى أن يكون كذلك أحد أبرز من درسوها في الجامعات الجزائرية، بإصرار لا يلين على أن يعيد إليها وهجها الذي خفت كثيراً لأسباب عديدة يتعرض للكثير منها في هذا الحوار الذي بدأ وانتهى أيضاً من وعن وإلى «العربية». 

ويأمل من الكتَّاب والشعراء وحتى الإعلاميين أن يلتزموا بأبجدياتها الحقة وصحيحها الجميل، ويدعو لهم أن يجتنبوا شرور غزو اللغات الأجنبية لخطاباتهم وكتاباتهم الإبداعية.  في هذا الحوار يقدم الدكتور عبدالملك مرتاض، الأكاديمي والأديب والناقد، وأحد أبرز مراجع الدراسات النقدية واللغوية في الجزائر والعالم العربي، تشخيصه لما تعانيه اللغة العربية اليوم، من أهلها وأبنائها، كما يقترح عدداً من الاقتراحات التي يرى أنها يمكن أن تسهم في استعادة «العربية» ألقها المفقود، في مناسبة إقرار «اليونسكو» ليوم 18 ديسمبر من كل عام ليكون يوماً عالميا للغة العربية.
< بداية، كيف ترون اختيار «اليونسكو» ليوم 18 ديسمبر يوماً عالميّاً للغة العربيّة؟
- أعتقد أنّ هذا التاريخ ليس إلاّ مجرّد اتّفاقِهِ مع انعقاد الدورة التسعين بعد المائة للمجلس التنفيذيّ لليونسكو، حيثُ تقرّرَ جعْلُ هذا اليومِ يوماً عالميّاً للغة العربيّة، كسَوِاهِ من الأيّام الأُخَرِ التي جُعِلتْ للُغاتٍ عالميّة أخرى، مثلِ الإنجليزيّة والإسبانيّة والفرنسيّة؛ أفلم يكُ من حقّ اللغة العربيّة على البشريّة كافّةً أن تحتفيَ بها، وتمجّدَها، مرّةً واحدةً في السنة؟ ذلك بأنّها اللغة التي أعطت هذه البشريّةَ طَوالَ ثمانية قرون من التاريخ الحضاري، في آسيا، وشمال إفريقيا، وجنوب أوربا، وشرقها أيضاً، ما لم تُعْطِهِ أيُّ لغةٍ أخرى، على عهدها، إذْ كانت اللغةَ الأولى عالميّاً، تشبه اللغة الإنجليزيّة على عهدنا هذا.
< ما مدلول ذلك في تقديركم؟
-  قد يستمدّ هذا اليوم العظيمُ دلالتَه من اعتراف البشريّة بهذه اللغة التي أعطتْها الأرقام العربيّة (الخوارزمي)؛ والنظّارات (ابن الهيثم)؛ والجراحة الطبية المتطوّرة (الزهراويّ بقرطبة)؛ وأسُس علم الاجتماع (ابن خلدون)؛ والكِيمِياء (جابر بن حيّان)؛ وأسس المنهج البنويّ في تحليل الشعر (ابن قتيبة، والرأي لأمجد الطرابلسي في الموسوعة العالميّة)؛ وكُرويّة الأرض (الإدريسيّ)، بعد أن كان قدماء الإغريق يعتقدون أنّها مسطّحة؛ وأسُس نظريّة الطيران (المهندس عباس بن فرناس)؛ و«ألف ليلة وليلة» في السرديّات العجائبيّة؛ ولْيُقَسْ على هذا ما لم يُقَلْ، لأنّ هذا المقام لا يتّسع لعرضه وتفصيله.
إنّ مدلول ذلك هو إقرار ضمنيٌّ، أو صريحٌ، بعظمة اللغة العربيّة وجمالها ووظيفيّتها في حقول البحث المختلفة.
< كيف يمكن للثقافة العربيّة استثمارُ هذه المناسبة السنويّة لمصلحة نشْر اللغة العربيّة خارج الوطن العربيّ، وتقويَة استخدامها، داخله؟
- نحن العربَ لا نكاد نستثمر شيئاً لمصلحتنا، لهذه المناسبة أو لأخرى! فقد كنت أودُّ لو أنّ المنظّمة العربيّة للثقافة والعلوم اتّخذت من هذا اليوم عيداً لغويّاً تمجّد من خلاله كلّ مَن منَح هذه اللغة ما استطاع من جهده واجتهاده واهتمامه في القديم والحديث. وكنت أودّ لو رُصِدتْ جوائزُ سَنِيّةٌ لأولئك حتّى يتنافسَ المتنافسون في تطوير هذه اللغة، وضرْبها بالإنجليزيّة، حتّى ننظرَ ما ينقصُ لغتَنا لكيْما تستعيدَ مكانتَها العالميّة التي ظلّت تتبوّأها طَوالَ ثمانيةِ قرون، وحدَها: لا ثانية لها: لا فارسيّةَ، ولا لاتينيّة، ولا سَواءَهما، على العهود الزاهرة للحضارة العربيّة الإسلاميّة، ثمّ فجأةً هوَتْ إلى مكانةٍ لا تليق بها؟ وكنّا نودّ لو نُشرتْ الكتب التي كانت أَمَارَةَ تحوُّلٍ لافِتٍ في تاريخ العلوم البشريّة، مثل كتاب أبي القاسم الزهراويّ: «التصريف، لمن عجَز عن التأليف»، نشراً شعبيّاً بين عامّة القراء، ومِن ثَمّ ترويج ترجمته، أو إعادتها، إن كانت الترجمات الأولى رديئة، فهذا أحد مفاخر اللغة العربيّة، إذ لم يقنّن الجراحةَ الطبيّة المعقّدة بعد ابن سينا، والرازي، مثلُه؛ بل كان له دور عظيم في تأسيس أصول الصيدلة أيضاً، كما سبق الألمانيّ جوتنبرج في وضع الأسس النظريّة لطبْع الأوراق التي توضع على زجاجات الأدوية التي كان يخترعها بقرطبة.
وقد رأيت الأدوات التي كان عميد الجرّاحين العالميّين يصطنعها في إجراء العمليّات الجراحيّة المعقّدة (على العين، والكُلْية وغيرهما) معروضةً في مدينة قرطبة، بعد أن تخيّلها وتمثّلها جماعة من الباحثين من إخواننا في المغرب، وذكر لي الصديق الأستاذ محمد القباج، ونحن بأرض الأجداد: الأندلس، أنّه هو الذي أشرف على صناعة تلك الأدوات التي صُنعت من مادة الفضّة بفاس، والتي لا أعتقد أنّ تسعين في المائة من الجراحين العرب أنفسِهم يعرفونها، لأنّهم لا يُعْنَوْن بتاريخ الطبّ العربيّ وتكنولوجيّاته، بل يأخذونه من الغَرْب «فَطيراً».
وتوجَد كتب عربيّة كثيرة في تأسيس العلوم، ولم يُسبق أصحابُها إلى موضوعها، وهي لاتزال مجهولةً لدى القرّاء العرب أنفسِهم.
وإذ لم تصنع المنظّمة العربيّة للثقافة والعلوم شيئاً ذا بالٍ ممّا ذكرْنا، فأين الحكوماتُ العربيّة ممثلةً في وزارات تربيتِها، وفي وزارات تعليمِها العالي، وفي هيئات بحثها؟ ما كان صرَفَها عن أن تحتفلَ بهذا اليوم لإعادة الثقة للإنسان العربيّ بعد أن فقَد هو هذه الثقةَ بنفسه، وتاريخه، وأمجاد أجداده؟
ثمّ إنّ مدلول هذا اليوم أخيراً يجب أن يذكّرنا بما قامت به دولة الكويت منذ سنة 1960 من إنفاق على ترجمة الوثائق إلى اللغة العربيّة، فهي التي تكفّلت بتلك النفقات, جزى الله الكويت وأهلها جزاء عظيماً على ما قدّموه خدمة للغة العربيّة، إذْ لولا ذلك لكانت هيئة الأمم المتّحدة تعلّلت بعدم وجود الأموال التي تنفق على تعريب كلّ الوثائق والقوانين والأنظمة الداخليّة في هيئات هذه المنظّمة العالميّة، ولكانت «العربيّة» ظلْتْ بعيدةً عن الاستعمال في هذه المنظمة العالميّة.
وليس يسعنا أثناء ذلك، من باب ذِكْر الفضل لأهله، إلاّ أن ننوّه بعامّة الدول العربيّة بما نهضتْ به في منظمة الأمم المتحدة، وفي هيئاتها الفرعيّة كاليونسكو، من جهد لتذليل كلّ الصِّعاب، من أجل أن تكون العربيّةُ اللغةَ العالميّة الخامسة، فرُسمتْ في هيئاتها.
< كيف ترى اليوم واقع اللغة العربيّة على يدِ أهلها، مقارنة بوضْعها في زمن المدّ القوميّ، خصوصاً في الستينيّات؟
-لسنا متفائلين بمكانة اللغة العربيّة ووضْعها الراهن في العالم العربيّ، وذلك لانعدام الحاسّة اللغويّة لدى الإنسان العربيّ حين يتكلّم لغته، فهو لا يُعنَى لا بنحوها، ولا بصرْفها، ولا بنطقها أيضاً. وإذ كانت اللغة العربيّة متناهية الحساسيّة لتغيّر الصوت الذي يتغيّر معه المعنى؛ وإذْ كان أهلُوها لا يكادون يُعيرون ذلك شيئاً من الاهتمام، فإنّي أخشى أن تظلّ لغتُنا الجميلةُ لغةَ كلامٍ طائرٍ في الهواء: لا يحمل دقّة، ولا ينتظم قانوناً لغويّاً صارماً؛ ذلك بأنّه علينا تنقيَةُ العربيّة من الأخطاء الشائعة الفاحشة والمخيفة، والتي لا يكاد يلتفت إليها أحدٌ حتّى من بعض الأساتذة الجامعيّين، والشعراء والروائيّين والكتّاب الإعلاميّين بعامّة... فتَفاريقُ المعاني تنشَأُ عن مجرّد نُطْقِ وسطِ لفظ (لا أتحدّث هنا عن النحو فأمره قد يكون أهون مما نحن بصدد عرْضه) بالضمّ وهو بالفتح؛ أو بالفتح وهو في الأصل بالضم؛ أو بالكسر وهو في أصله بالفتح، لينقلبَ المعنى رأساً على عقِبٍ، فتقعَ الفوضى، ويعمّ الاِختلال.
ويعود ذلك إلى ضعف التعليم في مؤسسات التعليم العربيّ، في مستوياته الثلاثة؛ ودون النهوض بثورة حقيقيّة ومخلصة ومسؤولة وممنهَجة إزاءَ تصحيح نطق اللغة العربيّة، فإنّها لن تكون لغة علوم وتكنولوجيا، وتظلّ «تظلَعُ» في مسيرتها، كما هي عليه في راهن عهدنا، الذي ما كنّا لنرتضيه لأمّتنا أبداً:
ولمْ أرَ في عيوبِ الناسِ شيئاً
كنقْص القادرين على التَّمام
< ما هي أبرز المشكلات التي تواجه اللغة العربيّة اليوم؟ 
-  المشكلة الجوهريّة، والتي قد يكون من الْمُعْتاص حلُّها، أنّ هذه اللغة تتحدّثها شعوب مختلفة في المشرق والمغرب، وبعض دول إفريقيا وآسيا، وكلّ دولة تحكم شعباً من هذه الشعوب، تسعى، مجتهدةً، إلى تطويرها، في غياب جهد لغويّ منهجيّ مشترك جادّ. إنّا كنّا، يوماً ما، اقترحْنا في أحد المؤتمرات ببيروت، تأسيس مجمع واحد للغة العربية، يمثّل كلّ الهيئات اللغويّة في الدول العربيّة، لأنّ العربيّة ليست خالصة لشعب عربيّ واحد، ولكنّها لغة شعوب مختلفة... فأجابني أحد الأصدقاء المصريّين بأنّ مجمع القاهرة يعقد اجتماعاتٍ دوريّةً ويشارك فيها كلّ هذه الهيئات من العالم العربيّ... ونحن لا نرى هذا الرأي، فمثل هذه الدّوْراتِ تُعقد للاسترخاء والمجاملات، مع تقديم شيء من الاعتذار على هذه القسوة، وهي تكرّس الأخطاء التي يقع فيها الإعلاميّون العرب الذين لا يعرفون العربيّة، فتَجْتَزِئُ بالإفتاء بجوازها، كتعديَة فعْل «رَبَكَ» بالهمز، مع أنّه متعدّ بنفسه أصلاً، فلا يحتاج إلى هذا الهمز اللعين الذي يلطّخه تلطيخاً، ويشوّهه تشويهاً، إذ تقول العرب: ربَك الشيءَ يَربُكه رَبْكاً، فارْتبك (ولا يوجَد «أربك» إلاّ في «مجامع اللغة العربيّة» التي لم تطوّر من شأن العربيّة أمراً ذا بالٍ! والحديث عن هذه المسألة طويل، ولا يتّسع لتفصيله مثلُ هذا المقام.
< كيف ترى ظاهرة استخدام العامية في الكتابة الأدبيّة، والتي أصبحت ظاهرة في عدد من دول العالم العربيّ، تقريباً، بلا استثناء؟
-أمّا عن اصطناع العاميّات المحلّيّة فكان أوّل من دشّنها، وروّجها في روايته، وأرجو ألا أكون مخطئاً في قولي، الكاتب المصريّ إحسان عبدالقدّوس، فكان يكتب رواياته، ومنها: «في بيتِنا رجل»: الحوار بالعامّيّة المحلّيّة، والسرد بالفصحى، وذلك طِبْقاً للنظريّة النقديّة الفاسدة التي تتحدّث عن أنّ مثل هذا الفعل الروائيّ يجسّد صدْق الواقع، ولذلك لا يمكن لفلاح (إذا كان شخصيّة في عمل سرديّ)، ولا لعامل: أن يُجرَى على ألسنتِهما حِوارٌ فصيح، لأنّ ذلك مُنافٍ للصدق الفنّيّ! ونسيَ هؤلاء أنّ الرواية في حدّ ذاتها ليست تاريخاً، ولا واقعاً صُرَاحاً، فيُتَحدَّثَ عن واقعيّة أحداثِها، وتاريخيّة واقعِها، ولكنّها مجرّد خيالٍ يجسَّد في كتابة. وكلّ مكوّناتها، وأولُها الشخصيّاتُ، مجرّدُ كائناتٍ من ورَقٍ، فكيف، إذن، يقع «الاحتيال» على إفساد اللغة العربيّة بدعوى واقعيّة الفن، والفنّ لا واقعيّة فيه، ولا شيءَ يوجَد من الحقيقة في الرواية إلاّ لغتُها؟!
ومن الأمور الأُخَرِ التي تهدِم اللغة العربيّة وتحُول دون انتشارها الصحيح، «اللغةُ» الإشهاريّة الرديئة التي أمستْ تمجّد اللُّغَى الأجنبيّةَ فتكتبها بالحروف العربيّة، للدعاية لبضاعة من البضائع؛ فقد رأيت في لوحة إشهاريّة بأحدِ أقطار المغرب العربيّ عبارة ناشزةً، نافرةً، بشعة، قذرةً، مؤذيَة للذوق، وهي مع الاعتذار للقارئ الكريم: «رابِيد، تُوتَسْوِيت»! (ومعناها باللغة الفرنسية: سريع، وفوراً). بل رأينا قناةً فضائيّة تسمِّي اسمَها بارتكاب لحْن فظيعٍ فيه، وتصرّ على إبقائه، وعدم تصحيحه، لغيابِ حامٍ يحمي هذه اللغة المسكينة التي أمست يتيمةً. ومثلُ ما ذكرْنا، مُنافٍ ومستهجَنٌ لصناعة محيطٍ لغويّ سليم مِن مثل هذه المنكَرات، ورأيت المعلّقين على كرة القدم يستنكِفون من استخدام مصطلح «خطأ» في تعليقاتهم، في لعبة كرة القدم، فيصطنعون «فاوْل» الإنجليزيّة!... وهم يستعملون ذلك بتباهٍ وخُيَلاء، لا يماثله إلاّ استعمالُهم لفظ الأريحيّة، في موضع الراحة! والفُرُوق، في موضع الفِرَق. ومثل هذه الأمثلة البسيطة، والمحدودة، تحملنا على الاعتقاد بأنّ المشارقة والمغاربة يتنافسون جميعاً، ويصطنعون في ذلك مبدأَ «جُهْد الْمُقِلّ»، في تدمير لغتهم من حيث لا يشعرون!
< يرى بعض الكتاب والمهتمين باللغة أنّ الالْتِهاءَ باللهجات العامّيّة لدى الشباب العرب سيكون لمصلحة استئثار قُوَى التيّارات المتشدّدة، باللغة الفصحى، ومن ثَمَّ، سترتبط الفصحى بهذه التيارات، بمعنى أنّ بعض المنظّرين يرون أنّ هجْر اللغة الفصحى من النخب العربيّة الشابّة: إمّا للّغات الأجنبيّة، وإمّا للّهجات العامّيّة، سيجعل العربيّة في فترة ما، متخصّصة فقط في الفقه والدين، ولن تكون لغة علوم وحداثة.
- قد تعود المعضلة كلّها إلى غياب ما اقترحناه من ذي قبل في هذا اللقاء، فلو كان للحكومات العربيّة عناية حقيقيّة باللغة لكانت مؤسساتها التعليميّةُ هي التي تحُول دون وقوع مثل هذا الإشكال، ودون التصريح بمحاربته، فتكون الوقايةُ خيراً من العلاج. ولكنْ لَمّا كانت العربيّة أَمَةً لا بعْلَ لها يغار عليها، ويتيمة لا أبَ لها يحميها، فكلّ مَن هبّ ودبّ يعْدُو عليها، فيصيبُها بالضَّيْرِ والأذاة، فماذا كنّا ننتظر من وراء هذا، غير الذي هو كائنٌ؟! 
< ما رأيك في اللغة المستعملة في الكتابات الأدبيّة عند الأدباء العرب المعاصرين؟
- مضى علينا عهدٌ كنّا نقرأ فيه المقالة والقصيدة والكتاب فنستمتع باللغة العربيّة الناضرة، والنقيّة الصافيَة، إلى حدّ الأسْر، وإلى حدّ أنّا نحفظُ مما كنّا نقرأ من تلك الكتابات الأدبيّة الرفيعة أطرافاً، كما نحفظ ممّا يُعجبنا من الشعر، والتي كانت تُكتَب بها تلك الأعمال لدى أمثال طه حسين، والمنفلوطي، والرافعي، وعبد العزيز البشريّ، ومحمد البشير الإبراهيمي... ولا نتحدث عن شعراءَ أمثالِ أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومعروف الرصافي، وأبي القاسم الشابي... والعدد كثير... فأمثال هؤلاء، أحسن الله إليهم، جعلوا اللغة العربيّة تعيش أجمل أيامها، بعد ما كانت عاشتْه في القرنين اللذين سبقا ظهور الإسلام، والقرون الأربعة التي جاءت بعده... فلا تزال الأجيال تحفظ لهؤلاء الشعراء العرب مكانتهم في قلوبها، ولا تزال تختزن أشعاراً كثيرةً مما قالوه في ذواكرها... لكنْ خلَفَ خلْفٌ من بعدهم، وخصوصاً في ربعِ القرن الأخير، كتّابٌ، أو كتاتيبُ (Ecrivants) بلغة رولان بارت، أضاعوا اللغة العربيّة الصحيحة، فضاعتْ منهم الكتابة الأدبيّة الرفيعة. لقد كان يمكن أن يكون، مثل هؤلاء، أيَّ شيء في الحياة، إلاّ أن يكونوا كُتّاباً، فأبلغُهم تعبيراً، وأنصعهم بياناً، لا يكاد يصطنع إلاّ لغة مسترذلة مستهجنة مستقبحة مستسمَجةً، فَهِيهَةً عَيِيّة، فيسوّد بها صفائح رواياته، وهو لا يشعر بأنّه كان عليه أن يتعلّم العربيّة العالية أوّلُ (ولا عليه أن لا يصطنعها كلَّها كتابةً في إبداعه)، لتكون كتاباتُهُ حجّةً للقراء، ومتاعاً للمتلقّين. ولو رُخِّص للمعجميّين العرب المعاصرين بصناعة معاجمَ عصريّة، ومن ذلك لا يكون استشهادُهم بأرجاز الأعراب البادين، وأرجاز رؤبة والعجاج، وأشعار امرئ القيس والفرزدق والأخطل وجرير، وخطب زيّاد والحجّاج، ولكنِ استشهادُهم بشيء من العربيّة الصحيحة في كتابات هؤلاء المعاصرين، كما تفعل المعاجم الأوربيّة مثلاً، لَمَا ألْفَوْا شيئاً من اللغة صحيحاً يستشهدون به ممّا هم يكتبون!... وكلّ ذلك لا ينشأُ عنه لومٌ لهؤلاء، ولكنّ الملامة كلَّ الملامة، تقع على اضطراب برامج مؤسسات التعليم، وضعف معلّميها وأساتذتها، فالمدرسة الرديئة لا ينبغي لها أن تخرّج إلاّ كاتباً رديئاً، وفاقد الشيء لا يُعطيه، وأجمل امرأة في الوجود لا تستطيع أن تعطيَ إلاّ ما عندها، كما يقول الفرنسيّون! ونحن أثناء ذلك، وتارة أخرى، نستثني من هؤلاء الكتّاب مَن طلبوا العربيّة بأنفسهم، وأمعنوا في طلبها، وتعمّقوا في تدقيقها، ولكنّي أراهم قليلاً! فالمدار، إذن، كلّه يدور على مراجعة الطرائق المستخدمة في التدريس في مؤسسات التعليم، كما يستوجب الأمرُ إعادة النظر في هيئة المعلمين والأساتذة الرّاهنين، وإمكانِ إعادة تكوينهم وتأهيلهم، لترقية المدرسة العربيّة وجعْلِها منارةً مضيئة لنشر العربيّة الصحيحة بين الناس، مع تأجيج الوعي القوميّ بهذه اللغة، وترسيخ الحاسّة بها. وهي اللغة التي شاء التاريخ أن يتحدّثها أربعُمائةٍ واثنانِ وعشرون مليوناً من العرب، يُضاف إليهم أكثرُ من مليارِ مسلمٍ، ممّن يصلّون بها، ويتعبّدون.
< على الرغم من الجهود التي تبذلها دول أوربا في إحياء لغاتها، وإمدادها بالحيويّة من خلال تضمين كلمات جديدة في معاجمها، وخصوصاً ما يتعلّق بالمستجَدّ والمبتكر في حياة الناس اليوميّة، لا نشعر أنّ جهداً مماثلاً يبذله علماء اللغة العرب، أو مجامع اللغة التي يفترض أن يكون هذا واحداً من أبرز أدوارها.
-كنّا قلنا في بعض الإجابات السابقة، من هذا اللقاء: إِنّ الجهود التي تبذلها الدول العربيّة هي جهود، على الرغم من إخلاصها، ساذَجة، وغيرُ مؤسَّسٍ لها، فإن كلاً يصرخُ في واد، وكُلاًّ ينفخ في رماد! إنّ من المعروف أنّ كلّ يومٍ تطلع الشمس فيه على الغبراء، تَجِدُّ آلافُ المصطلحات التي أُطلقت على معانٍ جديدة في حقول المعرفة المختلفة... ولمّا كنّا نحن العربَ لا ننتج تَقانةً، ولا نخترع حضارة، ولا نؤسّس معرفة، على عهدنا هذا المظلم، فإنّ علماءَنا المخلصين تراهم يلهثون، جاهدين جَهْدَهُمْ، في إيجاد مقابِلاتٍ لتِيكَ المصطلحاتِ في الإنجليزيّة خِصِّيصَاً. إنّا، ما دمنا غيرَ مقتدرين على الابتكار والاختراع، فنسمِّي مبتكراتِنا ومخترعاتِنا بلغتنا، فإنّ لغتنا ستظلّ لاهثةً وراء اللغات الأخرى، تنقل منها، وتجتهد في إيجاد مقابِلاتٍ لما فيها من مخترَعاتها.
وتتحدّثين، سامحك الله! عمّا يتسمَّى: «مجامع اللغة العربيّة»، وقد رأيتِ أنّي متشائم بدورها القاصر في تطوير العربيّة. وأنا أعرف مِن أعضائها مَن لا يُحسن التعامل مع «الإنترنت»، ولا الكتابة بالحاسوب؛ فإنّي أعرف، مثلاً، مجمعيّاً كبيراً لا يزال يكتب بخطّ يده على القرطاس، والله فعّالٌ لما يريد! فهل يُرجَى من أمثال هؤلاء تطويرُ العربيّة، وهم يعيشون بأذهانهم في عهود القرون الوسطى؟
هل يؤثّر توجيه الدولة، أيّ دولة، الرسميّ في الحفاظ على اللغة وسلامتها؟ أم أنّ التأثير يأتي من المنظّمات الأهليّة؟ 
لقد استوى الماءُ والخشبةَ! كما يقول بعض النحويّين في تمثيلاتهم للمفعول معه. فلا حكوماتَ ولا هيئاتِ! 
وإنّه لَفِي غياب تخطيط علميّ ومنهجيّ صارمٍ لتطوير اللغة العربيّة: في التعليم بمراحله الثلاثِ، وفي السياسة، وفي الإعلام، وفي هيئات البحث، مجتمعاتٍ، لا نرى من مَخرَجٍ لهذه اللغة العزيزة ممّا هي فيه، فاليد لا تصفّق إلاّ بأختها. وما اقترحناه من تضافر جهود كلّ الهيئات لا ينبغي أن يقتصر على دولة دون أخرى، بل كلُّ الدول العربيّة معنيّةٌ بهذا، ولذلك عليها أن تقترح اجتماعاً واحداً في تاريخ قِمَمها التي لم تُثمر إلى اليوم شيئاً، تخصّصه لتطوير اللغة العربيّة، بعد أن تكون الهيئات اللغويّة قد قدّمت إليها أوراق عملٍ لهذا التطوير، فيكون من وظيفة هذه القمّة، إصدارُ قرارات سياسيّة مُلزمة، وخصوصاً فيما يتمحّض لمراحل التعليم، ومجمع اللغة العربيّة الموحَّد الذي يجب أن يُعيَّن أو يُنتخَب فيه علماءُ للعربيّة حقّاً، وممّن يغارون عليها حقّاً، وممّن يضحّون من أجلها حقّاً، وأوّل ذلك أنّهم يصطنعون في عروضهم ومفاوضاتهم لغةً فُصحَى لا يأتيها اللحن من بين يديها ولا من خلفها، فالعربية لا تُطوَّر باستعمال العاميّة المحليّة في هيئاتها المفترَض فيها أنّها تحميها من الخَطَاءِ، وتكلؤها من الفساد.
< ما هي الجهات التي يمكنها، حقّاً، أن تُعيد للغة العربيّة مكانتها، في أوطانها العربيّة؟
أضيف هنا للتوكيد والتقرير: أوّلُ الهيئات الْمَنُوطِ بها تطويرُ العربيّة، مؤسّساتُ التعليم، باختيار المعلمين والأساتذة الأكْفَاءِ الذين يعرفون العربيّة ولا يلحنون في دروسهم ومحاضراتهم أمامَ تلاميذهم وطُلاّبهم. وليس مستهجَناً أن تُعقدَ دوْراتٌ لِمَن لا يعرفون العربيّة معرفة عاليَة، لتعميق معارفهم اللّغويّة، وهذا أوّلُ الوسْمِيِّ.
ونحن، أثناء ذلك، لا نقذِف بهذا كلّ أساتذة الجامعات ومعهم بعض رجال الأعمال، بل نستثنيهم استثناءً؛ ذلك بأنّهم، بنعمة الله، يعرفون العربيّة معرفة عالية، وربما دقيقة، وهؤلاء هم مَن لا يزالون يحمونها ولو على هَونٍ ما.
وثاني المؤسّساتِ التي تستوجب العنايةَ بها، والتعويل عليها أيضاً، في هذا المجال، المؤسساتُ الإعلاميّة، ولكن بتكوين طلاّبها، في المدارس العليا وكلّيّات الإعلام، بوضع برنامج مكثّف وفعّال وناجع للغة العربيّة، لكي يبثّوا، بعدُ، بين عشرات الملايين من المتلقّين عربيّةً فصيحة بسيطة، فتنتشر بين المتعاملين انتشاراً صحيحاً، وهذا ثاني الوسميّ.
وقد رأينا أنّ كثيراً من الشركات الأجنبيّة (شركات السيارات، وشركات الأدوات المنزليّة، وشركات الإعلام الآليّ والحواسيب والهواتف الذكيّة) هي التي تسعَى الآن، لغايات تجاريّة، إلى جعْل العربيّة رديفاً كُفُؤاً للغات الأجنبيّة التي تخترع تِيكَ المخترَعاتِ التي تصنَّع لدى أهلها، وتباع لدينا بثمن غالٍ. ولعمْري، إنّ هذا الأمرَ هو رَمْيةٌ من غير رامٍ. ويمكن الإفادة من هذه الجهود التي كانت في الأصل لغير نشر العربيّة، ولكنْ للاستفادات التجاريّة؛ فأرادوا، هم، أن تكون ذات أهداف تجاريّة، وأبتْ، هيَ، إلاّ أن تكون لفائدة انتشار العربيّة وتطوّرها بعض التطوّر، على كلّ حال.

< ما دورُ البرامج التي تُعنَى بالشعر والإبداع الأدبيّ بعامّة، كالمسابقات التي تعقدها بعض القنوات العربيّة راهناً، في تقويَة اللغة العربيّة، وضمان الحفاظ على مكانتها؟
- ليس لي إلاّ أنْ أنوّهَ بهذه المشاريع الأدبيّة تنويهاً عظيماً، فقد أتى على الشعراء العرب الشباب خصوصاً، حينٌ من الدهر لم يكونوا يكتبون إلاّ لأنفسهم، أو لبعض أصدقائهم، وبغتةً نجمتْ مثل هذه المسابقات الكبرى في بعض القنوات بالمشرق، وبعضِها بالمغرب أيضاً، فعثر الشعراء على ضالّتهم فأمسَوْا يلتقُون في صعيد واحدٍ، من اثنتين وعشرين دولةً عربيّة، للتعارف أوّلاً، ثمّ للتباري والتحدّي آخراً: أيُّهم يكون الشاعر الخِنْذيذ، وأيُّهم يكون مجرّد متشاعرٍ محروم. وأعتقد أنّ مثل هذه المسابقات أعادت للشعر العربيّ، خصوصاً، مكانته وألَقَه، وأُحْيِيَتِ المقولة التي أرسلتْها المستشرقة الألمانيّة سيجريد هونك بأنّ «العرب شعبٌ من الشعراء»، بعد المقولة العربيّة الشائعة منذ القِدم بأنّ «الشعر ديوان العرب» ■