«كتيبة سوداء» للروائي محمد المنسي قنديل التاريخ بحبرِ الواقع... وريشة الخيال

«كتيبة سوداء» للروائي محمد المنسي قنديل  التاريخ بحبرِ الواقع... وريشة الخيال

التاريخ هو بنظرية السرد Narratolgy  المعين، وصاحب الفضل الكبير على السارد/ الروائي كما يرى أوسكار وايلد، وليس التاريخ «كابوسا يجثم على أمخاخ الأحياء»، كما يقول ماركس، أو «السطوة الرهيبة للهراء والمصادفة»، كما يرى نيتشه! ليبدو السرد – الذي مادتهُ التاريخ بواقعه وخياله - بالإضافة إلى مفهومه الجمالي الإيحائي التعبيري تاريخاً أيضاً، خارج وصايا الرواة التقليديين متحجري الأبجدية والبلاغة الخاوية، والسارد/ الروائي هو «مستكشف للوجود»، بتعبير ميلان كونديرا، وليس مؤرخاً، ويُقرأ  المسرود/ الرواية نصّاً مفتوحاً، متعدد الاحتمالات، واستكشافاً تأملياً!

في رواية «كتيبة سوداء»(*) التاريخ بنوعيه الواقعي الجارح، والمتخيّل المكتوب في جنوحٍ بلاغي جماليّ ممتع.
تبدأ الرواية بالحدث الأهمّ الذي يعنينا، ويبني عليه الروائي الكبير محمّد المنسي قنديل رؤاه، متسلحاً بخبرة، تشهدُ بها ثقافته التاريخية الوافرة، وهو الكتيبة المصرية التي يبعث بها الخديو سعيد باشا لتقاتل تحتَ لواء الجيش الفرنسي في المكسيك، بطلب من الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث عام 1863، لمساعدته في حربه على المكسيك،  تتخللها مراسم  تنصيب ماكسيميليان النمساوي إمبراطوراً على المكسيك برفقة زوجته الإمبراطورة شارلوت، حرب تأكيد النفوذ لمنْ يحكمون ويملكون، والضياع والعقاب الحياتي لمحكومين ومَن لا يملكون، وليس لهم في هذه الحرب لا ناقة ولاجمل، ليس غير مآسٍ، وعذابات، ومفارقات، ومؤامرات، ومكائد حتى عام 1867م.
تُقرأ الرواية وتُرى في آنٍ فيلماً سينمائياً بارع الإخراج، متميز الأداء،  صاخب الرؤى... لحظات صراع سلطوي غير مُبرّر إنسانياً وحياتياً، يبرع الكاتب في تجسيده صوراً حية ناطقة بما هو محزن ومؤلم، ليأخذ الكاتب مهمّة المصور والرسام، فالرواية رسمٌ أيضاً... صراع الحاكم المتسلط والمستعمر، وهو يمتهن حرفة العبودية مخموراً برائحتها، ويتبجح بعنصريته المقيتة، وجشعه القميء وهو يتاجر بالإنسان... الآخر الضعيف المظلوم، الذي تشكو حياته من الحياة!
تجسّدُ الرواية كلّ ذلكَ بإيقاع أسلوب جارح للنفس، مؤذٍ للذاكرة، مربك لكلّ خلية في الجسد، خليط من الواقع والمتخيل، من اليقظة والحُلم، من الواقعي والغرائبي إلى الفانتازي، بأدوات كاتبٍ ماهرٍ، لا تخطئ أصابعه  في هندسة التكنيك، واللعب بالكلمات، واللهو بالاستعارات، ليمتع، ويُدهش بمفردات الأمل والألم معاً: «في البدء كانَ هناك سلطان وتاجر وتمساح، التاجر «ود الزبير» كانَ واحداً من هؤلاءِ الثلاثة» (ص7).
بداية الصراع بين السلطان والتاجر «ود الزبير» تنتهي إلى صراعات متعددة ومتشعبة الهدف منها تأكيد الوجود، وسلطة الذات وفق لغة الفانتازيا الجاذبة، والأسلوب ذي الصور الغرائبية، كأدوات لتكنيك موحٍ هادفٍ، يظهر هذا الصراع المحموم بينَ «السلطان» وهو يؤكد نفوذه وأساليب بطشه، و«التاجر» الساعي إلى منفعته وتسويق بضاعته: «يومئ لهُ برأسه، يتقدم «ود الزبير» خطوتين فقط، ثمّ يمدّ يديه مقدماً لهُ العباءة الحريرية الفاقعة الألوان، يغمغم: لعلها تليق بمقامك أيّها السلطان، لا يتناولها منهُ، يركز بصره على البندقية المعلقة على كتفه... لقدْ حذرتني أرواح الأسلاف من قدوم الغرباء» (ص15). 
ولحظة الخبث والمكر لدى السلطان تسندها فصاحة ميثولوجيا القبائل القديمة، يقابلها مكر التاجر المنمق بالكلام المنافق الذي يمقتهُ النفاق نفسه، المثير لعاطفة القوة والسيطرة لدى السلطان، وتتوثق الصلة بينه وبين التاجر «ود الزبير»، ولكنها مصحوبة بحذر لا يخفي ملامحه الاثنان معاً: «يرفعُ ود الزبير البندقية ويوجّه فوهتها للسماء، ينظر السلطان نحوه في وجلٍ... إذا امتلكتها فلنْ تكون ملعونة، ستكون كذلك فقط على أعدائك» (ص16). 
والصفقة المبرمة بين السلطان والتاجر، هي بداية المتاجرة بالإنسان وامتهانه وعبوديته وإلغاء إنسانيته تماماً ومصادرة حقوقه.
 والإنسان في «كتيبة سوداء» لا أحد، لا اسم، لا هوية، ولا خطى، فقط سلعة تباع وتشترى، والمشاعر والأحاسيس تحصد عشبها النضر أقدام الجناة والطغاة والتجار واللصوص المدجّجين بكل أسلحة الخديعة والنصب والمراوغة: «يقولُ: أريدُ عبيداً، عشرة منهم في مقابل كلّ بندقية، شريطة ألا يكونوا مرضى ولا مشوهين ولا ناقصي الأعضاء» (ص19).
فصاحة السرد المُتقن، المتوّج بسيل من الحقائق التاريخية، والروائي غير مُلزم بدقتّها، ولكنّهُ «ملزمٌ أدبياً بعدمِ الكذب تاريخياً»، كما يرى أمين معلوف، وهو يجسّد حالة الكتابة للرواية بفسفور حروفها، وجملها الرشيقة لدى محمد المنسي قنديل، وهي «تفحص البعد التاريخي للوجود الإنساني»... صورة البشر الملغيين (العبيد) الذينَ تمّ شراؤهم مقابل «البنادق»، صفقة بين «السلطان» و«التاجر»، وهي صفقة جارحة ومميتة للآدمية، وما هم عليه من حالة بؤس وقهر وألم وحرمان: «إنهم لا يبدون آدميين، ينهض «ود الزبير» يتوقف على حافة الفتحة، يراهم كتلة مكومة متداخلة، لا تبدو منهم أي تفاصيل، ساكنين تماماً، فئران مستسلمة لمصيرها» (ص33). لحظة تأمّل مُضن وقاسٍ لوجود أناس (العبيد) وهم يبدون خارجَ الزمن، وعلى هامش الحياة، صورة واقع مرير، عبرَ خيال منتج مُقنع، امتهان وعبودية وطغيان حتّى البشاعة، قتل مع سبق الإصرار في وسائل لم تخطر على بال الشيطان... صورة موحشة للإنسان حين يطغى ويستبد ويسخر من إنسان آخر، لا يختلف عنه إلا في القدرة والسلطة والنفوذ، يجعله يعيش وسط عالم «مكان عقوبة، ومستعمرة عقابية».
ولأنَّ في أروقة السلطة والسياسة، وغرف النفوذ والقوة «يُمكن أن تُبتلع ضفادع من دون أن ترمش»، كما يؤكد كارلوس فوينتس في روايته «كرسي النسر»، فإن التاجر الجشع «ود الزبير» تنهار على رأسه بناية أطماعه المتهالكة تحت شمس الحق والإنسانية والعدالة التي «مهما تبدو عرجاء، لكنها تصل»، وفق تعبير ماركيز. وفي ليلة، وهو يبتلع تراب وأحجار بنايته الخاوية، يغدو التاجر سارقاً في نظر «الحكمدار»، ويخسر كلّ تجارته، وتصبح أمانيه تراباً ودخاناً، ولم يبق إلا أن ينصب خيمة عزاء لنفسه في الفراغ، لا أنيس له إلا الآلام والكوابيس ورصاص السخرية المميت.

«الحرب هذا الحيوان الخرافيّ»
(خوسيه ساراماجو)
ولأنَّ الحرب تمرين قاس على موت مُبكر و«لا يشبه الموت أيّ شيء آخر»، وفق تعبير هنري ميللر، فإنّ «الكتيبة» بكل عناصرها وقادتها في أحلام كابوسية، وكلّ ملامحهم تؤبجدُ للضياع والتيه والموت المجاني، وهم في قبضة المجهول، وعليهم مقاومة ديناصورات وأشباح المجهول  قبل مقاومة أو التصدي لأي عدو، وهم في هذا الصقع الشاسع، نهب أوهام ووساوس فيتامين السلطة، ومَن يملكون الأمر والقرار وهو شديد المفعول، ليصبح الكون في هواجس هؤلاء «معلقاً على ناب وحش»، بتعبير تشيخوف: «أليسَ هذا هو الجنون بعينه؟ حتى أنا نفسي القائد لا أعرف، شيء مطلق السرية، يلقون بي أنا ورجالي في هذا المستنقع ثمّ لا يقولون شيئاً» (ص109). يبدو الإنسان صدفة فعلاً، لا يقوى على مقاومة الشر، و«الدولة» تصادر خفاياه البهيجة والحزينة معاً، مادام الإنسان خادم هذه الدولة، ومن رعاياها الآفلين المهمشين.
 وهو رضي أم أبى وقود لحروب هذه الدولة حتى لو كانت هذه الحروب مفتعلة ومبرمجة وكارثية، والهدف منها تأكيد نفوذها، واستمرارها وبقاؤها، وما من أداة ووسيلة إلا إنسانها الآمن الظامئ إلى الحرية والحياة: «ولكن أينَ ستأخذهم؟ ربما إلى فرنسا، وربّما إلى مكان آخر في هذا العالم الذي لا تهدأ فيه الحروب» (ص113).

«تعلمنا الموت» 
(سيفتلانا ألكسيفيتش)
لا شيء مثل الموت! وهو المنتصر الوحيد كما أجمع عليه الفلاسفة، لكنه في «كتيبة سوداء» يبدو أبشع مكافأة للإنسان المعذب والمحكوم من قبل إنسان آخر يعيش برئة من أسفلت، ومشاعر وأحاسيس من قش وحجر، وهو يرسمُ جغرافية «يوتوبياه» الزائفة من عذابات الآخرين، وفتافيت أجسادهم النحيلة: «يعرف الموت طريقه للسفينة، ويبدو أنه لا يريد أن يفارقها» (ص129). لا يفارق الإنسان (الجندي) المحارب الذي لا هوية له إلا حالته الإنسانية، وخطاه الموقوتة على الأمان ودفء الوطن، يجد نفسه وقوداً لنيران حروب في أجندات مختلفة، وتبادل مصالح، وتبعية مقيتة، وظمأ للاستمرار والخلود الكاذب، وبناء حضارات زائفة، حجرها الأجساد البريئة، ولم يبق للإنسان إلا المعاناة، رأسماله الوحيد.
هكذا هو الإنسان في إنسكلوبيديا الدولة، وقواميس السلطة المهترئة، نهب عواصف هموم ومعاناة، حقل تجارب للموت، قهر، وإذلال، ومهانة، وجوع، وفقر، ومرض: «المرض قد ضرب السفينة كلّها» (ص134).
المرض حالة خيانة أخرى للإنسان، لا تقل بشاعة وألماً وصدأ عن بشاعة قلق الحروب في حياة تشبه الموت: «لقد تلقوا رسالة من الجزيرة، يحذرونهم من المرض، ولكن بعدَ فوات الأوان» (ص143).
رواية «كتيبة سوداء» تفضح حروفها مؤامرة قتل الإنسان، والمتاجرة بحياته، وهو في سجلات الدولة لا شيء، فقط مرهون للمرض والموت الذي ينشب أظفاره في جسده. وها هو الموت في الرواية ينتقم بإصرار وقوة، لا ليعزف لحناً جنائزياً في الحياة، بل ليؤكد بشاعة الإنسان مع أخيه الإنسان، ولتأخذ الرواية إيقاعها الإنساني، هدف الروائي وخلاصة رؤاه ككاتب يحرث وينقب بإزميل أصابع تهذبه إيقاعات قريحة لا تهدأ، بل ليؤكد ككاتب وفنان أنه على مستوى الواقع، ويستطيع حمله، مخالفاً نيتشه الذي يرى صعوبة هذه المهمة.

«إنَّ السياسة ليست سوى لعبة، وإنّ السلطة تضعُ ميسم القداسة على كلّ شيء». 
(فيكتور برومبرت)
تلخص عبارة هذا الفيلسوف الفوضوي ببلاغتها الباذخة مراسم تنصيب الإمبراطور مكسيميليان والإمبراطورة شارلوت على عرش المكسيك، الذي بدا (لعبة) بل مؤامرة من أخيه الأكبر فرانز الطامع في تاج النمسا، وبإمبراطورية تتسع لها الأرض مؤيدة بأقمارها ونجومها وكواكبها و«يتحول عرش واحد من أغنى البلدان إلى عرش لقيط، لا أحد يرغب فيه» (ص151). بل ويتجرع الاثنان (ماكس وشارلوت) عسل المكيدة، في متاعب ومشاق ومفارقات رحلة مضنية، لم ينسهما عذاباتها الحنين الجارف إلى «ميرمار» أو بهجة الحلم والأبهة المنتظرين على أرض المكسيك، كإمبراطورين بخطى من ذهب الوقت، وإيقاع أحلام ستبدو خلبية، كما يضيء به فسفور حروف وجمل الرواية الممتعة، يخسر الاثنان أيقونة الحبّ، مستسلمين لرعود ونيازك الكراهية: «لا تعرف كمْ يوماً مرّ على السفينة، وهذه الريح الباردة تتلاعب بها، كأنهم يسعون لهدف غير محدّد... أحلام مجمدة» (ص157). ترى هل خدع فرانز أخاه مكسيميليان وزوجته شارلوت التي كان لعابها يسيلُ لؤلؤاً بلا بريق لعرش إمبراطورة المكسيك، أم أنها خدعة الوقت المراوغ، والزمن الذي يبدو الانتصار عليه وهزيمته صعباً، أم أن فقه السياسة والسلطة يحتاج إلى تقدير الوقت، أم هي صرعة البطولة المزخرفة بادعاء إنقاذ شعب، أمْ ماذا؟

«إنَّ أهمّ نقطة على الإطلاق هي الحكاية... الحكاية هيَ كلّ شيء»، 
(جيمس جويس / نظرية الرواية - ص79).
 وأهمّ ما في رواية «كتيبة سوداء» هي الحكاية، وكيمياؤها هذه المرة التاريخ الذي هو حكاية الحكاية، تتوجها لغة الروائي الفنية الراقية في عبقرية بساطتها، الباذخة في سحرها، وهي تنطقنا وتحركنا، ويمكنها اللعب برؤوسنا أيضاً، هي «جسدٌ حيّ»، بتعبير جان جاك لوسرل. وأصل الحكاية وروحها التي يبنى عليها نبض جسد هذه الرواية الشائقة الممتعة، غطرسة الأوربي وتضخم ذاته على امتداد الأزمان والتواريخ والحقب.
ولسلطة هذه القوة والغطرسة التي تقيأتها حروف التاريخ، وعافتها جمل الرواة بفعل جمر الحماس لدى الشعوب وحدها صانعة التاريخ والحضارة، وبانية المستقبل الحقيقي للإنسان، ولهذه السيطرة جنود وأدوات تعيش في جسد أخطبوطي، يقف في مقدمتهم العثمانيون الذين استعمروا بلداننا، وأسكروا مدننا بخمر الإذلال والضعف والفقر، ونفوذ الباشوات الكريه.
والإمبراطور مكسيميليان والإمبراطورة شارلوت لا يبدوان متشابهين، واللقاء بينهما زخرفيّ ومشاعر ثلجية، بفصاحة كلّ جملةٍ في الرواية... الإمبراطور الحالم بإنقاذ شعبهِ: «لمْ آتِ من أجل الدم، أتيت حتّى أمنح هذا البلد المعذب بعض السلام» (ص211). والإمبراطورة التي تدفئ في عينيها الوديعتين حلماً أضحى كابوساً. تنتصرُ الشهوة «أعلى سلطة في الجسد»، كما يقول سارتر على كلّ سلطة وكلّ مسعى، ليجد الإمبراطور نفسه في لحظاتٍ مخملية باذخة وحرية جنسية، تفوق انعتاقه الزائف وهو فوق الكرسي ملكاً للمكسيك: «ماكس عارياً، شعره الأشقر منسدل على وجنتيه، ولحيته الشهباء مسترخية على صدره، مضطجع على ظهره وقد فردَ ذراعيه، كل ذراع تتوسدها امرأة، خلاسيتان بلون القرفة» (ص222). والإمبراطورة شارلوت وهي تطرد هذا الكابوس الثقيل بلآلئ الدمع، تهرب إلى يقظة مؤلمة جارحة، وتطاردُ أملاً نحيلاً، بل بات مستحيلاً: «تتوقف عن البكاء، وتدير لهم ظهرها، لم ترَ شيئاً، لم تسمع شيئاً، لن تنبس بشيء، هكذا يجب أن تكونَ الحال» (ص223). وكما للرياسة سكرةٌ، كما يقول ج.م. كوتسي، فللشهوة سكرة أخرى تفوق في سحرها أي سكرة أو أشدّ، وهي عبء يُمكن أن يكونَ الإنسان الطامحُ والحالم أفضل من دونها.
الشعور والإحساس القاتم لشخوص الرواية ومن يقودون زمام أمر الكتيبة، مجبرين لا مخيرين، وهم لا يجدون حرفاً واحداً يقرأونه في سطور إنسانيتهم وآدميتهم، مجرد أشباح بشر، أقرب إلى كائنات حيوانية، تساق لسلطة كريهة، تنفث سمّ الشرور، وتزرع أشواك السيطرة في مكانٍ يتقيّأ صورتها وظلها الأخطبوطي: إنهم ليسوا مخلوقات حية، مجرد حيوانات مقاتلة، يأكلون وينامون ويقاتلون، إنهم يقاتلون بغريزة البقاء، فقط لمجرد ألا يُقتلوا، لا يعرفون الهدف من هذا القتال» (ص277). هم طوع أمر الباشا، وعبيد السلطة، والباشا طوع أمر سيده الأوربي الفرنسي, وأداتهُ في تحقيق أطماعه البشعة وأحلامه المقيتة، وللسيد الأوربي الغربي جنوده ومرتزقته في كلّ مكانٍ وفي كل زمن، بل في اللامكان واللازمان، يقاتلون تحت رايته المهترئة طمعاً في هويته الزخرفية، ومواطنته الزائفة، ويموتون من دون أن يبلغوا هذا الهدف، ولا تجد جثثهم التراب الذي يواريها، ولا موسيقى جنائزية، يتحولون إلى أرقام في عداد الأموات بلا ذكرى.

الجسد ونداء الرغبة
وهي «أرقّ أنواع التعذيب كما تقولُ الكاتبة الفرنسية مرجريت بورسنار، والرواية تجد فيها طقساً دافئاً «مكملاً لطقوس الحياة، وليس استثناء لها»... تلك هي ملامح البورتريه الذي يرسمه الروائي بلون صارخ، وريشة مثابرة للحالة النفسية، ونزوات الإمبراطورة «كارلوتا» أو «شارلوت» في غياب الإمبراطور.
و«سمسن» أحد فرسان الإمبراطور، وهو مَن يفجّر بركان هذه الأحاسيس الشيطانية لدى الإمبراطورة، ولا تجد مانعاً من أن تكون معه في فراش الخيانة، لا لأجل المتعة كما تدعي، بلْ لتنجبَ ولي العهد، الإمبراطور القادم منقذ العرش.
وفي لحظة انسحاق وتهدّم روحي مميت تعيشها الإمبراطورة وحيرتها بين «سمسن»، والإمبراطور فيما إذا كانت هناك امرأة أخرى في حياته: «هناك امرأة كالعادة»، فلماذا لا تبعث برسالة عبر أثير الشوق، ونار الشهوة القاتلة إلى الفارس «سمسن»؟: «عُد إليّ ولو لبضعة أيام، سأفعل أي شيء حتى نصبح لبعضنا البعض، لا تبالي بالإمبراطور» (ص309).
هلْ أنّ الزمنَ خُدعة، كما يقولُ بورخيس، أمْ أنّ عدم إتقانه في مفارقات السياسة، ومطالب السلطة هو الخدعة والخطأ الأكبر؟! تنهار كلّ أحلام الإمبراطور مكسيميليان حينَ يشعر أنه «ضفدع» وقدْ تمّ ابتلاعه وغرقه في ماء السياسة الآسن، أو ضياعه في دهاليز السلطة، وهو يتلقى رسالة نابليون من خلف البحار، وتنصّ على التخلي عنه تماماً، وتأمره بالاعتماد على نفسه، وتكوين جيش خاص به، والعالم ينهار في نظره، ولا يغدو سوى متاهة (labyrinth)، وهنا يُسقى الإمبراطور من كأس القلق والعذاب نفسها التي يسقيها هو والباشا لجنود الكتيبة الطيبين. يتساوى مع الإمبراطورة في لحظة اختناق مميت وقلق مضن وإحساس بالضياع، العرش مهدد بالزوال، والحلم يبيت كابوساً مفزعاً، والتنازل عن العرش رديف الموت أو الهزيمة النكراء. جسد الإمبراطورة شارلوت محكوم بالألم واللذة معاً، وجسد العبد «آسي» المحكوم بالظلم المبرمج، ونهايته الثأر لوجوده وإنسانيته المهدورة، ولا معنى للثأر ولا خلود لأبجديته وتعاليمه إذا لم يكن من رأس السلطة، مصدر القوة والجبروت وصنع القرار.
وسلطة جسد العبد «آسي» تعبر فوق جسد الإمبراطورة (السلطة) ابنة الغرب المتغطرس، وهي أسيرة غريزتها، يتسيد العبد على الإمبراطورة التي تدعي العفاف، سليلة الغرب الذي يفاخر بالقوة والجبروت والطغيان، و«آسي» في اندفاعة اللحظة لا شيء يوقف «الدمدمة الحيوانية التي تصدر عنه، حتى تظفر بمكافأتها الأساسية، يمتلئ رحمها» (ص411).
والإمبراطورة بين الحلم واليقظة امرأة أخرى، إمبراطورة مزيفة، والغرب بين الواقع والخيال، وبين الطغيان والتسلط في عاصفة ضياع وغياب الذي يعيشه في الواقع، والتشدق بصيغ العدالة والمساواة والحرية في الخيال... هو الغرب نفسه الساقط حضارياً باعتراف كتّابه ومفكريه ومبدعيه.
كيف حدث هذا؟ تصيح بكل ما في صدرها من حنق، تهوي بقبضة يدها على صدره: انهض أيها الأسود النجس، كيف دنست فراشي» (ص413). هي بدافع من الهوس القهري الذي صنعه شعور الذنب، وهو بعرقه ودموع انعتاقه، وتحرره من ماضيه الجارح، ومن شريط مآسيه هو وأهله وشعبه، عبر حروف تاريخ زائف كتبه الغربيون المتغطرسون... كلها تقول ما حدث أيتها الإمبراطورة، هو نوع فريد من أنواع الثأر للكرامة والإنسانية التي صُودرت زمناً طويلاً: ماذا يحدث عندما تنفتح مغاليق بطنها، ويبدو هذا المخلوق الشائه ببشرته الداكنة؟» (ص414).

«لا مكان لنا في أيّ مكان» 
(الرواية ص 416)
تلك هي جغرافيا الوطن الذي ترسمهُ خطى «جوفان» و«مريام»، وهما يتفقان بمرسوم القلب، وإيعازات الجسد، وعواصف الرغبة، أن يعيشا حياة ليست تشبه الحياة، يتفقان روحيا، ويلتقيان جسدياً، ويختلفان دينياً، ما يجمعهم أقوى من الوطن، ومن فقه الأديان، وأعمق وألذ من الانتماء...  «مريام» الأنثى هي براءة «جوفان» المتهم بالكذب على قسيس الكنيسة، وعلى أهل القرية في لقائه وزواجه من «مريام»، وهو المسلم وهي المسيحية، وما لم يجمعه الدين جمعته الشهوة، وكتبت له عقداً دهرياً موثقاً بماء الرغبة: «مَنْ الذي وشى بهِ؟ قس الكنيسة لم يبتلع الكذبة؟ (ص431).
الإمبراطورة «شارلوت» وحالة هستيريا عالية كاسحة، ومحاولة التخلص من الذنب الأعظم الذي يبدو في حسابات الزمن بلا مغفرة، وهي في حيرة قاتلة، كيف يمكن أن تتطهر من الخطأ وهو «في كل الأمور العائق أمام السعادة»، كما يقول ستندال هل بمقدور «بابا الفاتيكان» أن يطهر روحها الآثمة، وقد دنّست بماء الرغبة/ الخطيئة؟ أم أنها تبتهل بآيات التوبة والمغفرة للزمن كي يقيها سكاكينه المخادعة؟ ترى هل كانت الإمبراطورة تحلم وهي مستيقظة؟ أم أنها في ثورة من الإثارة؟ أم في هوس قهري؟ أم ماذا؟: «في قلبي سواد يا أبت، وفي روحي دنسٌ، طهّرني وباركني» (ص436).
الذنب صعب بحسابات الروح الطامحة، والغفران أصعب بحسابات الفعل الآثم الخاطئ، والشكّ لم يعد أساس اليقين، كما تنص عليه فلسفة ديكارت فحسب، ولم يبق أمام الإمبراطورة إلا أن تداوي الخطيئة بالخطيئة، والشهوة وحدها قادرة على شفاء جرحها السريّ، ومصدرها جسد العبد «آسي» الظامئ للانعتاق في ظلال عطاياها الحسيّة.
وبإصرار العبد «آسي» على الانتقام، الذي تنتهي معه كلّ أبجدية للمغفرة والصفح والتسامح، يصبح المغزو غازياً، ليعيد التاريخ تنظيم حروفه وجمله بالشكل الصحيح والعادل، وينتصر ولو قليلاً لمَن أنهكهم الاستعباد الأوربي والغربي ردحاً من الزمن. وبأسلوب الكاتب المتقن، وتكنيكه البارع، عبرَ «مُقبّل» الفانتازيا، فإنّ وليد الإمبراطورة/ الحلم، الإمبراطور القادم هو في مملكة الفراغ، وتاريخ من الضباب، ولا اسم لهُ أمام صوت الإنسان الأبيّ المصرّ على صنع الحياة الحقّ والحرية/ الوجود، ونهاية زمن العبودية والاستبداد. وإذا ما بدا الحلمُ بالإمبراطور القادم خُلبياً، فإن «مكسيميليان» نفسه وإمبراطوريته إلى زوال.
ولم يبق للإمبراطورة الطامحة، بعدَ أن فقدت كلّ شيء إلاّ  الجنون، والإمبراطور يعيش صدمة خدعة «بيازين»، ومؤامرة «نابليون». هي تلوك الألسن بسخرية في أوربا جنونها، وهو ينتهي إلى معتقل بلا طعام، يعاني أخلاقيات سجّانه «خوارز»، ثمّ إلى مقصلة الإعدام، وتنتهي تضاريس جغرافيا الإمبراطورية الكاذبة، بجنون الإمبراطورة «شارلوت» وإعدام الإمبراطور «مكسيميليان»، والشعب قبض ريح!
أمام انسحاب الجيش الفرنسي الذي يشبه الهزيمة في تلك الحرب على الأرض البعيدة، بجنود منهكين يصدأون قلقاً وانتظاراً، ليسوا سوى بيادق فوق رقعة الشطرنج... لا نصر يُسجّل، تتلاشى الإمبراطورية المزعومة، وينتصر الإنسان وحده، وثروته وعتاده الأمل والرهان على المستقبل في شخص «جوفان» و«ماريانا» العاشقين، ومولودهما الإنسان الجديد الباقي المستمر رغم تراب الحروب ودخان الإمبراطوريات وطغيان الحاكمين، طفلهما هو ميلاد حياة جديدة للإنسان الأسود، مكافأة لما عاناه طوال الأزمنة والحقب والتواريخ، ابتداء من العثمانيين وانتهاء بالفرنسيين والغرب بممالكه وإمبراطورياته. 
وعبر لغةٍ شفيفة، بكل ما فيها من مرونة متقنة،  وأسلوب سردي نثري خرافي راقٍ، أحدث هذا التناغم  المحبب  في لغته، وهي  تجسّد المعنى، تتحول الرواية في خضم إيقاعاته الأوركسترالية المتنوعة الآلات، بصوتها البوليفوني، إلى تعبير عن رؤية العالم، والروائي يستكشف ويُؤرخ في لغة واضحة، تمنحك نفسها، بين الواقعي الجارح والخيالي المنتج، من دون تعسفٍ، وجمال الرواية «أن تكون شائقة أو مثيرة للاهتمام»، كما يوصي جيمس جويس. في رواية «كتيبة سوداء»، تتساوى لدى الروائي الكبير د. محمد المنسي قنديل قوة التعبير الإيحائي الجمالي مع قوة الذاكرة في رصد الحدث التاريخي، وتلك براعة تندر عند مَن يتخذون من الأحداث التاريخية موضوعاً أساسياً لسردهم!
والروائي قنديل يكتبُ من خلال ما يسمّيه جان جينيه بـ «الجرح السريّ»، الذي يكمنُ بداخل كلّ إنسان مبدع... يستكشف، ويحرث، وينقّب، ويضيء ردهات التاريخ للآخر الذي قتلته المعاناة، بل صارت مهنته، لتجعله أقوى، وزادهُ الشوق للحرية ظمأً ليكون أكثر ارتواء في الحياة. و«كتيبة سوداء» قفزة نوعية من الحلمِ والإبداع، وخطاب نثري خرافي يوحّد بين الواقع والخيال، وبين الحلم والحقيقة، ليبدو التاريخ حكاية متخيلة، يتوّجها أسلوب سردي ممتع وشائق وجميل.

(*) «كتيبة سوداء» – رواية – محمد المنسي قنديل – 
دار الشروق / القاهرة 2015م .