إمام النحو في الموصل

إمام النحو في الموصل

عند البحث في تاريخ مدينة عريقة مثل مدينة الموصل، يقف الإنسان مطولاً أمام شخصيات ذكرتها كتب التاريخ والسير، قدمت كثيراً في ميادين كثيرة، منها الإقراء (تلاوة القرآن الكريم) والتفسير والفقه والنحو والطب والفلك والتاريخ وغيرها، خاصة في العصور الإسلامية، ولكن من الممكن أن تغفل بعض المصادر سير وجهود قسم من تلك الشخصيات، مثل الشخصية التي سأقدمها لكم اليوم، حيث تعرفت عليها أول مرة من خلال كتاب الدرس النحوي في الموصل للدكتور عباس علي الأوسي.

بدأت أبحث عن المصادر التي أوردت هذه الشخصية، من مثل السيوطي في كتابه «بغية الوعاة في طبقات النحاة»، والذهبي في كتابه «تاريخ الإسلام»، اللذين كانا قد نقلا ما جاء عنه من ابن الشعار في كتابه المهم «قلائد الجمان». 
إنه الإمام العلامة أبو حفص عمر بن أحمد بن أبي بكر بن مهران النحوي العيسفني الضرير... الشهير بمجد الدين العراقي السوادي (يعني من سواد العراق)... قالوا عنه إنه أنحى أهل عصره، وهو بحق إمام النحاة بالموصل في القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجري، كان مولده بقرية من سواد العراق تسمى موهرر، وقدم صغيراً إلى عين سفني وهي قرية من نواحي الموصل، فسكنها مدة فنسب إليها ثم ورد الموصل، حفظ كتاب الله وطلب العلم وجد في الاشتغال، ولازم الشيخ أبا الحرم مكي بن ريان الماكسيني (ت603هـ/1206م) النحوي، فبرع فيما قرأ عليه حتى صار أنحى أهل زمانه وأعلمهم بالنحو والعروض والقوافي والتصريف واللغة ومعاني السفر وسائر فنون الأدب، فلما توفي شيخه أبوالحرم قام مقامه وجلس مكانه، وكان مفرط الذكاء وسريع التحفظ قوي النفس، لم يقبل من أحد جزاء ولا ثواباً وقت القراءة عليه، وكانت له يد في علوم أخرى كعلم الحساب، والفقه على مذهب الإمام الشافعي، وأقرأ الناس النحو والآداب، وتصدر وأفاد خلقاً كثيراً واجتمع عليه جماعة كثيرة ممن هو في طبقتهم من أصحاب الشيخ أبي الحرم، وأخذوا عنه حتى أقر له كل عالم واعترف بفضله كل أديب، وممن قرأ عليه: إبراهيم بن علي بن الحسن النحوي الموصلي، صحبه مدة من حياته، وأحمد بن عبدالرحمن بن عبدالرزاق القزويني الموصلي، وأحمد بن عبدالملك بن أبي منصور الهمداني الموصلي، الذي قرأ عليه علوم العربية، وإسحاق بن مروان الموصلي النحوي العروضي، الذي درس عليه فنون الأدب كالنحو واللغة والعروض والقوافي، ومن أشهر تلاميذه صاحب قلائد الجمان المبارك بن أحمد (أبي بكر) بن حمدان المعروف بابن الشعار الموصلي (ت 654)، حيث كان يصفه بـ «شيخنا»، وعلي بن سالم بن إسماعيل الكاتب الموصلي الربعي النحوي، وعلي بن الحسن بن موهوب الأربلي النحوي، الأمير قليج بن هرون بن مودود التكريتي، وأحمد بن المبارك بن نوفل النصيبي الضرير، صحبه في الموصل وأخذ عنه علوم العربية وقرأ عليه أشعار العرب واللغة والعروض وسائر فنون الأدب، ونجم الدين محمد بن قيصر بن بلك البغدادي، سمع منه بالموصل شعر المتنبي، والحسن بن علي بن الحسن الأربلي الأوسي الأنصاري سمعه بالموصل، وأخيراً شمس الدين بن الخباز. وذكر السيوطي: أن أبا الثناء حمود بن الحسن الإربلي المعروف بابن الأرملة النحوي قد خشي مناظرته، ومع ذلك لم يكن مجد الدين العراقي في عمل الشعر كبير اليد وكان يرفع نفسه عن نظمه وربما وقع له معنى فيقول فيه أبياتاً يسيرة، قال ابن الشعار: أنشدني أبو يعقوب إسحاق بن روان بن سمكان الموصلي النحوي العروضي، قال أنشدني شيخي الإمام أبو حفص الضرير لنفسه وقد سأله بعض الرؤساء أن يضع أبياتاً يضمنها هذا البيت: 
تشاغلتم عنا بصحبة غيرنا
وأظهرتم الهجران ما هكذا كنا
فأنشأ أبوحفص هذه الأبيات (من بحر الطويل):
إلام أقاسي لاعج الشوق والحزنا
ويضني هواكم والجفا جسدي المضنى
أأحبابنا إن حلتم عن عهودنا
فإنا على تلك المواثيق ما حلنا
رعى الله أياما تقضت بقربكم
فما كان أحلاها لدي وما أهنا
أحنّ إليها بالأصائل والضحى
وما ينفع الصب الكئيب إذا حنا
يكاد لما يلقى من الوجد والأسى
يحنُّ اشتياقاً في الظلام إذا جنّا
إذا لم يكن لي عندكم مثل مالكم
بقلبي فلا أجدى الحنين ولا أغنى
فقد كان يغشى النوم عيني بقربكم
فمذ غبتم ما صافح الغمض لي جفنا
وأحسنت ظني فيكم لا عدمتكم
فما بالكم أخلفتم ذلك الظنا
فإن كان أغناكم سوانا فإننا
على كل حال لم نجد عنكم مغنى
تشاغلتم عنا بصحبة غيرنا
وأظهرتم الهجران... ما هكذا كنَّا
كانت وفاته يوم الفطر بالموصل سنة 613هـ/1215م، ودفن ظاهر البلد، بمقبرة المعافى بن عمران (في منطقة باب سنجار).
رثاه الشاعر محمد بن أحمد بن سعيد الأزري الموصلي الباعشيقي فقال:
إلامَ لنادي الفضل أصبح باكيا
وروض النهى في أرضه آض ذاويا
وعهدي به من قبل يبسم نيراً
فأوشك ما أمسى يعبِّس داجياً
وما ذاك إلا أن بدر سمائه
عراه خسوف لن يرى بعد باديا
أمِنْ بعد مجد الدين تحمد لامرئ
مساع وإن أضحى إلى المجد ساعيا؟
مبين أعلام العلوم ومظهر
دقائق سبل كنَّ من قبل خوافيا
ألا قاتل الله الخطوب بفعلها
لقد هذبت طوداً من المجد عالياً
وبحر علوم غيضته وطالما
رأينا به ذكر البلاغة طافيا
حسبنا الردى لم يسق كأس مصابه
سوانا وما ذقنا أذاق المعاليا
عقرنا عليه كل لب وخاطر
إذا نحن لم نعقر عليه النواجيا
وقائلة ما بال دمعك جامدا
وكان لك الخل الصدوق المصافيا
فقلت لها نار التلهف نشفت
بإيقادها مني الدموع الجواريا
كذلك شمس الإفك عند غروبها
يرى كل نجم في السماوات هاويا
أرى معشراً من بعد موتك جادلوا
ليرقوا من العلياء ما كنت راقيا
لعلمهم أن قد نأيت مفارقا
ولو كنت فيهم ما رأيت مباريا
لئن نال أهل النقص منصبك الذي
غدا اليوم قفراً من جمالك خالياً
فغير عجيب للثعالب وطؤها
حمى أسد حاميه أصبح نائيا
ولن تسكن البوم القصور مشيدة
إذا لم تجد في ذروة الفخر باريا ■