العلاج بالفن... عودة الإنسان لفطرته
مع تزايد تعقيدات المجتمع الحديث، خصوصاً في عالمنا العربي، وما أفضت إليه من ضغوط نفسية على الأفراد، ارتفعت نسب تعرض الأفراد لأزمات نفسية، تتراوح ما بين الاكتئاب والتغيرات المزاجية وتفاقمها، إلى حالات أكثر قسوة، وهو ما يجعلنا نحاول البحث عن سبل العلاج المختلفة الهادفة إلى تجاوز أزماتنا النفسية وآلامنا الجسدية. وبالإضافة إلى وسائل وسبل العلاج التقليدية المتوافرة لدى المتخصصين من المعالجين النفسيين وأخصاء الطب النفسي، هناك اليوم طفرة جديدة تحاول الاستعانة بوسائل غير تقليدية لعلاج الاضطرابات المزاجية والنفسية والسلوكية التي يعانيها الإنسان المعاصر.
يقول الطبيب النفسي فريتز بيرلز: اإن أصح شكل من أشكال الإسقاط النفسي هو الفنب. ويقول الرسام الشهير بيكاسو: االفن وسيلة لغسل الروح من تراب الحياة اليوميةب. السؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا هو: هل يمكننا بالفعل استخدام الفن وسيلة علاجية ليس لها آثار جانبية؟ والإجابة بكل تأكيد, نعم.
في البدء كان الإبداع وسيلة الإنسان الأولى لاكتشاف الذات والتعبير عنها، والطريقة التي استخدمها لتدوين مفردات حياته البسيطة وملامح حضارته العريقة. لذا صارت أعماله جزءاً من تاريخ البشرية الفطري الأصيل. ولكون الفنون جسدت جانباً أصيلاً في تطور معرفة الإنسان بنفسه ومحاولته للتعبير عنها، فمن الصعب تحديد زمن دقيق أو فترة محددة بدأت بها عملية استخدام الفنون كعلاج.
لكن بعض المصادر تؤكد أن لهذا النوع من العلاج جذوراً تاريخية تعود إلى الحضارات القديمة كالحضارة المصرية, اليونانية والصينية. فالصينيون على سبيل المثال, اعتمدوا على تقنية الاستشفاء باللون في االفنج شويب Feng Shui حيث لكل لون طاقة تؤثر في الحالة النفسية والجسدية للإنسان, بينما يرى آخرون أن نشأته تعود إلى فترة مرحلة التنوير في أوربا.
وعلى الرغم من استخدام هذه التقنية العلاجية منذ فترة طويلة، فإنها لم تأخذ الشكل المنهجي، وتصبح علماً متخصصاً قائماً على الأبحاث والدراسات حتى منتصف العشرينيات من القرن الماضي، حيث سعى إلى تطبيقها عدد من الأطباء النفسيين, مثل سيجموند فرويد وكارل يونج, كوسيلة علاجية مؤثرة لفهم الصراعات النفسية وتحليلها, فاهتم فرويد بدفع مرضاه لرسم أحلامهم, بينما قدم يونج لوحات فنية رائعة.
كما أننا نجد في سيرة الفنان الهولندي العبقري الراحل فان جوخ، الذي كان يعاني مشكلات نفسية عديدة، اضطرته إلى الاستشفاء في مصحة نفسية في باريس مرات عدة، أنه يشير إلى ارتباطه الشديد بأحد الأطباء الذي كان يستخدم الفن علاجاً، ونجح في تخفيف المشكلات النفسية لفان جوخ وعلاجه، إلى جوار مجموعة أخرى من مشاهير الكتَّاب والفنانين الذين عالجهم ذلك الطبيب بول غاشيه (1828-1909)، وبينهم الفنان مانيه، ورينوار وغيرهما.
علاج الأطفال
بداية، هناك تعريف لهذا النوع من العلاج وضعته جمعية العلاج بالفن الأمريكية بأنه الاستخدام العلاجي لصناعة الفن في إطار مهني لأولئك الذين يعانون المرض والصدمة أو التحديات في المعيشة، أو الذين يسعون إلى تنمية الشخصية. ويمكن للناس زيادة الوعي الذاتي وغيره حول التعامل مع الأعراض والإجهاد والتجارب المؤلمة وتعزيز القدرات المعرفية والتمتع بملذات الحياة من خلال إنتاج الفن والتفكير في المنتجات والعمليات الفنية. ويدمج العلاج بالفن مجالات التنمية البشرية والفنون البصرية (الرسم والتلوين والنحت وغيرها من الأشكال الفنية) والعملية الفنية مع نماذج من الاستشارة والعلاج النفسي.
وتعد تجربة العلاج بالألوان من التجارب المهمة لعلاج الأطفال، خصوصاً لكون الأطفال لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم بشكل جيد, إذ تعتبر تقنية العلاج بالفن من أفضل الوسائل العلاجية لهم. فالطفل مبدع بفطرته، لذا من السهل عليه أن يرسم, على سبيل المثال, ليعبر عن مشاعره. واستطاع الأطباء النفسيون أن يعالجوا حالات كثيرة باستخدام العلاج بالفن فقط مثل الصدمات النفسية الناتجة عن الاعتداء الجنسي أو العنف, القلق, صعوبة التعلم, ومشاعر الفقد الناتجة عن وفاة أحد أفراد العائلة المقربين. كما أظهرالعلاج بالفن نجاحاً ملحوظاً في علاج حالات الأمراض العقلية كعلاج تكميلي مثل الفصام (الشيزوفرينيا). وعلى مستوى آخر طبقه بعض الأطباء على مرضى السرطان وخصوصاً الأطفال ونجح في تخفيف حدة الألم وتجديد روح الأمل داخلهم.
العلاج بالفن لا يقتصر على الرسم والتلوين فقط، بل تندرج تحته أساليب علاجية عدة أخرى, مثل العلاج بالكتابة الإبداعية, الرقص, الموسيقى والتمثيل. لكن هذه التقنية العلاجة تتم تحت إشراف المعالج المتخصص.
ما يسترعي الانتباه هنا أن الفن كعلاج هو أحد الأساليب التي يمكن للآباء والأمهات الاستعانة بها وتطبيقها في المنزل بسهولة. فمن السهل أن نجد في البيت مجموعة أدوات تمكننا من صنع أعمال إبداعية بسيطة وسهلة التنفيذ وجميلة تساهم في خلق حلقة تواصل مع أطفالنا وفي تنمية شخصيتهم فيما هم يقضون وقتاً ممتعاً.
ومن بين هذه الوسائل الرسم الحر مثلاً، وطباعة الأصابع الملونة على ورقة كبيرة, أو تلوين كتاب الرسم, واستخدام الصلصال في عمل أشكال وتكوينات تعجب الصغار، وهي أفكار مناسبة جداً للأطفال الصغار بعمر ثلاث سنوات حتى عشر سنوات.
بينما يمكن تلوين االماندالاب Mandala وهي أشـكال هندسية مصممة خصيصاً بغرض تفريغ المشاعر السلبية. ويمكن أيضاً عمل اكولاجب (قصاصات) من أوراق الجرائد والمجلات, أو رسم الأماكن التي يشعرون بالراحة فيها مثل الشاطئ أو الحديقة, وكذلك من الممكن قص الأوراق ولصقها لنصنع منها حيوانات, أو كتابة كلمات إيجابية مثل اشكراًب ثم تلوينها وإهدائها لمن نحب, وأنشطة فنية مناسبة للأطفال الأكبر سنا.
كما يمكن للكبار أن يرسموا ابورتريهب لأنفسهم كتلك التي كانت ترسمها الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو لتعبر عن مشاعرها الداخلية. أو أن يصنعوا قطعة فنية صغيرة يستخدمونها طوال الوقت، مثل إسورة ملونة أو ميدالية للمفاتيح، ورسم دائرة امتنان مكتوب داخلها أسماء من قدموا لك يد العون ذات يوم، وسجل كل موقف جميل مر بحياتك. وبشكل عام، وبالرغم من تشعب هذا العلم, تظل تقنية العلاج بالفن وسيلة فعالة للمؤمنين بضرورة عودة الإنسان إلى فطرته كي يتخلص من الضغوط التي فرضتها الحياة المدنية عليه .