خواطر حول العاميّة والمعجم واللغة والعلم

خواطر حول العاميّة والمعجم  واللغة والعلم

دأبت مجلة العربي منذ بداياتها على الاهتمام باللغة العربية الفصحى والدفاع عنها، لأن اللغة هي الخط الدفاعي الأول عن وجود الأمة العربية وتاريخها وفكرها وتراثها الأدبي والثقافي، وكذلك عن جوهر وجودها الروحي. ولم تقف «العربي» عند نشر الدراسات اللغوية الحاضنة للفصحى، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك نحو تخصيص إحدى ندواتها حول «الثقافة العربية في ظل وسائط الاتصال الحديثة» ومن مداميك هذه الثقافة اللغة.

 

في تلك الندوة ذكر د. كمال عبد اللطيف في ورقته كثيراً من الأمثلة التي تؤكد وجود   «علامات التحول الصانعة لتطور اللغة، في لحظات مواجهتها لتحديات كبرى في المعرفة والعلوم، كما أظهرت محدودية المرونة التي يتمتع بها نظامها النسقي. وقد تزايدت صور انكماشها اليوم، أمام التقدم العلمي والكشوف المتلاحقة لتقانة المعلومات» (1).
وكل دفاع عن اللغة العربية الفصحى لا يأخذ هذه المحاذير والحقائق بعين الاعتبار، أي التحديات التي تواجه اللغة ونقص مرونتها وانكماشها في ظل ثورة الاتصالات، سيتهافت دفاعه أمام محاولات الغزو الثقافي واللغوية المتكررة قديماً وحديثاً لأمتنا العربية. وعلى اللغويين العرب أن يستوعبوا الدروس الجديدة لعلم اللغة، الذي يبحث اليوم في قابلية تطبيق المنطق الرياضي على اللغات البشرية، ووضع معادلات رياضية تشكل مدخلاً أعمق لفهم بنيتها الجوهرية، وهو العلم الذي فتح أبوابه نعوم تشومسكي، وأشاد بجهوده كيث ديفلين واعترف له بأنه تمكن من «إعادة دراسة اللغة إلى ملف الرياضيات مثلها مثل دراسة المنطق. لقد كان منهج تشومسكي منهجاً رياضياً بالقطع» (2). ومن المأمول أن يكون هذا المنهج صالحاً لحفريات اللغويين العرب. ولكن نقص الدراية بهذا المنهج الحداثي لا يمنع من التوقف عند بعض الخواطر التي لها صلة بهذا الملف.

خاطرة أولى: وطأة العاميّة 
أحد التحديات التي تواجه اللغة العربية الفصحى اليوم باعتقادي الشخصي، هو ظاهرة ازدياد الهوّة بينها وبين اللهجات المحكيّة أو العاميّات والتي تتفاقم بسبب وسائل الاتصال الحديثة، ونكاد نرى نظرية سعيد عقل القديمة المنحازة إلى العامية وترسيخها والدفاع عنها حاضرة بقوة في دردشات الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي. 
هذه معضلة تحتاج إلى حل، والمطلوب من اللغويين أن يعكفوا على دراستها، وما لم نعثر على علاجات لهذه الظاهرة، فلربما تقتلع هذه العاميات الفصحى من جذورها، ومن يدري بعد ذلك ما ستكون عقابيل هذه المسألة على ماضي حضارتنا ومستقبلها. وفي هذه الظروف المأساوية التي يمر بها العرب وتنــــذر بكثــــير مــن المخاطر المحدقة بالهـــــوية، تبقــــى اللغة العربية هي المصل الواقي من الضياع والتيه المحتمل. 
وسبق لي أن كتبت مقالة بعنوان «دفاعاً عن مستقبل اللغة العربية» نشرتها مجلة العربية في عددها 455 بتاريخ أكتوبر2014، أحصيت فيها عدد الباحثين الكويتيين الذين ألفوا وكتبوا في اللهجة العامية الكويتية وهم ثمانية، أحدهم أصدر موسوعة عن اللهجة الكويتية يربو عدد صفحاتها على 2200 صفحة من القطع الكبير تغطي 2731 مفردة عاميّة (سليحط وغمندة...!)، ومع احترامي وتقديري لكل جهد معرفي، أجد نفسي ترغب بوجود اهتمام بالفصحى يوازي هذا الجهد. 
كل شعوب الأرض تغار على بقاء لغاتها، والكل يعمل على مسألة الإحياء اللغوي، وقد كتب إيلي فيزيل اليهودي بعض كتبه بلغة هجينة منسيّة هي «اليديش» في سبيل إحياء اللغة العبرية، فكيف نسمح للعامية أن تزلزل أرض الفصحى، ونحن جميعاً ندرك أن إضفاء المشروعية على العاميات إنما يعني تقويض المناعة الطبيعية لكل تاريخنا وتراثنا، والخروج من المأزق معلق بجهود اللغويين المطالبين بتأصيل علم اللغة العربية والتأسيس لمنطق وفقه جديدَيْن لها؟ وهذا وحده هو الحصانة لذوبان العامية في بوتقة الفصحى.

خاطرة ثانية: المُعجم والنهوض بدوره
يعتد الإنجليزي بمُعجم أكسفورد، والفرنسي بمعجم لاروس، والأمريكي بويبستر، والعربي يعتد بحوالي 85 معجماً، منها 20 هي أمهات المعاجم، مثل «لسان العرب» و«تاج العروس» و«القاموس المحيط» و«الجمهرة» و«العين» و«العباب» وغيرها، وتم تأليفها منذ القرن الأول الهجري إلى القرن الثاني عشر. ولا شك في أن العرب سادة وأساتذة في هذا الحقل من التأليف الموسوعي المعرفي المعقد والصعب، الذي هجرناه خلال القرن الماضي لولا صدور المعجم الوسيط عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1962 و«المنجد المدرسي» الذي أخرجه الأب لويس معلوف وبعض المعاجم المتخصصة (حِتّي الطبي والمعاجم التي على شاكلته). 
المُعجم العربي مثل درع السلحفاة التي تحمي جسمها اللّين والهش، وما أرغب في تنبيه اللغويين إليه هو استنهاض الهمم لبعث التأليف الحديث لمعجم يأخذ بالمعطيات والقدرات التقنية بالطباعة وفنون الحوسبة والمعرفة العميقة باللغة وآفاق تطورها، فمثل هذا المعجم الحديث والمستقبلي هو الدرع التي تحمي لغتنا من غزو العولمة اللغوية والمعرفية والثقافية. وهذا المشروع قد لا يستطيع الشخص الفرد أن يقوم به، ولا بديل في هذه الحالة من الاتكاء على جهود الحكومات والمؤسسات التي إن تقاعست خسرت. 
خاطرة ثالثة: اللغة الراسخة
أول ما فعلته الثورة الفرنسية عام 1789 بعد تقويض أسوار سجن «الباستيل» وصهر حديد قضبانه لصنع نصب تذكاري لايزال قائماً حتى اليوم في الساحة التي تحمل اسم السجن، وبعد أن زحف الشعب إلى قــــصر «فرساي» لتقويض السلطة الملكية، هو اجتماع قـــادة الثورة لإذاعـــة البلاغ رقم واحد، وكـــــان من توصــــيــــات البلاغ العمل الفوري عـــلى إعادة تشكـــيل الهيكل البشري القيادي لمجمع اللغة Académie Française لأن الثورة، كل ثورة، تحــــتاج إلى تثوير اللغـــــة كــــأداة مثلها مثل الأدوات السياسية والإدارية والمؤسسية ومثل أدوات الحكم.
اللغة شريان الحضارة والمعمار الباقي إلى آخر الزمان. وأذكر أن أرنست فيشر كتب يوماً ليمجّد رجل الغابة الذي دخل إليها وهو يحمل حجراً صواناً ويؤشر على جذوع الأشجار ويترك علامات تساعده عــلى الذهاب للتفتيش عن قوت يومه والعودة إلى مغارته، وكانت تلك العلامات خميرة اللغات التي أسست لمجد الإنسان. وكتب إسرائيل ولفنسون (أبو ذؤيب) أن الفرعوني الذي كتب كلمة «بحر» بصورة خط متعرج يشبه الموجة هو عبقري لا تقل مواهبه عن باني الهرم، لأنه بنى اللغة الهيروغليفية والحضارة.
من هنا فإننا نرى في اللغة العربية الفصحى سفينة تبحر بأشرعة الحروف والأبجدية نحو موانئ الأمان والخلود. وهذه الفصحى تختلف عن كل لغات الأرض بأنها لغة القرآن، وهي الأرومة التي تحافظ على معقل الإيمان والعقيدة، وهي النسغ الذي ينقل غذاء العقل والروح من الجذور العميقة لوجودنا إلى ساق وأوراق شجرة الحياة. وبهذه اللغة الراسخة، اجتمع للعرب في خزانة قرطبة وحــــدها زهاء 60 ألف مجلــــد، ولم يكن القرن الثامن قد انقضى، وهذا الكلام ليس لي، ولكن للمستشرق الكبير لوسيان لوكلير. لتكن إذن لغتنا هادينا وحادينا نحو الرسوخ وظل نخلتنا في صحراء التاريخ.
خاطرة رابعة وأخيرة: العلم
أختم بذكر أنموذج معرفي يجمع بين العلم والمعجم، ويطرح في هذا الملف أمام اللغويين حافزاً وخارطة طريق تصل الماضي بالحاضر، وتشكل السبيل للخلاص من العثرات التي يعمل اللغويون على تجاوزها.
الأنموذج هو كتاب عنوانه «مُعجم أسماء النباتات الواردة في تاج العروس للزبيدي»، إصدار الدار المصرية للتأليف والترجمة، جمع وتحقيق محمود مصطفى الدمياطي، وقد اقتنيت طبعته الأولى عام 1965 بعد تخرجي في كلية الصيدلة، ومازال يرافقني منذ خمسين سنة بالتمام والكمال، وصــورة غلاف الطبعة غير موجودة على الإنترنت، وها هي مرفقة بالمقال، وقارئ هذا الكتاب الثمين الأنموذج سيكتشف توأمة عجيبة بين اللغة العربية الفصحى ومادة العلم، وعلى كثرة ما قرأت في باب النبات والعقاقير، وقمت بتدريس مادة كيمياء العقاقير في الجامعة، أعرف الآن بالخبرة والاختصاص أن التسميات لأكثر من 2000 نبات من أصول إغريقــية ولاتينية وفارسية وهندية وتعريبها وتوصيفها بلغة علمـــية دقيـــقة ومقبولة في أضخــــم معجــم للعربية مضى على تأليفه أكثر من 250 سنة 
( فرغ الزبيدي من تأليفه عام 1188 هجــــرية بعد 14 سنة من العمل عليه) هي عمـــل جبار، ولا يخلو أي عمل من وهن وضعف ونقص،  وأرى بهـــذا الأنموذج قابلية اللغة العربية وطواعيتها للعلم، فلماذا نخشى اليوم عليها من غــــزو العلوم، وهي التي صمدت آلاف السنيــــن ضـــد كل الغزوات؟
ولا تحتاج هذه اللغة المكينة إلا لجهود اللغويين العرب المحدثين لتطويرها وتذخيرها بمناهج الدراسات المنهجية المتوافرة اليوم ■

المراجع
1 - كتاب العربي81 يوليو 2010، الجزء الأول، ص139.
2 - كيث ديفلين، وداعاً ديكارت، ترجمة د.عصام عبدالله، ص101