المجلات الثقافية العربية غياب الإبداع وصعود الأدلجة الرثة

المجلات الثقافية العربية غياب الإبداع وصعود الأدلجة الرثة

قبل سنوات سُئلت: كيف تنظر إلى واقع المجلات الثقافية في سورية؟، بأن هذه المجلات تصدر بحكم العادة والواجب، كما أنها مكان لتوزيع الغنائم بين هيئات تحريرها، فالأمر يتعلّق بمطبوعات لا تقول شيئاً، أو أنها تنخرط بأسئلة قديمة ومكرّرة إلى حدود الضجر. الآن كففت عن قراءة هذه المجلات، إلا عن طريق المصادفة، وصراحة لا أعلم مبرر صدورها، طالما أنها لا تنتسب إلى أي مشروع ثقافي لافت. 

أعلم بأن اتحاد الكتَّاب العرب لديه مجلة اسمها «الموقف الأدبي»، لكنها عملياً تفتقد الموقف والأدب في آنٍ واحد، كما أن مجلة «المعرفة» التي تصدرها وزارة الثقافة، التي كانت يوماً ما إحدى أعرق المجلات الثقافية، تحوّلت اليوم إلى خردة ثقافية، و«كناسة دكان» لمتسولي المكافآت من أنصاف المثقفين، وممن أدركته حرفة الأدب متأخراً. ولكن، مهلاً، هناك كدسة مطبوعات أخرى يصدرها اتحاد الكتَّاب العرب، ووزارة الثقافة، تتكوّم، من شهر إلى آخر في منافذ بيع المطبوعات، ثم تتكدس في المستودعات الرطبة، مثل أي بضاعة كاسدة، ليس بسبب ندرة القرّاء، وإنما لحصافة القارئ، في المقام الأول، إذ «لا يلدغ المرء من جحر مرتين».
لن أتطرّق إلى المجلات الأخرى مثل «الحياة السينمائية»، و«الحياة التشكيلية»، و«الحياة المسرحية» التي كانت يوماً ما في طليعة المجلات العربية المتخصّصة والمحكّمة، فقد تحوّلت في معظمها إلى نشرات بائتة، يغيب عنها الحسّ النقدي العميق، والسجال الخلّاق، والأفكار المبتكرة... مجلات يديرها هواة طارئون على المصلحة، على غرار مافيات الظلّ، حتى إن إحدى هذه المجلات لجأت في أعدادها الأخيرة إلى إعادة نشر مواد سبق نشرها، في المجلة نفسها، من دون أن تصحّح ما طرأ على الأرشيف لجهة التواريخ! الكارثة ليست جديدة، كما أنها ليست من إفرازات الحرب الراهنة، وإنما بسبب عشوائية اللحظة، ومعايير رقابية قديمة لم تتغيّر منذ عقود، أو أنها ازدادت صلابة بوجود رقباء صارمين، وحرّاس فضيلة بكامل عتادهم، يفتشون ثنايا النصّ بعدسة مكبّرة لاكتشاف الجراثيم والأعشاب الضّارة والخلايا النائمة، بتأويلات لم تخطر في بال صاحب النص. جاهليون يقفون على الأطلال، بعد أن ألغوا غرض الهجاء من المدوّنة الإبداعية، غير عابئين بمنجزات الصحافة الإلكترونية التي حطّمت الأسوار العالية للرقابة، واخترقت القشرة الصلبة للمحرمات التقليدية، وإذا بهذه المجلات تتحوّل إلى مستنقع للحبر النافل.

واقع شرس للهشاشة
هذا الواقع الشرس لهشاشة المجلات الثقافية المحليّة، يمكن تعميمه على خرائط أخرى، باندحار الفكر التنويري الذي بزغ في ستينيات القرن الماضي، ثم انطفأ تماماً، في مطلع الألفية الثالثة، تحت ضربات معاول العولمة المتوحشة، واحتضار فكرة الهوية المحليّة من جهة، وصعود التيارات السلفية التي تعاملت مع الحداثة بوصفها شبهة مرذولة، ووجدت في تيارات ما بعد الحداثة عورة كاملة، بتواطؤ مع سلطات عسكرية مستبدة، أسهمت في تعميم هذا السيرك الثقافي بحباله الواهية.
هكذا احتضرت مجلة «شعر»، وتلتها مجلة «الآداب» بوصفهما أبرز مشروعين ثقافيين عربيين خلال النصف الثاني من القرن الماضي، لمصلحة مجلات حكومية مؤدلجة، أقرب ما تكون إلى الفضيحة، لفرط هشاشة محتوياتها، كما فقدت مجلة «المعرفة» السورية ألقها، منذ أن هجرها زكريا تامر في مطلع الثمانينيات، وكأن قيمة مجلة ثقافية ما، تتعلّق برئيس تحريرها أولاً، بمعنى أن الفرد وليس المؤسسة هو من يمنح هذا المنبر أو ذاك مستواه الثقافي. علّق وليد إخلاصي مرّة على واقع الثقافة العربية بقوله: «بدأت الثقافة العربية بمحمد عبده، وانتهت بعبده محمد»، في إشارة إلى اسم كاتب محلّي غير ذي شأن، وهو بذلك اختزل مراحل احتضار هذه الثقافة ومجلاتها بالطبع.
على المقلب الآخر، أظن أن المجلات الإلكترونية قد سحبت البساط - إلى حدٍ كبير - من المجلات الثقافية الورقية، لجهة الانتشار، وارتفاع سقف حرية التعبير، إذ تتضاءل الرقابة تقريباً، فيما كان خطوطاً حمراً في المجلات الورقية، عبر ملفات سجالية ساخنة، كما أسهمت المدوّنات الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، في اختراق حقول الألغام وتفكيكها، وأدارت ظهرها تماماً لمقترحات الصحافة الثقافية القديمة، سواء في لغتها أو لجهة مواكبة الأسئلة الراهنة، وتالياً، كيف أثق بقدرات رئيس تحرير مجلة «الآداب العالمية» مثلاً، في حين أنه لا يجيد لغة أجنبية واحدة؟ ثم ماذا يغري كاتباً ما، بأن ينشر مقالاً، أو نصاً، مقابل مكافأة لا تعادل أجرة المواصلات ذهاباً وإياباً، إلى مقرّ المجلة؟ نحن إذاً، بصدد مقابر بلا زوّار، ذلك أن الزلزال الذي خلخل الخرائط، لم يبتكر لغته الموازية، أو بلاغته المضادة بعد، إذا لم نقل، رسّخ لغةً محنّطة، فلم يغادر أحد حصته من الزوايا الثابتة، والصور الشخصية القديمة طوال عقدين على الأقل، في معظم المجلات الثقافية العربية، بوصفها إقطاعيات شخصية، ولم يُسمح بالمرور للأصوات الجديدة النافرة، والحال، لا مجلة ثقافية مهمة، من دون رافعة ثقافية، تنهض على تحفيز العقل، والتعددية، والجدل .