عبقرية المتنبي ... وإعادة كتابة التاريخ

عبقرية المتنبي ... وإعادة كتابة التاريخ

بيني‭ ‬وبين‭ ‬المتنبي‭ ‬تاريخ‭ ‬صعب‭ ‬التفسير،‭ ‬فهو‭ ‬الشاعر‭ ‬الفحل‭ ‬والحكيم‭ ‬والفارس،‭ ‬والمغرور‭  ‬والمتطلب‭ ‬والواهم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭. ‬ولد‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬الحسين‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬الكوفة‭ (‬303هـ‭/‬915م‭)‬،‭ ‬وتنقل‭ ‬بين‭ ‬البوادي‭ ‬والقرى‭ ‬والمدن‭ ‬والأمصار،‭ ‬فحفظ‭ ‬كلام‭ ‬العرب‭ ‬نثراً‭  ‬وشعراً،‭ ‬حتى‭ ‬سبق‭ ‬شِعره‭ ‬شِعر‭ ‬جميع‭ ‬معاصريه‭ ‬ومن‭ ‬تلاهم،‭ ‬فاستعلى‭ ‬واغترّ‭  ‬وقال‭:‬

 

أيّ‭ ‬مــــــحـــلٍ‭ ‬أرتــقــــي

أيّ‭ ‬عــــــظيـــــمٍ‭ ‬أتّقــي

فكل‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬خلق‭ ‬اللّه

وما‭ ‬لم‭ ‬يخلقِ

محتقرٌ‭ ‬في‭ ‬همّتي

كشـعرةٍ‭ ‬مــــن‭ ‬مــــفرقي

لذلك،‭ ‬فإنّ‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬معاصريه،‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب،‭ ‬استنكروا‭ ‬غروره‭ ‬فذموه‭. ‬يقول‭ ‬عنه‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬الحسن‭ ‬بن‭ ‬المظفر‭ (‬ت‭. ‬388هـ‭/‬998م‭): ‬‮«‬كان‭ ‬أبوالطيب‭ ‬المتنبي‭ ‬عند‭ ‬وروده‭ ‬مدينة‭ ‬السلام‭ ‬التحف‭ ‬رداء‭ ‬الكِبْر،‭ ‬وأذال‭ ‬ذيول‭ ‬التيه،‭ ‬وصَعَّر‭ ‬خدّه‭ ‬ونأى‭ ‬بجانبه‭...‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬تخيل‭ ‬أنه‭ ‬القريع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُقارع،‭ ‬والنزيع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُجارى‭ ‬ولا‭ ‬يُنازع‭... ‬ثَقُلت‭ ‬وطأته‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬الأدب‭ ‬بمدينة‭ ‬السلام،‭ ‬فطأطأ‭ ‬كثيرٌ‭ ‬منهم‭ ‬رأسه‭..‬‭.‬‮»‬‭.‬

وبذلك‭ ‬التصرف‭ ‬المغرور‭ ‬زاد‭ ‬خصوم‭ ‬المتنبي،‭ ‬وكَرِهَهُ‭ ‬أهل‭ ‬الأدب،‭ ‬حتى‭ ‬جمعوا‭ ‬عليه‭ ‬الزلات،‭ ‬ودونوا‭ ‬أبياتاً‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬سرقات،‭ ‬جمعها‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬العميدي‭ ‬بعد‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬وفاة‭ ‬المتنبي‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الإبانة‭ ‬عن‭ ‬سرقات‭ ‬المتنبي‮»‬‭. ‬والقارئ‭ ‬لهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬تحاملاً‭ ‬كبيراً‭ ‬على‭ ‬المتنبي‭. ‬

ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر،‭ ‬فإن‭ ‬قصائد‭ ‬المديح‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬مشهورة،‭ ‬وأساليب‭ ‬مدح‭ ‬النفس‭ ‬بالشجاعة‭ ‬والقوة‭ ‬والجَلَد‭ ‬والصفات‭ ‬الحميدة‭ ‬مأثورة،‭ ‬فكل‭ ‬شعراء‭ ‬المعلقات‭ ‬مدحوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬بشعرهم،‭ ‬وكذلك‭ ‬بقية‭ ‬فحول‭ ‬الشعراء‭ ‬ممن‭ ‬سبقوا‭ ‬المتنبي‭ ‬كالفرزدق‭ ‬وجرير‭ ‬والأخطل،‭ ‬إلا‭ ‬أنّ‭ ‬مديح‭ ‬المتنبي‭ ‬لنفسه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غير‭ ‬كلمات،‭ ‬صيغت‭ ‬شعراً‭ ‬بأبيات،‭ ‬أحبتها‭ ‬النفوس‭ ‬واستوعبتها‭ ‬العقول،‭ ‬واستعذبتها‭ ‬الأفواه‭ ‬فرددتها‭ ‬الألسن،‭ ‬جيلاً‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭ ‬فعاشت‭ ‬مع‭ ‬الزمان‭. ‬وبهذا‭ ‬يقول‭ ‬المتنبي‭: ‬

وما‭ ‬الدهر‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬رواة‭ ‬قصائدي

إذا‭ ‬قُلت‭ ‬شعرا‭ ‬أصبح‭ ‬الدهر‭ ‬مُنشدا

وهو‭ ‬الحكيم‭ ‬بقوله‭:‬

بذا‭ ‬قضت‭ ‬الأيام‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬أهلها

مصائب‭ ‬قوم‭ ‬عند‭ ‬قوم‭ ‬فوائد

وقال‭:‬

ما‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتمنى‭ ‬المرء‭ ‬يدركه

تجري‭ ‬الرياح‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬تشتهي‭ ‬السفن

ومن‭ ‬شعره‭:‬

ذو‭ ‬العقل‭ ‬يشقى‭ ‬في‭ ‬النعيم‭ ‬بعقله

وأخو‭ ‬الجهالة‭ ‬في‭ ‬الشقاوة‭ ‬ينعم

هنا‭ ‬يُسْقط‭ ‬المتنبي‭ ‬التجارب‭ ‬والخبرات‭ ‬الإنسانية‭ ‬على‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬لتتقبلها‭ ‬النفس‭ ‬كواقع‭ ‬متكرر‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تتضح‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي،‭ ‬فيتأثر‭ ‬بها‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء‭ ‬والحكماء،‭ ‬مثلما‭ ‬تأثر‭ ‬بها‭ ‬أبوالعلاء‭ ‬المعري،‭ ‬الذي‭ ‬عُدّ‭ ‬فيلسوف‭ ‬الشعراء‭ ‬وشاعر‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬حتى‭ ‬قال‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬ذلك‭ ‬الأعمى‮»‬،‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭:‬

أنا‭ ‬الذي‭ ‬نظر‭ ‬الأعمى‭ ‬إلى‭ ‬أدبي

وأسمعت‭ ‬كلماتي‭ ‬من‭ ‬به‭ ‬صمم

وقد‭ ‬استوقفني‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي،‭ ‬يشرح‭ ‬فيه‭ ‬مفهوم‭ ‬الضرورة‭ ‬كفكرة‭ ‬وعمل،‭ ‬ويؤكد‭ ‬الأخذ‭ ‬بتلك‭ ‬الفكرة‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬دونيّتها،‭ ‬وخروجها‭ ‬عن‭ ‬إطار‭ ‬المروءة‭ ‬والشهامة‭ ‬اللتين‭ ‬كان‭ ‬العرب‭ ‬يتنطعون‭ ‬بهما‭ ‬ويفتخرون،‭ ‬فالغاية‭ ‬عند‭ ‬المتنبي‭ ‬تبرر‭ ‬الوسيلة‭ ‬أحياناً،‭ ‬وبهذا‭ ‬يقول‭:‬

ومن‭ ‬نكد‭ ‬الدنيا‭ ‬على‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يرى

عدواً‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬صداقته‭ ‬بدُّ

نعم،‭ ‬لقد‭ ‬سبق‭ ‬المتنبي‭ ‬ميكافيللي‭ ‬في‭ ‬تبرير‭ ‬النزعة‭ ‬النفعية،‭ ‬ومارس‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬التَّقِيّة‮»‬‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬المناصب‭ ‬السياسية،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يفلح‭. ‬والمتتبع‭ ‬لشعر‭ ‬المتنبي‭ ‬يرى‭ ‬تلك‭ ‬النزعة‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬كافور‭ ‬الإخشيدي‭ ‬ثم‭ ‬ذمّه‭ ‬بأقسى‭ ‬العبارات،‭ ‬فقال‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬346هـ‭/‬957م‭ ‬مادحاً‭:‬

أبوالمسك‭ ‬لا‭ ‬يَفنى‭ ‬بذنبك‭ ‬عفوه

ولكنه‭ ‬يفنى‭ ‬بعذرك‭ ‬حِقْدُهُ

فَيَا‭ ‬أيّها‭ ‬المنصور‭ ‬بالجدّ‭ ‬سعيه

ويا‭ ‬أيّها‭ ‬المنصور‭ ‬بالسعي‭ ‬جدّه

ثم‭ ‬لم‭ ‬يتورع‭ ‬عن‭ ‬هجائه‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬350هـ‭/‬961م‭ ‬فقال‭:‬

أكلما‭ ‬اغتال‭ ‬عبد‭ ‬السوء‭ ‬سيده

أو‭ ‬خانه‭ ‬فله‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬تمهيد

نامت‭ ‬نواطير‭ ‬مصر‭ ‬عن‭ ‬ثعالبها

فقد‭ ‬بَشِمْنَ‭ ‬وما‭ ‬تفنى‭ ‬العناقيد

لا‭ ‬تشترِ‭ ‬العبد‭ ‬إلا‭ ‬والعصا‭ ‬معه

إنّ‭ ‬العبيد‭ ‬لأنجاسٌ‭ ‬مناكيد

ولابد‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نبين‭ ‬أنّ‭ ‬الشاعر‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬هو‭ ‬لسان‭ ‬حال‭ ‬الشعوب‭ ‬والأوطان،‭ ‬وهو‭ ‬الإعلام‭ ‬والإعلان‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الزمان،‭ ‬فحين‭ ‬يتناقل‭ ‬الرواة‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬يتأثر‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رؤية‭ ‬الشاعر‭ ‬بما‭ ‬حدث‭ ‬وكان،‭ ‬فيسجّل‭ ‬التاريخ‭ ‬مدحه‭ ‬أو‭ ‬ذمه،‭ ‬لتخبو‭ ‬بعض‭ ‬وجوه‭ ‬الحقيقة‭ ‬فتكون‭ ‬في‭ ‬طي‭ ‬النسيان،‭ ‬فيزاد‭ ‬عليها‭ ‬أو‭ ‬ينقص‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬حسب‭ ‬منظور‭ ‬من‭ ‬يدونها،‭ ‬مؤرخ‭ ‬أو‭ ‬روائي‭ ‬أو‭ ‬شاعر‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬باحث‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬الأدب‭ ‬أو‭ ‬الثقافة‭. ‬ولم‭ ‬نعرف‭ ‬المتنبي‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ممتهني‭ ‬رواية‭ ‬الشعر‭ ‬والأدب،‭ ‬ولم‭ ‬يمدنا‭ ‬المؤرخون‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬هذا‭ ‬العَلَم‭ ‬من‭ ‬أعلام‭ ‬التاريخ‭ ‬الفكري‭ ‬والأدبي‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬إلا‭ ‬بفقرات‭ ‬مبعثرة‭ ‬ومتناقضة‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭. ‬

 

مكانة‭ ‬المتنبي‭ ‬الحقيقية

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬الذي‭ ‬بذله‭ ‬العلامة‭ ‬المحقق‭ ‬محمود‭ ‬شاكر‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬المتنبي،‭ ‬فإنّه‭ ‬لم‭ ‬يتوغل‭ ‬في‭ ‬شرح‭ ‬ظروف‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬والصراعات‭ ‬السياسية‭ ‬والدينية‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬المتنبي‭ ‬التي‭ ‬انعكست‭ ‬على‭ ‬حياته‭ ‬وثقافته‭ ‬وشعره‭. ‬ولكي‭ ‬نعرف‭ ‬مكانة‭ ‬المتنبي‭ ‬الحقيقية،‭ ‬لابد‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬في‭ ‬معتقده‭ ‬السياسي‭ ‬والديني،‭ ‬فلم‭ ‬يصل‭ ‬المتنبي‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المكانة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬لولا‭ ‬فكره‭ ‬واعتقاده،‭ ‬وهو‭ ‬القائل‭:‬

على‭ ‬قدر‭ ‬أهل‭ ‬العزم‭ ‬تأتي‭ ‬العزائم

وتأتي‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬الكرام‭ ‬المكارم

وتعظم‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬الصغير‭ ‬صغارها

وتصغر‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬العظيم‭ ‬العظائم

كثير‭ ‬ممن‭ ‬كَتب‭ ‬عن‭ ‬المتنبي‭ ‬لم‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬حياته‭ ‬والحوادث‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الهجري‭/‬العاشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬معاصراً‭ ‬للثورات‭ ‬السياسية‭ ‬والدينية‭ ‬والشعوبية‭ ‬والحركات‭ ‬السرية‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية،‭ ‬مثل‭ ‬الدعوة‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬ثورة‭ ‬علنية‭ ‬قادها‭ ‬‮«‬القرامطة‮»‬‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬ثم‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬دولتي‭ ‬الدعوة‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬وفارس‭. ‬

بعدها‭ ‬تأطر‭ ‬مفهوم‭ ‬تلك‭ ‬الدعوة‭ ‬بالكشف‭ ‬عن‭ ‬إمامها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬الفاطمية‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭. ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نجزم‭ ‬بأنّ‭ ‬المتنبي‭ ‬تأثر‭ ‬بالدعوة‭ ‬الإسماعيلية،‭ ‬ولكن‭ ‬يغلب‭ ‬الظن‭ ‬أنّ‭ ‬عقيدة‭ ‬ختم‭ ‬النبوة‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬كانت‭ ‬محط‭ ‬نقاش‭ ‬بين‭ ‬‮«‬المُعَطِّلَة‮»‬‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬و«المُشَبِّهة‮»‬‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬فمفهوم‭ ‬‮«‬الرسول‮»‬‭ ‬و«النبي‮»‬‭ ‬اتخذ‭ ‬اتجاهاً‭ ‬فلسفياً‭ ‬عند‭ ‬مفكري‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬الذين‭ ‬تبنوا‭ ‬فلسفة‭ ‬أفلوطين‭ ‬السكندري‭ ‬التي‭ ‬تعارف‭ ‬الفلاسفة‭ ‬على‭ ‬تسميتها‭ ‬الأفلوطينية‭ ‬المحدثة‭ ‬Neoplatonism‭. ‬اتخذ‭ ‬فلاسفة‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬من‭ ‬الأفلوطينية‭ ‬أساساً‭ ‬فكرياً‭ ‬ينطلقون‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬بداية‭ ‬النشء‭ ‬وحركة‭ ‬الأفلاك‭ ‬والأقدار‭ ‬لمعرفة‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭ ‬ونهايته‭. ‬

وبهذا‭ ‬المفهوم‭ ‬قسّم‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬العالم‭ ‬أدواراً،‭ ‬لكل‭ ‬دور‭ ‬‮«‬ناطق‮»‬،‭ ‬والنطقاء‭ ‬عندهم‭ ‬سبعة‭: ‬آدم،‭ ‬نوح،‭ ‬إبراهيم،‭ ‬موسى،‭ ‬عيسى،‭ ‬محمد،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬‮«‬القائم‮»‬‭. ‬وهؤلاء‭ ‬هم‭ ‬أصحاب‭ ‬الشرائع‭ ‬عندهم،‭ ‬فلكل‭ ‬زمان‭ (= ‬دور‭) ‬ناطق‭ (= ‬رسول‭) ‬ولكل‭ ‬ناطق‭ ‬شريعة‭. ‬وعلى‭ ‬حسب‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬تترتب‭ ‬مزاعم‭ ‬مفكري‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬وادعاءاتهم‭ ‬بأنّ‭ ‬سيدنا‭ ‬محمد‭ ‬‭ ‬هو‭ ‬خاتم‭ ‬الأنبياء‭ ‬في‭ ‬‮«‬دوره‮»‬،‭ ‬ليأتي‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬دور‭ ‬آخر‭ ‬يبدأه‭ ‬‮«‬القائم‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يتتابع‭ ‬الأئمة‭ ‬الفاطميون‭ ‬في‭ ‬حمل‭ ‬رسالة‭ ‬الهداية‭ ‬العالمية‭ ‬ضد‭ ‬الشر‭ ‬والظلم‭ ‬حتى‭ ‬تأتي‭ ‬‮«‬القيامة‮»‬‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فكرة‭ ‬النبوة‭ ‬أو‭ ‬ادعائها‭ ‬بالأمر‭ ‬الجديد‭ ‬على‭ ‬العرب،‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬وبعده،‭ ‬ففي‭ ‬عصر‭ ‬الرسول‭ ‬،‭ ‬ادّعى‭ ‬مسيلمة‭ ‬الكذاب‭ ‬النبوة،‭ ‬ومثله‭ ‬الأسود‭ ‬العنسي‭ ‬وسجاح،‭ ‬وغيرهم‭. ‬وتزودنا‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬بأسماء‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬مدعي‭ ‬النبوة‭ ‬في‭ ‬العصرين‭ ‬الأموي‭ ‬والعباسي‭. ‬

 

‭ ‬مفهوم‭ ‬جديد‭ ‬بتأويل‭ ‬النص

ولعل‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬الدعوة‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬هو‭ ‬ذاك‭ ‬المفهوم‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬شرح‭ ‬النص‭ ‬الديني،‭ ‬فقد‭ ‬اعتمدت‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬النص،‭ ‬الديني‭ ‬له‭ ‬ظاهر‭ ‬وباطن،‭ ‬فالظاهر‭ ‬لعامة‭ ‬الناس،‭ ‬والباطن،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬تأويل‭ ‬النص‮»‬،‭ ‬كان‭ ‬فقط‭ ‬للخاصة‭ ‬منهم،‭ ‬لذلك‭ ‬أُطلق‭ ‬عليهم‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الباطنيّة‮»‬‭. ‬

ولم‭ ‬يأتِ‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬بجديد،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬فكرة‭ ‬باطن‭ ‬النص‭ ‬وتأويله‭ ‬معروفة‭ ‬لدى‭ ‬اليونان‭ ‬قديماً،‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬أطلقوا‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الغنوصية‮»‬‭ ‬Gnosticism‭ ‬وأسماه‭ ‬فلاسفة‭ ‬الإسماعيلية‭ ‬المتأخرون‭ ‬ومثلهم‭ ‬من‭ ‬الصوفية‭ ‬‮«‬العرفان‮»‬‭. ‬

عمل‭ ‬مفكرو‭ ‬الإسلام‭ ‬وفلاسفتهم‭ ‬ومتكلموهم‭ ‬على‭ ‬نقض‭ ‬خطاب‭ ‬الإسماعيلية،‭ ‬حيث‭ ‬وقف‭ ‬علماء‭ ‬المعتزلة‭ ‬ضد‭ ‬أطروحتهم‭ ‬هذه،‭ ‬وكان‭ ‬أشهرهم‭ ‬آنذاك‭ ‬القاضي‭ ‬عبدالجبار‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬الهمداني‭. ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬الأشاعرة‭ ‬ليكملوا‭ ‬مسيرة‭ ‬المعتزلة‭ ‬في‭ ‬النقض‭ ‬والنقد،‭ ‬فصنفوا‭ ‬كتباً‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬الباطنية،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أشهرهم‭ ‬أبوالحسن‭ ‬الأشعري‭ ‬وأبوبكر‭ ‬الباقلاني‭ ‬وأبوالقاسم‭ ‬البستي‭ ‬وأبو‭ ‬حامد‭ ‬الغزالي‭ ‬وأبو‭ ‬بكر‭ ‬بن‭ ‬العربي‭. ‬وهكذا‭ ‬تستمر‭ ‬فكرة‭ ‬النبوءة‭ ‬قائمة‭ ‬عند‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الملل‭ ‬والجماعات‭ ‬الدينية،‭ ‬وتستمر‭ ‬ضدها‭ ‬عقيدة‭ ‬ختم‭ ‬النبوة‭. ‬ويأتي‭ ‬السؤال‭ ‬الكبير‭ ‬هنا‭: ‬هل‭ ‬كان‭ ‬المتنبي‭ ‬مدعٍياً‭ ‬للنبوة؟‭ ‬وهل‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬يُحَمّلون‭ ‬شعره‭ ‬معاني‭ ‬أخرى؟‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬قال‭:‬

سيعلم‭ ‬الجمع‭ ‬ممن‭ ‬ضم‭ ‬مجلسنا

بأنني‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬تسعى‭ ‬به‭ ‬قدم

أنا‭ ‬الذي‭ ‬نظر‭ ‬الأعمى‭ ‬إلى‭ ‬أدبي

وأسمعت‭ ‬كلماتي‭ ‬من‭ ‬به‭ ‬صمم

أنام‭ ‬ملء‭ ‬جفوني‭ ‬عن‭ ‬شواردها

ويسهر‭ ‬الخلق‭ ‬جرّاها‭ ‬ويختصم

الخيل‭ ‬والليل‭ ‬والبيداء‭ ‬تعرفني

والسيف‭ ‬والرمح‭ ‬والقرطاس‭ ‬والقلم

‭ ‬حان‭ ‬الوقت‭ ‬لنعيد‭ ‬كتابة‭ ‬التاريخ‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬المعطيات‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬والأدب‭ ‬والثقافة‭ ‬والدين،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬معرفة‭ ‬الحقيقة‭ ‬الكلية،‭ ‬فلدينا‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬لدى‭ ‬الأولين‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬البحث‭ ‬والدراسة‭ ‬والتدقيق‭ ‬