عبقرية المتنبي ... وإعادة كتابة التاريخ

بيني وبين المتنبي تاريخ صعب التفسير، فهو الشاعر الفحل والحكيم والفارس، والمغرور والمتطلب والواهم في بعض الأحيان. ولد أحمد بن الحسين المتنبي في الكوفة (303هـ/915م)، وتنقل بين البوادي والقرى والمدن والأمصار، فحفظ كلام العرب نثراً وشعراً، حتى سبق شِعره شِعر جميع معاصريه ومن تلاهم، فاستعلى واغترّ وقال:
أيّ مــــــحـــلٍ أرتــقــــي
أيّ عــــــظيـــــمٍ أتّقــي
فكل ما قد خلق اللّه
وما لم يخلقِ
محتقرٌ في همّتي
كشـعرةٍ مــــن مــــفرقي
لذلك، فإنّ كثيراً من معاصريه، من أهل اللغة والأدب، استنكروا غروره فذموه. يقول عنه محمد بن الحسن بن المظفر (ت. 388هـ/998م): «كان أبوالطيب المتنبي عند وروده مدينة السلام التحف رداء الكِبْر، وأذال ذيول التيه، وصَعَّر خدّه ونأى بجانبه...حتى إذا تخيل أنه القريع الذي لا يُقارع، والنزيع الذي لا يُجارى ولا يُنازع... ثَقُلت وطأته على أهل الأدب بمدينة السلام، فطأطأ كثيرٌ منهم رأسه...».
وبذلك التصرف المغرور زاد خصوم المتنبي، وكَرِهَهُ أهل الأدب، حتى جمعوا عليه الزلات، ودونوا أبياتاً من شعره فيها من المعاني سرقات، جمعها محمد بن أحمد العميدي بعد قرن من وفاة المتنبي في كتاب «الإبانة عن سرقات المتنبي». والقارئ لهذا الكتاب يرى فيه تحاملاً كبيراً على المتنبي.
ومهما يكن من أمر، فإن قصائد المديح عند العرب مشهورة، وأساليب مدح النفس بالشجاعة والقوة والجَلَد والصفات الحميدة مأثورة، فكل شعراء المعلقات مدحوا أنفسهم بشعرهم، وكذلك بقية فحول الشعراء ممن سبقوا المتنبي كالفرزدق وجرير والأخطل، إلا أنّ مديح المتنبي لنفسه لم يكن غير كلمات، صيغت شعراً بأبيات، أحبتها النفوس واستوعبتها العقول، واستعذبتها الأفواه فرددتها الألسن، جيلاً بعد جيل فعاشت مع الزمان. وبهذا يقول المتنبي:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قُلت شعرا أصبح الدهر مُنشدا
وهو الحكيم بقوله:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
وقال:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ومن شعره:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
هنا يُسْقط المتنبي التجارب والخبرات الإنسانية على الزمان والمكان، لتتقبلها النفس كواقع متكرر في حياة الإنسان، ومن هنا تتضح الفلسفة في شعر المتنبي، فيتأثر بها الأدباء والشعراء والحكماء، مثلما تأثر بها أبوالعلاء المعري، الذي عُدّ فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة، حتى قال: «أنا ذلك الأعمى»، في بيت شعر المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
وقد استوقفني بيت من شعر المتنبي، يشرح فيه مفهوم الضرورة كفكرة وعمل، ويؤكد الأخذ بتلك الفكرة على الرغم من دونيّتها، وخروجها عن إطار المروءة والشهامة اللتين كان العرب يتنطعون بهما ويفتخرون، فالغاية عند المتنبي تبرر الوسيلة أحياناً، وبهذا يقول:
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى
عدواً له ما من صداقته بدُّ
نعم، لقد سبق المتنبي ميكافيللي في تبرير النزعة النفعية، ومارس مبدأ «التَّقِيّة» للوصول إلى المناصب السياسية، وإن لم يفلح. والمتتبع لشعر المتنبي يرى تلك النزعة في مدح كافور الإخشيدي ثم ذمّه بأقسى العبارات، فقال في عام 346هـ/957م مادحاً:
أبوالمسك لا يَفنى بذنبك عفوه
ولكنه يفنى بعذرك حِقْدُهُ
فَيَا أيّها المنصور بالجدّ سعيه
ويا أيّها المنصور بالسعي جدّه
ثم لم يتورع عن هجائه في عام 350هـ/961م فقال:
أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه فله في مصر تمهيد
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بَشِمْنَ وما تفنى العناقيد
لا تشترِ العبد إلا والعصا معه
إنّ العبيد لأنجاسٌ مناكيد
ولابد لنا أن نبين أنّ الشاعر عند العرب هو لسان حال الشعوب والأوطان، وهو الإعلام والإعلان في ذاك الزمان، فحين يتناقل الرواة شعره في كل مكان، يتأثر الناس من خلال رؤية الشاعر بما حدث وكان، فيسجّل التاريخ مدحه أو ذمه، لتخبو بعض وجوه الحقيقة فتكون في طي النسيان، فيزاد عليها أو ينقص منها على حسب منظور من يدونها، مؤرخ أو روائي أو شاعر أو أي باحث في شؤون الأدب أو الثقافة. ولم نعرف المتنبي إلا من خلال ممتهني رواية الشعر والأدب، ولم يمدنا المؤرخون من سيرة هذا العَلَم من أعلام التاريخ الفكري والأدبي في الحضارة العربية الإسلامية، إلا بفقرات مبعثرة ومتناقضة في أغلب الأحيان.
مكانة المتنبي الحقيقية
وعلى الرغم من الجهد الذي بذله العلامة المحقق محمود شاكر في كتابه عن المتنبي، فإنّه لم يتوغل في شرح ظروف الزمان والمكان والصراعات السياسية والدينية في زمن المتنبي التي انعكست على حياته وثقافته وشعره. ولكي نعرف مكانة المتنبي الحقيقية، لابد لنا أن نبحث في معتقده السياسي والديني، فلم يصل المتنبي إلى هذه المكانة الكبرى في الشعر العربي لولا فكره واعتقاده، وهو القائل:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
كثير ممن كَتب عن المتنبي لم يربط بين حياته والحوادث السياسية والفكرية في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، فقد كان معاصراً للثورات السياسية والدينية والشعوبية والحركات السرية في الدولة العباسية، مثل الدعوة الإسماعيلية التي أصبحت ثورة علنية قادها «القرامطة» في البداية، ثم أدت إلى قيام دولتي الدعوة في اليمن وفارس.
بعدها تأطر مفهوم تلك الدعوة بالكشف عن إمامها، وهو ما أدى إلى قيام الدولة الفاطمية في إفريقيا. ونحن لا نجزم بأنّ المتنبي تأثر بالدعوة الإسماعيلية، ولكن يغلب الظن أنّ عقيدة ختم النبوة في عصره كانت محط نقاش بين «المُعَطِّلَة» من جهة و«المُشَبِّهة» من جهة أخرى، فمفهوم «الرسول» و«النبي» اتخذ اتجاهاً فلسفياً عند مفكري الإسماعيلية الذين تبنوا فلسفة أفلوطين السكندري التي تعارف الفلاسفة على تسميتها الأفلوطينية المحدثة Neoplatonism. اتخذ فلاسفة الإسماعيلية من الأفلوطينية أساساً فكرياً ينطلقون منه في تفسير بداية النشء وحركة الأفلاك والأقدار لمعرفة تاريخ العالم ونهايته.
وبهذا المفهوم قسّم الإسماعيلية العالم أدواراً، لكل دور «ناطق»، والنطقاء عندهم سبعة: آدم، نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، محمد، ثم يأتي «القائم». وهؤلاء هم أصحاب الشرائع عندهم، فلكل زمان (= دور) ناطق (= رسول) ولكل ناطق شريعة. وعلى حسب هذا المفهوم تترتب مزاعم مفكري الإسماعيلية وادعاءاتهم بأنّ سيدنا محمد هو خاتم الأنبياء في «دوره»، ليأتي من بعده دور آخر يبدأه «القائم»، ومن ثم يتتابع الأئمة الفاطميون في حمل رسالة الهداية العالمية ضد الشر والظلم حتى تأتي «القيامة». لم تكن فكرة النبوة أو ادعائها بالأمر الجديد على العرب، قبل الإسلام وبعده، ففي عصر الرسول ، ادّعى مسيلمة الكذاب النبوة، ومثله الأسود العنسي وسجاح، وغيرهم. وتزودنا كتب التاريخ بأسماء كثيرة من مدعي النبوة في العصرين الأموي والعباسي.
مفهوم جديد بتأويل النص
ولعل السبب في انتشار الدعوة الإسماعيلية هو ذاك المفهوم الجديد في شرح النص الديني، فقد اعتمدت على أنّ النص، الديني له ظاهر وباطن، فالظاهر لعامة الناس، والباطن، وهو «تأويل النص»، كان فقط للخاصة منهم، لذلك أُطلق عليهم اسم «الباطنيّة».
ولم يأتِ الإسماعيلية بجديد، فقد كانت فكرة باطن النص وتأويله معروفة لدى اليونان قديماً، ذلك ما أطلقوا عليه اسم «الغنوصية» Gnosticism وأسماه فلاسفة الإسماعيلية المتأخرون ومثلهم من الصوفية «العرفان».
عمل مفكرو الإسلام وفلاسفتهم ومتكلموهم على نقض خطاب الإسماعيلية، حيث وقف علماء المعتزلة ضد أطروحتهم هذه، وكان أشهرهم آنذاك القاضي عبدالجبار بن أحمد الهمداني. ثم جاء الأشاعرة ليكملوا مسيرة المعتزلة في النقض والنقد، فصنفوا كتباً كثيرة في الرد على الباطنية، وكان من أشهرهم أبوالحسن الأشعري وأبوبكر الباقلاني وأبوالقاسم البستي وأبو حامد الغزالي وأبو بكر بن العربي. وهكذا تستمر فكرة النبوءة قائمة عند كثير من الملل والجماعات الدينية، وتستمر ضدها عقيدة ختم النبوة. ويأتي السؤال الكبير هنا: هل كان المتنبي مدعٍياً للنبوة؟ وهل كان الناس في عصره يُحَمّلون شعره معاني أخرى؟ وهو من قال:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرّاها ويختصم
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
حان الوقت لنعيد كتابة التاريخ على ضوء المعطيات الجديدة في التاريخ والأدب والثقافة والدين، من أجل معرفة الحقيقة الكلية، فلدينا ما ليس لدى الأولين من وسائل البحث والدراسة والتدقيق ■