ياسين رفاعية وأمل جرّاح في رواياته

ياسين رفاعية وأمل جرّاح في رواياته

 رحل الروائي والقاص السوري ياسين رفاعية، الذي وُلِدَ سنة 1934 في حيّ شعبيّ بدمشق، وعاش في بيروت منذ ستينيات القرن الماضي وتُوفي فيها في 22/5/2016 عن 82 عاماً. وقد جمعتني به صداقة امتدت نصف قرن. عمل ياسين في الصحافة وكتب في صحف ومجلات عديدة: «الأحد» و«الراصد» و«الجمهور الجديد» و«الكفاح العربي» و«الشرق الأوسط» و«المحرر» وسواها. ونشر قصصه ومقالاته ومقابلاته. كما عاش في لندن فترة في أثناء الحرب اللبنانية.

 تزوج ياسين رفاعية من الشاعرة أمل جرّاح التي توفيت عام 2004 بمرض القلب، ولكنها بقيت حيّة في مخيلته يخاطبها ويناجيها ويتحدث عنها باستمرار. 
 لا أعرف كاتباً كياسين رفاعية استوحى زوجته في رواياته، وكتب عنها قبل وفاتها وبعدها في ثلاث روايات، هي «رأس بيروت» الصادرة سنة 1992، و«وميض البرق» الصادرة سنة 2003، و«الحياة عندما تصبح وهماً» الصادرة سنة 2006 بعد رحيل زوجته التي يسميها «أمنية».

«رأس بيروت»
في روايته «رأس بيروت» يقول (ص 15):
 «عدت إلى بيتي، غسلت وجهي، حلقت، وكانت زوجتي (أي أمل أو أمنية) قد صحت، فصنعت لي فنجان قهوة حملته إلى الشرفة، وجلست بين أصُص المزروعات التي برعت في تنويعها، وظلت تخاف عليها من القصف أكثر من خوفها على كتبي وأوراقي وأثاث المنزل».
 واضح مما يقوله عنها أنها امرأة تهتم بزوجها وتهتم كذلك بزراعة الأزهار وتعتني بها باستمرار.
 ثم يتابع: «كانت شرفة بيتي بسبب عناية زوجتي بها، من أجمل شرفات البيوت المجاورة».
 وفي (ص 24) يتكلّم عن النزول إلى الملجأ عندما يشتدّ القصف، فيقول: «وكانت زوجتي كلّما فعلنا ذلك، تصطحب معها مِحفظة تضمّ الأوراق والهويات وجوازات السفر، بالإضافة إلى ألبومات الصور...». وهنا يظهر حرص الزوجة على صور العائلة والأولاد، خصوصاً لأنها لا تقدّر بثمن. 
 في (ص 179) يذكر لنا حبّه لزوجته، حيث يقول: «كم أحب هذه المرأة الجميلة، لم أعطها حقّها من العناية. لم أكن منتبهاً إلى امرأة عظيمة كانت تعيش معي. 
 في القسم الثالث «الحصار» - أي حصار بيروت من قبل الجيش الإسرائيلي - وفي الفصل الحادي والعشرين تعود صورة أمل جراح إلى الواجهة. هي صورة الأم الخائفة على ولديها من الغارات الإسرائيلية على بيروت، فتحملهما إلى الملجأ هرباً من ذلك، ثم ما تلبث أن تظهر شفقتها على الأولاد من أهوال الحرب فتقول (ص 305): «كم يتعذّب هؤلاء الأولاد. إنهم يرون الهول في الوقت الذي يجب أن يكونوا فيه في أحلى حالاتهم. ماذا سيخبئ لهم المستقبل أكثر وأشدّ شراسة مما يعيشونه الآن؟».
 وهو يخبرنا بأنها كانت تطهو الطعام لعشرات المقاومين أثناء الحرب، ثمَّ خرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان إلى تونس سنة 1982. أمنية تبكي لرحيل أبي الطيب أحد رجال المقاومة، الذي كان من أصدقائهم، بعد أن بكت لمشاهدة جنود الجيش الإسرائيلي يسرحون ويمرحون في محلة رأس بيروت.
 هذه هي رواية «رأس بيروت» للروائي ياسين رفاعية الواقعية، التي تصوّر الحرب الأهلية في لبنان والغزو الإسرائيلي له سنة 1982 بكل ما فيها من رعب وقتل وتنكيل كما عاشها الكاتب، والتي تصور أمل جرّاح امرأة جميلة وزوجة محبة وأماً مثالية تدافع عن المقاومة الفلسطينية وتعتزّ بها.

«وميض البرق»
 تبدأ رواية «وميض البرق» الصادرة عن «دار الخيّال» عام 2003 بمشهد امرأة تقف أمام المرآة، شاهدها الكاتب من غرفته التي تقع مقابل غرفتها، ثم ينتقل إلى وصف منزله الصغير، حيث ساعة الحائط المعطّلة، ويصبح وحيداً بعد أن أغوى كثيرات من النساء... يقتل الوقت بالقراءة أو بالاستماع إلى الموسيقى والأخبار من الراديو، ثم يحلم بأنه مات وانتقل إلى عالم آخر! إنه يحترق... هل هي نار جهنم التي حدّثت عنها الأديان؟! فكأنه تقمّص ظلّه أو شِقّه فهو مازال على قيد الحياة، والذي مات ما هو سوى شِقّه الشيطاني. 
 يستعرض الناس الذين يسكنون بجواره. المرأة صاحبة الدكان. الرجل الذي يبيع الغاز. ثم يتذكر أصدقاءه الذين ماتوا ولم يعد بالإمكان أن يجد مثلهم، لذلك آثر أن يمكث في منزله وحيداً يتحاور مع نفسه، ومع خياله. هذه العزلة التي تُدنيه من ذاته ومن أعماق نفسه، هي تحليل للنفس وتعرية لها. وهو في صراع مع الزمن الذي يسحقنا ويفنينا ويبقى هو من دون أن يشيخ!
 في هذه الرواية يستعجل وفاة زوجته المريضة، فكأنه يرثيها قبل أن تموت. هذا ما قالته له عندما قرأت الرواية قبل وفاتها.
 يقول (ص 26-27): «ما أصعب أن يفقد المرء الزوجة التي اعتاد عليها. اعتاد أن ينام معها في فراش واحد، أن يُحبِّها، وأن يأكل ويشرب معها، ويسافر معها إلى بلدان قريبة وبعيدة، يشرب قهوته معها على الشرفة التي زيّنتها بيديها، ملتصقاً بها لا يكاد يتركها، ثمّ فجأة تنخطف من حياته كأنها لم تكن».
 ثم يأخذ في وصف رتابة الحياة بعد وفاة زوجته. يتذكّر رائحتها ونَفَسَها وتشابك حياتيهما العاطفية والحسيّة... فيسمو الكاتب في حديثه عن حبّه لزوجته/ حبيبته التي يشبّهها بالممثلة الأمريكية كيم نوفاك. يتكلّم عن جسدها ولون بشرتها ورائحة طيبها، عن حبّها للزهور، وعن الجوّ الذي تَخلقه الزوجة في البيت، وكيف أنها متفهّمة لا تسأله أين كان ومع من كان إذا تأخّر في العودة إلى المنزل! هذا الكلام الراقي عن الحبّ بين الرجل وزوجته.
 هذه الرواية ذات صوت واحد هو صوت الكاتب... هي مونولوج مع الذات... هي حديث النفس.
 في (ص 133) يصف لنا شعوره عندما أدخلت زوجته إلى غرفة العمليات في مستشفى بلندن لإجراء عملية في القلب، فيقول: «جاءوا بملابسهم البيضاء، حقنوها بالمخدّر، عيناها عالقتان بي، انكمش وجهي كأن قبضة قوية تهصره هصراً شديداً، ابتسمتْ بتردد، أشارت بعينيها أن أقترب فاقتربت، انحنيت نحوها، فرفعت يدها ببطء شديد وراحت تمسّد لي وجهي...».
 في رواية «وميض البرق» يغوص ياسين رفاعية في الواقعية. يصوّر أحداثاً ومشاهد وشخصيات عرفها، ويسجّل لنا ما يجول في فكره، متوقّفاً أحياناً عند أدق التفاصيل... يتماهى الكاتب مع ما في المنزل من أمتعة وأدوات وأجهزة لكثرة ما أطال البقاء معها حتى ألفها فباتت تواسيه في وحدته وتشاركه همومه. فكأن البيت بات يسكن فيه كما يسكنه هو!
 يصوّر رفاعية في روايته هذه وضعه المضطرب المتضعضع لهول ما أصابه بسبب «موت» زوجته التي أحبّ ويكرر أشياء سبق له أن ذكرها، ذلك لأن الرواية ارتدادية، أي إن الذاكرة لا تستطيع أن تذهب إلى المستقبل الذي يختبئ وراء حجاب الغيب. هذا مجاله المخيلة. الحياة مجرّد حلم، إنها وميض برق لا تلبث أن تنتهي، هذا ما يخلص إليه.
 في «وميض البرق» يغرف رفاعية من الذاكرة. وهي أقرب إلى السيرة الذاتية منها إلى الرواية، هي قصّة حب، هي صراع بين الحياة والموت، بين الموت والحياة، كل شيء في المنزل يذكّره بزوجته بعد وفاتها التي استبقها قبل أن تحصل! ولشدّة تمسّكه بالواقع يمزج بين الحقيقة والخيال، ليجعل القارئ أكثر تحفزاً وأكثر شغفاً وليبقى مشدوداً بِسردٍ طفولي متخيّل ساذج وآسر لا ينتهي. 
 يصوّر ياسين رفاعية مأساة زوجته التي أقعدها مرض القلب وألزمها إجراء عدد من العمليات الجراحية في أشهر المستشفيات العالمية والذي أدّى في النهاية إلى رحيلها تاركة إياه يعاني الأمرّين من فقدها وخسارته لها، متابعاً رحلة العذاب.
 وهو في روايته هذه، التي من دون فصول أو مقاطع، يروي من مَعين تجاربه ويسكب من دم قلبه وينقل الواقع بدقة ولباقة ويصوّر القلق والموت ويركّز على التخيّل ودمج الواقعي بالمتخيّل... هي رواية حبّ بامتياز.

«الحياة عندما تصبح وهماً»
 يقول رفاعية في مقابلة معه نشرت في ملحق جريدة «الثورة» السورية في 3/7/2007 عن هذه الرواية:
 «في مراقبة أنفسنا جيداً، وخلال فترة الوعي التي تبدأ بالشباب الأول، ننتبه في المحصلة النهائية إلى أن الحياة مجرد حلم، وكابوس، بل وكوابيس، نعيش الحياة، من دون أن ننتبه إلى ذلك إلا متأخرين مع الأسف... نعيشها زيفاً وبهرجة ولصوصية وتكديس الأموال والخيانات الكبرى، ثم في اللحظة الأخيرة نكتشف كل هذا الخلل، ولكن بعد فوات الأوان وعدم الحصول على وقت لتصحيحه والبدء من جديد... ليس لنا في هذه الحياة إلا فرصة واحدة لا تتكرر، وإلا كنا أعدنا النظر بكل ما مرّ بنا واستبدلنا الأساليب المعوجّة كي تكون الحياة أكثر صفاء وأكثر براءة. «الحياة عندما تصبح وهماً» هي الصحوة الأخيرة على واقع لم نكن نتلمسه جيداً، وعلى وقائع غالباً ما نهرب منها لأنها لا تناسب هوانا وأحلامنا وطموحاتنا، وإذا قيل عن هذه الرواية إنها شبه سيرة ذاتية للأيام الأخيرة لرحيل الشاعرة «زوجتي» أمل جراح، فإنما كانت في المحصلة للتطهير النفسي من كل إسقاطات الماضي، حيث في النهاية لا يصح إلا الصحيح. والصحيح هو الموت الذي يوقظ بنا هذا الوهم الذي عشناه، وكأنه ثوانٍ عابرة في هذه السنين الطويلة...».
 كتب ياسين رفاعية هذه الرواية بعد وفاة زوجته أمل جرّاح في 6/2/2004، ونشرها في سنة 2006. هي حوار مع الموت الذي يخلّف الحزن العميق لدى مَن فقد قريبه أو حبيبه، وعلى الرغم من أنه متوقّع ومنتظر فهو يدهمنا ويصعقنا. الإنسان لا ينسى فَقْد حبيب أو قريب ولكنه يعتاد مع الزمن.
 ياسين يتمثّل قول المتنبي الذي يقول: «فَزِعْتُ بآمالي إلى الكذبِ»، أي إنه لم يصدّق أن أمل قد ماتت برغم أنه بيديه غسل جثمانها وأنزلها في التراب. فهو يتخيّلهاعلى قيد الحياة تحاوره وتجالسه ويظهر طيفها أمامه.
 لماذا لا يموت الموت؟! هو الوحيد الذي يستقوي على الموت! في هذه الرواية التي تتألّف من ستة عشر فصلاً يتحدّث عن وفاة زوجته التي فقدها، بعد أن كان في روايته «وميض البرق» قد استبق رحيلها. ويسترجع ماضيه معها منذ أن تزوجها وعرف أن قلبها معطوب فبدأت معه رحلة العذاب. ويحدثنا عن حبّها لولديها ولأسرتها ويصفها لنا جميلة تعتني بجمالها. وهو متيّم بها وقد وجد فيها ضالته، إذ إنها أحاطته بالحنان والحبّ ولكن مرض قلبها كان ينغصّ عليهما حياتهما.
 وهو يعترف بفضلها عليه لأنها تحملت نزواته. ويشعر بالندم وبالعرفان، لأنها صبرت عليه وكانت رحومة به وتعتني به وتدلِّلُه وقد تخلّت عن رغبة شقيقها في أن تتزوّج من مدير الشركة التي يعمل فيها والذي يكبرها بعشرين سنة وفضّلت الزواج من ياسين، الذي يكبرها باثنتي عشرة سنة، هو يغار عليها، ولكنه لا يسمح لها بما يسمح لنفسه. كانت شجاعة ولكن قلبها الذي أجرت له أربع عمليات جراحية قد خذلها.
 نصل إلى الفصل السادس عشر، فإذا بسياق الرواية يتغيّر. الواقعية التي سادت في الفصول السابقة والتي وصفها الكاتب بدقة تحوّلت إلى خيال. يتخيّل أنه أمضى الليل في المقبرة، حيث أشباح الموتى تنتشر في الليل ويؤمن أن زوجته لم تمت، وأنها كانت تغفو وأنها ستفتح عينيها وتسأل ماذا حدث لها. إنها ستعود إلى الحياة. بعد رحيلها اختلطت عليه الأشياء وبات يألف الهذيان. الحياة مجرّد وهم كبير. يتخيل أنه انعتق من جسده وبات مجرّد روح، بحيث يستطيع أن يراها ترفل بهالة من النور. إنها هي... بعباءتها الزرقاء الطويلة، تسحبها على الأرض كذيل الطاووس، إنها هي في عزّ صباها، جميلة، تتهادى كأنها لا تمشي على شيء.
 قلائل هم الكتّاب أو الشعراء الذين يستوحون أو يذكرون زوجاتهم فيما يكتبون أو ينظمون. وإني لا أعرف أديبة استوحت أو ذكرت زوجها فيما كتبت. لعلّ ياسين رفاعية من الروائيين القلائل الذين كتبوا صراحة عن زوجاتهم في رواياتهم، فقد كتب عن زوجته في ثلاث من رواياته كما أسلفنا. وذلك عائد إلى حبّه لزوجته الشاعرة ذات الروح الحساسة وإلى العذابات التي عانت منها بسبب ضعف قلبها فماتت وتركته وحيداً ولكن الكاتب خلّدها في رواياته.
 هذه هي صورة أمل جرّاح في روايات ياسين رفاعية الثلاث: امرأة شاعرة جميلة حنونة محبة شفافة متفهّمة وطنية مؤمنة بقدرها، وفوق ذلك أنيقة تعتني بجمالها وزينتها، وهي لم تشأ أن تواجه وجه ربّها إلاّ وهي في أجمل زينتها.
 أمل جرّاح كانت ولاتزال حيّة في وجدان زوجها ياسين رفاعية ولم تمت. يخاطبها ويناجيها ويعيش على ذكراها. صورها بأحجامها الكبيرة وألوانها تملأ المنزل وكرسيّها الذي كانت تجلس عليه مازال مكانه ينتظر عودتها.
 لقد ارتاح رفاعية أخيراً بعد أن جمعه اللحد بزوجته وحلّ مكان البيت الذي جمعهما في الحياة.
 وهو بفضل ما ترك من نتاج أدبيّ، برغم غيابه يظل حاضراً ■