«الإسلاموفوبيا» المخاوف الجديدة من الإسلام في فرنسا
هذا الكتاب جاء متأخراً جداً، وخيراً أنه جاء. وكقارئ وكاتب تعود بي الذكرى إلى خمسينيات القرن الماضي، وما ظهر حينذاك من كتب عربية ومترجمة لمستشرقين كبار تعيد النظر في موقع الإسلام وفكره وعقائده في عصرٍ شديد الاضطراب بعد الحربين العالميتين وانهيار الإمبراطورية العثمانية التي تدثّرت وتحصنّت بالإسلام، وترك انهيارها فراغاً استجرَّ قوى وأفكاراً وعوامل تحت عنوان «الحداثة» و«العصرنة»، أفضت إلى مشاعيّة سياسية وفكرية واجتماعية لم تنضبط أمورها في أنساق حضارية ومعرفية منتجة حتى يومنا هذا.
لا يتسع المجال هنا لذكر عشرات عناوين الكتب التي تناولت الإسلام في أواسط القرن الماضي، وأكتفي بذكر بعض الأسماء من عرب وأجانب على سبيل المثال لا الحصر، هم: محمد أسد (ليوبولد فايس)، خالد محمد خالد، المودودي، مالك بن نبي، الندوي، الأخوان سيد ومحمد قطب، غارودي، رودنسون، مصطفى السباعي.
بين يدي الكتاب
الطبعة الأولى صدرت في الرياض عام 2009 في سلسلة الكتب المترجمة التي تتولاها االمجلة العربيةب السعودية للكاتب الفرنسي فنسان جيسير Vincent Geisser وللمترجمين د. محمد الغامدي ود. قسم آدم بله بمدخل من أربع صفحات للمترجمين، ومقدمة وافية للمؤلف تنبسط على 34 صفحة من أصل 192 صفحة متوسطة القطع تشكل متن الكتاب، الذي يتوزع على أربعة أبواب، وخاتمة وملحق، سنمر عليها تِباعاً.
مقدمة المؤلف
يبدأ الكاتب رحلته بالاعتراف الجلي والصريح بوجود موجة كراهية للإسلام في أوربا عموماً، وفي فرنسا خصوصاً، تتداخل فيها عوامل عاطفية وعنصرية تمثلت برصد اخمسة عشر اعتداء على أماكن عبادة إسلامية، ص 18ب في فرنسا خلال سنتين. وفي خلفية هذه الكراهية تكمن ضغائن تاريخية تبقى ظلالها في الذاكرة منذ أن خرجت فرنسا مطرودة من الجزائر، وتهيّؤات عن صعوبة اندماج الأجانب المسلمين بالمجتمع الفرنسي ونفورهم من التسليم بقيم الجمهورية. وتضغط الانتخابات باتجاه استقطاب الأصوات أو اللعب بمقدراتها وتوجهاتها عبر استخدام قضية الإسلام وتجييش الرأي العام لقبول المسلمين أو إحداث القطيعة معهم.
الباب الأول
تحت عناوين فرعية مختلفة، يستقصي الكاتب أحداثاً ووقائع وسجالات (المحجبات، التفجيرات، اللحى، جنوح فتيان الضواحي) استدعت شعوراً عاماً في فرنسا معادياً للإسلام، الذي يشكل الديانة الثانية فيها من حيث العدد. ويلقي الكاتب الضوء على االماكينة الإعلامية لصناعة الصور النمطية السالبة الجاهزة عن الإسلام، ص39، التي دارت بكل طاقتها في صبيحة أحداث 11 سبتمبر، وعلى فعل الشيطنة dibolisation الإعلامية للمسلمين. وترتكز الماكينة على مقالات واستطلاعات ومقابلات وأبحاث وكتب موجهة للرأي العام، ويغيب عن هدفها الفهم البنيوي للفكر الإسلامي، ويغلب عليها إما التبجيل المفرط وإما الذم اللاذع، ويذهب الهدف إلى الاتهام المجاني للشرق الإسلامي، مع ابتعاد مقصود عن النقد الموضوعي المحايد والرصين، وهكذا يصبح الرأي العام الفرنسي لقمة سائغة في فم المصالح والمآرب المشبوهة.
في سياق اشتغال هذه الماكينة الشريرة، يتم التضليل والتشويه المتعمد لجميع جوانب السمات الاجتماعية للمسلمين المغاربة، الذين يعملون في نقابات تتحرك سياسياً بمفاتيح خفية، ويتم بقصد إهمال شروط حياتهم المعيشية وظروف تعليمهم القاسية، وهكذا يُحشرون في زوايا حياتية صعبة وقاهرة، ولذا يَسْهل على دعاة التطرُّف والأصولية اصطيادهم والزجّ بهم في مواجهات غير محسوبة، ويجعلون من المساجد منصات وأمكنة لتعميق عزلتهم عن مجتمعهم الفرنسي العلماني الليبرالي المفتوح. وتتفاقم المعضلة بانقسام الفرنسيين أنفسهم إلى يساري ويميني ومحافظ، واختلاف نظرة كل منهم إلى الأقلية المسلمة، ما يخلق حالة هوس ورعب من االشكل الإسلامي للفاشيةب،
(ص 60)، ورُهاب حقيقي من مشروع أسلمة فرنسا. وفي أتون هذا الغليان والاضطراب وقصور الرؤية والآثام المُضمرة والنوايا والغرائز الرعناء، تبدو حقيقة الإسلام منزوية ومهانة كأنها وصمة غير قابلة للصفح.
الباب الثاني
يتناول الكاتب في هذا الباب دور خبراء الخوف الجدد، ودور المتخصصين الاستراتيجيين والجيوبوليتيكيين والخبراء الأمنيين، وكتاباتهم وإطلالاتهم الإعلامية، وما تنشره دور النشر من كتب ودراسات، يخرج بعضها من أقبية أجهزة الاستخبارات وجماعات الضغط السياسي، لتغدو ظاهرة االإسلاموفوبياب متشابكة وغامضة ومعقدة، وألعوبة بيد المتحكمين بمفاتيح الإعلام والأحزاب والتجمعات السياسية وأغراضها المتضاربة، وبذلك يتحول الإسلام والخوف منه إلى كرة تتقاذفها حتى الأسماء المُستعارة (نشر أحدهم كتاباً بعنوان الماذا أنا لستُ مُسلماً؟ب لمؤلف يسمّي نفسه اابن الورّاقب، ص93). ويذهب الشطط بالكاتب رينيه مارشاند عام 2002 إلى إطلاق دعوة صارخة لحلٍ جذري لما يسميه االمسألة الإسلاميةب، يتلخص في طرد كل المسلمين لبلدانهم الأصلية (ص 95). ويهبط التحليل السياسي عند أحد مقدمي البرامج الحوارية التلفزيونية إلى تخيُّل مؤامرة يحيكها الأمريكيون والإسلامويون ضد أوربا الموحدة (ص99) والتحضير لمذبحة كونية (ص113). ويصل الكاتب إلى قناعة مفادها أن التفكير العام والسطحي لفئة الخبراء غير المتخصصين في حقل الدراسات الإسلامية المعمقة هو الذي همَّش التفكير العميق والرشيد (ص 102).
الباب الثالث
المحور الثالث في الكتاب يأخذ طابعاً فكرياً وثقافياً وسجالاً حول صراع محتمل في فرنسا ضد المسلمين يأخذ شكل المعاداة الجديدة للسامية، أو شكل الصراع الذي تحدث عنه المفكر هنتنجتون، قائلاً: اإن معاداة السامية الموجهة نحو العرب قد حلت بقدر كبير في أوربا محل تلك التي كانت مصوبة نحو اليهود، ص122ب. وتحت هذا العنوان يرصد المؤلف مجموعة واسعة من الكتب والمقالات والدراسات التي تحفر وتنقب عن جذر هذه المعضلة، هل هو لاهوتي أو عرقي أو اجتماعي أو سياسي، أم إن هذا الجذر وهمي وناشئ من المقابلة بين امن يحسنون التفكير ومن يجيدون الخطاب، ص126ب، بهدف رسم الخطوط الفارقة لنظام أخلاقي يتحصَّن وراءه المجتمع الفرنسي، أو إنه يسار ويمين وعلمانية ودين وعولمة أو أسلمة؟
ويتناول المؤلف قضايا شائكة لا يخرج منها بطائل، أهمها على الإطلاق دور المثقفين والصحفيين والإعلاميين اليهود في صب الزيت على النار، وتصوير اليهود الفرنسيين كضحايا لإرهاب المسلمين، ويستشهد بمقولة ش. تريجانو Shmuel Trigano االمحرقة لا تثار من الآن فصاعداً إلا من أجل قضية العرب - المسلمين المُستَعمِرين، ص133ب.
إن التشكيك بفرنسيّة ذوي الثقافة الإسلامية، والخوف من بلقنة فرنسا، ووصف شباب الضواحي من المغاربة بالنازيين الجُدُد، والهَوَس بتهيّؤات تآمرية إسلامية ضد الغرب، كلها أوهام تخفي الخبث الشديد الذي يُضمره أهل المصالح والمآرب في السياسة ومشاريعها المتداخلة.
الباب الرابع
في هذه المساحة من الجدل والمواجهات والتناقضات، يولد السؤال المهم والخطير: أين يقف المسلمون الفرنسيون من النُخَب ومن الناس العاديين في هذا المخاض الصعب؟
مؤلف الكتاب فنسان جيسير يوزع أفراد هذه الشريحة إلى ليبراليين وأصوليين مُلتحين ومعتدلين وخطباء مساجد ومُفتين مرتبطين بالحكومة الجزائرية (ص151)، ولاعبين إعلاميين وحزبيين فاعلين وانتهازيين وشباب الضواحي، ويتوزع اهتمام هؤلاء على برامج ومشاريع، وبعضهم ملكيون أكثر من الملك في تخويف الرأي العام من االإسلامويةب، وبعضهم يدعم التطرف ويغذيه ويحشد لانضواء الشباب المسلم في المجموعات الجهادية.
ويذكر المؤلف عديداً من الأسماء العاملة في هذا المجال، وتقويم نشاط هؤلاء وحضورهم واصطفافاتهم، وعلاقة بعضهم السرية برعاة حكوميين محليين أو خارجيين، وعمل البعض لوضع اليد على ضبط هذه القوة المسلمة المتعاظمة والترويج لفكرة اوضع الإسلام في فرنسا تحت الرعاية، ص 164ب، واقتراح حلول لفرنسا المريضة بداء الإسلاموية والوصول إلى أوضاع أمنية مريحة في الأحياء الشعبية من دون المس بقيم الحرية والديمقراطية.
كلمة أخيرة
الكتاب جيد، وإذا كان قد صدر قبل اندلاع الأحداث - النص الفرنسي صدر في خريف عام 2003 والترجمة العربية صدرت عام 2009 - في أكثر من بلد عربي، وقبل صعود الإسلام الأصولي إلى واجهة الأحداث العالمية، فإنه في كثير من فقراته يتنبأ بموجة عنف إسلاموية متطرفة محتملة ستجتاح فرنسا، الأمر الذي حدث عام 2015.
وأمام التمادي في السلوك والإدارة الذي مارسه تنظيم االقاعدةب ويمارسه اداعشب بشكل أشد عنفاً وضراوة، صار لزاماً على المسلمين أن يعيدوا النظر ويتأملوا ظاهرة تنامي خوف الغرب من الإسلاموية والإسلام والخلط بينهما، ما جعل المرشح الجمهوري الأمريكي لرئاسة بلاده دونالد ترامب يجاهر بالطلب علناً بمنع المسلمين من الدخول إلى أمريكا، وانطلاق دعوات في فرنسا لتجريد المسلمين الفرنسيين من جنسياتهم! المسلمون اليوم في الغرب، وفي كل مكان، أمام معضلة تتفاقم شرورها بمرور السنوات، وستكون ارتداداتها خطيرة جداً على بلادنا ومجتمعاتنا ما لم نسارع إلى وضع ضوابط وحلول للشكل الناشز المتطرف للإسلاموية، الذي يهدد باحتلال روما ولندن وباريس، وفي كتاب فنسان جيسير ما يعين على تلمُّس طبيعة هذه الحلول .