الفنان أحمد صبري... تشكيلي عرفه الغرب قبلنا

الفنان أحمد صبري...  تشكيلي عرفه الغرب قبلنا

وُلد أحمد صبري بالقاهرة في 20/4/1889 وانتقل إلى رحمة الله في 8/3/1955، وبين التاريخين تراث جميل يستحق التأمّل والبحث والتحقيق والدراسة، فشددت الرحال إلى مصر العروبة والتاريخ للوقوف على حقيقة ما كان، ولأنقله بكل أمانة وصدق إلى صفحات مجلة العربي، جسر الثقافة العربية بين كل القراء العرب.


عندما تشرفت بالدخول إلى بيت الفنان التشكيلي المصري العربي الدكتور أحمد صبري رائد البورتريه الأول، شعرت بالهيبة في الشقة الفسيحة العتيقة التي تقع في منطقة الظاهر بـوسط القاهــــرة القديمة، في عمارة كانت ومازالت تحاكي الرقي والجمال، وفي الدور الرابع دخلنا وبرفقـــتنا الفنان الدكتور خالد محمد السماحي، أحد أشهر المتأثرين بالفنان أحمد صبري وصديق العائلة، فكان المهندس أحمد نزار أحمد صـــبري وشقيقه عمر حفيدا الفنان الكبير في استقبالنا.
غمرتني السعادة وأنا أتأمل أعمالاً فنية تجاوز عمرها المائة عام، وبعضها الخمسين عاماً، وأتصفّح المستندات والشهادات والوثائق التي تشهد على تاريخ هذا الفنان الذي عرفه الغرب قبل أن نعرفه نحن العرب، وكان نجماً في سماء الفن التشكيلي. أحمد صبري رائد التأثيرية، وفنان البورتريه الأول قدم لوحة «تأملات» أو «الراهبة»، وهي رائعة فنية قورنت بأعمال فناني عصر النهضة دافنشي ومايكل أنجلو بشهادة أهل الفن ولجان التحكيم في باريس في عام 1929، حيث فازت هذه اللوحة بالميدالية الذهبية والمركز الأول على فناني أوربا وفرنسا بالتحديد، وهم مهد المدارس الفنية الحديثة المتنوعة.
أحمد صبري ذخــــــيرة فـــــنية يسعى الزمن - مع الأسف - إلى طمس تاريخــــــه ومجــــده الفني الذي بمنزلة تاريــــخ وحديث الفـــن الصادق في عالمنا العربي بأسره لا في مصر وحدها.
جلست مع أحفاده نشاهد الأعمال واحداً تلو الآخر، ونستقرئ المستندات، وكلها تقدم الدليل الساطع والواضح على إهمالنا لهذا التاريخ العظيم، كلنا مسؤولون عن ذلك، وواجبنا الحفاظ على كل مفردات حياة هذا النبوغ الفني المميز، ولا أستثني أحداً، الفنان المعاصر الذي يعرف قيمة الفنان أحمد صبري، الكاتب الصحفي، كلية الفنون الجميلة، الأساتذة، وزارات الثقافة في عالمنا العربي، الجمهور، والكل مسؤول عن المحافظة على تاريخ وتراث الفنان أحمد صبري، فأسرته لا حول لها ولا حيلة، فمشاغلها وقدراتها محدودة، ولا لوم عليها.
تعالوا نؤسس للأجيال القادمة متحفاً يكون مدرسة ومرجعاً بصرياً دقيقاً على زمن يحق لنا أن نفخر به.
أحمد صبري مِلك للعرب كلهم، ويحق لنا جميعاً أن نفخر به كفنان شق طريقه وعبّده لمن بعده، عندما لم يجد الفن طريقه إلينا، ونحن من مجلة العربي نناشد تلك العقول أن تسعى إلى الحفاظ على أعمال وتاريخ الفنان الدكتور أحمد صبري.
التأثيرية في أعماله بارزة بوضوح، من خلال عينه الثاقبة في التصوير الواقعي، كما شهدت عليها الأعمال التي رسمها كمصوّر فاقت لمساته قدرات الآلة وأجهزة التصوير.
رسم صبري شيخ الأزهر محمود شلتوت - رحمه الله - حيث جلس أمامه، فأبدع في توثيق صورته للتاريخ بعمامة الأزهر وجبّة المشيخة، موثقاً للعامة أن الرسم كان مباحاً بشهادة أهل العلم والدين.
 صوّر أحمد صبري في كثير من أعماله المرأة كأيقونة جميلة هي الأم والابنة والزوجة، كما صوّر أصدقاءه، وصوّر المصري القديم موثقاً بذلك مفردات ذاك الزمان من لباس وقيافة ونظام اجتماعي، ووصل بين الحضارتين الإسلامية والقبطية بلوحته «الراهبة»، فوجد الغرب بهذا العمل الصدق والبرهان على أن عالمنا العربي يعيش الوسطية وينبذ الحقد والكراهية والتفرقة العنصرية، فوصلت الرسالة عبر هذه اللوحة التي تشتكي الغربة منذ ما يزيد على الخمسين عاماً، حيث هي حبيسة في أحد مرافق الدولة المصرية، محروم منها جمهور ومتحف الفن المعاصر بالقاهرة.
«الراهبة» التي رفض الفنـــان أحمد صبري أن يبيعها لمتحف اللوفر، وفضّل أن تباع في مصر بسعر زهيد لم يتجاوز مائة جنيه، خرجت من مصر منذ ستينيات القرن الماضي إلى متحف في نيويورك، وبقيت هناك إلى يومنا هذا مشتاقة إلى تراب مصر وحضنها.
أحمد صبري كان يعرف قيمة أعماله، فلم يقبل بتركها خارج مصر، وكان دائماً يفضّل أن تبقى أعماله في المتاحف المصرية ولم يرخصها للغير خارج مصر.
كان فناناً يحب وطنه وبني وطنه، فترك لهم تراثاً فنياً صادقاً من اللوحات الفنية، كل واحدة منها مدرسة بذاتها، بل يمكن أن تكون مادة دراسية منفصلة عن بقية الأعمال الأخرى.
له «بالتته» الخاصة وألوانه المميزة بشفافيتها وتناسقها الجميل من حيث التاريخ والتكوين والإحساس، كل تفاصيل أعماله كاملة من حيث التشريح والأبعاد واختيار الزاوية والمنظور العام، فترى عنده مساقط الظل والضوء حقيقية لا خداع فيها، عندما تقف أمام لوحة من لوحاته تشعر بالموديل المرسوم وهو يحاورك أو تحاوره.
أحمد صبري صدق مع نفســه، فجاءت أعماله صادقـــة معبّرة عن نفسها، فلا يستطيع أي ناقد أو متلقٍ أن يخــتلف على روعـــتهــــا وجمالها الفني... وقد استطاع بهـــــذه المجـــــموعة التـــي بحوزة أسرته وأحفاده أن يتـــرك تراثاً يدرّس في كليات الفـــــنون الجمــــيلة فـــي العـــــالم كله وليس في مصر وحـــــدها أو العالم العربي.
فقدت مصر الفنان الرائد أحمد صبري كفنان أدى دوره، وفقده العالم العربي كذلك، فهل نسمح للزمن والعوامل الطبيعية التي تعيشها الأعمال من حرارة ورطوبة وسوء في التخزين يصل إلى درجة الإهمال، بتدميــــر هذه الأعمال العظيمة؟
لقد عشت لحظات من أجــمل لحظات حياتي وأنا أتنقل مع المهنـــدس أحمد نزار صبري، يرافقنا الفنان الدكتور خالد السماحي، بين جنبات محراب الفن الأصيل لفنان مبدع جهلنا قدره وعرفه الآخرون، وخرجت أسأل نفسي: إلى أي جهة أتوجه بالسؤال الذي يشغل فكر وبال كل محبّي الفنون التشكيلية؟ كيف نحافظ على تراث أحمد صبري الفني الذي لو تُرك كما هو الآن ولم ينقل إلى متحف أو مكان مخصص لمثل هذه التركة التي لا تقدّر بثمن،  سوف نفقد ماسة ثمينة من عقد ثمين للتراث التشكيلي العربي، وسوف نحرم الأجيــال من تاريــخ كله جـــمال وإبداع راقِ؟ ■