يسري نصر الله: الخوف من الآخر مفتاح فهم أفلامي السينمائية

يسري نصر الله: الخوف من الآخر  مفتاح فهم أفلامي السينمائية

في فيلمه الجديد « الماء والخضرة والوجه الحسن» خاض المخرج يسري نصرالله تجربة جديدة تضاف إلى تاريخه الفني، وبدا حريصاً على تمييزه عن أول أفلامه «سرقات صيفية»، ثم «مرسيدس»، ومروراً بكل أعماله وبينها ملحمة «باب الشمس»، الذي يعتبر الفيلم العربي الوحيد الذي عرض في شاشات العرض على جزأين بسبب طوله، والمأخوذ عن رواية إلياس خوري بالعنوان نفسه، التي قدم فيها وجهاً آخر للقضية الفلسطينية، هي وجه المواطن البسيط الذي لا يعرف العالم العربي عنه شيئاً. 


 الفيلم الجديد ليسري نصر الله معزوفة عذبة عن مواضع الجمال في الحياة، وضرورة التمسك بها والقبض عليها لآخر نفس، عن التمتع بكل تفاصيله، فحتى والد بطلي الفيلم طباخ ماهر يعتز بتاريخه في مهنته وإن كانت مجرد الطهي في الأفراح، يرى نفسه فناناً يعتز بكرامته. وفي لحظة موته يقتنص آخر ملذات الحياة، بل يوصي أولاده وعائلته كلها بألا يرتدي أحد السواد أو يبكيه، يوصيهم بأن يخرجوا في اليوم السابع من وفاته إلى الحقول، مصطحبين من يحبونهم، ليمرحوا ويأكلوا ويبتهجوا بالحياة. وبالفعل جاء الوجه الحسن دعوة بسيطة من دون تعقيدات تنظيرية حول الحياة والكرامة والتمسك بكلتيهما. «العربي» التقت المخرج الكبير، وكان هذا الحوار.
< في اللقطات الأولى من فيلمك الأخير «الماء والخضرة والوجه الحسن» ربما يتسلل إحساس لدى مشاهده بأنه يشهد فصلاً جديداً من حكاية الطفلين الصديقين ياسر وليل بعد ما يناهز نصف القرن، فما التحولات التاريخية التي انعكست ظلالها على حكاية ياسر وليل؟
- المتتبع لكل أفلامي يجد أنها فصول مختلفة من علاقة «ياسر وليل»، وهي فكرة العلاقة بين طبقتين، وهو ما نجده في العلاقة ما بين عفيفة ونوبي في «مرسيدس»، بين علي ونادية في «المدينة»، وبين علاقته بفرنسا وعودته، دائما هناك الشخص المختلف عن الآخرين، وفي «باب الشمس» حدثي ولا حرج عن فكرة الهجرة الداخلية، بمعنى آخر أن تكون في الخارج لكنك تجد الصلة لداخلك مرة أخرى. في كل أفلامي هناك فكرة إيجاد طريقة ما للعثور على طريقة للحياة المنفتحة على الآخر. بهذا المعنى يتماهى فيلم «الماء والخضرة والوجه الحسن» مع «سرقات صيفية». 
< هل هذا الخط كان مقصوداً منذ بداية عملك السينمائي؟
- ليس بالضبط، إنما كنت مهموماً بفكرة الانغلاق، وأن الآخر يمثل خوفاً وأنه عدو وشيء غامض نخاف الاقتراب منه، بل ويمثل مصدر رعب لنا. وكل هذه الأمور متنافية تماماً مع تكويني، فقد تربيت ونشأت في عائلة برجوازية كبيرة، وبداخل مدرسة ألمانية، وبالتالي كانت أول تجربة حياتية لي هي الحركة الطلابية في الجامعة، وكانت عبارة عن مقابلة بشر وأشخاص لأول مرة في حياتي لم ألتق مثلهم من قبل. ناس قادمون من الصعيد ومن الريف أو من الأحياء الشعبية، وتقوم بيني وبينهم صداقات عميقة. وكان من بين الأشياء الساذجة التي يصطدم بها المرء تلك الأقوال الجاهزة التي أواجه بها من نوعية أنك مؤمن بالاشتراكية لأنك «ابن ناس» وهؤلاء طماعون. أو أن الفقير لا يعرفك إلا لأن له مصلحة معك. ولا يعرفون أن هذا صحي جداً، فالفقير هو من سيغير الأحوال إلى الأفضل. وبمعنى آخر أن العقلية متخوفة دائماً من المختلف عنها سواء في الديانة أو اللون أو الجنس أو الطبقة أو التفضيلات الجنسية والعاطفية الخاصة به. هذه النماذج والعقليات دائماً موجودة في كل أفلامي.
< هل تعتقد أن هاجس التخوف من الآخر هو نتاج الجهل به؟
- لا أعتقد أنه ناتج من الجهل بالآخر، بل هو خوف ناتج من نظام تعليمي واجتماعي، عن طريقة تفكير تبني وتدعم هذا الجهل بالآخر، وتشجع على النظر للآخر نظرة تشكك. ليس فقط بين المسلم والمسيحي بالمناسبة، فمثلا ستجدين حتى أن ممارساتنا مع نموذج المواطن النوبي تمثل عنصرية حقيقية تشبه علاقة المسلمين بالأقباط، فالنظام التعليمي أنتج تركيبة تخاف من الآخر وتتشكك فيه، بينما الحقيقة أن تحقيق المعرفة بالآخر عملية يمكن أن تكون شديدة السهولة عن طريق التعليم. فعلينا ببساطة أن نعلم الأولاد التاريخ القبطي، كما نعلمهم التاريخ الإسلامي، وأن يتم التعريف بآيات من الإنجيل، مما يفتح باباً لمعرفة الآخر للجميع. وبمناسبة هذا الموضوع، فأنا شاركت في مؤتمر عقد في لندن عام 2006 بمناسبة مرور خمسين عاما على حرب 1956،  وتحدث فيه عديد من المثقفين الكبار في العالم، وتحدثت أنا عن السينما، لكن ما لفت نظري أن كل الدول وكل الأطراف المشاركة في المؤتمر كانت قد نشرت الوثائق الخاصة بتلك الحرب إلا مصر... لماذا؟ لأنها تعتبر أن الاطلاع على تلك الوثائق قضية أمن قومي، وإذا أراد أحد الاطلاع على إحدى الوثائق في دار المحفوظات، فعليه أن يمر بعشرين جهة لأخذ تصريح أمني منها للسماح بذلك، بينما هذا الأمر متاح لجميع الناس في كل الدول حول العالم. هنا عزل للناس عن المعرفة مما يتيح كتابة التاريخ كما ترغبه السلطة إلى جانب خلق حالة التشكك في الآخر وحيلة «فرق تسد». 
< كيف تحولت فكرة «الماء والخضرة والوجه الحسن» لباسم سمرة إلى سيناريو مشترك بين يسري نصر الله وأحمد عبدالله حتى خرجت الصورة المبهجة هذه على الشاشة الزرقاء؟
- كنت قد سافرت إلى مدينة «بلقاس»، في محافظة الدقهلية مع باسم سمرة لتصوير فيلم تسجيلي عن باسم، وفي حقيقة الأمر كان الموضوع في الأساس عن الحجاب، وعن إشكالية وجود الحب داخل مجتمع محافظ ومنغلق، وهو موضوع كان يشغلني خلال ذلك الوقت. وهناك التقيت بعائلة باسم وجميعهم يعملون في مجال الطهي. 
يستعينون بهم في إقامة ولائم الأفراح. انبهرت بطبيعة حياتهم، وحريتهم وكيف أنهم ينتقلون من فرح إلى آخر، فخورين جدا بمهنتهم. ومما شاهدته بنفسي هناك، وما حكاه لي باسم كتبنا الفيلم. بعدها بدأنا في تتبع أصل العائلة عن الوالد الذي كان يعمل طاهيا لدى الباشا. في تلك الفترة كنت أعمل مع  ناصر عبد الرحمن، فقام بتوجيه السيناريو باتجاه السياسة، وجعل من شخصية فريد أبو رية عضو مجلس نواب فاسداً، وجلال يدخل السجن وتقوم ثورة فيه. لم أحب هذا الشكل لأنها ليست حدوتة، حكايتي التي تخصني ليست السياسة ولا الكلاشيه المكرر عن النائب الفاسد، بل هي العلاقة بالحياة والأكل والحب وبهذه الحسية،  ولم أكن راغباً في التشويش عليها، لذا فقد استغرق مني الفيلم وقتاً طويلاً حتى استطعت أن أبلوره في الشكل الذي خرج به أخيراً. بالمناسبة أنا أعشق الطهي وفي الوقت الذي لا أصنع فيه الأفلام أطهو، لذا أعرف جيداً ما أتحدث عنه في فيلم «الماء والخضرة والوجه الحسن» وهي أشياء ليست بعيدة عني. 
< «الماء والخضرة والوجه الحسن» اللقاء الفني السادس لك مع باسم سمرة بعد أفلام «مرسيدس»، «المدينة»، «باب الشمس - العودة والرحيل»، «جنينة الأسماك»، و«بعد الموقعة». لماذا باسم سمرة؟ وهل هناك أسباب ما تجمع المخرج مع ممثل معين يعرف تلازمهما  كتجارب عاطف الطيب مع نور الشريف على سبيل المثال؟
- من المهم أن يكون مع المخرج ممثل يشعر بأنه يستطيع أن يحكي أشياء مهمة من خلاله. وبرأيي أن باسم سمرة ممثل كبير ومهم ومن أفضل الممثلين في مصر. وفي فيلم «احكي يا شهرزاد» أراد باسم بشدة أن يلعب الدور الذي كان من نصيب محمد رمضان، لكنه لم يكن يصلح لهذا الدور، لأن الدور كان يتطلب ممثلاً صاحب بنيان غير قوي. وباسم على عكس ذلك صاحب بناء جسدي، لن يكون مقنعاً أنه تعرض لاعتداء من ثلاث فتيات كما حدث في الفيلم.
اللطيف أن باسم عرض أن يقوم هو بدور البنت الكبيرة رحاب الجمل، ولم يكن يمزح نهائيا. فبالنسبة له هو يأخذ موضوع الأداء الفني بجدية شديدة جدا، التمثيل تمثيل، وهو مستعد أن يقوم بأي دور. باسم يعشق التمثيل، ويستطيع التقاط تفاصيل في الشخصيات دائما ما تثري الفيلم. وبصراحة شديدة لم يسبق له أبداً أن خذلني في هذه الجزئية أبداً في أي فيلم عمل به معي. فهو يتقمص الدور ويعيش الحالة، فإذا ارتدى جلباباً فسيظهر كـ «معلم»، أو نظارة في جنينة الأسماك فسيظهر كمهندس. 
بالنسبة لي أنا أعشق الملامح المصرية، بجانب أنني أحب ملامح بطلي، لكي أصوره، لأنه يشبه ملامحي، لذا لا أتردد في اختيار باسم حتى لو اعترض المنتجون لأنني أضع وجوده شرطاً لإنجاز الفيلم في مثل تلك الحالات.  معرفتي بباسم ترجع إلى عام 1991 أثناء أدائه التجريبي مع يوسف شاهين، ولاحظت أنه رائع شكلاً وأداءً، اشتغل على نفسه جيداً، وطوال الوقت يطور من نفسه منذ أول عمل له في مشاريع التخرج وهو في معهد التمثيل كطالب حر.    
< حدثنا عن تجربتك في السينما العربية «باب الشمس»... ولماذا لم تكررها؟
- البطل في «باب الشمس» مقاتل قوي، لا تشعرين تجاهه بالشفقة على حاله، وبعد عرض الفيلم سألني كثيرون كيف تخرج فيلما عن القضية الفلسطينية وأنت بعيد عن التفاصيل؟ أو لأن إخراج فيلم بهذا الشكل به نوع من المباشرة والاستخدام الفني للسياسة.  فأجبتهم بأنه ليس عن فلسطين أو قضيتها، إنما عن الفلسطينيين كبشر،  فيلم عن عاشق، وبطولة الفيلم لا تقوم على أن البطل مقاوم ومقاتل، بل لأنه عاشق في الأساس.  وبطولته لرجل ليس لطبيعة القضية وأنه مقاتل بل لأنه عاشق. وبعض أوجه الاستنكار كانت أيضا تعود لاعتقاد وزعم البعض بأن الفلسطينيين باعوا قضيتهم فلماذا نتبناها؟  
لكن حين نتأمل الأمور بالعقل، هل كل الشعب الفلسطيني يملك أراضي؟! أليس مثلهم كمثل كل الشعوب، فيهم من يمتلك ومن يشتغل مثله مثل أي شخص آخر لا يملك شيئاً؟! وعندما نناقش الأمر علينا أن نتساءل ما الذي دفع من باع أرضه لهذا الفعل، سنجد أنهم أجبروا على هذا، لأن البنك الوحيد الذي كان موجودا آنذاك هو بنك التسليف الإنجليزي في عشرينيات القرن الماضي في فلسطين، حيث كان ممنوعا أن ينشئ العرب بنوكا في المنطقة، بينما كان هذا الحق متاحاً لليهود، فأنشأوا بنوكا للإقراض من دون فوائد، وعندما يكون هناك فلسطيني يملك قطعة أرض صغيرة ويجد نفسه مديوناً للبنك اليهودي الذي يجبره على بيع هذه الأرض لتسديد ديونه للبنك. ألم يسمع هؤلاء أو يقرأوا في التاريخ أن الوكالة اليهودية وحتى اليوم في القدس تفرض على الفلسطينيين ممن يمتلكون بيوتا كبيرة تسكين اليهود معهم في البيت نفسه، وإذا رفض الفلسطيني هذا تفرض عليه الضرائب الباهظة، وبالتالي يجد الفلسطيني نفسه مدينا بديون لا يستطيع سدادها مما يجبره في النهاية على بيع بيته وأرضه ونزع ملكيته بعقد بيع في حقيقته أجبر عليه وإلا فالبديل هو السجن، فهل هذا يسمى بيعاً؟!
تقديري أن النقاش بهذه الطريقة عقيم، خاصة الإصرار على ذريعة «حماس»، وكأنهم هم من أتوا بها والإسرائيليون ليضربوا بها منظمة التحرير.  تجربة «باب الشمس» كانت وراءها قصة منذ عملي بجريدة السفير اللبنانية، وهناك تعرفت على إلياس خوري، وكان قد أصدر رواية «باب الشمس». وقرأتها ووجدتها رواية عظيمة تمنيت أن أخرجها فيلما سينمائياً. لكن كان السؤال: من سيقدم على إنتاج فيلم كهذا في الداخل أو حتى في الخارج؟ من سيقبل أن ينتج فيلماً عن الفلسطينيين بهذه الطريقة؟ 
وفي عام 2002 قابلت المنتج هامبير بالزان، وأخبرني أن إحدى المؤسسات الفرنسية تريد مني إخراج فيلم عن الفلسطينيين فاندهشت. لماذا أنا وهناك مخرجون فلسطينيون يصنعون هذه الأفلام؟ فأجابني بأنهم يريدونني بالاسم. وظننت أنهم يريدون قصة لطيفة على شاكلة «روميو وجولييت»، فلسطيني مثلاً يحب فتاة يهودية وهذه الأجواء، وأخبرته بأنني أرفض عمل هذا النوع من الموضوعات أو الأفلام. فرد بأنهم لا يريدون هذا إطلاقاً، ويتركون لي حرية اختيار العمل الذي أحبه. وهنا فكرت أن هذه هي فرصتي لتنفيذ أو تحويل «باب الشمس» للسينما.  وبعدها اتصل جابي خوري بممدوح الليثي والتلفزيونات العربية، وكلها بلا استثناء رفضت المشاركة في إنتاج الفيلم. وفي النهاية جاء كل تمويل الفيلم من فرنسا وألمانيا وبلجيكا، وحتى مكتب يوسف شاهين للإنتاج انسحب لأنه كان مشغولا بإنتاج فيلم «إسكندرية ليه». 
ولما خرج «باب الشمس» وعرض في مهرجان «كان» وقابلت هناك ممدوح الليثي, قال إن الفيلم عظيم وكان يجب أن تنتجه الجامعة العربية، رغم أنه رفض المشاركة في إنتاجه بحجة أن شخصياته كثيرة. ثم قامت القيامة على الفيلم بحجة أنه معاد لإسرائيل، ومن خلال موظفين في المهرجان نفسه.
 < كيف ترى حال السينما العربية، وما رأيك في تجاربها خاصة في المغرب العربي (الجزائر وتونس والمغرب)؟
- أعتقد أن تجارب السينما العربية، خصوصاً تلك الموجودة أو التي يتم إنتاجها في المغرب العربي أو شمال إفريقيا، رائعة وغنية جداً. وأعتقد أن أحد أسباب تميز هذه التجارب هو انفتاح صناع السينما في المغرب العربي على تجارب السينما الأوربية، بحكم اطلاعهم الواسع على الثقافة الفرنسية والفرانكوفونية بشكل خاص، مما أثرى تلك التجربة ■