السيلفي وبحــوث السيرة الذاتيــة

السيلفي  وبحــوث   السيرة   الذاتيــة

على الرغم من صعوبة تعريف بحوث السيرة الذاتية، نظراً لوجود منطقة تداخل معقدة بين أشكال ومسميات كالتاريخ الشخصي، وقصة الحياة، والحكي الحر، والدراسات الإثنوجرافية؛ واعتمادها على علوم عديدة كالتاريخ وعلم النفس والعلوم الاجتماعية والشخصيات العامة والموسيقى والأدب والتاريخ الطبي والقانون، كما هي الحال في ما ينشر بمجلة Biography المتخصصة، التي تتمتع بسحر خاص وجاذبية فريدة.

إن بحوث السيرة الذاتية تستثير الفضول وتشد الاهتمام، وتمنح القارئ فرص التمتع بالحكايات وبرؤية عوالم جديدة بعيون العقول والقلوب، فيستمع المرء ويرافق الأشخاص في مغامراتهم ويزور أماكن لا يعرف عنها شيئاً، ويعيش في مجتمعات غريبة عنه، في محاولاته لسبر أغوار هذا الشخص أو ذاك المجتمع؛ فيكتشف أسراراً، ويتعلم من تجارب الآخرين، وربما يضع يده على مفاتيح وطرق للاستجابة المثلى لعقبات وتحديات الذات والمجتمع والعالم بأسره، على أمل أن يجد السبيل لتحقيق نجاح أو سعادة، أو تجنب ما قد يقود إلى تعثره على أقل تقدير. 

اهتمام مضاعف
من الواضح - كما تؤكد الدراسات - أن هذا الاهتمام بالسِّيَر وبحوثها بأنواعها قد تضاعف بصورة كبيرة، حيث أصدر مركز السيرة الذاتية الدولي IBC بكامبريدج وحده مليون سيرة - ويعود الفضل في ذلك إلى متغيرات تطور أدوات التوثيق وحفظ المعلومات غير المسبوقة، ولاسيما تلك المتعلقة بالتكنولوجيا الرقمية، التي ساهمت في تقديم سير نابضة بالحياة أو «سير متحركة» كما يصفها برايان روبرت، في مقال له حول التقدم في طرق بحث السير. ولمزيد من التوضيح ضرب روبرت بعض الأمثلة على التطبيقات التكنولوجية المبدعة المستخدمة في توثيق لحظات وأحداث من الحياة، كاستخدام «السيلفي»، وتكنولوجيا الهواتف والأدوات الشخصية النقالة PMDT، التي تمكن من توفير بيانات مفصلة حول المواقف والنشاط اليومي عبر الكلمات المكتوبة أو المسموعة والصور الثابتة منها والمتحركة، مما يمكن أن يشرح أموراً كتلك المتعلقة بما يعتري مشاعر المرء واتجاهاته وعلاقاته الاجتماعية من تقلب وتغيير، وردود الأفعال المصاحبة لذلك، التي تتضح في تعليقات وملاحظات وتحليلات فورية. أما دوافع استخدام هذه التكنولوجيا فهي متباينة - بطبيعة الحال - كالرغبة في مشاركة التجارب، والتعبير عن الذات، والسعي لإعداد سجل شخصي بمنزلة يوميات؛ وقد يكون الدافع دعائياً، أو لمجرد التفاخر، أو ربما لمقابلة إدمان على تصوير، يصاب به بعض الأشخاص فيعتادون على تصوير أنفسهم عشرات الصور يومياً. والجميل أن كل ذلك يحدث بمتعة وسلاسة ويسر، مقارنة بطرق التوثيق التقليدية الشاقة كتأليف كتاب ورقي.
 لقد استفاد القراء والباحثون من هذا التقدم التكنولوجي من دون شك، فصار مسموحاً للباحث أو المؤلف أن يرى بطل السيرة التي يعمل عليها في صور أرشيفية، أو في مقاطع فيديو، أو يستمع إليه في تسجيلات صوتية. كما يستطيع القارئ للمادة الإلكترونية - على الخط - من الدخول على مواقع أو وثائق مرفقة، أو مشار إليها في الكتاب، بل إن ناشراً إلكترونياً مثل Metabook نجح أخيراً في تجاوز حدود النشر التقليدي بخلق مغامرة قراءة جديدة ومثيرة، تفاعلية ومتعددة الوسائط ومذهلة بصرياً، حيث تصاحب الموسيقى بعض الكتب الأدبية. وكذلك الحال بالنسبة إلى الفنانين الذين تمكنوا من تقديم بحوث سير مرئية ومسموعة عبر أفلام ومعارض وحفلات موسيقية قائمة بذاتها، أو معززة لسير سبقت كتاباتها، ولكنها لم تنجح في الانتشار.
 
في البحث التربوي
لم يختلف الأمر على صعيد البحث التربوي، فقد شهد هو الآخر تزايداً في الاهتمام بمداخل السير - الذاتية/الغيرية - التي انتشرت منذ تسعينيات القرن الماضي، بعد محاولات ساذجة ومحدودة. واعترف باحثون أخيراً بإيجابيات هذه المداخل البحثية، مثل دورها في تدفق المعلومات الصادقة والعفوية التي تجمع عبر مقابلات يشعر المشاركون فيها بالراحة ويتشجعون على الحديث بحرية وصراحة وعمق؛ حتى أصبح هناك مصنف بحثي يركز على منهجيات ومداخل الحكي والسير في البحوث التربوية، كما هي الحال بمركز جامعة برايتون للبحوث التربوية بالمملكة المتحدة، حيث يتم الاستماع لحكايات المعلمين والمتعلمين التي تعرض جوانب من حياتهم لمزيد من الفهم للخبرات والرؤى الكونية. وسبق أن قام المركز المذكور بدراسة واسعة النطاق استُخدمت فيها المقابلات والملاحظات ومدخل تاريخ الحياة لتتبع سير تعلُّم لمدى واسع من البالغين في سياقات ومراحل مختلفة من الحياة. 
وبعد تعميق الفهم لتعقيدات التعلم عبر مراحل الحياة، تم تحديد وتنفيذ وتقويم التعليم وإستراتيجيات التدريس الموجهة في ما يتعلق بالفرص والممارسات. كما أجريت دراسة أخرى استخدمت فيها منهجية الحكي، لإعطاء معنى لعودة الجيل الثاني من المهاجرين إلى أرض الأجداد ومسقط رأس الآباء من أجل بحث قضايا الهوية والانتماء.
وفي مقال نشر بالمجلة الأوربية للبحوث التربوية وتعليم الكبار بعنوان: «بحث السيرة الذاتية: الذاكرة والزمن والحكايات من منظور الشخص الأول»، أكدت المؤلفة ماريا هيلينا أبراهاو في جامعة PUCRS  بالبرازيل، أن سرد قصص الحياة واسترجاع الذكريات وخط الحكي الزمني من العوامل الأساسية في بحث السيرة الذاتية، فتاريخ الحياة بمنزلة المنهجية التي تستخدم مصادر إمبريقية متنوعة تساعد الباحث على إعادة بناء الحكايات في أثناء تحليل تلك المصادر المشار إليها، وذلك عبر حوار نقدي يتناول النتائج. 
كما تعد الذكريات عنصـــــراً مفتاحــــياً وملمحاً ضرورياً من ملامح القص، حيث تجرى عملية جمع الحقائق المخــــتلفة في سياقات قصصية مختلفة ومن تدفق الذكريات - الذي يسمح بظهور الماضي وكأنه حاضر- تبنى المعاني. وعبر هذا الفعل من إعــــادة التفسير المستمرة لحقائق الماضـــــي في الحاضـــــر، ينســـــج القاص والسامع خيوط الحكاية التي تولد من ذاكرة مشتركة. 
ولا يريد الباحث في هذا النوع من دراسة السير أن يعرف الحقائق «في الواقع»، بل كيف كان يفكر القاص فيها في ذلك الوقت؟ وكيف يتذكرها في زمن الحكي؟ ويشير منح المعاني الجديدة للحقائق المروية إلى أن الباحث يحاول القبض على الحقيقة مع الوعي بأمر انتقائية سرد الذكريات، وإعادة بنائها قصداً أو بغير قصد، حيث من الممكن أن يشعر الراوي بقيود جديدة قد تولدت مع تقدمه في العمر وتغير اتجاهاته، مما قد يجبره على الالتزام بمعايير وقيم مرجعية - لم يعرفها من قبل - توجه حديثه. وهنا يضع الباحث في اعتباره وجود أبعاد مختلفة للحكاية، كالبعد الأخلاقي والبعد السياسي، وسوى ذلك؛ ويتبين، بصورة واعية أيضاً، أن الواقع الاجتماعي متعدد الوجوه ومعقد ومبني اجتماعياً من جانب من يعيشون حياتهم بطريقة كلية شاملة ومتداخلة.
وهكذا يعتبر بحث السيرة الذاتية طريقة تحمل إمكانات لمخاطبة أسئلة للفرد والبيئة الاجتماعية / الثقافية، ومرجعية لنظام يتميز بتعددية التوقعات والذكريات كنتيجة بديهية لوجود تعددية العوامل وتعددية الأزمنة الاجتماعية. كما تؤدي العلاقة بين الزمن والحكي إلى أن  ينقب الباحث عن أصول الحكايات التاريخية وعن الرؤى المستقبلية، فيختلط الحاضر بالماضي وبالمستقبل في منظور ثلاثي الأبعاد.
تعليم المعلم
تتناول البحوث التربوية أحياناً سيراً فكرية، تقوم على التحليل المفاهيمي لدوافع ومعتقدات ومشاعر ذاتية في عالم الأفكار، وسيراً ذاتية تعطي أهمية للبعد الزمني. ومن النماذج البحثية في هذا المجال مشروع - لعبت أبراهاو، المؤلفة، فيه دور المنسق - المعني بتعليم المعلم، وبالتوثيق لتاريخ التعليم عبر تجارب شخصية مهنية لستة وثلاثين معلماً ومعلمة من المتميزين والملتزمين مهنياً، ممن خدموا في أماكن مختلفة، في فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال والبرازيل؛ على أمل أن تتحول قصص حياة هؤلاء المعلمين التي جرى تحليلها تحليلاً نقدياً إلى مصدر معلومات مثير للتأمل في مهنة التعليم، ومفيد للمعلمين الطلاب وللباحثين في تعليم المعلم وتاريخ التعليم؛ حيث تقدم المساهمة بالقصص السياقية من جانب المعلمين بأبعادها الشخصية وغير الشخصية على المستوى المهني والاجتماعي والسياسي نوعاً من المقارنة بين الأمس واليوم والغد باستشراف المستقبل؛ على اعتبار أنه لا يمكن فصل الذات الشخصية عن الذات المهنية، ولا الماضي عن الحاضر وعن المستقبل، لاسيما في مهنة مشربة بالقيم والأفكار ■