إحياء الصَّواب المهجور
عزيزي القارئ، أشرت في مقالي بالعدد السابق إلى اهتمام علماء اللغة بخدمة اللغة العربية وقضية الصواب اللغوي، بعد استشراء اللحن في اللغة العربية، وهأنذا أذكر في هذا العدد مثالاً لهؤلاء الأعلام.
ويأتي ذلك كله ضمن مفهوم «عصرنة اللغة»، كي تفي باحتياجات العصر، مع تفعيل الاشتقاق لتؤدي وظيفتها، ويكون ذلك - كما أراه - بإحياء الصواب المهجور، والذي أتناوله في مقالي هذا العدد.
فسأدرس في بحثي هذا أحد أعلام التصحيح اللغوي في العصر الحديث، ألا وهو الأستاذ محمد العدناني، فنتوقف مع خلفيته الثقافية التي هيّأته لهذا العمل العظيم في التصويب اللغوي، لمقاومة اللحن في العصر الحديث، وندرس طريقته في أحد أعماله المشهورة في التصويب اللغوي وهو: معجم الأخطاء الشائعة.. لمحمد العدناني.
أما عن خلفية محمد العدناني الثقافية واللغوية:
فقد وُلد في العام 1903م، في مدينة «جنين» بفلسطين لأسرة من أصل لبناني، وبعد أن أكمل تعليمه قبل الجامعي التحق بكلية الطب ودرس فيها أربع سنوات، ثم غيّر مساره بعد أن قرأ شعرًا وألقاه أمام أمير الشعراء أحمد شوقي الذي طرب لشعره، واستحلفه أن يتحوّل من دراسة الطب إلى دراسة الأدب، ووعده بأن يكون أبًا روحيًا له. واستجاب العدناني لطلب أحمد شوقي، وقطع دراسة الطب وغيّر اسمه من «محمد فريد عبدالله خورشيد» إلى «محمد العدناني» لأنه رأى أن اسم «خورشيد» ليس عربيًا، كما أنه تكنّى بكنية «أبو نزار».
ثم تخرّج في الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1927م، وعمل بعد تخرجه مدرسًا للغة العربية، ولكنه ترك التدريس، وتفرّغ للإنتاج الأدبي في بيروت سنة 1948م. وظل فيها إلى أن وافته المنية في الخامس من أغسطس 1981م.
أما معجمه، الذي طوّف الآفاق ونال شهرة واسعة وهو من أوسع معجمات التصحيح اللغوي في العصر الحديث، وأغزرها مادة؛ وهو «معجم الأخطاء الشائعة» فقد ظهر عام 1973م، بعد أن نشر منه مقالات في مجلة «الأديب» في بيروت، ليشمل المعجم سبعًا وثمانين ومائة وألف مسألة لغوية، وقد وضّح العدناني مجمل الأخطاء الشائعة لديه بأن تلقف كثيرًا من الأخطاء الواردة في هذا المعجم من أفواه الخطباء ومذيعي الراديو والتلفزيون، ومن الصحف والمجلات والكتب (معجم الأخطاء الشائعة، ص5).
وقد انشغل العدناني بمعجمه أعوامًا طويلة، فيقول: «شرعت في التحقيق في المعاجم منذ كنت طالبًا، ثم واصلت التحقيق والبحث كلما دعت الحاجة إلى ذلك..» (ص5).
قضى الأستاذ محمد العدناني نحبه في خدمة اللغة العربية وحاول أن ينفي عنها - ما استطاع - ما يشوبها من اللحن والخطأ، ولكنه لم يقف على القديم فقط، بل فتح باب الاجتهاد النحوي واللغوي. وتؤكد ذلك مقولته الشهيرة: «إنني لا أرى المجد اللغوي أقل قيمة من المجد السياسي للأمة الصاحية حديثًا من سباتها العميق كأمتنا العربية، لذا أنصح لجميع قادتنا أن يوجّهوا اهتمامًا كبيرًا إلى تقوية الفصحى، والإقلال من اللغة العامية في المرئي والمسموع والمقروء والمسارح ودور الخيّالة (السينما)، وضبط معظم الكتب والمجلات بالشكل التام، حتى تصبح صحة اللغة ملكة لدى القرّاء» (ص5).
طريقة العدناني في معجمه
نعني بها فن التنظيم الصحيح لسلسلة أفكاره العديدة من أجل الكشف عن الحقيقة، ومعرفة الطريقة تحتاج إلى التتبع والاستقصاء. وطريقة الباحث هي الموجه في البداية، والحارس في السير والمقوّم في النهاية.
أولاً: إحاطته بالموضوع الذي يعالجه
للعدناني معجمان في التصويب اللغوي، وهما:
1- معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة، 2- معجم الأخطاء الشائعة.
وسأكتفي هنا في هذا العدد بطريقته في معجم الأخطاء الشائعة، ومعرفة طريقته تكشف عن إحاطته بموضوعه واهتمامه بالتحقيق منذ بداية طلبه العلم، وأنه اهتم بالأخطاء التي تلقفها من الأفواه (انظر ص5) وصححها.
وقال أيضًا: «.. وأملي شديد في أن أكون قد أديت الرسالة اللغوية الأدبية، التي نذرت حياتي كلها لها، إرضاء لأمتي ولغتي وضميري وإيمانًا بأن وحدة أمتي - حين يقدّر لها أن تتم - لابد أن تكون اللغة العربية إحدى دعائمها القوية، التي يشاد عليها حصنها المنيع» (ص12).
وكان متواضعًا في أمله فلم يذكر أنه أحصى الأخطاء، بل يؤكد على بذل غاية الجهد فقال: «أشهد أني لم أدّخر وسعًا في اجتناب الخطأ، وبذل الجهود المضنية للوصول إلى الحقيقة، مردّدًا قول ابن الأثير في المثل السائر: «ليس الفاضل من لا يغلط، بل الفاضل من يعد غلطه» (ص12).
وقد ألزم العدناني نفسه باثنين وعشرين ضابطًا، من بينها ضابطان يتصلان بضبط الكلمات عامة والأعلام خاصة، وختمها بقوله: «حاولت جهدي بلوغ الكمال في هذا المعجم، وهيهات، فالكمال من صفاته تعالى وحده، لذا أرجو من جميع أعلام اللغة العربية، والمستشرقين توجيه انتباهي - مشكورين - إلى ما يخيّل إليهم أنه خطأ لأذكر لهم المصادر التي اعتمدت عليها في تصويبها، إذا كانوا مخطئين، أو لأصحح الخطأ في الطبعة الثانية إذا كانوا مصيبين» (انظر ص8-ص12).
ثانيًا: ميله إلى الاستدلال بالرأي
يميل العدناني في تأليفه إلى الاستدلال بالآراء اللغوية والرد عليها أحيانًا، ويذكر رأيه في بعض القضايا، وهذا يُظهر شخصيته العلمية، من خلال حرصه على نقاء العربية. وحسبنا أن ننقل هنا ما قاله في هذا الشأن، مما ألزم نفسه به، وجعله من ضوابطه.
ومن حسن أخلاقه في الكتاب مع العلماء يقول العدناني:
«.. لم أذكر أسماء اللغويين والأدباء الذين خطَّأتهم، لأن الغاية هي الوصول إلى الصواب، لا التشهير، وفي المرات القليلة التي ذكرت فيها الاسم كنت مضطرًا إلى ذلك، إما لشهرة المؤلف، وإما لأن كثيرًا من الأدباء والمؤلفين الذين جاءوا بعده قد تبنّوا رأيه»، (ص9). فلم يتّبع رأيًا لشهرة قائله أو مكانته، ولكن كان همّه العلم وما يقتنع به.
ثالثًا: تحرّي الدقة في النقل لدى العدناني:
عرف العدناني بالأمانة العلمية، وتحري الدقة في النقل، وعزو الأقوال إلى أصحابها، مع الحرص على ذكر المصادر التي أخذ منها. وقد أشار في مقدمته إلى أهم المصادر التي اعتمد عليها، وحصرها في ستة وستين مصدرًا، وذكر مراجع المعجم في آخره، وبلغ عدد المراجع التي يبدأ اسم مؤلفها بالهمزة تسعة ومائة مرجع.
فأحيانًا كان:
1- يذكر المصدر وحده، ولا يحدد الموضع الذي نُقل منه، لأن هذا المصدر معجم من المعاجم المعروفة، مثل ذلك قوله: «الألف: عدد مذكر، كما يقول الصحاح، مفردات الراغب، ومختار الصحاح، والمصباح المنير، والتاج، ومتن اللغة.. والوسيط..» (ص26).
ومثل: «ويقولون بتّ فلان في الأمر. والصواب بتّ فلان الأمر، أي: نواه وجزم به.
وجاء في «الأساس»: بتّ عليه القضاء، وبتّ النية: جزمها، وجاء في «المحكم»: بتّ الشيء يبُتَّهُ ويَبِتَّه: قطعه قطعًا مستأصلاً..». (ص34).
ومثل: «ويخطئ الشيخ إبراهيم المنذر من يقول: أسدل الشعر والثوب والستر، ويقولون إن الصواب هو: سَدَلَها يسدلها أو يسدلها سدلا: أرخاها وأرسلها فهي مسدولة، لأن «المصباح» أنكر جواز استعمال «أسدل» لأن الصحاح والأساس اكتفيا بذكر «سدل»، ولكن المحكم، واللسان، والقاموس، والتاج، والمد، والمتن، والوسيط أجازت استعمال الفعلين «سَدَلَ» و«أسدَلَ» كليهما». (ص117).
ومثل: يقولون: «أصابته التُّخْمةُ من كثرة الأكل»، والصواب: «أصابته التُّخَمَةُ». وقد جاء في لسان العرب أن العامة تقول: «تُخْمَة.. ويروي الصحاح.. وقد أورد تاج العروس.. ورأيه كرأي اللسان أن التُّخمة من كلام العامة» (ص265، وانظر ص78).
لقد مثلت سابقًا بمواد مختلفة من أول المعجم ووسطه ومنتهاه، حتى لا يظن ظان أن هذه الطريقة في ذكر المصدر جاءت بعد ذكر المصادر كاملة في أول المعجم.
2- وأحيانًا يذكر المؤلف وحده: يكثر لدى العدناني الاكتفاء باسم المؤلف في تعضيده للتصويب اللغوي المذكور في بداية الفقرة، مثل: «ويخطئون من يسمي كل شيء مستدير (حَلَقة)، ويقولون: إن الصواب هو (حَلْقَة)، لأن أبا يوسف قال: «سمعت أبا عمرو الشيباني يقول: ليس في كلام العرب حلَقة إلا في قولهم: هؤلاء قوم حَلَقةٌ للذين يحلقون الشَّعر جمع حالق، وقد أجاز كُراع، فابن سيده، فالزمخشري، فالمطرزي فاللحياني، فالفيومي، فادوردلين، فأحمد رضا، تسكين اللام وفتحها وأنا أوثر (الحَلَقةُ) بفتح اللام، لأنها فصيحة، ويتلفظ بها عامة الناس، مع أن تسكينًا للام في قمة الفصاحة، والجمع: حَلَقٌ وحَلَقاتٌ، وأضاف الأصمعي جمعًا ثالثًا هو: (حِلَقٌ) (ص69، وانظر: 83 مادة «خفي»).
بان لنا مما سبق أن تناول المادة اللغوية من بدايتها إلى نهايتها استدل فيها على رأيه بأسماء الأعلام المؤلفين، دون أن يذكر اسم كتاب واحد. إن ذلك معروف ومألوف في معاجم التصويب اللغوي، لأن ابن سيده مثلا له معجمان، هما: المحكم والمخصص، وكذلك الزمخشري له المفصل والأساس، وهذا مما يؤدي إلى الالتباس في معرفة المصدر غالبًا.
3- وأحيانًا يذكر المصدر والمؤلف معًا: استقام في معجمه ذكر المصدر ثم المؤلف، وفي مرات أخرى يذكر العكس، المؤلف أولاً ثم المصدر، والأمثلة التالية توضح لنا ذلك: قال العدناني: «ويقولون: القلب والدماغ والكبد من الأعضاء الرئيسية في الإنسان، والصواب: من الأعضاء الرئيسة، كما في المحكم لابن سيده، والتاج للزبيدي، والطرائف للثعالبي، والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، مجمع البحرين للصاغاني، ومفاتيح العلوم للخوارزمي، والوسيط لمجمع القاهرة، ومدّ القاموس لإدور لاين» (ص98).
فإذا كانت هذه المادة في الصفحة رقم 98، فإنه في الصفحة التالية 99 تناول بعض المواد بذكر المؤلف أولاً ثم المصدر، حيث قال: قال الحريري في درّة الغواص «يقولون في جمع مرآة: مرايا.. والصواب أن يقال فيها مراء على وزن مراع.. وكان الراغب الأصفهاني قد سبق الحريري في مفرداته..» (ص99)، وانظر: مادة (ركن) (ص107)، وانظر مادة (رمي)، (ص108)، ونراه أحيانًا يمزج بين كل ما سبق دون اتباع نسق واحد في المادة، من ذلك مثلاً:
«.. واكتفى الجوهري في صحاحه بأن قال: (سائر الناس) جميعهم. وأيّده في ذلك ابن الجواليقي، وحققه عبدالله بن برى في حواشي الدرة، وأنشد عليه شواهد كثيرة، وأورد أدلة ظاهرة، وانتصر لهم الشيخ النووي في مواضع من مصنّفاته، وسبق إمام العربية أبوعلي الفارسي، وحذا حذوه ابن جني. ولكن: اللسان، والمحيط، والتاج، والقاموس، ومتن اللغة تجيز إطلاق كلمة (سائر) على الباقي، وعلى الجميع..» (ص125). من خلال هذه المادة (سائر) وجدنا كل الاحتمالات في توثيق المعلومة، كما تظهر لنا: - ذكر المؤلف فالمصدر (الجوهري في صحاحه).. - ذكر المؤلف فقط (ابن الجواليقي.. أبوعلي الفارسي.. ابن جني). - ذكر المؤلف فقط (اللسان، المحيط، التاج، مد القاموس..). وأود أن أشير إلى أن العدناني لا يتبع طريقة واحدة في ذكر المؤلف في مادة، فقد يذكر المصدر نفسه دون ذكر المؤلف في مادة تالية، وفي المادة الثالثة ذكر المؤلف فقط دون المصدر، ولا تفسير عندي، فلدينا كتب مشهورة ذكرت كاملة مع المؤلف واللقب، وهناك كتب نادرة أو مغمورة لا يذكر عنها شيئًا، مما قد يؤدي إلى اللبس.
رابعًا: طريقة العدناني في عرض المادة العلمية
حدّد العدناني الهدف من صنعه للمعجم، فقال: «.. تقوية الفصحى، والإقلال من اللغة العامية في الإذاعة والتلفزيون، والمسارح، ودور الخيّالة (السينما) وضبط معظم الكتب والمجلات بالشكل التام، حتى تصبح صحة اللغة ملكة للقراءة» (ص5).
وهناك هدف آخر في معجمه، ذكره في المقدمة، حيث قال: «إنني أردت بهذا المعجم تقليل الأغلاط التي يقترفها كثير من أدبائنا، وتحبيب الفصحى إلى الناس، بإثبات صحة مئات الكلمات التي زعموا أنها من أخطاء العامة» (ص12).
ومما نلحظه أن العدناني وضع مواده العلمية على الطريقة المعجمية الحديثة، التي تعتمد على الحرف الأصلي الأول في ترتيب مواد المعجم، كما اعتمد وضع الصواب عنوانًا لبحثه، وفلسف لنا ذلك فقال: «وضع الصواب عنوانًا للبحث، لكي يأخذه نظر القارئ، ويبقى في ذهنه، وذكر الخطأ في الشرح، متلوًا بذكر الصواب مرة ثانية، ليزداد رسوخًا في الذهن والذاكرة تحتاج إلى تكرار، لكي تختزن الأشياء التي ترغب في اختزانها» (ص9).
كما أنه أشار إلى «وضع الأغلاط حسب ترتيب المعاجم الحديثة، لكي يسهّل الرجوع إليها، مع دليل (فهرست) في نهاية هذا المعجم، يرشد المستشير المستعجل إلى المادة.. وأردفت ذلك الدليل بأسماء أشهر الأعلام الذين استشهدت بهم، وأسماء مؤلفاتهم» (ص9).
ومن ضمن الطريقة ما تفرّد به العدناني في معجمه أنه حين يقرأ استعمالاً لأديب شهير، أو لغوي كبير، لم تذكره المعجمات العربية، يواصل البحث عنه، وقال: «حتى إذا وجدت مصدرًا موثّقًا واحدًا، يجيز استعمالها أيّدته، بعد أن أذكر جميع المصادر التي لا تجيز ذلك. وإذا لم أجد مصدرًا واحدًا - أو مصدرين، أو أكثر، تقول بجواز استعمالها، ذكرت أنها خطأ يجب اجتنابه» (ص11).
كما نلحظ لدى العدناني أنه يحب القياس، ولا يميل إلى الشذوذ في معجمه، إن اضطر أحيانًا إلى الإقرار بفصاحة هذا الشاذ، ويتضح هذا في دفاعه عن جمع (حاجة) على (حوائج)، بعد أن خطأها الأصمعي، والحريري، والمنذر. يقول العدناني: «ولكنها إن شذت في القياس فإنها لم تشذ في السماع، وقد أوردها التهذيب، والصحاح والعين، واللسان، والتاج، والمصباح، والمتن، والمد، والقاموس، وكشف الطرة..» (ص71).
كما نلحظ أيضًا أنه خالف سنته، فحكم بخطأ الصواب أحيانًا، ورفض لغات عربية صحيحة، لمجرد أن بعض اللغويين من قبله ربما رفضوها تعنتًا أو وهمًا. ومن ذلك مثلا أنه منع أهل عصره من أن يقولوا: نفس الرجل، حيث قال: «ويقولون: جاء نفس الرجل. والصواب: جاء الرجل نفسه، لأن كلمتي (نفس وعين) إذا كانتا للتوكيد، وجب أن يسبقهما المؤكد، وأن تكون مثله في الضبط الإعرابي، وأن تضاف كل واحدة منها إلى ضمير مذكور حتمًا، يطابق هذا المؤكد في التذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع» (ص252).
وقد استخدم صاحب اللسان هذا الأسلوب، حيث قال: «ونفس الشيء: ذاته، ومنه ما حكاه سيبويه من قولهم: (نزلت بنفس الجبل)». ولاشك في أن وجود هذا التعبير في «لسان العرب» يدحض ما قاله العدناني، كما أن مجمع اللغة العربية بالقاهرة أجاز هذا الاستعمال. وصار هذا الأسلوب من التعبيرات الشائعة على ألسنة المثقفين والخواص من أهل اللغة.
وقد أشار د. الطناحي - رحمه الله - إلى طائفة من الألفاظ والتراكيب، رآها بعض علماء التصحيح اللغوي أنها من الخطأ الشائع، وبعد التحرّي والمراجعة ثبت له صوابها، ومن أمثلة ذلك: وقال: يخطئ بعضهم استعمال «النفس» في غير التوكيد، يريدون أنك تقول: «الشيء نفسه» ولا تقول: نفس الشيء. وقد وجدت استعمال هذا الذي يخطئونه في كتاب سيبويه 1/266 - وحسبك به - وذلك قوله: «وتجري هذه الأشياء التي هي ما يستخفون بمنزلة ما يحذفون من نفس الكلام»، وقوله أيضًا في 2/379: «وذلك قولك: نزلت بنفس الجبل، ونفس الجبل مقابلي».. وقال ابن جني في الخصائص 1/348: «وإنما جاز ذلك في هذا الموضوع لا لشيء رجع إلى نفس» أو «بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى أو».. بل إن هذا الاستعمال قد ورد عند من هو أقدم من هؤلاء جميعًا، وهو الخليل بن أحمد، شيخ العربية وشيخ سيبويه، وذلك قوله، في كتاب العين 8/117 «والترباء: نفس التراب..».
المصادر التي اعتمد عليها
العدناني في معجمه
ذكر العدناني في مقدمته المصادر التي اعتمد عليها في معجمه، وعددها ستة وستون مصدرًا، تشمل أمهات المعجمات العربية بدءًا من (الصحاح) للجوهري، وانتهاء بالمعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، بالإضافة إلى كتب التصويب اللغوي قديمًا وحديثًا، بدءًا من (درة الغوّاص في أوهام الخواص) للحريري، وانتهاء بـ«قل ولا تقل» للدكتور مصطفى جواد، كما اعتمد اعتمادًا كبيرًا على كتب النحو العربي، وبخاصة النحو الوافي للأستاذ عباس حسن.
وقد عقّب العدناني على هذه المصادر بقوله: «هذه هي أهم المراجع التي اعتمدت عليها في تحقيق الكلمات الواردة في هذا المعجم، ولم أذكر عددًا كبيرًا من الكتب والمجلات التي ذكرت بعض الأخطاء، بحق أو بغير حق، لأن جميع الأزمنة لا تخلو من بعض المسرفين، إما في التسامح اللغوي أو في التنطع اللغوي» (ص18).
ومن الواضح البيّن لدينا أنه لم يرتب هذه المصادر ترتيبًا هجائيًا، ولا بحسب زمن تأليف المصدر، بدليل أن «تاج العروس» للزبيدي في بداية المصادر، أعقبه بذكر «لسان العرب» لابن منظور ثم (القاموس المحيط) للفيروزآبادي. يبدو لنا أن العدناني رتب هذه المصادر حسب عدد ورودها في معجمه، وكثرة الرجوع إليها، بدليل أنه رتب المصادر كلها ترتيبًا علميًا سليمًا في نهاية المعجم بذكر المؤلف أولا ثم الكتاب.
كما وضح لنا أن العدناني نوّع في ذكر المصدر الواحد في المتن، فنجده يذكر المصدر كاملاً بذكر الكتاب والمؤلف ووظيفته وأحيانًا يكتفي بواحد منها، من ذلك مثلا قوله: «وقد ارتأى الشيخ أحمد رضا، صاحب «متن اللغة» وعضو المجمع العربي بدمشق أن نبقي كلمة «الكنبة» أو أن نستعمل كلمة «الوثاب» وهي حميرية..» (ص223).
وأحيانًا يعطي معلومات زيادة فيها الغموض في معرفة المصدر من ذلك: «وقال الأزهري، النحوي الشهير، الذي شرح الأجرومية: إن أهل اللغة والنحو لا يعرفون فتح شين (عشرة) في الأعداد المركبة (11-19)..» (ص170).
وتفسير ذلك لدينا أن المعجم كتب على فترات متباعدة، وأنه جمع مقالات عدة له في الصحف والمجلات، ذلك لم يكن النسق واحدًا في ذكر المصدر الواحد في صفحات المعجم.
ومما يؤخذ على ذكر المصادر في معجم العدناني، أنه جمع أحيانًا بين المصدر ومختصره في وقت واحد، من ذلك قوله: «قال الصحاح والمختار: وقد يدخلون (أن) على (كاد) تشبيها بعسى» (ص234). والمعلوم أن (المختار) يراد به مختار الصحاح للرازي، وهي اختصارات لما جاء في الصحاح الجوهري، وهذا ما وجدناه أحيانًا لدى العدناني حيث قال: «ثم قول مختار الصحاح الذي اختصر فيه قول الصحاح» (ص96)، وإن كان ذلك ليس عيبًا يؤخذ عليه، لأن مختار الصحاح لا يغني عن الصحاح، وغايته تختلف عن غاية الصحاح.
ومما يؤخذ أيضًا على العدناني أنه جعل عاطفته مصدرًا من مصادر التفسير اللغوي للمادة المطروحة في معجمه، أراه يقول عن «صهيون» «وقد تفاءلت حين وجدت حركة أول حرف في كلمة «صهيون» بالكسر، وأوثر أن أجمعها جمع تكسير، فأقول «صهاينة» بدلاً من «صهيونيين»، ذلك الجمع الذي ارتآه صاحب «متن اللغة» لأنهم لا يستحقون أن يجمعوا جمع سلامة، وأرجو أن نكسرهم في معركتنا المقبلة معهم، كما كسر أولهم «الصاد»، وكسّر جمعهم، وسيتحقق ذلك بإذن الله، لأن حاستي السادسة ما عوّدتني أن تكذبني» (ص145). إن هذا يذكّرني بما فعله نابليون حين أعد العدة لغزو مصر، حين وجد شابًا يبكي تحت شجرة، فقال له: ما يبكيك؟ قال: تأخرت محبوبتي، فقال نابليون: حان وقت الغزو، فقد تغلبت عليهم العاطفة».
هذا، ونحب أن نشير إلى شيء مهم، وهو ضرورة مراجعة المعجم على مصادره، لتكون على نسق واحد، فنراه أحيانًا يذكر المصدر والصفحة مع المؤلف، وأحيانًا يكتفي بذكر أحدهما، ونكتفي هنا بذكر مثالين:
- كتاب «النحو الوافي» للأستاذ عباس حسن.
لقد أفاد العدناني من هذا الكتاب كثيرًا في معجمه، ولكنه في كل مرة ذكره بصورة تختلف عن السابقة عليها واللاحقة لها. من ذلك:
- قال العدناني: «.. وقد جاء في النحو الوافي، في المجلد الرابع، في الصفحة 484 ما يأتي: أما ضبط «الشين» من «عشرة» التي من هذا القسم المفرد، ففيه لغات.. وجاء فيه في الصفحة 486 من المجلد الرابع أيضًا (ص170).
- وقال: «.. لأن النحو الوافي يقول: إن العرب استعملت صيغة «أفعال» في الكثرة أيضًا، وإن كان استعمالها في القلة أكثر» (ص68).
- وقال: «.. إلى آخر ما هناك من الأمثلة الكثيرة التي يوردها صاحب النحو الوافي عن حروف الحر (راجع المجلد الثاني من صفحة 401-501)..» (ص113).
- وقال: «.. وأجاز النحو الوافي أن نجمع كل اسم على وزن «فَعْل» ليست عينه واوًا، على (أفعال) و(فعول)..» (ص253).
- وقال: أيّد عباس حسن في الصفحة 71 من المجلد الثالث من موسوعته (النحو الوافي) رأي الفارسي...» (ص222).
- وقال: «ويرى النحو الوافي أن المررة على وزن فَعَلَة، هي جمع تكسير مقيس..» (ص235).
- وقال: «وقال النحو الوافي: إن الفعل المضارع الذي يوجد دائمًا (تقريبًا) في خبر أفعال المقاربة لابد أن يكون مسبوقًا بـ«أن» المصدرية، مع الفعل «أوشك»، وغير مسبوق بها مع الفعل «كاد»..» (ص222).
- وقال: «ويرى الأستاذ عباس حسن، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومؤلف «النحو الوافي» في المجلد الثالث صفحة 183 أن المصدر الصناعي اسم جامد مؤول بالمشتق، يصح أن يتعلق به شبه الجملة، ويصح أن يكون نعتًا وحالاً.. (ص224).
ومن الواضح في ما سبق أن العدناني لم يعرض هذا المصدر الواحد بطريقة واحدة، بل وجدنا تغايرًا في كل مرة، نراه قد اكتفى باسم الكتاب في مرة، وفي الثانية ذكر المؤلف والكتاب، وفي المرة الثالثة زاد المجلد والصفحة، وفي مرات عدة حرص على ذكر وظيفة علمية للمؤلف وهي (عضو مجمع اللغة بالقاهرة).
فإذا ما أخذنا مصدرًا آخر تكرر كثيرًا في هذا المعجم، وهو «مجمع اللغة العربية بالقاهرة»، نراه أيضًا لم يذكره بطريقة واحدة، وإنما راعى الجانب السياسي في مصر (من الملكية والجمهورية) دون أن يوحّد المصدر، وكثيرًا ما أضاف دورة المجمع التي درست فيها الأساليب المطروحة. وهذه بعض مقولاته:
- قال: «أجاز مجمع اللغة العربية بالقاهرة، في دورته الثانية والثلاثين» التي عقدت في بغداد عام 1965 أن يصاغ أفعل التفضيل مباشرة من كل وصف على وزن أفعل فعلاء (ص45).
- قال: «ولكن مجمع اللغة العربية الملكي (مجمع فؤاد الأول)، أطلق على الميكروسكوب اسم (مجهر)» (ص58).
- وقال أيضًا: «ولقد أطلق مجمع مصر في الجدول 194 كلمتي مردس أو مرداس على الآلة التي تدك بها الطرق المرصوفة بالحجارة، وهي المعروفة في بلاد الشام بالمحدلة، وفي جمهورية مصر العربية بـ«وابور الزلط..» (ص62).
- قال: «.. أما مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فقد أجاز أن نطلق كلمة (الدولاب) على خزانة الثياب» (ص93).
- وقال كذلك: «.. وقد أطلق مجمع اللغة الملكي بمصر في الجدول رقم 200 المبدعة على ما تلبسه المرأة في أوقات عملها» (ص110).
ولقد أفادني العدناني من مجمع اللغة العربية بالقاهرة في تصويباته كثيرًا، بخاصة المعجم الوسيط، الذي ألفه المجمع، ظل يتابع أعمال المجمع، وأبدى سعادته بإخراج الطبعة الثالثة من المعجم الوسيط فقال: «وأرجو أن تفوز الطبعة الثالثة من المعجم الوسيط بموافقة مجمع القاهرة على استعمال كلمة (الطباشير)» (ص152).
كما أكّد احترامه للمجمع وقراراته، فقال: «وأنا أقترح على مجمعنا المحترم أن يضيف الفعل المتعدي (لغم) إلى معجمه.. واقترح أيضًا على معجمنا النشيط أن يضع كلمة «لُغم» بدلاً من «لغم»، لأنها في التركية مضمومة الأول ساكنة الثاني» (ص229، وانظر المدمة ص17).
2- متابعة العدناني من سبقه في ميدان التصويب اللغوي:
يبدو لنا من قراءة مواد المعجم أن مؤلفه الأستاذ العدناني قد اطلع على مؤلفات التصويب اللغوي التي سبقته، وأفاد منها، ونقد بعضها، وأشار إلى هذه المؤلفات من أهم مصادره، ومن ذلك:
1- أخطاء شائعة في ألفاظ العلوم الزراعية
والنباتية لمصطفى الشهابي رئيس المجمع
العلمي العربي بدمشق.
2- تذكرة الكاتب لأسعد داغر.
3- دُرة الغواص في أوهام الخواص للحريري.
4- قل ولا تقل للدكتور مصطفى جواد.
5- الكتابة الصحيحة لزهدي جادالله.
6- لغة الجرائد للشيخ إبراهيم اليازجي.
7- معجم متن اللغة للشيخ أحمد رضا،
عضو المجمع العلمي العربي بدمشق.
8- المنذر في نقد أغلاط الكتاب، لإبراهيم المنذر.
9- نظرات في اللغة والأدب للشيخ مصطفى الغلاييني.