وهم العبور إلى الخلود... ومقاومة الألم بالتخدير

وهم العبور إلى الخلود...  ومقاومة الألم بالتخدير

رحلة الإنسان في طلب الخلود رحلة طويلة وقاسية على مر الزمن، فمنذ ما قبل تاريخ الكتابة بدأت هذه الرحلة بالبحث عن «عشبة الحياة»، وانتهت في هذا الزمان بالمعاناة والإدمان، معاناة الألم والمرض وإدمان الضرر والشرّ. والتاريخ يشهد بأنّ الإنسان ما فتئ يعتقد بأنّ نبتة من شجرة الخلود قد أُنزلَت من جنّة السماء إلى الأرض، فأخفاها إبليس عن بني آدم، ليقَصِّر من أعمار البَشَر ويزيدهم رَهَقا. 

 

توارث الإنسان منذ القِدَم فوائد استخدام النباتات، إذ استخلص منها الأدوية المفردة والتوابل والبهارات، ورَكَّبَ منها المراهم واستخلص منها الزيوت، فكانت تلك الأدوية «سِحْراً»... يُسَكِّن الآلام ويُشفي من العلل. آنذاك تبوأ العَشّاب الساحر أو الشامان مكانة عليّة في المجتمعات البدائية، وتوارثت تلك المجتمعات فكرة أصبحت في ما بعد معتقداً وديناً، بأنّ العشّاب الساحر هو الوسيط بين الإله والناس، فإذا تمكن من شفاء المريض فمن الإله، وإن مات المريض من دائه، فلأن هذا المريض قد سمح لروح الشر بالاستحواذ عليه، لعملٍ قام به هذا المريض لم يكن يرضي الإله. وتطور الأمر حتى أصبح لهذا العشّاب الساحر سلطة «الكهنوت»، وهي سلطة أضافت إلى سلطته في معالجة الأجساد، سلطة معالجة النفوس والأرواح، فتحول العشّاب الساحر إلى الطبيب الكاهن، ثم صارت له مكانة المُتنبئ المُقدّس. 

الفرق بين البهارات والتوابل
تاريخ الحضارة الهندية مليء بالتجارب العشبية، فتلك الأرض قبل تسميتها «الهند» كان يُطْلَق عليها «بُهارت»، أي أرض البهار، ولعل أصل اللفظة يعود إلى «بهاراتا» وهي اسم عائلة حكمت الهند قديماً، وإليها يرجع عنوان ملحمة الهند الكبرى «المها بهاراتا». و«البهارات» أجزاء من نباتات تحتوي على زيوت طيارة وروائح عطرية نفاذة، استطاع الهنود تجربتها، على مدى التاريخ الطويل، ومعرفة آثارها على الإنسان، سلباً وإيجاباً، حيث عرفوا من مشاهدتهم للمريض أنّ ضعفاً يسري بجسمه فيتكاسل عن الحركة، ويتلازم أمر الجسد مع النفس فلا تشتهي النفس طعاماً. من هنا عملوا على تهييج حواس الإنسان، من خلال الشمّ والتذوق، بإضافة «البهارات» إلى حساء ساخن، يعمل على تهييج الغدد اللعابية، التي تفرز لعابها فيصل إلى المعدة، فيقوم العقل بدفع إشارات إلى أجهزة الحس بالحاجة إلى الطعام القادم. إنّها برمجة قائمة على معرفة أثر الحواس، وجدت لها صدى إيجابياً في عالم الطبّ والغذاء، واستمر العمل بها إلى يومنا هذا. أمّا «التوابل»، فهي منتجات نباتية توضع على اللحوم النيئة لتقيها من الحشرات والعفن والفساد البكتيري، وعادة ما تكون خليطاً من مسحوق أعشاب حادة الطعم، كالحلبة والدارصيني (القرفة)، تضاف إليها نسبة كبيرة من مساحيق بذور الفلفل الأبيض والفلفل الأسود. وفي القرون الوسطى كثر الطلب على التوابل حتى أصبحت أغلى سلعة في العالم، وقيل إن سعر أوقية التوابل تجاوز سعر أوقية الذهب في عصر دولة المماليك، التي سيطرت على طرق التجارة العالمية آنذاك، أعني البحر الأحمر والخليج العربي إلى المحيط الهندي ثم الشرق، مما اضطرت معه الدول الأوربية إلى البحث عن طرق أخرى للتجارة، وكان لهم ذلك عبر طريق رأس الرجاء الصالح. كان في الأساس طعام الدول الأوربية قائماً على اللحوم، خاصة لحوم الأبقار والخنازير، التي يسهل توفير غذاء لها في فصلي الصيف والربيع، وعندما يحل الشتاء تختفي مراعيها وتصعب تغذيتها فينفق أكثرها، مما يسبب خسارة كبيرة على الدولة ويشحّ الغذاء على الناس. وكانت التوابل هي المادة الحافظة لتلك اللحوم، فتُذبَح الماشية في وقت سمنها ومرعاها في الصيف والربيع، ثم يضاف إلى لحومها التوابل، فتجفف أو تُدَخَّن، لتبقى صالحة للتناول في فترات الخريف والشتاء.

بداية استعمال النباتات الطبية
ليس لدينا تاريخ محدد لبداية واضحة في استعمال النباتات لعلاج الأمراض، ولعل كتاب «بن تساو» الصيني يرقى إلى تلك الأزمان السحيقة، وأقدم الحضارات الإنسانية بَنَت علاجاتها على موروثات كان أغلبها تجارب غير حتمية النتائج وغير محددة في أعراضها الجانبية، ولعل بعض تلك الأدوية العشبية يفوق ضررها فائدتها. وعندما نراجع الصفحات الأولى من تاريخ الطبابة، نجد وصفاً دقيقاً لبعض الأمراض، ولكننا لا نرى لها علاجاً. وقد ورد على سبيل المثال في بردية إيبرس المصرية (1500 ق. م.)، مرض يعاني صاحبه شدة العطش وكثرة التبول. والمرض نفسه أسماه الهنود «مدهوميها Medhumeha»، أي البول العسلي، وكان ذلك حين لاحظوا أنّ النمل والذباب يتجمع على بول هذا المريض. وفي القرن الثاني قبل الميلاد أطلق الصينيون تسمية أخرى على المرض نفسه هي «مرض العطش»، ليأتي بعدهم الإغريق الذين وصفوا المرض بشكل دقيق، من حيث أعراضه وآثاره الجانبية، وأطلقوا عليه اسم Diabetes، وهو الاسم الطبي الحديث لمرض السكري، حيث يعود الفضل في حفظ هذا الاسم إلى ابن سينا، عندما ذكر اسم المرض ««ديابيطس»  في كتابه «القانون في الطبّ»، وهو الكتاب المرجع لدى الأوربيين حتى القرن السابع عشر الميلادي. حاول الأطباء على مر العصور قهر المرض ودفع الموت، وتمكنوا من دفع المرض قليلاً، أما الموت فلم يزل اللغز الأكبر على مدى حياة الإنسان، الذي اشتغل على دفعه وآمن بحتميته. 
كل ديانات العالم، إلا ما ندر، تؤكد وجود حياة أخرى بعد الموت، بطريقة أو بأخرى، ويأتي الإنسان ليدوِّن فكرة الخلود مثلما فعل جلجامش، عبر ما أوتي من علم أو موروث، فيسجلها نقوشاً وكتابة، ليخبر الأجيال التي تليه باتباع منهج البقاء، فيصف نظاماً للغذاء، وثانٍ للنوم، وآخر للعمل. ويشتغل بالتحضير للحياة الأخرى الجديدة بعد الحياة «الدنيا»، ليصل إلى حياة أعلى مكانة وأقرب رشداً. 

ورطة المخدرات 
وكثير من الشعوب تنقطع بهم الآمال من زيادة الآلام، آلام المرض والجوع والخوف، وقد وجدوا إلى درء تلك المخاوف عن طريق «المخّدرات»، فساء ذلك سبيلاً. في الهند استعملوا نبتتين: «القنب الهندي» و«الخشخاش»، كمخدر للآلام ومساعد على الاستشفاء، وكانت المرأة الهندية في الديانة الهندوسية قديماً، تُسقى إذا مات زوجها من منقوع إحدى النبتتين، حتى لا تحسّ بأي ألم عندما تُحْرَق إلى جانب جثّة زوجها. وقد انتشر نبات القنب cannabis، وهو المعروف اليوم بنبات «الحشيشة» في جميع أنحاء العالم، لسهولة زراعته ونموه، السبب الذي أدى إلى رخص ثمنه وانتشاره الواسع. 
لكن في ما بعد وقع الحَظر على زراعة نبات الحشيش واستعماله في سبعينيات القرن الماضي، وذلك لسببين: أولهما، التطوير الجيني للنبات، وهو الذي زاد تركيز المادة المخدرة في النبات إلى ستة عشر ضعفاً، مما أثّر في الصحة العامة جسدياً وعقلياً، فأصبح تعاطيه خطراً على حياة الإنسان. والسبب الثاني يعزى إلى حاجة زراعة هذا النبات إلى أراضٍ شاسعة، بالإمكان استغلالها في زراعة محاصيل غذائية أساسية تقوم بسد الحاجة الملحة للغذاء في العالم. أما نبات الخشخاش Papaver فمعروف منذ القِدَم باستعمالاته الطبية كمسكن للآلام النفسية والجسدية، ومن هذا النبات يستخلص الأفيون Opium، الذي يُحَضَّر منه المورفين Morphine، الذي يُستخدم في العمليات الجراحية الطبية، وقد اشتُقّ اسمه من اسم مورفيوس Morpheus إله الخيال والأحلام عند اليونان. ومن المورفين يُحَضَّر الهيروين Heroin، أخطر مادة مخدرة في العالم. إنّ قُدرة مستخلصات نبات الخشخاش على التأثير في بعض مراكز المخ والأعصاب، جعلت تعاطيه خارج المستلزمات الطبية والعلاجية، هي الأكثر انتشاراً في العالم، السبب الذي حدا بهيئة الأمم المتحدة في سبعينيات القرن الماضي كي تحرِّم تعاطي مستخلصاته، سواء كانت من البذور أو الجذور أو السيقان أو الأزهار، وجعلت تعاطي المورفين فقط بنسبة ضئيلة للاستخدام الطبي الجراحي، كمسكن قوي المفعول. 
لم يكن استعمال الكوكايين Cocaine كمادة منشطة مجهولاً، إذ يرجع استعماله إلى آلاف السنين، وكان أول من استعمله للتداوي شعوب الأنديز بأمريكا الجنوبية، فالأجواء الاستوائية والمدارية هناك هي الأجواء الوحيدة الصالحة لحياة نبات الكوكا. ومنذ أن فصل العالم الكيميائي ألفرد نيمان مادة الكوكايين الأولية المخدرة عن أوراق النبات في عام 1880م، استعمل الكوكايين كأنجح مادة مخدرة موضعية في العمليات الجراحية البسيطة، لقدرتها الفائقة على منع النزيف. كما استخدمها عالم النفس الأشهر في العالم، سيجموند فرويد، في علاج الاكتئاب النفسي وانفصام الشخصية. وسرعان ما تبينت الأضرار الجانبية للكوكايين بعد انتشاره السريع في العالم، وكانت أكبر الأضرار قد وضحت على المتعاطين للمادة عن طريق الاستنشاق. ومع بداية القرن العشرين، انتشر استخدام «النشوق»، وهو خليط من الكوكايين النقي وبعض النباتات العطرية، حتى أصبحت «علبة النشوق» من أولى كماليات الشخصيات عالية المقام. وبسرعة هائلة أصبحت مادة الكوكايين مادة أساسية في أكثر التركيبات الدوائية، إلا أنّ الخطر بدا واضحاً من سرعة إدمانها، السبب الذي جعل من هذه المادة من أغلى السلع في العالم على الإطلاق. ومن هنا بدأ الغش في تركيبها المعملي، فأضيفت إليها مواد خطرة على صحة الإنسان. في عام 1906م مُنع استخدام الكوكايين عالمياً في العلاجات الطبية، وبعدها حُظرَ تناوله في أشهر المشروبات الغازية على الإطلاق.
أما نبات «الشكران» Hyoscyamus فقد عُرِف مستخلصه باسم «البنج»، وهو الأشهر اليوم بالاستعمالات الجراحية، الموضعية والعامة، ولم يقع عليه الحَظر الدولي إلى يومنا هذا.

مائة عام من التغييب
عندما تعثرت مسيرة الإنسان في البحث عن سرّ الحياة والخلود، وخاب مسعاه في كل نبتة تمنى منها أملاً ونوراً ليجد ظلاماً وشروراً، وتعب من رحلة البحث التي لم تنته، وساد الفشل وضاع الأمل، وانحدرت كل الأماني إلى وادي الجهل السحيق ومعها كل فكرة عن البحث، وتاهت بين سطور كَتَبها الأولون ووراء كلمات نصوص مقدسة، نقلبها حينا ونؤولها حينا آخر. وتغيب الحياة ويتكرر الموت فلا ترى فينا اليوم من مُدّكر، ومن دون أن ندري، نرى أنفسنا قد أدْمنّا السهل واستسلمنا إلى الجهل، وغاب وعي المؤمنين بتسلط المجرمين. ويمضي الزمان، وتستمر الحياة لننسى الأحلام ونتذكر الكوابيس، فيعاودنا بعد طول السنين كابوس نبتة إبليس التي زرعها الاستعمار في الوطن العربي، بذرة شيطانية سرعان ما كبرت، وامتدت جذورها لتنخر صروح العمران، وتعلو بأشواكها فتصنع أسواراً من الطغيان. 
مائة عام مضت على «وعد بلفور»، الذي أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، وليصبح جزء من فلسطين وطناً قومياً للكيان الصهيوني الآثم. مائة عام مضت، والفلسطينيون تحت وطأة التشريد والتعذيب وثقل القيود وظلام السجون. مائة عام والعالم العربي ينشطر ويُنتَهَك ويتفكك، وتشتعل فيه النيران إثر الحروب والثورات، فتحترق الثروات، ويعلو الدخان الأسود ليخنق السلام. مائة عام مضت، لتعود كَرَّة تقطيع الوطن العربي إلى أوطان مبعثرة ممزقة، متناحرة متباغضة، وتتسخ رايات الحرية بالعنصرية والطائفية، وتتقطع أوصال الجسد الواحد، لكي نؤكل كما أُكل الثور الأبيض.
وتبقى دولة الكويت، أميراً وحكومة وشعباً، على عهدها في مقاطعة الكيان الصهيوني، ملتزمة بكل القرارات الدولية التي تحقق العدالة والحرية والكرامة للشعب الفلسطيني. وفي 19 أكتوبر الماضي قامت الكويت بمقاطعة 50 شركة أوربية بسبب نشاطها في المستوطنات الصهيونية المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة. 
تحية للكويت عاصمة الثقافة الإسلامية 2016م ■