«مُسلسلات» مهيار التي فُتن بها شوقي

«مُسلسلات» مهيار  التي فُتن بها شوقي

كنت في العاشرة من عمري، عندما اكتشفت ديوان «الشوقيات» لأحمد شوقي ضمن مقتنيات أبي، وكان في طبعته الأولى التي صدرت عام 1898، وجاءت فيه إشارة شوقي إلى شعراء العربية الكبار الذين قرأ لهم واستوقفه شعرهم، وكان في ختامهم مهيار الديلمي. كان وقع الاسم غريبًا على سمعي، في حين أن بقية الأسماء كانت مألوفة ومتداولة مثل البحتري والمتنبي وأبي العلاء المعري. ثم التقيت باسم مهيار وشعره بعد ذلك بسنوات، وأنا أستمع إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب يشدو بكلماته في قصيدة سلسة عذبة، من أبياتها:

أُعجبتْ بي بين نادي قومها
«أمُّ سعدٍ» فمضت تسألُ بي
سرّها ما علمت من خُلقي
فأرادت علمها ما حسبي
لا تخالي نسبًا يخفضني
أنا من يرضيك عند النَّسبِ
قوميَ استولوا على الدهر فتًى
ومشوا فوق رؤوس الحقبِ
عمّموا بالشمس هاماتهمو
وبنوْا أبياتهم بالشُّهبِ
قد قبستُ المجد من خير أبٍ
وقبسْت الدين من خير نبي
ولاحظت أن محمد عبد الوهاب قد غير «أم سعد» في البيت الأول إلى «ذات حسْنٍ» خشية أن يظنَّ الناس أنها أم سعد زغلول الزعيم المصري الخالد. لكن القصيدة المغناة فعلت فعلها في نفسي وفي نفوس كثير من محبي الشعر والغناء, وبخاصة أن القصيدة غُنّيت في مناسبة زواج شاه إيران بشقيقة الملك فاروق وهي الأميرة فوزية. وشاعرنا يقول عنه ابن خلكان في كتابه «وَفَيـات الأعيان»: «هـــــو أبو الحسن مهيار بن مرزويه الكاتب الفارسيّ الديلميّ الشاعر المشهور، كان مجوسيًّا فأسلم، ويقال إن إسلامه كان على يد الشريف الرضيّ أبي الحسن محمد الموسويّ، وهو شيخه وعليه تخرّج في نظم الشعر، وكان شـــــاعرًا جزل القول مقدَّمًا على أهل وقته، وله ديوان شعر كبير، وهو رقيق الحاشية، طويل النَّفَس في قصائده».
و«مهيار» تعني في الفارسية «صديق القمر»، يقول عنه الدكتور عبد اللطيف عبدالحليم «أبوهمام» في تقديمه لديوانه الذي صدرت طبعته عن سلسلة الذخائر التي أصـــدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر عام 2008: «يُخيّل لي أنه ارتشف بحكم موقعه الزمني وهو النصف الثاني من القرن الرابع الهجري والربع الأول من القرن الخامس، عصارة الشعر العربي قبله، إذ نجد عنده شيئًا من فخر بشار بفارسيته، وروح أبي تمام في صناعته، وطول نفس ابن الرومي وبُعد تقصيه، ورقة اعتذار البحتري وعتابه لمغاضبيهِ، وبعض هموم المتنبي ومناحيه في تصوير ممدوحيه، وآثار التلمذة لأستاذه الشريف الرضيّ. كما يظهر في شعره أثر المعرفة اللغوية العميقة والثقافة الفنية الواسعة، الأمر الذي مكّنه من إحكام فنه وتمثّل عناصر صناعته التي غدت مادة فنية سائغة، تفيض بها قريحته دون معاناة أو تكلّف».
ويجمع دارسو شعر مهيار والمحققون، على أن تعمقه في دراسة العربية وتراثها الشعري، وحرصه على تفرد لغته بالجمال والصوغ المحكمه والتعبير الأنيق ناتجان عن إحساسه الداخليّ بأصله الفارسيّ ومحاولته أن يبدو في ميزان الشعر العربي أوفر حظًّا من مجايليه من الشعراء العرب الأقحاح، ومتفوقًا عليهم لغةً وخيالًا وبناءً ونَفَسًا شعريًّا. 
من روائع جلواته الشعرية أبيات ننتزعها من إحدى قصائده التي يهنّئ بها صديقًا له بمناسبة عيد النيروز:
أهندُ قالت: ملَّني، وحلَفتْ
تحلَّلي حالفةً يا هندُ
أَمْنُكِ بين أضلعي جنايةٌ
أعجبْ بها نارًا خباها زَنْدُ
وعدُكِ لِمْ أُخْلِفَ يوم بابلٍ
بل كان سحرًا، واسمهُ لي وعدُ
خصْرُكِ ضعْفًا واللسانُ مَلقًا
دقّا عليك أن يصحَّ عقْدُ
ضاع الهوى ضياعَ من يحفظهُ
ومات معْ أهل الوفاءِ الودُّ
انْجُ ربيح العِرْضِ، واقعُدْ حَجْرةً
منفردًا، إنّ الحسامَ فرْدُ
كم مستريحٍ في ظلالٍ نعمةٍ
وأنت في تأميلهِ تكُدُّ
طالَك بالمال، ولو أريْتَهُ
صوْنًا رآك معه تُعدٌ
ملكْتُ نفسي مذ هجرتُ طمعي
اليأسُ حرٌّ والرجاءُ عبْدُ
ولو علمْتُ رغبةً تسوقُ لي
نفْعًا لخفتُ أن يضُرَّ الزهدُ
جرَّبْتُ أخلاق الرجال، فإذا
بِسمْحها مع السؤال نَكْدُ
ورُمتُ أيديهم بكلّ رُقيةٍ
تلينّ، والأيدي معي تشتدُّ
لم يُعْيني فضلٌ أداريهم به
وإنما أعيا عليَّ الجَدُّ
ما كان مَنْ شعشعَ لي سرابَهُ
غرَّ فمي، وقلتُ: ماءٌ عِدُّ
في الناس من معروفُه في عُنقي
غُلٌّ، وفيهم مَنْ جَداهُ عقدُ!
يحتشمُ النيروز من إطلالهِ(1)
والمهرجانُ يقتضيك بعْدُ

ومن بدائع مهيار قصيدة تتعمق أسرار النفس الإنسانية، وتغوص في جوانب الشخصية البشرية، متسائلة عن حبال المودة، وأواصر المحبة بين الناس، كيف تقوى وتدوم، ولماذا تضعف وتتقطع، وكيف يئن الشاعر تحت وطأة أحداث الزمان ونوائبه، ووفاة أحبائه وهو غائبٌ عنهم في سَفْرة له إلى «سُرَّ من رأى» وما يجاورها من البلاد، يقول مهيار:
خليلُكَ مَنْ صفا لك في البعادِ
وجارُك من أذمَّ على الودادِ
وحظُّك من صديقك أن تراهُ
عدوًّا في هواك لمن تُعادي
ورُبَّ أخٍ قصيّ العِرْقِ، فيه
سلوٌّ عن أخيك من الولادِ
فلا تغررْكَ ألسنةٌ رطابٌ
بطائنهنّ أكبادٌ صوادي
وعشْ إما قرين أخٍ وفيّ
أمينِ الغيْبِ أو عيْشَ الوِحادِ
فإني بعد تجريبي لأمري
أنسْتُ - ولا أغشُّكَ - بانفرادي
تريدُ خلائقُ الأيام مكْرًا
لتغضبني على خُلُقي وعادي
وتغمرني الخطوبُ، تظنُّ أني
ألينُ على عرائكها الشّدادِ
وما «ثهْلان» تُشرفُ قُنَّتاهُ (2)
بأجمل للنوائب من فؤادي
تُغرّبُ في تقلِّبها الليالي
عليَّ بكلّ طارقةٍ نآدِ(3)
إذا قلتُ: اكتفَتْ مني، وكَفَّتْ
نَزتْ بالداء ثائرةُ العِدادِ
رعى سَمِنُ الحوادث في هُزالي
كأنَّ صلاحهنَّ على فسادي
فيومًا في الذخيرةِ من صديقي
ويومًا في الذخيرة من تِلادي
يذمُّ النوم دون الحرص قومٌ 
وقلتُ لرقدتي عنه حَمادِ(4)
وما كان الغنى إلا يسيرًا
لو انّ الرزق يبعثه اجتهادي
وضاحكةٍ إلى شعرٍ غريبٍ
شُكمْتُ به، فأسلس من قيادي
تعُدُّ سِنيَّ تعجبُ من بياضي
وأعجبُ منه - لو علمت - سوادي
أمانٍ كلَّ يوم في انتقاصٍ
يساوقهنَّ همٌّ في ازديادِ
وفُرقة صاحبٍ قلقِ المطايا
به قلقُ المدامعِ والوسادِ
تُخفّضُ بعده الأيام صوتي
على لَسَني، وتخفضُ من عِمادي
وتُخمدُ عن ضيوف الأنس ناري
وكنت بقربه واري الزنادِ
أُقيمُ ولم أُقمْ عنه لِمُسْلٍ
ويرحلُ لم يسرْ منّي بزادِ
كـــــأنا إذ خلـــــــقـــنـــــا للـــــتصـــــافي
خُلقْنا للقطيعة والبعادِ
أرى قلبي يطيشُ، إذا المطايا
إلى الرابين يأسرَهنَّ حادي
ولــــــــم أحســــــب «دُجيْلاً» مــــــــــــــــن مياهي
ولا أنَّ «المطيرة» من بلادي(5)
ولا أني أبيتُ دُعايَ يحدو
إلى «تكريت» سارية الغوادي
ومن صُعداء أنفاسي شِرارٌ
تمرُّ مع الجنوب بها تُنادي:
أأحبابي أثار البيْنَ بيني
وبينكمو مُساخطة الأعادي
سقتْ أخلافُكم عهدي لديكم
فهُنَّ به أبرُّ من العِهادِ
ورُدَّ عليَّ عندكمو زمانٌ
مَجُودُ الروض مشكورُ المَرادِ
أصابت طيب عيشي فيه عيني
فقد جازيْتها هجْرَ الرُّقادِ
فلا تحسبْ - وظنُّك فيَّ خيرًا -
بَقايَ - وأنت ناءٍ - من مرادي
ولا أني يسرُّ سوادَ عيني
بما عُوّضتُ من هذا السّوادِ
وكيف، وما تلفُّ المجد دارٌ
نأتْكَ، ولا يضمُّ الفضل نادي
فإن أصبرْ - ولم أصبر رجُوعًا
إلى جَلدٍ ولم أحملْ بآدِ-(6)
فقد تُحنى الضلوعُ على سَقامٍ
وقد تُغضى الجفون على سهادِ
وكنتُ، وبيننا إن طال ميلٌ
وإما عرض «دجلة» وهي وادي

إذا راوحتُ دارَك لجَّ شوقي
فلمْ يُقنعْه إلا أن أُغادي
فكيف وبيننا للأرض فرْجٌ
يماطلُ طولهُ عنَقَ الجِيادِ
وتكشف هذه القصيدة عن نزعة للفخر والزهو بالنفس في شعر مهيار، وعن انتباه عميق للتفاصيل الدقيقة في علاقة الناس بالناس، وعن كثير من أساليب التراضي والتواصل والسعي الحميم من أجل دوام العلاقة، وامتداد أواصر الصداقة والأخوة، كما تنجلي عن انسياب وتدفق وسلاسَة في التعبير والتصوير، وهي قصيدة طويلة نكتفي منها بالأبيات الدالّة السابقة. وتتردد المعاني التي دارت من حولها قصيدته هذه، في عدد من قصائده، أبرزها قصيدة ثانية يقول في مستهلها مادحًا ومهنِّئاً:

أنت على حالتيْكَ محمودُ
إن كان بخلٌ لديك أو جودُ
يشقى ويرضى بك الفؤاد كما الطّـ
رفُ - إذا ما رآك - مسعودُ
يا غُصُنًا دهرهُ الربيع، فما
يفترقُ الماءُ فيه والعودُ
فات بك الحسنُ أن تُحدَّ وللبـ
ـدر بما انحطّ عَك تحديدُ
قُمْ حدّثْ الليل عن أواخره 
إنّ مقَامَ الصَّبوح مشهودُ!

ومن قصائد مهيار المتوهجة بالحكمة المنتزعة من الحياة وأحداثها، والدهر وتقلباته، والناس وتغير أحوالهم، قصيدة يقول في مستهلها:
مَنْ حاكمٌ، وخصوميَ الأقدارُ
كثُر العدوُّ، وقلّت الأنصارُ
أشجْى من الدنيا بحِبِّ مُقلّبٍ
وجهيْن، عُرْفُ وفائه إنكارُ
سوْمَ الدعيّ، إذا تضرّع، ردَّهُ
للؤم عِرْقُ الهُجْنة النعّارُ
وإذا وفَى لِمُنايَ يومٌ حاضرٌ
فأجار، أسلمني غدٌ غدّارُ
أفصخرةٌ يا دهرُ هذا القلبُ، أم
هو للهموم السّاريات قرارُ؟
والبيت الأخير يذكّرنا بيت المتنبي الشهير:
أصخرةٌ أنا؟ ما لي لا تُحرِّكني
هذي المدامُ ولا هذي الأغاريدُ
ثم يقول مهيار:
في كلّ يومٍ للنوائب شَلَّةٌ
من جانبيَّ وللهمومِ غِوارُ(7)
ومصائبٌ مَتحكماتٌ، ليس لي
معهنّ في بيع النفوسِ خِيارُ
تُنحي فأحملها ثِقالاً مُكْرهًا
وكأنني بتجلدي مختارُ
جرحٌ على جرحٍ ولكن جائفٌ(8)
ضلّ الفتائل فيه والمسبارُ(9)
فاغمزْ قناتي يا زمانُ، فإنه
ذاك المماكسُ طائعٌ خوّار! 
ولا يخفى على قارئ شعر مهيار ذلك الطابع البدوي الذي يتجلى في كثير من شعره، وهو - في الأصل - لا ينتمي لعالم البادية، لكنها الرغبة التي تمكّنت منه أن يكون فصيحًا عربي اللسان منتميًا إلى زمرة الشعراء غير الهُجناء، محاولًا أن يجعل متذوّقي شعره لا يشعرون بأصله الفارسي، ولا بأنه دخيل على المبدعين بالعربية. ويؤكّد هذا الطابع البدويّ المفردات المنتزعة من بيئة نجد، وحديث الارتحال وقوافل السفر، وذكر نباتات الصحراء وحيواناتها، والطقوس المعبرة عن فصولها المختلفة، وأسماء المواضع والأماكن والأحداث والشخوص، والإغراق في وصف المطر والجفاف، والوقائع والأحداث، كما في قوله:
أدمعُكَ أم عارضٌ مُمطرُ؟
أم النفس ذائبة تقطرُ؟
دعوْا بالرحيل، فمستذهلٌ
أضلَّ البكاءَ، ومستعبرُ
وقالوا: الوداعُ على «رامةٍ»
فقلتُ لهم: «رامة» المحشرُ
وأرسلت عينيَّ «بالأنعميْن»(10)
لتُبصر لو أنَّها تُبصرُ
فما حَملتْ خبرًا يستطابُ
إلا الذي كذبَ المخبرُ
وعنّفني منذرٌ خاليًا
ألِفْتَ، وفُورقْتَ يا مُنذرُ
وقالوا: تحمّلْ ولو ساعةً
فقلتُ لهم: مُدّتي أقصرُ
ولكن تطاللْ بعين النصيح
لعلَّك مستشرفًا تنظرُ(11)
أجنب «الغضا» يقبلون الرّكا
بَ، أم عرعرًا، قال: بل عرعرُ(12)
فلا تذكرون لقلبي السُّلوَّ
إن كان ذاك كما يُذكرُ
سقى الله - ما كرُمت مُزنَةٌ(13) 
وما وضعتْ حاملٌ مُعصرُ -
- وحنّت فدرّتْ على أرضها
سماءٌ تبوحُ بما تضمرُ - 
ملاعُبنا بالحمى، والزما
نُ أعمى، وليل الصّبا مُقمرُ
وعصرُ البِطالةِ مثلُ الربيعِ
حيًا أبيض وثرًى أخضرُ
«وظبيةُ» جارٌ إذا شاء زا
ر، لا تستريبُ ولا تحذرُ
إذا لذة اليوم عنّا انطوت
وثِقْنا بأخرى غدًا تُنشرُ
وفي الحيّ كلُّ «هلالية»،
هلال السماء بها يُكفرُ(14)
تذلُّ على عزّها للهوى
وتُسْبي وأنصارُها حُضَّرُ
تسيلُ الأسنّةُ من دونها
ونحن على سرّها نظهرُ
فذاكَ وهذا، لو انّ الزمان
إنــــــــــــــاءٌ إذا راق لا يــــــــــــــــكـــــــدُرُ
تلوَّن في صِبْغ أيامه
تلوُّن ما نسجت «عبقرُ»(15)
فيومٌ تعرُّفُهُ غفْلةٌ
ويومٌ تجنُّبهُ مُنكرُ
وصولاً إلى قوله: 
أبالحق تهدمني بالجفاءِ
وأقطارُ عِرْضِكَ بي تَعْمرُ؟
وتشربُ ظَلميَ مستعذبا
وظُلمي مُمرُّ الجنى مُمقرُ(16)
سأضربْ عنك صدور المطيّ
وفي الأرض مغنًى ومُستمطرُ
نوازعُ تقمُحُ وِرْدَ الهوانِ(17)
فتطمحُ تُسهل أو توعرُ
وأنَّ لها في رجالِ الحِفاظِ(18)
مَرادًا إلى مثله تُزجرُ
وفوق ثنايا العلا أعينٌ
يُهشُّ إليها، ويُستبشرُ

ومن بدائع مهيار، وشعره الكاشف عن جمال صنعته الشعرية وإحكامها التي يقال إنه تأثر فيها بشعر أبي تمام، وعن حساسيته الفائقة للبحور والأوزان الشعرية التي تواكب أغراضه الشعرية، وتعبر عن حالاته الشعورية وخطراته النفسية، قصيدة يقول فيها: 

مطلَ الدَّيْنَ ولو شاءَ قضى
فاسقُ الذمة ينسى ما مضى
كيف يُرجى النصحُ من محتكمٍ
يُكثرُ السُّخْطَ ولا يرضى الرضا
سرّني يوم «منًى» معترضًا
ملءَ عيني، وشجاني مُعرضا
وجد الوَجْدَ كما خلَّفهُ
بعد حولٍ ما برا ما أمرضا
أيها الرامي - وما أجرى دمًا -
لا تُحصّب قد بلغْتَ الغرضَا
قُسم الحبُّ، فما أنصفني
جوْرُ ما نفّلَ لي وافترضا
ما على ساقيَّ دمعي مُغدقًا
في رُضابِ، لو سقاهُ مُبْرِضا(19)
قد سلبتم حسدًا جوهَرهُ
فاستحِلّوهُ وبقُّوا العَرضَا
شقِيَ السائقُ في تبليغه
أدرى أيَّ طـــــريــــــــــقٍ نــــــفــــــضـــــا؟
«الغضا» إنّ الحشا من ذكرهِ
رُبّما استبردت منها بالغضا
اطلبوا للعيْن في أبياته
نظرةً تكحُلها، أو غُمُضا
وبنفسي هاجرٌ لم يعتمد 
قبضوا من أُنسهِ فانقبضا
لمتمو فيه وقلتم رقبة 
رمتمو صعْبًا، وقُدْتم ريّضا
إن تفُتْكَ اليوم شمسٌ حُجبتْ
فغدًا، ما كلُّ يومٍ أبيضا
من أمرّ الليل والصبح به
أظلم الحظُّ عليه وأضا
وقف الحبُّ على دوحتكم
غُصُنٌ منها لقلبي قبضا
نجتني منه خيارًا لكمو
حلو ما لاك فمٌ أو قَرَضا!

يقول المهتمون بإحصائيات دواوين الشعر العربي إن ديوان «ابن الرومي» هو أكبرها على الإطلاق، فهو يضم ألفين وتسعًا وثلاثين قصيدة عدد أبياتها ثلاثون ألفًا وخمسمائة وثلاثين بيتًا، ويليه مباشرة ديوان مهيار الديلمي الذي يضم ثلاثمائة وسبعًا وثمانين قصيدة عدد أبياتها اثنان وعشرون ألفًا وخمسمائة وخمسة عشر بيتًا، في حين أن شاعرًا بحجم المتنبي وشهرته لا يضم ديوانه غير مائتين وست وثمانين قصيدة عدد أبياتها خمسة آلاف وثلاثمائة وسبعة وخمسون بيتاً. وصحيح أن العبرة هنا لا تكون بعدد القصائد أو حجم الديوان، لكن الأمر في حالة مهيار يشير إلى طول نَفَسه في قصائده، فهي ليست كثيرة من حيث العدد، لكن أبياتها ضخمة من حيث حجم الديوان.
 ومن بين قصائد مهيار التي تدور في دائرة «الإخوانيات» التي تحتلّ مساحة كبيرة من ديوانه، قصيدته إلى أحد أصدقائه من الكُتاب يهنئه ويستعينه ويستبطئه، ويقول:
أعينوني على طلب المعالي
فقد ضاقت بها سعة احتيالي
ودُلّـــــــونـــــي عــــــلى رزق بـــعـــــــيـــــــــد
وإن هو قلَّ عن بذْل السؤالِ
فلو قُننُ الجبال زحمْن جنبي
وقعْنَ أخفَّ من مِنن الرجالِ
وإلا فاسلبوني حظَّ فضلي
إلى ما فاتني من حظّ حالي
ونجوني وحيدًا لا عليّ الـ
ـمحاسن والشقاءُ بها ولا لي
ألا رجلٌ يخاف العيب منكم
ويأنف للحقوق من المِحالِ
فيعدلَ في القضية لا يُحابي
ويحكمَ بالسوّية لا يُبالي
تواصى الناسُ إكرامَ الأسامي
وهان لديهمو كرمُ الفعال
يُعدُّ أخوك أشرف منك بيتًا
لأنك عاطلٌ وأخوك حالي 
ولا والمجدِ ما شَرَقي بِريقي
وشُربي الملْحَ في العذبِ الزلالِ
أدال الله من سِمنِ ابن عمٍّ
رعى حسبي وأهملني هُزالي
وما هو؟ غير أن يدي قصيرٌ
مداها، عن مدى هممي الطوالِ
وإن وسِع القريبَ أصولُ مجدي
ولم يسع الغريبَ فُضولُ مالي
عسى الأيام يُوجعها عتابي
ويُخجلها انتظاري واحتمالي
وخلّ كان إن أخفقْتُ مالي
وإن أنا خفتُ نازلةً مآلي
يحوطُ جوانبي ويذبُّ عني الـ
أذى ذبَّ الجفون عن النّصالِ
وإن أهديتُ بِكرا من ثناءٍ
إليه تميس في حُلل الجمالِ
تناهى في كرامتها قَبولاً
وغالى في المهور بها الثّقالِ
وباتت - حيث تغبطها عليه
إذا ما غِرْن ربّاتُ الحِجالِ -
مُعشّقةً مكان ترى الغواني
إذا عرَّسْنَ يُودَعْنَ الغوالي
فغيّرهُ الزمان، وأيُّ حالٍ
من الأحداث سالمةٌ بحالِ؟
ونكّس رايتي منه نصيري
وميّل صَعْدتي ربُّ اعتدالِ
كنور الشمسِ منه البدرُ ينْمي
ومنه النقص يسري في الهلالِ
ولكن جفوةٌ لم تُنِسِ عهدًا
ولم تجُزِ الدلال إلى المآلِ
فدى الوضّاح في الخطب ابنُ ليلٍ
إذا استضويتُ في أمرٍ دجا لي
ومنحطّون عنه أبًا ونفْسًا
وبيتُ النجم مثلُ النجم عالي
ألسْتُ ابن الألى انتظموا ملوكًا
نظامَ العِقْد من بادٍ وتالي
إذا الأب غابَ ناب ابنٌ كريمٌ
يُريك شهادة النسب الحلالِ
كأن المجد لم يحزن لماضٍ
مع الباقي، ولم يُفجع بحالِ
لهم سُننٌ من المعروف تكسو الـ
لحوم بها عظامهمو البوالي
وآثار من الأيام بيضٌ
كآثار البدور على الليالي
ومهيار الديلمي هو القائل: 
عجبتُ لمُرّ النفسِ كيف يضامُ؟
وحُرٍّ يخافُ العتْبَ وهو ينامُ
وراضٍ بأوساط الأمور، فقاعدٌ
وفيه إلى غاياتهنّ قيامُ
وهو شعر يذكرنا بقول المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس شيئًا
كنقص القادرين على التمام

ثم يقول مهيار: 
دع الناس فيما أجمعوا وامْضِ واحدًا
فنقصُكَ، مما لا يُعدُّ، تَمامُ
تقدّم إذا ما أخروك عليهمو
ولا تك مأمومًا وأنت إمامُ 

ونختتم الكلام عن «مهيار» ببيته العَلَم الذائع الصيت: 
ملكْتُ نفسي مذ هجرْتً طمعي
اليأسُ حُرٌّ، والرجاءُ عبْدُ! ■