أين يقف الخطاب الإعلامي من حوار الحضارات؟

أين يقف الخطاب الإعلامي  من حوار الحضارات؟

برزت أهمية وسائل الإعلام بمخاطبة الرأي العام، على أثر نتائج حرب العام 1967 بين العرب وإسرائيل، حيث تم التفكير برسم استراتيجية عربية مشتركة في مختلف الميادين الإعلامية، بقصد الوقوف بوجه الإعلام الصهيوني، الذي كان يصف حالة اليهود بأنهم يعيشون بين أغلبية عربية، تُهدد مصيرهم، وقد تنهي وجودهم بين عشية وضحاها، والنتيجة أنهم حصلوا على دعم غير مشروط مادياً وعسكرياً من الولايات المتحدة والدول الأوربية، لتتوافر لهم عناصر القوة في المجالين التقني والاقتصادي.


أجمع الرؤساء العرب في العام 1985، على إطلاق قمر اصطناعي (عربسات)، من أجل بلورة خطاب إعلامي يواكب استحقاقات المرحلة وتحدياتها، وبالرغم من امتلاك أدوات التأثير في الرأي العام من قبل الفضائيات العربية، فإن أداء بعض الفضائيات التي تتمتــــع بمــــركـــز مالي قوي، لم يرق إلى إحداث نقلة نوعية في ترسيخ ثقافة المشــــاركة التــي تؤسس لحوار يحث على التعاون والتكافؤ بين أبناء العروبة، سعياً للوصول إلى «معادلة المواكبة الحضــارية».
تأكيداً لذلك، نجد الخبير الإعلامي عدنان الزعبي يقول بدراســته المنشورة في العدد 318 من مجلة أفكار التي تصدرها وزارة الثقافة الأردنية: «هل انتبه القائمون على الفضائيات إلى حالة التفكك التي ساعدت الفضائيات على إحداثها؟ وهل عرفوا كيفية التحول لأغراض البناء وليس إبقاء الفوضى، وأدركوا ما هي المهارات المطلوبة في مرحلة التحوّل الديمقراطي؟».
ثمة صعوبات تواجه وسائل الإعلام المختلفة في يوميات تواصلها مع الرأي العام، فهنالك تضارب بين المقومات والمكونات من ناحية، والمؤثرات التي تنشأ بين الحين والآخر من ناحية أخرى، وإذا انطلقنا من متطلبات المهنة، التي ترتكز على أهمية الصدقية، وضرورة الالتزام بمبدأ الواقعية، فقد نتفق على أن ما يندرج تحت شعار «التحفظ»، بإطاره الواسع، يُقلل من اهتمام الرأي العام بمتابعة ما تبثه الشاشات المحلية أو الوطنية، وتبعاً لذلك تتجه الأنظار للمحطات الأجنبية أو العالمية، والمؤمل هو أن يتنبّه القائمون على الرسالة الإعلامية لمحاذير هذه النزعة، آخذين بعين الاعتبار أن حصيلة تفاعل الفضائيات العربية مع تطورات الأحداث منذ مطلع العام 2011م، وهي الفترة التي اصطلح على تسميتها بـ «الربيع العربي»، قد أفرزت حالة من التأثير الإيجابي في حركة التغيير، حيث تمكنت وسائل الإعلام من بلورة واقع جديد، يُمكن البناء عليه في أثناء الحوارات التي ستركز على أدوات الإصلاح، ومحاولة الخروج بمقاربات ترسم مستقبل الشعوب العربية نحو غدها المنشود.
نتفق على أن التطور التكنولوجي المتسارع، أدى لتقريب المسافات بين الدول والشعوب، الأمر الذي أوجد حالة من التنافس في الأداء الإعلامي، وبحكم هذا الواقع فقد بات الضخ الإعلامي (الإلكتروني) في متناول الجميع، وبمنهجية كثيراً ما تضع المتلقي في شيء من الحيرة، فهل يتقبل مضمون الفكرة، حتى وإن شعر أنها مدسوسة أو غير بريئة، أم أن منطق الأمور يستوجب التبصّر ومعرفة الدوافع والأسباب سعياً للتحقق والتّيقن؟
تحت شعار توفير مقومات الحرية والديمقراطية، تخّلت بعـــض الحكومات عن دورها بدعم وسائل الإعلام، مما أضعف الإيرادات المالية للصحف والمجلات الورقيــة للحد الذي بات يشوش على الوفاء بمتطــــلبات المهنة، وفي محاولة البحث عن البدائل، عوّل البعض على دور القطاع الخاص، والنتيجة على أرض الواقع هي أن معظم وسائل الإعلام خضعت لنفوذ وسلطة رأس المال بالمفهوم السياسي أو الأهداف التجارية، وهي معادلة مربكة، إذ نخشى بسببها أن تُمنح الفرصة للفضائيات الأجنبية التــــي تبـــث باللـــغة العربية أن تحظى مع الزمن بثقة الجمــــهور العربي، وهذا ما يتعارض مع فلسفة الجوهر الحـــضاري.
الأصل هو أن الفعل الإعلامي الذي ينسجم مع ذائقة الرأي العام «يُنشط» الحراك الوطني بمختلف الحقول المعنوية والإنتاجية، فهل لنا أن نشهد جرأة سياسية غير مسبوقة تقوّي دور الخطاب الإعلامي في مهمة المواكبة التي تُعزز الثقة وتقلل من عوامل الشك؟
من المفيد القول هنا بأن خبراء العلوم الاجتماعية، يرون أن «الرأي العام» من الأمور المحيّرة والمفاهيم المتضاربة، وهنالك تعريفات عدة للرأي العام، تتلخص في أنها مجموعة الآراء والنظريات والتوجهات والسلوكيات الشخصية المجردة، التي تتوافق وتنسجم تلقائياً مع المصالح المصيرية، وتتطلب الإحساس بأهمية القضايا التي تتصل بالتطلعات والطموحات العامة، وبناء على ذلك، يُعتبر الرأي العام المادة الأساسية للباحثين والمحللين الذين يسعون للإحاطة بواقع المجتمع المنوي دراسته، سعياً لتطوير حوارات وعلاقات قائمة، أو تأسيس مرحلة جديدة في مجالات التفاعل الإيجابي وتحقيق الأهداف المنشودة.
فيما يتعلق بمستقبل منهجية الحوار بين الدول العظمى والصناعية من جهة، والعالم العربي من جهة أخرى، فقد خلصت معظم الاستطلاعات التي أنجزت من قبل مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الغرب وتبلورت بشكلها النهائي منذ منتصف العام 1985، إلى أهمية «إشاعة المفاهيم الثقافية» السائدة في الغرب، بحيث تكون في موضع الاحترام أو التقليد والمحاكاة من قبل العرب، وهذا هو السيناريو الذي تمرر من خلاله السياسات المرسومة، وأخطرها ما يتعلق بمنهجية الاحتواء الاقتصادي.
يؤثر الرأي العام بما فيه من وجهات نظر وتيارات مختلفة وأفكار متعددة في الحياة السياسية بالاتجاه الذي يُسهم بتطوير النظم الاجتماعية، وفي ظل التقلبات الاقتصادية، ووفرة الإمكانيات المادية في بعض الدول وشحها في دول أخرى، فإن العلاقة بين الدولة والمجتمع تختلف من بلد لآخر، إذ تؤكد معظم الدراسات التنموية التي حاولت تحليل علاقة السلطة بالرأي العام، أن درجة ومنسوب النمو والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، هما المحور الأساسي الذي يُقرب وجهات النظر، ويُكرس قيم التسامح والتماسك.
 تتأثر دراسة الرأي العام عادة بجملة صعوبات، أهمها:  مجموعة المتغيرات المتلاحقة والمتسارعة على الساحتين الإقليمية والدولية، ولهذا فإن «فرضية» تفاعل الخطاب الإعلامي ومدى تأثيره في الرأي العام، تبدو شائكة، لأنها تصطدم بحجم التباين بين مختلف الشرائح، إلى جانب ارتفاع تحديات التقلبات السياسية والاهتزازات الاقتصادية، الأمر الذي يتطلب تفعيل دور المؤسسات الوطنية التي تمتلك الإرادة والقدرة على بلورة «خطاب إعلامي» يهتم برسم سياسات «مُحكمة»، تُعزز البناء الديمقراطي، والنهج الذي يُقوّي أسس العدالة ومفاهيم الحرية.
في محاولة توضيح مصطلح حوار الحضارات نقول: إن الحوار بمفهومه الشامل، هو من الضرورات الحياتية للمجتمعات البشرية، وعلى أرض الواقع يُعتبر الحوار منهجاً يعتمد على التفكير المستنير، والقدرة على إيضاح الحقائق بأساليب علمية، تنتهي إلى حالة من المعرفة المتبادلة، وعندما تتحقق هذه المعادلة، فإن نتائج الحوار تولّد سلوكاً إنسانياً، وقناعات تقف في مواجهة كل الاحتمالات السلبية التي كثيراً ما تُكرس النظرة الضيقة، أو أنها تقود إلى حالة من الصراع الذي يُهدد حياة الأبرياء، ويدمر ممتلكاتهم.
نقرأ في قاموس السياسة، أن لفظ «الحضارة Civilization» يعني: حالة متقدمة لمجتمع إنساني، تتجلى فيه الثقافة والمعرفة العلمية، وتزدهر الصناعة، ويتطور أسلوب الإدارة والحاكمية الرشيدة، وعلى المستوى الفردي، فإن الأصل في منهجية التواصل مع بقية الثقافات، يجب أن يكون مبنياً على الانسجام والاحترام المتبادل. 
في ميادين العلاقات الدولية، يأخذ أسلوب الحوار أكثر من اتجاه، إذ يُمكن للثقافات والحضارات أن تكون في أوج ازدهارها، وفي الوقت نفسه تختار علاقة متآلفة ومنسجمة مع غيرها، وعلى أرض الواقع، تعد اليابان من أبرز أمثلة التعايش الودي، القائم على جسور اقتصادية، تتحقق فيها المنفعة المتبادلة بينها وبين الدول التي ترتبط معها بعلاقات تجارية مستمرة، ومن الواضح أن صناع السياسة في اليابان عرفوا منذ البداية مفتاح الوصول لهذه النتيجة، فقد اعتبروا أنفسهم جزءاً من نظام عالمي متعاون، يُحافظ على الحرية الإنسانية في المجالات التقنية التي تبقي على الديمومة الحضارية.
 عندما تسود أجواء الحوار الثقافي بين شرائح المجتمع الواحد، تتهيأ الفرصة تلقائياً للتحصّن الفكري والمناعة المجتمعية ضد أي اختراقات محتـــــملة، وتبعاً لذلك، يكون التفاعل، والتنّوع الذي يتبلور كنـــتيـــــجة للحوار بجميع مقتضياته التي تؤمن بقبول الآخر والرغبة بمحاورته، بهدف التوصل لمساحة مشتركة تؤدي لتوحيد جسور التواصل، وفي غياب الحوار، تكون النتــــائج سلبية، حيــــث تتراجع قيم التوازن والترابط بين الـــــناس، ما يؤدي لأحد أسوأ احتمالين، فإما التصادم بين الأفكار والاتجاهات المتعارضــــة، وإما بروز طرف يتـــــحيّز لموقفه بسلوك قسري يفرض فيه سياساته وقراراته حتى وإن ألغى فيها دور الطرف المقابل.
 من إيجابيات الحوار، أنه يُسهم في تمتين أواصر التعايش مع ثقافة الآخر وفكره ورؤاه، وهذا ما يُعزز دور الثقافة نفسها، ويُقوّي عناصرها الذاتية، كما أن ثمار الحوار الثقافي تغذّي المسيرة الحضارية بين الأمم والشعوب، ومن أبرز منطلقات هذا الحوار إنضاج مسار الديمقراطية السياسية وتفرعاتها وآلياتها المختلفة، وتبعاً لذلك تتجلى معايير النقد الأدبي، الذي تستقيم فيه الجهود، وتتضح الأمور، ومن تحصيل الحاصل أن التوسع في ترسيخ فكرة النقد يُسهم في إلغاء الاحتقانات داخل المجتمعات نفسها.
نخلص إلى القول بأن الحوار فكر وفن، وهو يُولد مع الإنسان ويتطور نحو الأفضل أو يتأثر سلباً بالنشأة الاجتماعية التي تختلف بين بيئة وأخرى، ويأخذ الحوار موقعاً مهماً في العقيدة الإسلامية التي تستند إلى الحكمة والموعظة الحسنة.
من حيث المضمون والغاية المنشودة، فإن حوار الحضارات يندرج ضمن المشاريع الريادية التي تطمح إلى صوغ رؤى جديدة واقتراح استراتيجيات مستقبلية، تختار آليات عمل لطرح السؤال المعاصر، وهو: ما الأهداف التي نتوق لتحقيقها من حوار الحضارات؟
في محاولة الربط بين الخطاب الإعلامي وحوار الحضارات، نتـــــأكد أن التحدّي الذي يواجه الفضـــائـــــيات والصحف والمجلات الورقية في العالم العربي، يتمثل في سلسلة من المعوقات التي يُمــــكن توثيقها على النحو التالي:
لا يوجد مشروع استراتيجي يُنظم عمل الإعلام الفضائي، فقد تشعبت الفضائيات بين شاشة تهتم بالسياسة والفكر، وتتابع ما يستجد من وقائع وأحداث، ثم التوسع باستضافة أهل الفكر والمعرفة بمختلف المجالات، حتى يُصار لتأطير الحوار بالاتجاه الذي يُسهم بخدمة المسيرة الحضارية، وهنالك فضائيات تُمارس السحر والشعوذة ومعالجة المرضى على الهواء، وأخرى تُقدم مادة دعائية ورسائل كثيراً ما نلمح أنها لا توفر في مرآتها صورة للقيم النبيلة في المجتمعات العربية.
تندرج الصحف الورقية والمجلات المرموقة ضمن أبرز مظاهر التطور والرخــــاء الاقتـــــصادي، وهي تشكل قيمة مضافة لإنجازات الشعوب، ذلك لأنها توثق الأحداث والوقائع بمنهجية توطن فلسفة الحوار، وتعمق الإحساس بضرورة التنافس الذي يؤدي للرقي الاجتماعي.
من بين التحديات المستقبلية أمام صناع السياسة وحملة الأقلام العرب، أن مخرجات الصراع الدائر في أكثر من دولة عربية منذ مطلع العام 2011، أدت لتفريخ حركات إرهابية، بدأت أفعالها تضـّيق على دفء العلاقات على مستوى الدول والجماعات، الأمر الذي يحتاج إلى حالة من الدفاع المرن من قبل العلماء وأهل الفكر من أبناء هذه الأمة في دحض الشبهات التي يعتقد «الرأي العام العالمي» أنها تنبت في تربة العالم الإسلامي، مع أن حقيقة الأمر، أنها جاءت ضمن سياسات ومخططات الدول العظمى التي تحرص على مستقبل مصالحها التجارية خارج حدودها ■