جُوَانجْ چو.. عاصمةُ الثقافةِ الآسيويَّة

في منتصف الطريق من العاصمة الكورية الجنوبية (سيئول) إلى مقصدِنا جنوبها؛ مدينةِ «جوانج چو»، توقفنا في مدينة عجيبة هي «سو - وون». لم يأتِ العجب من اسمها، ولا من أشكال منحوتاتها الشجرية في حدائقها الممتدة على مرمى البصر، ولا من آثارها التاريخية التي تلهو جداول المياه تحتها وعبرها، بل العجب هو أننا نزورها في الشهر الذي خصصته للطاقة النظيفة!
كنا قرأنا قبل وصــــولنا بأســــبوعيــــن، أن الحكومة الكورية الجنـــوبية حظرت على المؤسسات العــامة تشغيل مكيفات الهواء لمـــدة أسبوع، من أجل التغلب على أسوأ أزمة لنقص الطاقـــة الكــهــــربائــــية، وأمرت باتـــخــــاذ تدابــــير احــــترازيــة؛ مثل تجهــيز مأوى لكبار السن والنساء الحوامل وغيرهم.
طلبُ الوزارة جاء بوثيقة رسمية أرسلت إلى جميع المؤسسات العامة في شتى أنحاء البلاد وعبر الهاتف، كما قررت الوزارة إطفاء الأنوار الداخلية في المؤسسات العامة مبدئيا، واستخدامها في الأماكن التي تحتاج إلى الإضــــاءة مثل الدَّرَج - الذي تبنته بديلا للمصاعد وفق الحاجة والطوابق تحت الأرض- بل وحثت المؤسسات العامة التي تملك مولـــدات الطوارئ بسعة أكبر من 500 كيلو وات إلى تشـــغيلها خلال الفترة من الساعة الثانية بعد الظهر حتى الساعة السادسة مساء، مع مراقبة متشددة في القطاع الخاص، لكن مدينة «سو - وون» لم تكن تطـــبق ذلك التحول للطاقة النظيفة تطبــــيقا لقرار حكومة البلاد، وإنما هو اتجاه تبنته منذ سنوات، ودعت في مؤتمر ليوم واحد حضرناه تجارب مماثلة لخمس مدن عالمية، ممثلة بعمدة كل منها، لتقدم هذه المدن تاريخها في توفير الطاقة، والتحول إلى الطــاقة البديلة والنظيفة.
حين تجــولنا في «سو - وون»، لم نَرَ سوى العربات التي تُشحــن بالكـــــهرباء المولَّدة بالطاقة الحركية، حتى محال العصائر كانت تُشغل خلاطات الفواكه التي تستمد كــهربتــــها من حركة شابات يقمن بقــــــيادة دراجـــة ثابتـــة، لتصبح الطاقة الحركـــية للعجلات تيارا كهربائيا، وكذلــــك محال أخرى تشحن الهواتف النقالة بالطـــريقة ذاتها.
أحسستُ بأن مدينة «سو - وون» تقدم أفــــكــــارًا جديدة، ولكـــن فكرتها الأساسية، كما رأيتها، هي أنها تمهد الطريق للوصول إلى مدينة «جوانج چو»، وأن علــي أن أستــــعد لأفــــكار تقــــدمها هذه المديــــنـــة الــــتي تؤهِّل بنيتــــها التحتية لتكون عاصمة للثـــقافة الآسيوية.
مجمع الثقافة الآسيوية
رحلتنا إلى مدينة «جوانج چو» كانت للمشاركة في منتدى جمعية الصحفيين الآسيويين الثقافي، الذي نُظم من أجل دراسة وتقويم مدى إسهام صحفيي أكبر قارات العالم في تعزيز التبادل والتواصل الثقافيين بين البلدان الآسيوية. تفتح مدينة «جوانج چو» ذراعيها لإعلاميين من كوريا واليابان وبنجلاديش وإندونيسيا وقرغيزستان وكمبوديا والفلبين ومصر وباكستان وسنغافورة وتركيا وڤيتنام، يتوزعون عبر تخصصات مختلفة وأجيال متباينة، مهمتهم التوصل- عبر جلسات نقاشية موسعة- إلى كيفية الحفاظ على والترويج للثقافة الآسيوية. قِسما المنتدى يتناولان، كما يحمل عنواناهما «دور الإعلام في ترويج وازدهار الثقافة الآسيوية» و«خصائص المجمعات الثقافية في البلدان الآسيوية»، مع التركيز على دور مجمع الثقافة الآسيوية المنشود، الذي يستضيف فعاليات المنتدى. والحقيقة أن أوراق المنتدى لم تحمل فقط صيغة التجارب البينية والخاصة بكل بلد، بل كان هناك مجال للحوار حول أدوار المؤسسات الثقافية كالمتاحف، والمنظمات الثقافية، وقصور الثقافة، وغيرها.
ويبدو أن هذا المجمع الثقافي هو لبُّ الأمر كله، لذا وجبت زيارة إنشاءاته التي تكتمل مرحلتها الأولى العام القادم، وتُختتم كلها بعد عشر سنوات! بدأت رحلة العجب، لأننا وجدنا أنفسنا في موقع الإنشاءات نتجه إلى باطن الأرض. خلاصة القول إن المصمم لم يشأ أن يكون مجمعه صادمًا للعيون بامتداده فوق الأرض، بل بدأ من قلب التربة، وكأنه يبحث عن جذور الثقافة في باطن القارة العملاقة، أراد أن تكون الأضواء آتية من السماء، كأنها وحيٌ للأفكار، أراد أن تنسجم الإنشاءات المعمارية مع الطبيعة، فتأخذ النور الطبيعي طالما أشرقت الشمس، وتسمح للأشجار بأن تنمو على أسقفه، ولسيقان البامبو أن تحيط به.
يا لها من عِمارة، ويا له من هدف أنشئت من أجله، كما يقول شعارها «ننثرُ بذورَ الثقافة، مثلما تنشر الزهور بتلاتها، فتتفتح براعم الثقافة الآسيوية».
يقف دليلنا أمام مجــسم للمجــمع يشبه قطعة البيتزا الضخمة المزركشة بالزيتون والفلفل! هذا هو المشهد الجوي للمكان بعد اكتماله، ولكن الأقسام الخمسة الأساسية كانت ترتفع أمامنــــا كلما بدأ الرجل الحديث: هذه هي وكالة معلومات الثــــقافة الآســـيوية، وتضم معهدًا للبحث الثقافي ومركزًا للمعلومات وأكاديمية ثقافية، تتخصص جميعا بآسيا. وهذه وكالة ثقافية للأطفال، تضم متحفا ومركز تنمية المحتوى الثـــــقافي. أما هنا فمركز الترويج الثقافي ويضــــم قاعات معـــــارض متعددة الاستخدامات، وهنا وكالة للتبادل الثقافي، بها قاعة 18 مايو التذكارية، ومركـــــز خدمة الزوار. وأخيرًا، مسرح الفنون الآســـــيوية، ويضم القاعة الكبرى التي تتسع لألفي مشاهد، فضلا عن قاعة محاضرات تتسع لجلوس 520 شخصا.
يقول لي سانج كي، الرئيس المؤسس لجمعية الصحفيين الآسيويين، إن «مجمع الثقافة الآسيوية» هو أضخم مشروع ثقافي في تاريخ كوريا الجنوبية، وسيكرس لتعزيز التفاهم بين الشعوب الآسيوية، والاحترام المتبادل بينها، فضلا عن ترويج الثـــقافات الآسيوية دون تمييز، من أجل النهوض بحياة الناس. هذا سيحدث، كما عرفت، عبر سبع مناطق ثقافية تحتويها المدينة، مثل شارع الأتيليه، وثقافات الطعام الآسيوي، وشارع الفنون التخصصية، ومناطق العروض الفنية المتبادلة، والثقافات الآسيوية التقليدية، والوسائل السمع - بصرية، والمناطق التقنية والتعليمية والحفاظ على البيئة الثقافية، وهي منطقة مقامة أمام جبل ميديونج، كمتنزه بيئي للبحث في الثقافة البيئية الآسيوية.
مدينة الديمقراطية
لكن لماذا اختيرت مدينة «جوانج چو» لتحمل على كتفيها هذه المهمة الشاقة؟ يُفسِّر لي سانج - كي: «هذه المدينة نعدها واحة الديمقراطية الكورية الجنوبية، إنها المدينة التي شهدت ميلاد حركة 18 مايو الديمقراطية، ومهدت للتحول في البلاد، حتى وإن جاء بعد سنوات طويلة من ذلك التاريخ».
ففي الفترة من 18 إلى 27 مايو 1980 تحركت انتفاضة شعبية ضد الرئيس الكوري الجنوبي شون دو- هوان، وهي الحركة التي سحقها في نهاية المطاف الجيش الكوري الجنوبي، لكنها كانت شرارة التغيير من الحكم الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي.
كان صديقي الكوري الجنوبي قد أعطاني نسخة مــــن فــــيلم ذاع صيتــــه، عنوانه «هوارياهون هايوجا». الفــــيلم بعكس عـــنوانه الجذاب (ويعني إجازة ساحرة) يتناول أحــــداث مدينـــــة «جوانج چو»، ويروي أنه بعد اغتيال الرئيس الكوري الديكتــــاتور بارك شنغ هي في 26 أكتوبر عام 1979 وقعت البلاد فريسة للفوضى وعدم الاستقرار لبعض الوقت وآلت السلطة بعد ذلك للرئيس شن دو هوان إثر انقلاب عسكري في 12 ديسمبر من العام نفسه.
استمرت الحركات المناهضة للديكتاتورية، لتبلغ مداها في 18 مايو 1980 بإقليم شولا الجنوبي بالمدينة عندما تدافعت الحشود الجماهيرية نحو الشارع. ولقمع الثورة نظمت الحكومة عملية عسكرية عرفت باسم هوارياهون هايوغا شارك بها أكثر من 20 ألف جندي نزلوا الشوارع والطرقات لقمع الانتفاضة على مدى 10 أيام.
الفيلم الذي يحمل اسم العملية العسكرية أشعل لدى الجمهور الكوري الجنوبي ذكريات أليمة استدعاها المخرج السينمائي كيم جي هوون بدقة. ركز الفيلم على قصص غير عادية لأشخاص عاديين، من بينهم مين وو سائق التاكسي وشقيقه الأصغر جين وو، وهما يتيمان عاشا حياتيهما معتمدين على نفسيهما بعد وفاة أبويهما. كان أحدهما يحب الممرضة شيناي التي التقى بها يوما أثناء تردده على الكنيسة. تقوم شرطة مكافحة الشغب مدججة بالرصاص وبالقنابل المسيلة للدموع بمطاردة المتظاهرين والمارة الأبرياء. شاهد مين وو شقيقه الأصغر ورفيق دربه جين وو يخرّ صريعا ويلفظ أنفاسه الأخيرة أمام عينيه. كان ذلك حافزا لمين وو لمواصلة النضال وبقوة وتصميم حتى سقط هو الآخر شهيدا من أجل الديمقراطية، بجانب والد حبيبته التي فقدت الأب والرفيق وبقيت وحيدة مع الأحزان.. وقد أنفق المخرج نحو 4 ملايين دولار لإعادة إحياء المشاهد الحقيقية، بل واستورد سيارات عسكرية من النوع الذي كان مستعملا وقتها من مصر، واستورد 20 ألف قطعة ملابس شبيــهة من الصين، فجاءت الأحداث مشابهة تماما لما وقــع من أحداث سواء بالسيارات أو بالزيين المدني أو العسكري، مما أدهش كثيراً من المشاهدين حين عرض في 2007م. الحدث التاريخي الكبير عرف الطريق إلى السينما الكورية عبر أكثر من فيلم مثل «خنفساء» عام 1996، و«حلوى بنكهة النعناع» عام 1999 هي أفلام تعرضت لتلك الأحداث التاريخية. «خنفساء» يجسد قصة فتاة صغيرة تعرضت لمشكلات بدنية ونفسية بسبب تلك الأحداث، و«حلوى بنكهة النعناع» يتناول الحوادث ومدى تأثيرها على الظروف المحيطة من خلال سرد ذكريات بطل الفيلم.
في مدينة «جوانج چو» الكورية انطلقنا مع تباشير ضوء الصباح الباكر إلى مقبرة النصب التذكاري لضحايا 18 مايو. كأن الشمس غابت كي تفسح للغيم مكانا ترشرش منه قطرات المطر فوق التماثيل الضخمة والخضراء لعدد من الجرحى من شباب النساء والرجال الذين حملوا لافتات وأعلام كوريا. لابد أن من بينهم شبابا مثل مين وو، وشقيقه.
صمتٌ يلف المكان وصرخات المطر تدق خفيفا فوق النصب التذكاري والعشب الأخضر. صمتٌ جعلني أحاول الإصغاء له وأنا أغمض عيني، لأحلم، فأجدني - عندما فتحتهما - أمام تلك التماثيل وشخوصها على قيد الحياة، تمضي قدما واحدا تلو الآخر، تترك أماكنها وتدعوني ومن معي من الجمهور لمتابعتها، في حين يدوِّي صوت عال لامرأة في ملابسها العسكرية.
ذات يوم، ربما
اكتشفت حين فتــــحت عيــني أنني لم أعد في حديقة المقبرة، بل هو المساء بمدرسة جوانج چو الثانوية للبنات حيث تعرض مسرحية مستوحاة من حياة أولئك الذين شاركوا في ما نعرفه في الوقت الحاضر باسم حركة جوانج چو الديمقراطية.
كل كتب التاريخ وفي ما يتعلق بمدينة جوانج چو تقول إنها مسقط رأس الديمقراطية الكورية، حيث تظاهر أهل المدينة للاحتجاج ضد الأحكام العرفية ومن أجل حرية الصحافة. مشاهد الحركة والهجمات العسكرية عليها، حية، لكن حتى الآن لا أحد يعرف من أعطى الأمر للجنود لإطلاق النار على هؤلاء الضحايا. على الرغم من أن انتفاضة جوانج چو الديمقراطية لم تجلب الديمقراطية مباشرة إلى كوريا الجنوبية، بل احتاج الأمر إلى حركات أخرى أدت في نهاية المطاف إلى بلد ديمقراطي نعرفه اليوم، فإنه في عام 1993 أعلن الرئيس كيم يونغ سام موقفه في خطاب: إن الدماء التي سالت في جوانج چو في العام 1980 هي حجر الزاوية في ديمقراطية هذا البلد.
تحولت طوابق مدرسة جوانج چو الثانوية للبنات إلى طبقات من التاريخ، أو عقود من الزمن، أو مشاهد انتقال من النظام العسكري إلى سواه، وكنا قد تلقينا إشارة تحذير قبل دخول المسرح بأننا قد نعاني من لحظات يكتنفنا فيها الظلام، وهي التي كانت في الواقع تعادل السنوات المظلمة للديكتاتورية التي تحكم البلاد.
في الطابق الزمني الأول، لم نكن نتخيل ضخامة هذا المشروع الفني. بدأ هذا المشروع كجزء من برنامج معهد التنمية الذي استضافه مسرح الفنون الآسيوية في مجمع الثقافة الآسيوية بجمهورية كوريا. وفي إطار بعثة لتطوير الفنون الآسيوية، تم إنتاج العمل المسرحي الفريد الذي يحمل عنوان «ذات يوم، ربما»، من قبل مجموعة من الفنانين والخبراء الدوليين من مجمع الثقافة الآسيوية في كوريا، ومتحف الفن، كوتشي، ومتحف القرن 21 للفن المعاصر، في كانازاوا في اليابان. و«احلم، فكِّرْ، تحدَّثْ» (dreamthinkspeak)، وهي شركة بريطانية تعد المنتج الرئيس.
اسمحوا لي أن أعترف بأنه عندما تم حظر استخدام الكاميرات لدينا اندهشت، وشعرت بالأسف، حيث يجب أن يرى القراء صورة مع الكلمات لبعض المشاهد من العمل الذي نكتب عنه. ولكن، عندما كنا نعبر العقود والطوابق، كان لزاما أن نرى أن مثل هذا الأداء فريد من نوعه، ويجب الحفاظ عليه، لإعطاء كل جمهور جديد نظرة الدهشة الطازجة. غرف التحقيقات التي تسيطر عليها الشرطة مليئة بالشباب الذين وقعوا في الأسر، يتأرجحون بين الاستجواب والتعذيب للاعتراف ببعض الجرائم التي لم يرتكبوها. اخترع المخرج هذه الطريقة عبر إظهار غرف بشكل منفصل يمكن أن تعطيك مشهدًا لا يراه الآخرون.
هذا الابتكار كان إحدى حيل المخرج البارز، وهو يثبت أنه إذا لم نتمكن من رؤية الصورة كاملة، فنحن لانزال قادرين على اكتشاف الحقيقة، حتى عندما غطى فريق من الممثلين والممثلات أعيننا بغمامات سوداء، كنا قادرين على الاستماع إلى أولئـــك الذين يعانون، وأصوات أجسادهم تتحرك، وقد يكونون قتلى، وربما يؤخذ بهم مــــسحولين إلى غرف التعذيب.
مرت كل تلك الســـنوات لـــــتصبــــح كوريا، مثل جميع البلدان المنفتـــحة تحت مظلة الأسواق المفتوحة، جميع العلامات التجارية تعبر الحدود تمهد طريق الحرير للعولمة. ويرسلنا المخرج الكبير إلى مستوى أعلى، وطابق آخر، وعقود جديدة من مراكز التسوق، وألعاب الفيديو، المتاجر والمقاهي (حيث يتم تقديم المشروبات الحقيقية مع الكعك الحقيقي!)، ولما لم يُسمح بالصور بدأت في رسم المشهد، وأنا أسأل نفسي: هل كان ذلك المشهد هو ما حلمت به حركة 18 مايو الديـــمقراطية؟ هل هذه هي الديمقراطية؟ أن نشترك معا في السلوك نفسه بالسعي لشراء المنتجات العالمية ذاتها؟ العديد من الأسئلة والقليل من الإجابات، كنتُ أتأرجح في أفكاري بين حلم جوانج چو وكابوس الحقيقة.
طيلة العرض نتابع سيدة عجوزا وهي تجر عربة يد تقليدية، إنها تسير ويساعدها الجمهور في تخطي الطوابق، وكنت أشعر بأن السيدة هي كوريا نفسها، وهي معنا تبحث في تلك العقود الثلاثة الماضية. وصلنا إلى الطابق الأخير لنشعر ببعض الاسترخاء، حيث تضاء الشموع أمام صور ضحايا 18 مايو. في جميع الغرف كانت هـــناك السيدات اللواتي يقدمن لنا الحلويات والمشروبات، وحتى سألتني أن أغني بينما كانت تؤدي حركاتٍ راقصة، في نهاية الأغنية هتفت والجنسياتُ كلها تردد ورائي: تحيا بلادي.
كما الإنتاج، كان الجمهور متعدد الجنسيات. بدأنا نشعر بنبضات قلوب أولئك الضحايا الغائبين، وحين عدنا إلى أماكنهم على خشبة المسرح بالطابق الأول أصبحنا في مكان أولئك الذين كانوا في المشهد الأول، فكنا نحن تلك التماثيل ذاتها، في حين وضعت مئات الشموع على المقاعد، التي كانت تستقبل الجمهور.. تبادل للأماكن، ومزيد من الذكريات.
جاسيجي ماسيجي: بينالي الأفكار
سنلتقي مع أحد أبطال حركة 18 مايو الديمقراطية، ولكنه لن يتحدث عن التاريخ، بل سيحدثنا عن المستقبل، خاصة مستقبل الفن، إذ إنه يشرف على أشهر حدث فني تشكيلي في البلاد؛ بينالي «جوانج چو».
حينما نسمع كلمة بينالي، وهي وحدها تعني حدثا يقام كل سنتين، يترادف معها الفن التشكيلي، خاصة المعاصر. لكن بينالي «جوانج چو» مخصص للتصميم، إنه ينقل الفن من مساحة النخبة إلى فضاء العامة، حيث يدخل التصميم، كفنًّ، في حياتنا اليومية. كل عامين تخصص فكرة تتناوبُ عليها كل الأعمال، هذه المرة تدور الأفكار حول «أي شيء يمكن أن يصبح شيئا».
أي شيء، أو جاسيجي باللغة الكورية، يتحول على أيدي هؤلاء المصممين إلى شيء له معناه وقيمته وشكله وفائدته، لأن التصميم هو قلب الحياة اليومية. حين نستخدم الأشياء في البيت والمكتب والشارع فهذا يعني أن مصمم هذه الأشياء منحها وظيفة تؤديها، وهذا يعني، مع جودة التصميم، أن لدينا شيئًا خاصا بنا وله فائدة.
التصميم في بينالي «جـــوانج چو» مفهومٌ كوني شامل، لأن المصــــمم الجيد عليه أن يفهم طبائع البشر، وأن يرى الأشـــياء بعيــونهم، وبالمعنى الدقيق يمكن لكل امرئ أن يصبح مصمما، ولذلك لم يكن غريبا أن يخصص البينالي قسمًا لتصميمات ربات البيوت والأساتذة والأطفال وغيرهم من المواطنين العاديين، وهي جرأة تُحسب للقائمين على العمل الضخم.
كذلك نجد أن التصميم ينمو ويتطور جنبا إلى جنب مع المجتمع، انظر إلى تطور عربة الأطفال، وإلى تطور الدراجة، إنها تتبدل لتضيف مفاهيم الفخامة والرفاهية، لكنها تظل تقدم الخدمة أو الوظيفة التي صممت من أجلها. المصمم الجريء ينقل المجتمع إلى آفاق جديدة، يجعله يستريح إلى التغييرات، ويتقبلها، ويتبناها، ويدعو لها.
الأهم هو أن التصميم هوية. التصميم يساعدنا بشكل لا حدود له لتعريف ذواتنا، يكفي أن ترتدي نظارة محددة ليكتشف الآخرون، من تصميمها ميولك الشبابية، والألوان التي تحبها، وصرامتك التي يعبر عنها إطار العدستين. هويتنا تكمن في اختيار تصميمات تحدد كيف يرانا الآخرون من خلالها.
وإذا كانت «جاسيجي» تعني أي شيء، فإن «ماسيجي» معناها: شيءٌ ما. لا أحد يكترث بشيء ليست لديه علامات. أنت تضيف شيئا لتعكس فكرة تقدم الشيء/ التصميم للمتلقي. وهنا يتأكد لنا في بينالي «جوانج چو» أن التصميم أذواق. إنها قدرة التصميم على الإفصاح عنا، وعما نريد أن نكون. الاختلافات التي تعبر عنها الألوان والرموز والصور لتحكي عنك كل شيء تود إخباره للآخرين.
التصميم يحدد الشخصية، فهذا جوهره الحقيقي، والأهم أنه يضيف قيمة للفن. فالتصميم يقع في المساحة الرمادية بين الفن والتجارة، وهو يعطي قيمته الإضافية حين ينجح المصمم في عرض قيمة تجارية، تحرك المستهلكين لشرائه. إن أكياس الهدايا التي نشتريها لها هدف واحد هو تعبئة شيء بداخلها، لكننا نختار بين هذه الأكياس لأكثر من سبب، وبالتحديد لأكثر من قيمة، وهنا لب التصميم. ولن تكون للتصميم فائدة دون أن يحقق هدفه، أو أهدافه بالتحديد، الجمالية والمنفعية.
على مائدة الكيمتشي
ذات مساء تمتد الموائد التقليدية للطعام الكوري الشعبي. موائد تقليدية لأنها تجبرك على الجلوس أرضا، وطعام كوري شعبي لأنك يمكن أن تصفه دون أن تكتشف كنهه، في معظم الأحيان. من الممكن أن يتبرع أحد ليشرح لك ماذا يعني مثلا طبق البيبيمباب، فتعرف أنه المكون من الأرز المسلوق المضافة إلـــيه تشكيلة من الخضر، اللحم أو المأكولات البحرية، بالإضافة إلى البيض المقلي، كأحد أشهر الأطباق الكورية التقليدية. بالطبع إذا زرت كوريا مراتٍ فستجد عائلة (الكيمتشي)، الذي يعد أحد أفضل خمسة أطعمة صحية في العالم، مع زيت الزيتون والصويا والعدس واللبن.
الكيمتشي، وهو أشهر أنواع المخللات الكورية، يحتوي على كميات كبيرة من الألياف المفيدة، ويعد غنيا بفيتامينات »أ« و»ب« و»ج« وبه مقادير كبيرة من بكتيريا الحمض اللبني المفيدة، التي تجعل منه غذاء فعالا وواقيا من الإصابة بمرض السرطان. صحيح أن هناك أنواعًا عديدة من الكيمتشي، حسب مكوناته المستخدمة في إعداده، ولكن الكوريين يعنون بكلمة «كيمتشي» الملفوف (الكرنب).
يحتوي «كيمتشي» على 18 وحدة حرارية لكل 100 جرام، لذلك يعد طعاما قليل السعرات الحرارية، ويحتوي على كميات كبيرة من الكالسيوم، والحديد، والفوسفور، مما يجعله فاعلا في وقاية العظام وصحتها ويقي من فقر الدم، كما يحوي الثوم كمكون رئيس لمادة أليسين، ولها خاصية عالية في مكافحة البكتيريا الضارة، ولعل ذلك ما دعا إلى اعتبار الكيمتشي السبب الرئيس في عدم تأثر كوريا نسبيا وسلامتها من «إنفلونزا الطيور» الذي اجتاح آسيا قبل سنوات.
عادة ما يتناول الكــــوريون الكيمتشي مع الأرز. وبما أن الأرز هناك يطـــــبخ عـــادة دون أي مقبلات أو توابل، فيـــتم تناوله عادة إلى جانب طبق آخر جانبي مثل الكيمتشي. وهناك أيضا المأكولات البحرية المخللة، وهي المكون غير النباتي المستخدم في إعداد الكيمتشي، فهي غنية بالبروتيـــــن الذي يفتقر إليه الأرز وعند تخمير الكيمتشي، تتجزّأ البروتينات الموجودة في المأكولات البحرية المخللة إلى أحماض أمينية، وتصبح مصادر منتجة للكالسيوم.
ما لم يحتج إلى شرح كانت وجبة السمك، تلك التي أنضجتها نيران الشواء، ففتحت ذراعيها، وكان هناك طبق به عشرات من الأسماك الصغيرة التي لا يزيد طولها على بضعة سنتميترات وتشبه أسماك البوري بعد أن تحولت إلى أقزام، وعرفت أنها نوع من المقبلات.
أحد عشر كوكبًا موسيقيًا
اعتقدنا بعد تلك الوجبة التي امتدت لساعتين أننا سنتجه إلى الفندق، ولكن البرنامج كان يضم عرضا موسيقيا، (ظننا أنه ألغي بسبب الوقت)، وبدلا من ركوب السيارات، ولدواعي الهضم، قرر المنظمون أن نسير من المطعم إلى دار الأوبرا، مشوار يمكن أن يهضم كل ما تناولناه خلال فترة إقامتنا بسبب اعتماد الكوريين على أطعمة قليلة السعرات الحرارية. وحين وصلنا إلى الأوبرا، أخذنا نصعد درجا وراء آخر، حتى وصلنا إلى ساحة المسرح، لكن العرض كان يستحق المغامرة، لأننا نسينا الكيمتشي وأخواته ومائدته وسعراته، وعشنا ليلة من ألف ليلة وليلة آسيوية مع كونشرتو أوركسترا آسيا للموسيقى التقليدية، والذي أقيم احتفالا بلقاء وزراء ثقافة كوريا ودول جنوب شرق آسيا في مدينة «جوانج چو».
مدير الأوركسترا تشوي سانج وا يؤمن بقوة الموسيقى التقليدية، وكيف أنها تعزز فهمنا لذواتنا والآخر، تاريخيا وثقافيا، فضلا عن أنها تجتاز حدود اللغات والعادات لنقف معًا. في العرض فاجأتني الوجبة الدسمة التي قدمها أحد عشر كوكبًا موسيقيا، كل كوكبٌ له أقماره التي تعزف وتغني، بل وترقص أحيانا. كانت النوتة العربية تتسلل أحيانا خاصة عند عزف العود لأكتشف الهجرات العربية عبر طريق الحرير الموسيقي.
أين كان يمكن أن أرى «الحاجة ستي نور مايا كورني بونتي آدي» القادمة من سلطنة بروناي، وهي تغني بينما تجوب المسرح كفراشة مع فريقها الموسيقي الذي يعزف أحدهم على عوده؟ عرفت أن هذه الرقصة اسمها «جيبين وجوجيت». أين كنت سأسمع «سينات نو» الكمبودية، تلك الزهرة الخضراء في بستان أرز أبيض أوحتْ به لي ملابس الفريق المصاحب لها؟ كان لكل كوكب مداره وأقماره وموسيقاه وأوتاره. كانت تقدم رقصة المنديل الأحمر التقليدية الشهيرة. ومن كوريا حمل الافتتاح أغنية «بيتجويل آريرانج» التقليدية المجسدة لروح مدينة «جوانج چو» الحامية للثقافة التقليدية، تلاها عرض تايلاند «حياة الأرز»، الذي قسم إلى أربع حركات تبدأ بلقاء الزوجين؛ مطر السماء وثرى الأرض، ليولد الأرز، يليه نمو الأرز الأخضر، ثم مراسيم الحصاد، وأخيرًا الحرية، حيث يمكن أن يدخل الأرز في صناعات كثيرة بحياتنا.
من فيتنام قطعة من الخيال لاثنين يجسدان الشعب الفيتنامي، ويعبران عن صوتين متمايزين للحب، الهادئ والهادر. ومن ميانمار اشتق العرض من خمس أغنيات شعبية، لها الإيقاع ذاته واللحن نفسه، مع اختلاف الكلمات، وكأنها لعبة تورية بالكلمات، وهي أيضا روحٌ شعبية يمكن أن نجدها لدى لهجاتنا العربية المحكية المحلية. تبارت فرق لاوس والفلبين وسنغافورة وماليزيا في براعة لتكمل مشهد الليلة الساحرة، وكان في فريق جمعية الصحفيين الآسيويين صديقنا الإندونيسي إدي سوبرابتو، الذي يدير إحدى القنوات التلفزيونية، فكان يردد الأغنية الإندونيسية. مثلما كان هناك آيفان ليم أحد مؤسسي الجمعية من سنـــــغافورة، وأخـــذ الجميع ينشد بعد أن انطلقنا في شوارع سيئول الأغنية التي عزفها الأوركسترا التقليدي: سنجابورااا!
حسبتُ أننا بدأنا بالمؤتمر، نظريا، وانتهينا إلى التطبيق، عمليا. كنا نبحث في سبل التواصل الثقافي بين الشعوب الآسيوية، وها هي مدينة «جوانج چو» تقدم لنا النموذج. إنها رسالة أن ننتقل من مرحلة نثر الأفكار إلى منطقة غرس التطبيقات. لم تعد مدينة «جوانج چو» مدينة ديمقراطية كورية وحسب، بل أصبحت مدينة ديمقراطية ثقافية تسمح للأصوات أن تغني، وللحياة أن تعبر عن نفسها، حياة الجميع، بكل فهم وحب ومساواة .
في مدينة (سو ـ وون) على مسافة 30 كيلومتراً جنوب سيئول تقع قلعتها العريقة (هواسيونج) المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي الجدير بالحماية