الأمن الفكري وحرب المعلومات الـحديثة
تحتل المعلومات مكان الصدارة في عصرنا الحالي، إذ تعاظمت أهميتها بفعل ما أسفرت عنه التطورات التقنية والاتصالية وما نجم عن ذلك من وفرة معلوماتية وسهولة في الاستخدام والتداول وإلغاء للحدود الجغرافية بين جهات الكون، حيث تلاشت الحواجز وتداخلت المصالح والتبادلات وانفتحت الأسواق العالمية ونشطت التجارة الحرة تحت ظلال العولمة. إن الواقع الجديد أفرز حالة من التنافسية الدولية لملاحقة التطورات المستمرة والتحولات المتسارعة في المجالات الاتصالية والتقنية، وأضحت حرب المعلومات مشتعلة بين الدول التي تريد أن تفرض سطوتها على الفضاء الكوني لضمان مصالح شركات «التكنوإلكترون» وصنّاع المعلومات مالكي وسائل الإعلام من طرف وأصحاب القرار السياسي والاقتصادي من طرف آخر.
فحرب المعلومات أضحت اليوم مصطلحًا متداولاً، وربما أصبح استخدامه في الجانب التطبيقي يتجاوز استخدام الأسلحة الحربية لما يتوافر عليه هذا المفهوم من قدرة احتوائية لمجمل القضايا والجوانب الحياتية.
والمقصود بحرب المعلومات هي الطريقة الأفضل لاستثمار نظم المعلومات لتحقيق حالة من التفوق على الآخر، وفرض الخطاب الموجه إليه بعد إضعاف آليات دفاعه المعلوماتية وإفشال خططه المعتمدة على صناعة المعلومات وطرق معالجتها فكريًا وفنيًا بغية استخدامها للتأثير في الجمهور وتغيير قناعاته أو توجيه سلوكه بما يتناسب والأهداف المرسومة لكل طرف، لقد توسعت مجالات استثمار المعلومات في عديد المجالات، وشملت مواقع جديدة ابتدأت باستعمال الطرق التقليدية كاستخدام الشفرات لتضليل العدو وضمان وصول المعلومة المطلوبة إلى الجهة المستهدفة دون تحريف. وتطور الحالة بعد اختراع الإذاعة المسموعة، حيث أصبحت المعلومات وسيلة لخلق عامل التأثير في الآخر وذلك من خلال بث الإشاعات والأخبار المزيفة بغية خلق حالة من التأثير النفسي في صفوف المنافس, وهو ما أطلق عليه الحرب النفسية.
حصل هذا عندما كان البث هرتيزيًا وفي نطاق محدود، ونتيجة لذلك نشأت أزمات بين الدول وزادت حدة الأزمات حين تحول الإرسال عبر السواتل، إذ أصبحت مساحات البث أبعد والاستقبال للمعلومة يتجاوز الحدود المحلية، ومع دخول خطاب الصورة المرئية عبر السينما والتلفزيون سرعان ما انتبهت الدوائر الإعلامية العالمية إلى إمكانات وخطورة وقوة تأثير الخطاب البصري في التلاعب بالعقول والاتجاهات، فعمدت مباشرة إلى استثماره من خلال الكم الصوري الهائل الذي تحيط بنا أمواجه من كل الجهات، حتى بات إنساننا اليوم محاصرًا بأمواج المد المرئي، التي تكاد تغرقنا بهذا المارد الضوئي الخطير الذي يعيد صياغة عقولنا وإحساسنا ويرسم سلوكنا ويحدد قناعاتنا بكل شيء.
ثورة التكنوإلكترون
ومع ثورة التكنوإلكترون والتطورات الاتصالية المتلاحقة وما تحقق بفضلها من لحظة استثمار الأقمار الاصطناعية وابتكار الحاسوب، وصولاً إلى عصر الرقمية وأجيال الهواتف النقالة اختلف توظيف المعلومات تمامًا، حيث أصبح بالإمكان ملاحقة البشر في كل مكان، حيث استخدام الفضاء وطائرات التجسس من دون طيار، وبناء قواعد المراقبة عن بعد، وكشف الخطط وسرقة المعلومات عن طريق الاختراق - الهاكرز - لكشف القوة المعلوماتية لدى الآخر وتدمير الخطط والتحضيرات ومعرفة مواقع القوة والضعف، وبالتالي إعادة بناء قواعد معلومات جديدة تنسجم مع التحديات والإنجازات الحديثة في مجال تقنية المعلومات، وتتصاعد حدة المنافسة في استخدام المعلومات في حالات الصراع واشتداد الأزمات، سواء بين الأفراد والشركات أو المؤسسات أو الدول، حيث إن صناعة المعلومات واستخداماتها تقف خلفها مؤسسات دولية عملاقة تعمل على إدارتها وتوجيهها لتحقيق أهداف إستراتيجية مرسومة بدقة ودراية.
وتتطلب تلك الصناعة ميزانيات ضخمة وكفاءات مميزة ورقابة عالية الجودة، لأن المعلومات تمر بمراحل إنجازية، ولابد أن تمر بمرشحات عدة لضمان تحقيق الأهداف وفق ما تقتضيه الحالة، والسرعة والتوقيت، ويقف وراء ذلك محللون وعلماء نفس واجتماع ومصممون ومبرمجون وخبراء في الجانب الإعلامي والتخطيط لوضع آليات التنفيذ لكل ظاهرة أو حدث طارئ أو إستراتيجية بعيدة المدى وكيفية رسم شكل وأسلوب المنتج المعلوماتي الذي يكون قابلاً للاستهلاك والإقناع، وتحقيق الأثر المطلوب لدى الجمهور المستهدف داخليًا أو خارجيًا، وهنا يلعب العامل النفسي دورًا مهمًا في تهيئة المتلقي ورفع درجة استقباله للمعلومات الموجهة إليه في المكان والزمان المناسبين.
المنافسة والصراع المعلوماتي
يتصاعد الصراع في مجال المعلومات مع تطور الإمكانات التقنية، ولعل الدول الصناعية الكبرى تستحوذ على قدر أكبر في عمليات التحكم المعلوماتي وتضطلع الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة كبيرة من التعامل في مجال تقنيات الاتصال، ثم تأتي بعدها الصين واليابان وأوربا بما يجعل من هذه الأقطاب محورًا كونيًا لإدارة وإنتاج الأجهزة والبرامج التي تسهم في دعم اقتصادها الحديث، ورسم سياساتها العالمية، فبعد انتهاء الحرب الباردة وانتفاء مهام أمريكا في تفكيك المعسكر الاشتراكي تحولت إلى تجسيد أهداف جديدة، والسعي لتحقيق خطط مؤجلة لكن حان أوانها، فبعد تصدير مفهوم العولمة الذي يعد أبرز إفرازات التكنولوجيا الرقمية الذي سعت من ورائه إلى فرض أنموذجها الفكري والثقافي من خلال استثمار سلاح المعلوماتية والاقتصاد الرقمي والبرامج الإلكترونية المتنوعة، هادفة إلى تذويب خصوصيات الغير، وإشاعة هويتها الكوزموبوليتانية الشمولية ولاغية الخصوصيات بعد تفتيت الأوطان والإثنيات، جاعلة من الإنسان كائنًا كونيًا بالمطلق، والهدف الأبعد من وراء ذلك كله هو الهيمنة على الثروات الإستراتيجية كالطاقة والوقود والعمل على تحويل البلدان إلى أطراف تابعة لمركزها، وما هي إلا أسواق استهلاكية مفتوحة لتجارتها الحرة وسلعها التكنولوجية، مستغلة بذلك حالة التفوّق المعلوماتي ليكون بديلاً عن تلك المذاهب والأيديولوجيات والأديان والعقائد ليس في ما يتعلق بالمقدس فقط، بل من ناحية التأثير والتحكم وتغيير القناعات ودمج الثقافات في ركب المجتمع العالمي الشمولي كجزء من حالة التنوع والانفتاح الثقافي - الفولكلوري - والتعددية التي ينادون بها هامشيًا، لكن تطبيقها يأتي بما يصب في خدمة الأهداف المرسومة، وتحويل بلداننا إلى مجرد أسواق استهلاكية لتجارتها الحرة وسلعها التقنية التي تصنع في مخابر الغرب، وتصدر إلينا لنستهلكها دون تمحيص أو رد مقابل، مما ساهم في استمرار حالة الاستهلاك السلبي والتعامل بإيقاع بطيء مع التقنيات الحديثة ومجريات تطوراتها السريعة، الأمر الذي يحتّم علينا أن نعيد النظر في كيفية التحكم بالمعلومات واستخدامات الأجهزة الرقمية، ولاسيما أن الواقع يشير إلى حالة من الاتساع للبيئة الرقمية وتنوّع استخداماتها الضرورية لتلبية متطلبات عصرنا الحالي، وهذا يستوجب امتلاك ناصية الإدارة الإلكترونية والتربية على كيفية التعامل إيجابيًا معها، حيث إننا نطمح إلى أن تكون لدينا في القريب العاجل حكومة إلكترونية وإدارات وبنوك وتعاملات اقتصادية تنجز عن بعد، أسوة بدول العالم المتحضّر استثمارًا للوقت واختصارًا للجهود، وسط حالة من المنافسة في الحرب المعلوماتية الدائرة رحاها وسط عالم تكنوإتصالي تحتاج منا إلى سياسة معلوماتية مستقبلية تساهم في تقريب الفجوة الرقمية بيننا وبين الآخر وتعمل على وضع برامج تشجع على الاستخدام والتعامل مع المحتوى الإلكتروني واعتماده بديلاً من التعامل الورقي وما يتطلبه من تكاليف خزن وأعباء نقل وتجاوز لحالة الروتين الإداري، ومن أجل بلوغ الخطوة التالية لابد من تطبيقات تدريبية للقوى العاملة في مجال الإعلام والإدارة والتجارة الإلكترونية والاهتمام الكبير بهذا المجال الحيوي لغرض صيانة المعلومات الوطنية والتحوّل إلى البيئة الرقمية التي تجعل المعلومات في خدمة الإنسان وإسعاده، بدلاً من تحويلها إلى أداة تخريب واعتداء على الحقوق، وما يشاع اليوم من ممارسات سلبية من قبل الشباب من مستخدمي الإنترنت، حيث يقوم البعض بالقرصنة المعلوماتية التي تعتبر إحدى الجرائم التي يعاقب عليها القانون.
ولهذا نطالب بضرورة إيجاد تشريعات تختص بالاستخدام المعلوماتي الإلكتروني ومعالجة المشاكل المتعلقة به، كما ندعو إلى إنشاء مركز متخصص باستثمار المعلومات وضمان الأمن المعلوماتي والفكري بغية تحصين المواطن من الانحراف نحو التطرف والإرهاب، كما ينبغي أن يدخل بلدنا في مضمار المؤسسات الراعية للتعامل التقني والإلكتروني، مثل مركز مكافحة القرصنة المعلوماتية الذي أنشئ في ماليزيا، ويضم أكثر من ستين بلدًا.
وأخيرًا نقول إن اعتماد هذه السياسات المتعلقة بالأمن الفكري والمعلوماتي من شأنه أن يساهم في وضع أسس حديثة للتعامل الإلكتروني، بما يشكّل عاملاً فاعلاً في حل كثير من القضايا التنموية والإدارية وتذليل المصاعب أمام تعاملات المواطن وتلبية احتياجاته اليومية.