التعريب العلمي

التعريب العلمي

ما‭ ‬إن‭ ‬يطرح‭ ‬موضوع‭ ‬التعريب‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬العلوم‭ ‬حتى‭ ‬ينقسم‭ ‬المتحاورون‭ ‬إلى‭ ‬مجموعتين‭ ‬تدعي‭ ‬إحداهما‭ ‬عجز‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬المدلولات‭ ‬العلمية،‭ ‬فيقال‭ ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬لغة‭ ‬علمية‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬الشعر‭ ‬والأدب‭ ‬عموما‭. ‬فترد‭ ‬عليها‭ ‬المجموعة‭ ‬الثانية‭ ‬بحشد‭ ‬من‭ ‬الأدلة‭ ‬التاريخية‭ ‬عن‭ ‬تطويع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬العلوم‭ ‬لدى‭ ‬علمائنا‭ ‬الخالدين‭.. ‬الكندي‭.. ‬ابن‭ ‬سينا‭.. ‬ابن‭ ‬الهيثم‭ ‬والرازي‭...‬إلخ‭. ‬وبالتالي،‭ ‬فإنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لغة‭ ‬للعلم‭ ‬ولا‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬التعريب‭ ‬العلمي‭.‬

ومع‭ ‬كثرة‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬ويكتب‭ ‬عن‭ ‬الموضوع،‭ ‬قلما‭ ‬طرح‭ ‬الموضوع‭ ‬خارج‭ ‬هاتين‭ ‬الدائرتين‭ ‬وإن‭ ‬خرج‭ ‬عنهما‭ ‬فلكي‭ ‬يعود‭ ‬إليهما،‭ ‬بينما‭ ‬يستمر‭ ‬التساؤل‭ ‬كيف‭ ‬ولماذا‭ ‬نعرب؟‭ ‬ويستمر‭ ‬النقاش‭ ‬وكأنه‭ ‬لم‭ ‬يضف‭ ‬شيئا‭!‬

ومع‭ ‬اعتزازي‭ ‬بأولئك‭ ‬الذين‭ ‬يدافعون‭ ‬عن‭ ‬تعريب‭ ‬تعليم‭ ‬العلوم‭ ‬وكتب‭ ‬العلوم‭ ‬ومصادرها،‭ ‬أرى‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يحاربوا‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬العصر‭ ‬والمنطق‭ ‬العلمي‭ ‬نفسه‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تمترسوا‭ ‬وراء‭ ‬الأسانيد‭ ‬التاريخية‭ ‬فسحبوا‭ ‬القضية‭ ‬إلى‭ ‬دائرة‭ ‬التاريخ،‭ ‬وما‭ ‬التاريخ‭ ‬إلا‭ ‬بعض‭ ‬جوانب‭ ‬الصورة‭. ‬ولشدة‭ ‬ما‭ ‬أعادوا‭ ‬الأدلة‭ ‬ذاتها‭ ‬–‭ ‬وهي‭ ‬صحيحة‭ ‬وثابتة‭ ‬وحاسمة‭- ‬دون‭ ‬استلهام‭ ‬دلالاتها‭ ‬كاملة،‭ ‬بدوا‭ ‬وكأنهم‭ ‬سقطوا‭ ‬في‭ ‬وهم‭ ‬تقسيم‭ ‬اللغات‭ ‬إلى‭ ‬قادرة‭ ‬وغير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬العلوم‭ ‬ومفرداتها‭! ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬أحسب‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك‭ ‬برغم‭ ‬كثرة‭ ‬التأمل‭ ‬فيه‭. ‬بل‭ ‬هو‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حق‭ ‬الأمة‭ ‬وواجبها‭ ‬أن‭ ‬تتعلم‭ ‬بلغتها،‭ ‬ومن‭ ‬يتوهم‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬يدير‭ ‬ظهره‭ ‬لحقٍّ‭ ‬أساسي‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬الأمم‭ ‬ويتهرب‭ ‬من‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬أقدس‭ ‬واجباتها،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬العلوم‭ ‬كشفا‭ ‬عن‭ ‬القوانين‭ ‬الموضوعية‭ ‬وتعاملا‭ ‬معها،‭ ‬فإن‭ ‬استيعاب‭ ‬تلك‭ ‬القوانين‭ ‬بالسبل‭ ‬والمدركات‭ ‬التي‭ ‬تضمن‭ ‬لها‭ ‬الوضوح‭ ‬والحياة‭ ‬والتأثير‭ ‬في‭ ‬الأمة،‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القوانين‭ ‬ومتمم‭ ‬لتأثيرها‭ ‬حتى‭ ‬ليكاد‭ ‬يكون‭ ‬قانونا‭ ‬هو‭ ‬الآخر،‭ ‬فبقدر‭ ‬ما‭ ‬يتيسر‭ ‬لك‭ ‬استيعاب‭ ‬القانون‭ ‬تتيسر‭ ‬لك‭ ‬السيطرة‭ ‬عليه،‭ ‬أي‭ ‬تتيسر‭ ‬لك‭ ‬الحرية‭ ‬مادامت‭ ‬الحرية‭ ‬فهما‭ ‬للضرورة‭ ‬وسيطرة‭ ‬عليها‭. ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬يشيع‭ ‬ذلك‭ ‬الاستيعاب‭ ‬تشيع‭ ‬روح‭ ‬التحرر‭ ‬ويسود‭ ‬منطق‭ ‬العلم‭ ‬حيث‭ ‬القوة‭ ‬والتقدم‭ ‬صعودا‭.‬

 

اللغة‭ ‬وقوة‭ ‬العلم

وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬الدول‭ ‬المستعمرة‭ ‬حين‭ ‬تفرض‭ ‬لغتها‭ ‬على‭ ‬مستعمراتها‭ ‬وتتشدد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بميادين‭ ‬العلوم‭ ‬بصورة‭ ‬خاصة،‭ ‬فليس‭ ‬لمجرد‭ ‬عجرفتها‭ ‬الاستعمارية‭ ‬واستعلائها‭ ‬القومي‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الإحساس‭ ‬بخطورة‭ ‬امتلاك‭ ‬الأمة‭ ‬المستعمرة‭ (‬بفتح‭ ‬الميم‭) ‬قوة‭ ‬العلم‭ ‬وآفاق‭ ‬قوانينه،‭ ‬وحتى‭ ‬إذا‭ ‬تلقاها‭ ‬بعض‭ ‬أبناء‭ ‬تلك‭ ‬الأمة‭ ‬بلغة‭ ‬المستعمرين‭ ‬فمن‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تقترن‭ ‬بتقدمهم‭ ‬هم‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تتحكم‭ ‬بأولئك‭ ‬المتلقين‭ ‬عقدة‭ ‬العجز،‭ ‬ومادامت‭ ‬لغتهم‭ ‬لا‭ ‬تمنحهم‭ ‬مطبوعا‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬التي‭ ‬تخصصوا‭ ‬فيها،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يوحي‭ ‬لهم‭ ‬إيحاء‭ ‬مخططا‭ ‬بأن‭ ‬ذلك‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬عجز‭ ‬شامل‭ ‬بعض‭ ‬أعراضه‭ ‬عجز‭ ‬اللغة‭ ‬عن‭ ‬استيعاب‭ ‬العلوم،‭ ‬وما‭ ‬تلك‭ ‬سوى‭ ‬مغالطة‭ ‬وخلط‭ ‬للأسباب‭ ‬بالنتائج‭ ‬تغطية‭ ‬للحقائق‭ ‬أو‭ ‬قلبها‭ ‬لأهداف‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬للعلم‭ ‬ولا‭ ‬للحقيقة‭ ‬بها‭.‬

فالحقيقة‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬اللغة‭ ‬ليست‭ ‬نبتا‭ ‬شيطانيا‭ ‬لا‭ ‬يتأثر‭ ‬بما‭ ‬حوله،‭ ‬وليست‭ ‬هي‭ ‬مجردات‭ ‬ثابتة‭ ‬لمطلقات‭ ‬عامة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬وسيلة‭ ‬الشعوب‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬مدركاتها‭ ‬وحاجاتها‭ ‬ووسيلتها‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الواقع،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬فقر‭ ‬لغة‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬المطبوع‭ ‬العلمي‭ ‬نتيجة‭ ‬لعجزها‭ ‬عن‭ ‬استيعاب‭ ‬العلم‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬لضعف‭ ‬الواقع‭ ‬العلمي‭ ‬أو‭ ‬تدهوره‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬ينطق‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭. ‬تلك‭ ‬هي،‭ ‬كما‭ ‬أرى،‭ ‬أبرز‭ ‬دلالات‭ ‬غزارة‭ ‬الإنتاج‭ ‬العلمي‭ ‬العربي‭ ‬يوم‭ ‬كانت‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬منارة‭ ‬العالم،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬الهلع‭ ‬يهز‭ ‬شارلمان‭ ‬وحاشيته‭ ‬وهم‭ ‬يستمعون‭ ‬لدقات‭ ‬ساعة‭ ‬الرشيد،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬نهضت‭ ‬أوربا‭ ‬وامتلكت‭ ‬أسباب‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬وارتقت‭ ‬صعدا‭ ‬وتخلفنا‭ ‬نحن‭ ‬أصبح‭ ‬النشر‭ ‬العلمي‭ ‬قرين‭ ‬اللغات‭ ‬الأوربية،‭ ‬بينما‭ ‬تضاءل‭ ‬في‭ ‬لغتنا‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬توهم‭ ‬بعض‭ ‬أبنائها‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لعجز‭ ‬فيها‭ ‬وتلك‭ ‬هي‭ ‬المسألة‭. ‬فكيف‭ ‬يوجد‭ ‬النشر‭ ‬العلمي‭ ‬دون‭ ‬علوم؟‭ ‬وكيف‭ ‬ينمو‭ ‬الأدب‭ ‬العلمي‭ ‬دون‭ ‬مادة‭ ‬له؟‭ ‬إنه‭ ‬غزير‭ ‬ومتواتر‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يصبح‭ ‬العلم‭ ‬ومنابعه‭ ‬سمة‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬المجتمع،‭ ‬والعكس‭ ‬صحيح‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬تكون‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬ذكر‭ ‬إنجازات‭ ‬ومؤلفات‭ ‬العلماء‭ ‬العرب‭ ‬الخالدين‭ ‬دليلا‭ ‬على‭ ‬حقيقتين‭: ‬أولاهما،‭ ‬المستوى‭ ‬العلمي‭ ‬الرفيع‭ ‬للحضارة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬أولئك‭ ‬العلماء‭ ‬رموزا‭ ‬لها‭.‬

وثانيتها‭: ‬قدرة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬الاستجابة‭ ‬لحاجات‭ ‬تلك‭ ‬الحضارة‭ ‬ومستواها‭ ‬العلمي‭ ‬الرفيع،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬نحن‭ ‬مع‭ ‬الدكتور‭ ‬يسري‭ ‬خميس‭ ‬حين‭ ‬أكد‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬‮«‬احتياج‭ ‬ملح‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬معرفة‭ ‬ما‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬تعكس‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ - ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬أكدنا‭- ‬المستوى‭ ‬الحضاري‭ ‬لفترة‭ ‬ما‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬المشكلة‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬ليست‭ ‬مشكلة‭ ‬اللغة‭ ‬ذاتها‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬مشكلة‭ ‬من‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬اللغة‮»‬‭.‬

 

التعريب‭ ‬العلمي

والحق‭ ‬أن‭ ‬مشكلتنا‭ ‬–‭ ‬والتعريب‭ ‬العلمي‭ ‬عندنا‭ ‬يتعثر‭ ‬ويتعثر‭ ‬منه‭ ‬أكثر‭ ‬النشر‭ ‬العلمي‭ ‬عموما‭ - ‬تنعكس‭ ‬فعلا،‭ ‬وإلى‭ ‬حد‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬به،‭ ‬في‭ ‬البعض‭ ‬ممن‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬المراكز‭ ‬العلمية‭ ‬والجامعات‭. ‬ويبدو‭ ‬تشخيصا‭ ‬صريحا‭ ‬لبعض‭ ‬حججهم‭ ‬في‭ ‬معارضة‭ ‬التعريب‭ ‬أو‭ ‬الالتفاف‭ ‬عليه‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬تسعفهم‭ ‬شجاعتهم‭ ‬في‭ ‬المعارضة‭ ‬مادام‭ ‬ذلك‭ ‬توجه‭ ‬الدولة‭ ‬وقيادتها‭ ‬نفسها،‭ ‬والذي‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يضعف‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحجج‭ ‬ويحد‭ ‬من‭ ‬تأثيرها‭ ‬كثيرا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نحاوله‭ ‬في‭ ‬النقاط‭ ‬التالية‭:‬

فقولهم‭ ‬بعدم‭ ‬إمكان‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬استيعاب‭ ‬التعبير‭ ‬العلمي‭ ‬مردود‭ ‬لا‭ ‬بالاستناد‭ ‬إلى‭ ‬الأدلة‭ ‬التاريخية‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬بالاستناد‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الحقائق‭ ‬التي‭ ‬تميز‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬نفسها،‭ ‬ولاسيما‭ ‬كثرة‭ ‬مفرداتها‭ ‬ومترادفاتها،‭ ‬فللسفينة‭ ‬في‭ ‬لغتنا‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أعلم‭ - ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬300‭ ‬اسم،‭ ‬وللسيف‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬480‭ ‬اسما،‭ ‬وللأسد‭ ‬عدة‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬كذلك‭.. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬لبعض‭ ‬أعضاء‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬لغتنا‭ ‬عشرات‭ ‬الأسماء‭ ‬للعضو‭ ‬الواحد‭. ‬وذلك‭ ‬ما‭ ‬يتيح‭ ‬إمكانية‭ ‬خاصة‭ ‬للعالم‭ ‬بالذات‭ ‬لاستعمال‭ ‬المرادف‭ ‬الأنسب‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الأنسب،‭ ‬بما‭ ‬يمنح‭ ‬التعبير‭ ‬قوة‭ ‬مضاعفة‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬نفسها‭ ‬تفتح‭ ‬للترجمة‭ ‬العلمية‭ ‬آفاقًا‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الرحابة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬مرهون‭ ‬بقدرة‭ ‬العالم‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬تلك‭ ‬الإمكانية‭ ‬اللغوية‭ ‬وعلى‭ ‬إلمامه‭ ‬بتلك‭ ‬الثروة‭ ‬اللفظية‭ ‬ودلالاتها‭ ‬وبطرق‭ ‬استعمالها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفتقر‭ ‬إليه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬علمائنا‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬أقل‭ ‬أكثرهم،‭ ‬ودع‭ ‬عنك‭ ‬أن‭ ‬بينهم‭ ‬من‭ ‬يفتقر‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬دون‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير‭!‬

نعم،‭ ‬ليس‭ ‬انتقاصا‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬القول‭ ‬بصراحة‭ ‬إن‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬أساتذة‭ ‬العلوم‭ ‬والباحثين‭ ‬العلميين‭ ‬في‭ ‬جامعاتنا‭ ‬ومراكزنا‭ ‬العلمية‭ ‬لا‭ ‬يتقنون‭ ‬الكتابة‭ ‬العربية‭ ‬بالسلاسة‭ ‬والتشابك‭ ‬الذي‭ ‬يمنح‭ ‬الفكرة‭ ‬الوضوح‭ ‬وقوة‭ ‬الحجة‭ ‬الضروريين‭ ‬للكتابة‭ ‬العلمية،‭ ‬ولعل‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬لجوء‭ ‬كثير‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬خلط‭ ‬جملهم‭ ‬المكتوبة‭ ‬والمنطوقة‭ ‬بجمل‭ ‬أو‭ ‬ألفاظ‭ ‬أجنبية‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬التي‭ ‬درسوا‭ ‬بها‭ ‬تخصصهم‭ ‬العالي،‭ ‬وليتهم‭ ‬يكتفون‭ ‬بذلك‭. ‬لا،‭ ‬فأنت‭ ‬تسمع‭ ‬بعد‭ ‬تلك‭ ‬الرطانة‭ ‬تبريرا‭ ‬لها‭ ‬بعجز‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وافتقارها‭ ‬إلى‭ ‬المفردات‭ ‬العلمية‭ ‬المناسبة‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭ ‬يقول‭ ‬الأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬إبراهيم‭ ‬السامرائي‭: ‬‮«‬ومن‭ ‬الغريب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أهل‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النفر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يحذق‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬حسنة‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬الأعجمية‭ ‬غربية‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬شرقية،‭ ‬إنهم‭ ‬يباشرون‭ ‬هذه‭ ‬اللغات‭ ‬حديثا‭ ‬وكتابة،‭ ‬وهي‭ ‬وسائل‭ ‬عمل‭ ‬لهم‭ ‬ولا‭ ‬يبيحون‭ ‬لأنفسهم‭ ‬أن‭ ‬يخرجوا‭ ‬على‭ ‬قواعدها‭ ‬وأسسها،‭ ‬ولكنهم‭ ‬يتساهلون‭ ‬مع‭ ‬أنفسهم‭ ‬حين‭ ‬يرتكبون‭ ‬الخطأ‭ ‬في‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬وحجتهم‭ ‬أن‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬صعبة‭ ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬لا‭ ‬تناسب‭ ‬العصر‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬يضيف‭ ‬محذرا‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬خطأ‭ ‬كبير‭ ‬بل‭ ‬جهل‭ ‬مخيف‭! ‬فإلى‭ ‬أين‭ ‬المصير؟‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬ميزات‭ ‬لغتنا‭ ‬أيضا‭ ‬أنها‭ ‬لغة‭ ‬متطورة‭ ‬لأنها‭ ‬حية،‭ ‬وهي‭ ‬إلى‭ ‬تطورها‭ ‬‮«‬الوحيدة‭ ‬بين‭ ‬المجموعة‭ ‬السامية‭ ‬التي‭ ‬ثبتت‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬لم‭ ‬تثبت‭ ‬تلك‭ ‬اللغات‮»‬‭.‬

 

استيعاب‭ ‬مفردات‭ ‬الآخر

وخلال‭ ‬مراحل‭ ‬تطورها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬استوعبت‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬اتسعت‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬التسميات‭ ‬والاصطلاحات‭ ‬الوافدة‭ ‬من‭ ‬لغات‭ ‬عديدة‭ ‬فأصبحت‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬جزءا‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬مفرداتها‭.‬

وبالمثل‭ ‬وجد‭ ‬الآخرون‭ ‬في‭ ‬لغتنا‭ ‬ما‭ ‬يعبِّر‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬حاجاتهم‭ ‬فضموا‭ ‬إلى‭ ‬لغاتهم‭ ‬من‭ ‬كلماتها‭ ‬واصطلاحاتها‭. ‬ولعل‭ ‬هذه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التطور‭ ‬والثبات‭ ‬معا‭ ‬تجد‭ ‬تبريراً‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬اختلاف‭ ‬لغتنا‭ ‬اليوم‭ ‬عن‭ ‬لغتنا‭ ‬القديمة‭ ‬باتجاه‭ ‬استيعاب‭ ‬ملامح‭ ‬عصرنا‭ ‬وبخطى‭ ‬متوازية‭ ‬لمراحل‭ ‬تقدمنا‭ ‬نفسه،‭ ‬وهو‭ ‬شأنها‭ ‬مثلا‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬انتقالتها‭ ‬الأولى‮»‬‭ ‬‮«‬من‭ ‬لغة‭ ‬الأدب‭ ‬والشعر‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬العلم‭ ‬والمصطلح‭ ‬العلمي‭...‬‮»‬‭. ‬لتفي‭ ‬باحتياجات‭ ‬حضارة‭ ‬عصر‭ ‬الإسلام‭ ‬الأول‭ ‬وجديدها‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬شئون‭ ‬الدين‭ ‬والحياة‭.‬

وخلال‭ ‬مراحل‭ ‬تطورها‭ ‬أيضا‭ ‬جابهت‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬نقل‭ ‬بعض‭ ‬علوم‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬الأعجمية‭ ‬فنهض‭ ‬بإيفائها‭ ‬العديدون‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور،‭ ‬حيث‭ ‬وجدت‭ ‬العلوم‭ ‬فرصتها‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬نتاج‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬عبر‭ ‬مراحلها‭ ‬المتعاقبة‭. ‬أفليس‭ ‬غريبا‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬في‭ ‬لغتنا‭ ‬عجزا‭ ‬عن‭ ‬نقل‭ ‬العلوم‭ ‬إليها،‭ ‬بينما‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬أجداد‭ ‬لنا‭ ‬قبل‭ ‬قرون‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لهم‭ ‬ما‭ ‬لدينا‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬وسهولة‭ ‬اتصال‭?!‬

 

قدرة‭ ‬الاشتقاق

ولو‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬خصوصيات‭ ‬لغتنا‭ ‬نفسها‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬غزارة‭ ‬مترادفاتها‭ ‬لأصبح‭ ‬لزاما‭ ‬علينا‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬قدرة‭ ‬العربية‭ ‬الاشتقاقية‭ ‬وأنها‭ ‬تتسع‭ ‬في‭ ‬الاشتقاق‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الاشتقاق‭ ‬من‭ ‬أسماء‭ ‬الأعيان‭ ‬كالماء‭ ‬والهواء‭ ‬والحجر‭ ‬والحديد‭ ‬والخشب‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭. ‬وأن‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬أبنيتها‭ ‬ما‭ ‬يعين‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬مسائل‭ ‬كثيرة‭ ‬كالمصدر‭ ‬الصناعي‭ ‬الذي‭ ‬صنعت‭ ‬به‭ ‬النسبية‭ ‬والمادية‭ ‬والكهربائية‭ ‬والحيوية‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والوجودية‭ ‬ومثل‭ ‬هذا‭ ‬كثير،‭ ‬وأن‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬أبنية‭ ‬أسماء‭ ‬الآلة‭ ‬وسائر‭ ‬المشتقات‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬كفيل‭ ‬بتوفير‭ ‬مادة‭ ‬اصطلاحية‭ ‬كبيرة‮»‬،‭ ‬ويضيف‭ ‬الدكتور‭ ‬إبراهيم‭ ‬السامرائي‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬ولقد‭ ‬دل‭ ‬الاستقراء‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬العربية‭ ‬أبنية‭ ‬لم‭ ‬يلتفت‭ ‬إليها‭ ‬الصرفيون‭ ‬ولم‭ ‬يقيدوها‭ ‬في‭ ‬مصنفاتهم‭ ‬وهي‭ ‬تصلح‭ ‬أن‭ ‬تؤدي‭ ‬أغراضا‭ ‬علمية،‭ ‬وكل‭ ‬تلك‭ ‬الميزات‭ ‬أسس‭ ‬لتوفير‭ ‬ثروة‭ ‬اصطلاحية‭ ‬كبيرة‭.‬

‭ ‬كنا‭ ‬برغم‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬نسمع‭ ‬اتهام‭ ‬لغتنا‭ ‬بالعجز،‭ ‬وإنما‭ ‬يضيف‭ ‬أصحاب‭ ‬ذلك‭ ‬الاتهام‭ ‬تبريرا‭ ‬آخر‭ ‬لتوجههم‭ ‬نحو‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬هو‭ ‬قولهم‭ ‬إن‭ ‬النشر‭ ‬العلمي‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬–لو‭ ‬تم‭- ‬فسيؤدي‭ ‬إلى‭ ‬محدودية‭ ‬المادة‭ ‬المنشورة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬استمرار‭ ‬اعتماد‭ ‬أو‭ ‬مباشرة‭ ‬لغة‭ ‬أجنبية‭ ‬–وهي‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬الأغلب‭- ‬تحصيل‭ ‬حاصل‭ ‬مادام‭ ‬النشر‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬سيباشره‭ ‬خريجونا‭ ‬المتخصصون‭ ‬سيكون‭ ‬بلغات‭ ‬أجنبية‭!‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الحجة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خلل،‭ ‬فمفهوم‭ ‬المحدودية‭ ‬والانتشار‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬قياس‭ ‬مدى‭ ‬تأثير‭ ‬المادة‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬محيطها‭ ‬الطبيعي‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬تلبية‭ ‬الهدف‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬وراءها،‭ ‬بل‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬الرغبة‭ ‬المسبقة‭ ‬في‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬قارئ‭ ‬معيَّن‭.. ‬إلى‭ ‬وسط‭ ‬معين‭ ‬يأمل‭ ‬في‭ ‬نيل‭ ‬الشهرة‭ ‬لديه‭ ‬والفوز‭ ‬برضاه،‭ ‬وبالحصر‭ ‬–‭ ‬وبصراحة‭ ‬لا‭ ‬تنوي‭ ‬الإساءة‭ ‬لأحد‭ - ‬إنه‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬الهيئات‭ ‬العلمية‭ ‬الأجنبية‭! ‬ولكننا‭ ‬نرى‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى‭.. ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬نتفق‭ ‬أن‭ ‬أبحاثنا‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تستجيب‭ ‬لحاجات‭ ‬قائمة‭ ‬فعليا‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬تطورنا،‭ ‬وإن‭ ‬أي‭ ‬بحث‭ ‬علمي‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمرحلتنا‭ ‬لا‭ ‬يستهدف‭ ‬حل‭ ‬المشكلة‭ ‬التي‭ ‬يتعدى‭ ‬لها‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬ولابد‭ ‬له‭ ‬–‭ ‬وهذا‭ ‬ضروري‭ ‬جدا‭ - ‬أن‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬شحذ‭ ‬الوعي‭ ‬العلمي‭ ‬وإغناء‭ ‬النظرة‭ ‬العلمية‭ ‬لدى‭ ‬أوسع‭ ‬عدد‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬القراء‭.. ‬إذا‭ ‬اتفقنا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬–‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬فهما‭ ‬علميا‭ ‬لدور‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ - ‬فسنجد‭ ‬أن‭ ‬الخروج‭ ‬بحل‭ ‬للمشكلة‭ ‬العلمية‭ ‬المطروحة‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬أو‭ ‬بتفسير‭ ‬علمي‭ ‬لها‭ ‬سيكون‭ ‬المبرر‭ ‬الأول‭ ‬للفوز‭ ‬بالنجاح‭ ‬الذي‭ ‬يطمح‭ ‬له‭ ‬الباحث،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬الفوز‭ ‬بتفاعل‭ ‬الناس‭ ‬أصحاب‭ ‬المصلحة‭ ‬الحقيقية‭ ‬بذلك‭ ‬الإنجاز‭ ‬العلمي‭ ‬مع‭ ‬الباحث‭ ‬سيكون‭ ‬التزكية‭ ‬الأكبر‭ ‬للبحث‭ ‬والباحث،‭ ‬وسيضمن‭ ‬منطقيا‭ ‬الانتشار‭ ‬الذي‭ ‬يستحقه‭ ‬البحث‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬القول‭ ‬بمحدودية‭ ‬تأثير‭ ‬النشر‭ ‬العلمي‭ ‬بالعربية‭ ‬يعبر‭ ‬بهذه‭ ‬الدرجة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬فكرية‭ ‬لا‭ ‬تستوعب‭ ‬الدور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭ ‬للعلم،‭ ‬وهو‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬أقدر‭ ‬عليه‭ ‬كلما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬متناول‭ ‬أوسع‭ ‬الجماهير‭ ‬مضيئا‭ ‬طريقها‭ ‬محررا‭ ‬إياها‭ ‬من‭ ‬الأوهام‭.. ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬يتجاهل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬العلمية‭ ‬نفسها‭: ‬فلو‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬تقاليد‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬وتبادل‭ ‬المنشورات‭ ‬العلمية‭ ‬وتداولها‭ ‬لاتضح‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الرؤية‭ ‬تتجاهل‭ - ‬دون‭ ‬عذر‭ ‬مقبول‭ - ‬حقيقة‭ ‬التطور‭ ‬العاصف‭ ‬الذي‭ ‬يشهده‭ ‬عصرنا‭ ‬في‭ ‬تبادل‭ ‬المعلومات،‭ ‬والذي‭ ‬أرسى‭ ‬تقليدا‭ ‬علميا‭ ‬معروفا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يرفق‭ ‬كل‭ ‬بحث‭ ‬علمي‭ ‬ينشر‭ ‬بلغة‭ ‬الباحث‭ ‬بخلاصة‭ ‬وافية‭ ‬لنتائج‭ ‬وطرق‭ ‬البحث‭ ‬وأهدافه‭ ‬بلغة‭ ‬ثانية‭ ‬وبعضها‭ ‬بلغتين‭. ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬الإنجليزية‭ ‬هي‭ ‬المعتمدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬حيث‭ ‬تتيح‭ ‬لأوسع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يتحدثون‭ ‬لغة‭ ‬البحث‭ ‬فرصة‭ ‬طلب‭ ‬النص‭ ‬الكامل‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تسعفهم‭ ‬خلاصته‭ ‬ثم‭ ‬ترجمته‭ ‬إلى‭ ‬لغتهم‭. ‬وهناك‭ ‬مراكز‭ ‬علمية‭ ‬متخصصة‭ ‬تستخدم‭ ‬أحدث‭ ‬الأجهزة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬في‭ ‬الترجمة‭ ‬والاستنساخ‭... ‬ويعرف‭ ‬كل‭ ‬أساتذتنا‭ ‬وباحثونا‭ ‬ذلك‭ ‬جيدا،‭ ‬ولاشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬منهم‭ ‬قد‭ ‬فعلوا‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬أبحاث‭ ‬ألمانية‭ ‬أو‭ ‬يابانية‭ ‬أو‭ ‬روسية‭ ‬أو‭ ‬صينية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إحساس‭ ‬بتعقيد‭ ‬أو‭ ‬صعوبة،‭ ‬فلماذا‭ ‬لا‭ ‬يفعل‭ ‬الآخرون‭ ‬معنا‭ ‬أيضا؟‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬ندعهم‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك‭ ‬معنا؟‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬مجرد‭ ‬إحساس‭ ‬بالغبن،‭ ‬لا،‭ ‬وإنما‭ ‬إحساس‭ ‬بالمرارة‭ ‬لإهدارنا‭ ‬الفرص‭ ‬التي‭ ‬يتيحها‭ ‬لنا‭ ‬التطور‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬تدفق‭ ‬المعلومات‭, ‬لأن‭ ‬ننشر‭ ‬علومنا‭ ‬بلغتنا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ننعزل‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬أبدا،‭ ‬بل‭ ‬ويتيح‭ ‬للغتنا‭ ‬الانتشار‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬من‭ ‬الاحترام‭ ‬نكسب‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬قومي‭ ‬وعلى‭ ‬صعيد‭ ‬شخصي‭ ‬أيضا‭.‬

إن‭ ‬مجرد‭ ‬وجود‭ ‬تلك‭ ‬السلسلة‭ ‬العملاقة‭ ‬لمستخلصات‭ ‬الأبحاث‭ ‬البيولوجية‭ ‬والأبحاث‭ ‬الكيماوية‭ ‬بل‭ ‬ولخلاصات‭ ‬أبحاث‭ ‬الفروع‭ ‬المتخصصة‭ ‬كأبحاث‭ ‬علوم‭ ‬التربة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬العلوم،‭ ‬حيث‭ ‬تقوم‭ ‬بنشر‭ ‬خلاصات‭ ‬الأبحاث‭ ‬المتعلقة‭ ‬باهتماماتها‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬اللغات‭ ‬واعتمادها‭ ‬علميا‭ ‬كمفاتيح‭ ‬أساسية‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬المعلومات‭ ‬والمصادر‭. ‬إن‭ ‬وجود‭ ‬تلك‭ ‬السلاسل‭ ‬وتواترها‭ ‬رد‭ ‬حاسم‭ ‬على‭ ‬ادعاءات‭ ‬محدودية‭ ‬النشر‭ ‬باللغات‭ ‬المحلية‭.‬

 

ترجمة‭ ‬المصطلحات

أما‭ ‬صعوبة‭ ‬تعريب‭ ‬بعض‭ ‬المصطلحات‭ ‬العلمية،‭ ‬فهي‭ ‬صعوبة‭ ‬تلقي‭ ‬على‭ ‬علمائنا‭ ‬البارزين‭ ‬بالذات‭ ‬مسئولية‭ ‬خاصة،‭ ‬فلاشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تحديد‭ ‬المرادف‭ ‬العربي‭ ‬الدقيق‭ ‬للمصطلح‭ ‬يعتمد‭ ‬بالأساس‭ ‬على‭ ‬الإلمام‭ ‬المقتدر‭ ‬بدلالته‭.. ‬الإلمام‭ ‬بأبعاد‭ ‬المصطلح‭ ‬العلمية‭ ‬وعلاقاته‭ ‬بغيره‭ ‬من‭ ‬المصطلحات‭. ‬وملاءمته‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬حالات‭ ‬أو‭ ‬طرق‭ ‬معينة‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يتوافر‭ ‬إلا‭ ‬للمتضعلين‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬موضوع‭ ‬البحث‭. ‬فإذا‭ ‬امتلكوا‭ ‬ناصية‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬فسيجدوا‭ ‬بحورها‭ ‬اللفظية‭ ‬الواسعة‭ ‬وقدراتها‭ ‬الاشتقاقية‭ ‬وأبنيتها‭ ‬مؤهلة‭ ‬لاستيعاب‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬دلالات‭ ‬تلك‭ ‬المصطلحات‭... ‬فمن‭ ‬يفكر‭ ‬بوضوح‭ ‬سيعبر‭ ‬بوضوح،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬الجهود‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬بذلتها‭ ‬مجامع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬ودمشق‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬العواصم‭ ‬العربية‭ ‬الأخرى‭ ‬لتعريب‭ ‬آلاف‭ ‬المصطلحات‭ ‬والكلمات‭ ‬العلمية‭.‬

لابد‭ ‬من‭ ‬استثمار‭ ‬تلك‭ ‬الجهود‭ ‬وتطوير‭ ‬سبل‭ ‬الاستفادة‭ ‬منها‭ ‬وإغنائها‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬أسس‭ ‬واضحة‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬أشار‭ ‬إليها‭ ‬الأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬إبراهيم‭ ‬السامرائي‭:‬

أن‭ ‬يكون‭ ‬المصطلح‭ ‬من‭ ‬الألفاظ‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنصرف‭ ‬معانيها‭ ‬إلى‭ ‬مدلولات‭ ‬كثيرة‭.‬

أن‭ ‬يكون‭ ‬المصطلح‭ ‬من‭ ‬الألفاظ‭ ‬السهلة‭ ‬اليسيرة‭ ‬في‭ ‬بنائها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الأصوات‭.‬

أن‭ ‬تكون‭ ‬بسيطة‭ ‬لا‭ ‬مركبة‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬وبذلك‭ ‬يستغني‭ ‬ما‭ ‬أمكن‭ ‬عن‭ ‬الألفاظ‭ ‬المنحوتة‭ ‬والألفاظ‭ ‬المضافة‭.‬

أن‭ ‬يكون‭ ‬المصطلح‭ ‬من‭ ‬الألفاظ‭ ‬المعروفة‭ ‬فلا‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬الغريب‭ ‬إلا‭ ‬عند‭ ‬الضرورة‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬أن‭ ‬اللفظ‭ ‬الغريب‭ ‬كان‭ ‬مصطلحا‭ ‬قديما‭ ‬معروفا‭ ‬للفني‭ ‬ذاته‭.‬

أن‭ ‬يكون‭ ‬المصطلح‭ ‬قائما‭ ‬على‭ ‬المادة‭ ‬المرادة‭ ‬فلا‭ ‬يشترك‭ ‬فيه‭ ‬موضوع‭ ‬آخر‭.‬

يتجنب‭ ‬المعرب‭ ‬عند‭ ‬اختيار‭ ‬المصطلح‭ ‬ويفضل‭ ‬عليه‭ ‬الكلم‭ ‬العربي‭.‬

ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فاستعمال‭ ‬بعض‭ ‬المصطلحات‭ ‬دون‭ ‬تعريب‭ ‬على‭ ‬الأمد‭ ‬القصير‭ ‬لا‭ ‬أحسبه‭ ‬يؤثر‭ ‬جديا‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬موضوع‭ ‬أو‭ ‬نقطة‭ ‬معينين‭.‬‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ضير‭ ‬فليكن‭ ‬حافزا‭ ‬للمتخصصين‭ ‬لأن‭ ‬ينهضوا‭ ‬بمهمة‭ ‬وضع‭ ‬المقابل‭ ‬العربي‭ ‬المناسب،‭ ‬علما‭ ‬بأن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬جابهت‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المشكلة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬واستوعبت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الكلمات‭ ‬والتراكيب‭ ‬الدخيلة،‭ ‬ولعل‭ ‬ذلك‭ ‬الاستيعاب‭ ‬نفسه‭ ‬وما‭ ‬أدخله‭ ‬من‭ ‬مفردات‭ ‬يدعونا‭ ‬إلى‭ ‬الأخذ‭ ‬بنظر‭ ‬الاعتبار‭ ‬تلك‭ ‬الكلمات‭ ‬الغريبة‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬مفردات‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية‭ ‬واضحة‭ ‬المعالم‭ ‬والدلالات‭ ‬والاستعمال‭.‬

 

تطوير‭ ‬الترجمة‭ ‬العلمية‭ ‬بالاستمرار

‭ ‬والحداثة‭ ‬والمعاصرة

تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬يضعها‭ ‬الأساتذة‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬العلمية‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬فهم‭ ‬يؤكدون‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬يرونه‭ ‬كبيرا‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬العلمية‭ ‬ولغة‭ ‬الأدب،‭ ‬وتحت‭ ‬هذا‭ ‬التأكيد‭ ‬الذي‭ ‬بلغ‭ ‬حد‭ ‬التهويل‭ ‬أحيانا‭ ‬يقصرون‭ ‬التعبير‭ ‬العلمي‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬جمل‭ ‬محددة‭ ‬بكلمات‭ ‬معينة‭ ‬تجعلها‭ ‬تكرارا‭ ‬ثقيلا‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬المادة‭ ‬المنشورة‭ ‬وعرضها‭. ‬حقا‭ ‬إن‭ ‬العلوم‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬التحديد‭ ‬لا‭ ‬التورية‭ ‬وتحتاج‭ ‬إلى‭ ‬النبرة‭ ‬المحايدة،‭ ‬لا‭ ‬الملتحمة،‭ ‬وتحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مباشرة‭ ‬الموضوع‭ ‬من‭ ‬صميمه‭: ‬الاستطرادات‭ ‬والاستعارات‭ ‬والإطناب‭ ‬في‭ ‬هوامش‭ ‬جانبية،‭ ‬ولكنها‭ ‬أيضا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ ‬الحجة،‭ ‬ووضوح‭ ‬البرهان‭ ‬ومتانة‭ ‬البناء‭ ‬المكلف‭ ‬بإيضاح‭ ‬النتائج‭! ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يبدو‭ ‬غريبا‭ ‬تطير‭ ‬بعضهم‭ ‬من‭ ‬الجمل‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬للبلاغة‭ ‬العربية‭ ‬فيها‭ ‬نصيب‭ ‬ظاهر‭. ‬إنهم‭ ‬يريدونها‭ ‬جملا‭ ‬جافة‭ ‬تتكرر‭ ‬فيها‭ ‬كلمات‭ ‬‮«‬ازداد‮»‬‭ ‬أو‭ ‬ارتفع‭ (‬حين‭ ‬تنمو‭ ‬النتائج‭ ‬نحو‭ ‬الأعلى،‭ ‬وكلمات‭ ‬‮«‬قل‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬انخفض‮»‬‭ ‬حين‭ ‬تهبط،‭ ‬ومفككة‭ ‬تتعطل‭ ‬عنها‭ ‬الأسماء‭ ‬الموصولة‭ ‬والضمائر‭ ‬وأدوات‭ ‬الربط،‭ ‬وتغيب‭ ‬عنها‭ ‬استعمالات‭ ‬لغوية‭ ‬عديدة،‭ ‬كواو‭ ‬المعية،‭ ‬أو‭ ‬الجمل‭ ‬الخبرية‭ ‬المقدمة‭.. ‬يتكرر‭ ‬فيها،‭ ‬وبينها‭ ‬تعبير‭ ‬‮«‬وجد‭ ‬فلان‮»‬‭ ‬و«لقد‭ ‬درس‭ ‬فلان‭ ‬كذا‭ ‬فوجد‭ ‬كذا‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬محاولات‭ ‬صب‭ ‬الموضوع‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬بلاغي‭ ‬تتيحه‭ ‬العربية‭ ‬فيعلقون‭ ‬عليها‭ ‬بابتسامة‭ ‬الكبرياء‭ ‬أو‭ ‬المكابرة‭ (‬تذكر‭ ‬أنك‭ ‬لا‭ ‬تكتب‭ ‬أدبا‭!).‬

ولعل‭ ‬ذلك‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬غياب‭ ‬الأسلوب‭ ‬الخاص‭ ‬بصاحبه‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬العلمية‭ ‬عندنا،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يطالبك‭ ‬بأن‭ ‬تحتد‭ ‬له‭ ‬وفق‭ ‬أي‭ ‬طريقة،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يعبر‭ ‬عنها‭ ‬هو‭ ‬وفق‭ ‬أي‭ ‬Style‭ ‬تكتب؟‭ ‬أهي‭ ‬طريقة‭ ‬الكتابة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬أم‭ ‬الأمريكية‭ ‬أم‭..‬؟‭ ‬أجل،‭ ‬وكأن‭ ‬العربية‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬تتيح‭ ‬الأسلوب‭ ‬الكفء‭ ‬للكتابة‭ ‬بها‭!‬

‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نتحرر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬الجمود‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬المادة‭ ‬العلمية‭ ‬ولابد‭ ‬أن‭ ‬نتذكر‭ ‬دائما‭ ‬إمكانيات‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬نكتب‭ ‬بها‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬نقسمها‭ ‬تعسفيا‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬علمية‭ ‬وأخرى‭ ‬أدبية‭. ‬فالمهم‭ ‬أن‭ ‬تحظى‭ ‬من‭ ‬المادة‭ ‬بأكبر‭ ‬قسط‭ ‬من‭ ‬الوضوح‭ ‬والدقة‭ ‬والجمال‭ ‬أيضا‭.. ‬لاسيما‭ ‬حين‭ ‬تكوين‭ ‬صورة‭ ‬شاملة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متكاملة،‭ ‬عن‭ ‬الموضوع‭ ‬وتطوراته‭ ‬وزوايا‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تهدف‭ ‬إليه‭ ‬الاستعراضات‭ ‬العلمية‭.‬

 

البداية‭ ‬في‭ ‬الجامعة

الحق‭ ‬أن‭ ‬تدريس‭ ‬العلوم‭ ‬في‭ ‬جامعتنا‭ ‬لا‭ ‬نحسد‭ ‬عليه،‭ ‬فهو‭ ‬يعرض‭ ‬حائرا‭ ‬بين‭ ‬إلقاء‭ ‬المحاضرة‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬–على‭ ‬افتراض‭ ‬تجاهلنا‭ ‬للرطانة‭ ‬الأجنبية‭ ‬التي‭ ‬تغلب‭ ‬على‭ ‬نصف‭ ‬المحاضرة‭ ‬تقريبا‭ - ‬وبين‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬مصادر‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬أو‭ ‬الفرنسية‭. ‬أما‭ ‬المحصلة‭ ‬فهي‭ ‬هروب‭ ‬الطالب‭ ‬–وتلك‭ ‬مسألة‭ ‬ليست‭ ‬غريبة‭- ‬من‭ ‬صعوبة‭ ‬المصدر‭ ‬إلى‭ ‬المحاضرة‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬رغم‭ ‬فقرها‭ ‬وعدم‭ ‬تبويبها‭ ‬وحتى‭ ‬عدم‭ ‬وضوحها،‭ ‬وخصوصا‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمن‭ ‬لا‭ ‬يحسن‭ ‬التقاط‭ ‬المحاضرة‭ ‬من‭ ‬الأستاذ‭ ‬وبذا‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬محصلة‭ ‬أشد‭ ‬إيلاما‭ ‬وهي‭ ‬ضآلة‭ ‬الكسب‭ ‬العلمي‭ ‬وهشاشته،‭ ‬مع‭ ‬‮«‬اتفاق‮»‬‭ ‬غير‭ ‬معلن‭ ‬–‭ ‬بل‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬للتواطؤ‭ ‬أقرب‭ - ‬على‭ ‬تجنب‭ ‬المناقشة‭ ‬العميقة‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أن‭ ‬المادة‭ ‬تسعف‭ ‬الطالب‭ ‬المناقش‭ ‬لو‭ ‬أراد‭ ‬المناقشة‭ ‬بعكس‭ ‬الحال‭ ‬لو‭ ‬توافر‭ ‬له‭ ‬مدد‭ ‬علمي‭ ‬يرجع‭ ‬إليه‭ ‬وهو‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬استيعابه‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬تأمل‭ ‬معطياته‭ ‬للاستفسار‭ ‬عنها‭.‬

حقا،‭ ‬إن‭ ‬طريقة‭ ‬التدريس‭ ‬المتبعة‭ ‬وقدرات‭ ‬الأستاذ‭ ‬وفلسفته‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬عوامل‭ ‬مؤثرة‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬نوع‭ ‬وحجم‭ ‬المحصلة‭ ‬النهائية‭ ‬وفي‭ ‬مدى‭ ‬تفاعل‭ ‬الطلبة‭ ‬معها،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مغزى‭ ‬أن‭ ‬تزداد‭ ‬محصلة‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬تتوافر‭ ‬لها‭ ‬المراجع‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الكليات‭.‬

وعلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فلن‭ ‬يأخذ‭ ‬التعريب‭ ‬مداه‭ ‬ودوره‭ ‬المؤثر‭ ‬دون‭ ‬اقتران‭ ‬المحاضرة‭ ‬العربية‭ ‬بمرجع‭ ‬عربي‭ ‬أو‭ ‬معرب،‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬انصرافا‭ ‬عن‭ ‬المراجع‭ ‬غير‭ ‬العربية،‭ ‬بل‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬تنظيم‭ ‬الرجوع‭ ‬إليها‭ ‬وتيسر‭ ‬الإفادة‭ ‬منها‭ ‬بكل‭ ‬السبل،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتطلب‭ ‬نقلة‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬تدريس‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬خاصة‭. ‬والتمكين‭ ‬من‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬دروبها‭ ‬بثقة‭ ‬الباهر‭ ‬لا‭ ‬بتردد‭ ‬البصير‭ ‬على‭ ‬جسر‭ ‬من‭ ‬جذع‭ ‬شجرة،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬معظم‭ ‬طلابنا‭ ‬مع‭ ‬المراجع‭ ‬الإنجليزية‭ ‬أو‭ ‬الفرنسية،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مفارق‭ ‬المجلات‭ ‬العلمية‭ ‬الأجنبية‭.‬

أجل،‭ ‬إن‭ ‬دعم‭ ‬المبادرات‭ ‬الفردية‭ - ‬وهو‭ ‬الملاحظ‭ ‬حاليا‭ - ‬أمر‭ ‬حسن،‭ ‬ولكن‭ ‬الأحسن‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬تتفاعل‭ ‬تلك‭ ‬المبادرات‭ ‬ضمن‭ ‬خطة‭ ‬مبرمجة‭ ‬بما‭ ‬يخدم‭ ‬مرحلة‭ ‬تطورنا‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ويتماشى‭ ‬مع‭ ‬التطور‭ ‬العلمي‭ ‬العالمي،‭ ‬فيكون‭ ‬توافر‭ ‬المصدر‭ ‬العلمي‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬إشاعة‭ ‬للعلم‭ ‬وترسيخا‭ ‬للتعريب‭ ‬فقط‭ ‬وإنما‭ ‬مساهمة‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬المناهج‭ ‬العلمية‭ ‬بنحو‭ ‬ما‭ ‬يستجيب‭ ‬لتلك‭ ‬التطلعات،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬جهد‭ ‬التعريب‭ ‬سيضاف‭ ‬إليه‭ ‬جهد‭ ‬اختيار‭ ‬المادة‭ ‬المعربة،‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬وحده‭ ‬الكفيل‭ ‬بإنضاج‭ ‬ثمار‭ ‬طيبة‭.‬

وخلال‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الخطى‭ ‬وعبر‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الملاحظات،‭ ‬تمتد‭ ‬ملاحظة‭ ‬هي‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬علماء‭ ‬متخصصين‭ ‬للنهوض‭ ‬بالمهمة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حاجتنا‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الآداب‭ ‬والفنون،‭ ‬ولاسيما‭ ‬بالنسبة‭ ‬للعلوم‭ ‬الصرفة،‭ ‬وحيث‭ ‬إن‭ ‬المهمة‭ ‬كبيرة‭ ‬ومتسعة‭ ‬ودائمة‭ ‬أبدا،‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬معالجة‭ ‬الهدر‭ ‬الحاصل‭ ‬في‭ ‬قدراتنا‭ ‬الآن،‭ ‬وهو‭ ‬هدر‭ ‬يعوق‭ ‬نهوضنا‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬المهام‭ ‬العلمية‭ ‬والتعريب‭ ‬إحداها،‭ ‬مما‭ ‬يطرح‭ ‬ضرورة‭ ‬التصدي‭ ‬له‭ ‬بروح‭ ‬الإحساس‭ ‬المرهف‭ ‬بالمسئولية‭ ‬الوطنية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬بالاستناد‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬القدرات‭ ‬والطاقات‭ ‬الوطنية‭ ‬ودعوتها‭ ‬وتمكينها‭ ‬لمنح‭ ‬الوطن‭ ‬حقه‭ ‬الذي‭ ‬له‭ ‬عليها،‭ ‬وبإسراع‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬مسئوليات‭ ‬التخطيط‭ ‬والتنفيذ‭ ‬لهذه‭ ‬المهمة‭ ‬الكبرى‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المؤهلين،‭ ‬كل‭ ‬حسب‭ ‬قدرته‭ ‬وفي‭ ‬ميدانه،‭ ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬نظرة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬اجتذاب‭ ‬كفاءاتنا‭ ‬العلمية‭ ‬المهاجرة،‭ ‬تتجاوز‭ ‬الجانب‭ ‬المادي‭ ‬إلى‭ ‬التأكيد‭ ‬في‭ ‬شمولية‭ ‬متوازنة‭ ‬على‭ ‬حرية‭ ‬الفكر‭ ‬وتوفير‭ ‬أجواء‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬وترسيخ‭ ‬التقاليد‭ ‬العلمية‭ ‬وتوظيف‭ ‬الإجراءات‭ ‬الإدارية‭ ‬والمالية‭ ‬لضمان‭ ‬تلك‭ ‬الحرية‭ ‬والأجواء‭ ‬والتقاليد،‭ ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬الإغراء‭ ‬الحقيقي‭ ‬للعالم‭. ‬يقينا‭ ‬أن‭ ‬لدى‭ ‬أساتذتنا‭ ‬أكثر‭ ‬وأعمق‭ ‬من‭ ‬ملاحظاتي‭ ‬هذه‭ ‬التي‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تحفيز‭ ‬تلك‭ ‬الملاحظات‭ ‬على‭ ‬الظهور‭ ‬فستكون‭ ‬قد‭ ‬أدت‭ ‬أهم‭ ‬أهدافها‭ .