التعريب العلمي
ما إن يطرح موضوع التعريب في ميدان العلوم حتى ينقسم المتحاورون إلى مجموعتين تدعي إحداهما عجز اللغة العربية عن التعبير عن المدلولات العلمية، فيقال إنها ليست لغة علمية بل هي لغة الشعر والأدب عموما. فترد عليها المجموعة الثانية بحشد من الأدلة التاريخية عن تطويع اللغة العربية للتعبير عن العلوم لدى علمائنا الخالدين.. الكندي.. ابن سينا.. ابن الهيثم والرازي...إلخ. وبالتالي، فإنها قادرة على أن تكون لغة للعلم ولا خوف من التعريب العلمي.
ومع كثرة ما كتب ويكتب عن الموضوع، قلما طرح الموضوع خارج هاتين الدائرتين وإن خرج عنهما فلكي يعود إليهما، بينما يستمر التساؤل كيف ولماذا نعرب؟ ويستمر النقاش وكأنه لم يضف شيئا!
ومع اعتزازي بأولئك الذين يدافعون عن تعريب تعليم العلوم وكتب العلوم ومصادرها، أرى أنهم لم يحاربوا من مواقع العصر والمنطق العلمي نفسه بقدر ما تمترسوا وراء الأسانيد التاريخية فسحبوا القضية إلى دائرة التاريخ، وما التاريخ إلا بعض جوانب الصورة. ولشدة ما أعادوا الأدلة ذاتها – وهي صحيحة وثابتة وحاسمة- دون استلهام دلالاتها كاملة، بدوا وكأنهم سقطوا في وهم تقسيم اللغات إلى قادرة وغير قادرة على استيعاب العلوم ومفرداتها! ولكن لا أحسب الأمر كذلك برغم كثرة التأمل فيه. بل هو قبل كل شيء حق الأمة وواجبها أن تتعلم بلغتها، ومن يتوهم غير ذلك يدير ظهره لحقٍّ أساسي من حقوق الأمم ويتهرب من المساهمة في أداء أقدس واجباتها، وإذا كانت العلوم كشفا عن القوانين الموضوعية وتعاملا معها، فإن استيعاب تلك القوانين بالسبل والمدركات التي تضمن لها الوضوح والحياة والتأثير في الأمة، جزء من تلك القوانين ومتمم لتأثيرها حتى ليكاد يكون قانونا هو الآخر، فبقدر ما يتيسر لك استيعاب القانون تتيسر لك السيطرة عليه، أي تتيسر لك الحرية مادامت الحرية فهما للضرورة وسيطرة عليها. وبقدر ما يشيع ذلك الاستيعاب تشيع روح التحرر ويسود منطق العلم حيث القوة والتقدم صعودا.
اللغة وقوة العلم
وعلى ذلك فإن الدول المستعمرة حين تفرض لغتها على مستعمراتها وتتشدد في ذلك بميادين العلوم بصورة خاصة، فليس لمجرد عجرفتها الاستعمارية واستعلائها القومي فحسب، بل هو تعبير عن الإحساس بخطورة امتلاك الأمة المستعمرة (بفتح الميم) قوة العلم وآفاق قوانينه، وحتى إذا تلقاها بعض أبناء تلك الأمة بلغة المستعمرين فمن أجل أن تقترن بتقدمهم هم ومن أجل أن تتحكم بأولئك المتلقين عقدة العجز، ومادامت لغتهم لا تمنحهم مطبوعا في العلوم التي تخصصوا فيها، ولاسيما أن هناك من يوحي لهم إيحاء مخططا بأن ذلك جزء من عجز شامل بعض أعراضه عجز اللغة عن استيعاب العلوم، وما تلك سوى مغالطة وخلط للأسباب بالنتائج تغطية للحقائق أو قلبها لأهداف لا علاقة للعلم ولا للحقيقة بها.
فالحقيقة تقول إن اللغة ليست نبتا شيطانيا لا يتأثر بما حوله، وليست هي مجردات ثابتة لمطلقات عامة، بل هي وسيلة الشعوب للتعبير عن مدركاتها وحاجاتها ووسيلتها للتعبير عن الواقع، وبالتالي لا يكون فقر لغة ما من المطبوع العلمي نتيجة لعجزها عن استيعاب العلم بقدر ما يكون لضعف الواقع العلمي أو تدهوره في المجتمع الذي ينطق تلك اللغة. تلك هي، كما أرى، أبرز دلالات غزارة الإنتاج العلمي العربي يوم كانت الحضارة العربية منارة العالم، بينما كان الهلع يهز شارلمان وحاشيته وهم يستمعون لدقات ساعة الرشيد، حتى إذا نهضت أوربا وامتلكت أسباب العلم والمعرفة وارتقت صعدا وتخلفنا نحن أصبح النشر العلمي قرين اللغات الأوربية، بينما تضاءل في لغتنا إلى الحد الذي توهم بعض أبنائها أن ذلك لعجز فيها وتلك هي المسألة. فكيف يوجد النشر العلمي دون علوم؟ وكيف ينمو الأدب العلمي دون مادة له؟ إنه غزير ومتواتر بقدر ما يصبح العلم ومنابعه سمة من سمات المجتمع، والعكس صحيح.
في هذا الإطار تكون العودة إلى ذكر إنجازات ومؤلفات العلماء العرب الخالدين دليلا على حقيقتين: أولاهما، المستوى العلمي الرفيع للحضارة التي كان أولئك العلماء رموزا لها.
وثانيتها: قدرة اللغة العربية على الاستجابة لحاجات تلك الحضارة ومستواها العلمي الرفيع، ومن هنا نحن مع الدكتور يسري خميس حين أكد أن اللغة «احتياج ملح للتعبير عن معرفة ما»، أي أنها تعكس بشكل مباشر - كما سبق أن أكدنا- المستوى الحضاري لفترة ما وأن «المشكلة في الحقيقة ليست مشكلة اللغة ذاتها بقدر ما هي مشكلة من يتعامل مع اللغة».
التعريب العلمي
والحق أن مشكلتنا – والتعريب العلمي عندنا يتعثر ويتعثر منه أكثر النشر العلمي عموما - تنعكس فعلا، وإلى حد لا يستهان به، في البعض ممن يتعامل مع اللغة العربية في المراكز العلمية والجامعات. ويبدو تشخيصا صريحا لبعض حججهم في معارضة التعريب أو الالتفاف عليه حين لا تسعفهم شجاعتهم في المعارضة مادام ذلك توجه الدولة وقيادتها نفسها، والذي من شأنه أن يضعف من تلك الحجج ويحد من تأثيرها كثيرا، وهو ما نحاوله في النقاط التالية:
فقولهم بعدم إمكان اللغة العربية استيعاب التعبير العلمي مردود لا بالاستناد إلى الأدلة التاريخية فقط، وإنما بالاستناد إلى بعض الحقائق التي تميز اللغة العربية نفسها، ولاسيما كثرة مفرداتها ومترادفاتها، فللسفينة في لغتنا – في ما أعلم - أكثر من 300 اسم، وللسيف أكثر من 480 اسما، وللأسد عدة مئات من الأسماء كذلك.. بل إن لبعض أعضاء الإنسان في لغتنا عشرات الأسماء للعضو الواحد. وذلك ما يتيح إمكانية خاصة للعالم بالذات لاستعمال المرادف الأنسب في المكان الأنسب، بما يمنح التعبير قوة مضاعفة. كما أن هذه الحقيقة نفسها تفتح للترجمة العلمية آفاقًا غاية في الرحابة، غير أن ذلك مرهون بقدرة العالم نفسه على معرفة تلك الإمكانية اللغوية وعلى إلمامه بتلك الثروة اللفظية ودلالاتها وبطرق استعمالها، وهو ما يفتقر إليه كثير من علمائنا إن لم أقل أكثرهم، ودع عنك أن بينهم من يفتقر حتى إلى ما دون ذلك بكثير!
نعم، ليس انتقاصا من أحد القول بصراحة إن كثيرا من أساتذة العلوم والباحثين العلميين في جامعاتنا ومراكزنا العلمية لا يتقنون الكتابة العربية بالسلاسة والتشابك الذي يمنح الفكرة الوضوح وقوة الحجة الضروريين للكتابة العلمية، ولعل ذلك ما يفسر لجوء كثير منهم إلى خلط جملهم المكتوبة والمنطوقة بجمل أو ألفاظ أجنبية من اللغات التي درسوا بها تخصصهم العالي، وليتهم يكتفون بذلك. لا، فأنت تسمع بعد تلك الرطانة تبريرا لها بعجز اللغة العربية وافتقارها إلى المفردات العلمية المناسبة. وفي هذا الباب يقول الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي: «ومن الغريب أن يكون أهل العلم من هذا النفر الذي لم يحذق «العربية» على معرفة حسنة بالإنجليزية أو غيرها من اللغات الأعجمية غربية كانت أم شرقية، إنهم يباشرون هذه اللغات حديثا وكتابة، وهي وسائل عمل لهم ولا يبيحون لأنفسهم أن يخرجوا على قواعدها وأسسها، ولكنهم يتساهلون مع أنفسهم حين يرتكبون الخطأ في «العربية» وحجتهم أن «العربية» صعبة وهي لغة لا تناسب العصر». ثم يضيف محذرا: «هذا خطأ كبير بل جهل مخيف! فإلى أين المصير؟». ومن ميزات لغتنا أيضا أنها لغة متطورة لأنها حية، وهي إلى تطورها «الوحيدة بين المجموعة السامية التي ثبتت على مر العصور في حين لم تثبت تلك اللغات».
استيعاب مفردات الآخر
وخلال مراحل تطورها لم تكن اللغة التي استوعبت الحضارة العربية والإسلامية فحسب، وإنما اتسعت للعديد من التسميات والاصطلاحات الوافدة من لغات عديدة فأصبحت في ما بعد جزءا منها ومن مفرداتها.
وبالمثل وجد الآخرون في لغتنا ما يعبِّر عن بعض حاجاتهم فضموا إلى لغاتهم من كلماتها واصطلاحاتها. ولعل هذه القدرة على التطور والثبات معا تجد تبريراً لها في اختلاف لغتنا اليوم عن لغتنا القديمة باتجاه استيعاب ملامح عصرنا وبخطى متوازية لمراحل تقدمنا نفسه، وهو شأنها مثلا عندما كانت «انتقالتها الأولى» «من لغة الأدب والشعر إلى لغة العلم والمصطلح العلمي...». لتفي باحتياجات حضارة عصر الإسلام الأول وجديدها في العديد من شئون الدين والحياة.
وخلال مراحل تطورها أيضا جابهت الحاجة إلى نقل بعض علوم الآخرين من اللغات الأعجمية فنهض بإيفائها العديدون على مر العصور، حيث وجدت العلوم فرصتها للتعامل مع نتاج الحضارة العربية عبر مراحلها المتعاقبة. أفليس غريبا أن نجد نحن في هذا العصر في لغتنا عجزا عن نقل العلوم إليها، بينما فعل ذلك أجداد لنا قبل قرون دون أن يكون لهم ما لدينا من وسائل وسهولة اتصال?!
قدرة الاشتقاق
ولو عدنا إلى خصوصيات لغتنا نفسها إضافة إلى غزارة مترادفاتها لأصبح لزاما علينا الإشارة إلى «قدرة العربية الاشتقاقية وأنها تتسع في الاشتقاق إلى حد الاشتقاق من أسماء الأعيان كالماء والهواء والحجر والحديد والخشب وما إلى ذلك. وأن لها من أبنيتها ما يعين على توفير مسائل كثيرة كالمصدر الصناعي الذي صنعت به النسبية والمادية والكهربائية والحيوية والديمقراطية والوجودية ومثل هذا كثير، وأن لها من أبنية أسماء الآلة وسائر المشتقات ما هو كفيل بتوفير مادة اصطلاحية كبيرة»، ويضيف الدكتور إبراهيم السامرائي إلى ذلك قوله: «ولقد دل الاستقراء على أن في العربية أبنية لم يلتفت إليها الصرفيون ولم يقيدوها في مصنفاتهم وهي تصلح أن تؤدي أغراضا علمية، وكل تلك الميزات أسس لتوفير ثروة اصطلاحية كبيرة.
كنا برغم ذلك لا نسمع اتهام لغتنا بالعجز، وإنما يضيف أصحاب ذلك الاتهام تبريرا آخر لتوجههم نحو اللغات الأجنبية هو قولهم إن النشر العلمي باللغة العربية –لو تم- فسيؤدي إلى محدودية المادة المنشورة، وبالتالي فإن استمرار اعتماد أو مباشرة لغة أجنبية –وهي عندنا في المغرب الفرنسية في الأغلب- تحصيل حاصل مادام النشر العلمي الذي سيباشره خريجونا المتخصصون سيكون بلغات أجنبية!
في هذه الحجة أكثر من خلل، فمفهوم المحدودية والانتشار هنا لا يستند إلى قياس مدى تأثير المادة المنشورة في محيطها الطبيعي ولا إلى قدرتها على تلبية الهدف الذي كان وراءها، بل يستند إلى الرغبة المسبقة في التوجه إلى قارئ معيَّن.. إلى وسط معين يأمل في نيل الشهرة لديه والفوز برضاه، وبالحصر – وبصراحة لا تنوي الإساءة لأحد - إنه التوجه إلى الهيئات العلمية الأجنبية! ولكننا نرى الأمر من زاوية أخرى.. إذا كنا نتفق أن أبحاثنا لابد أن تستجيب لحاجات قائمة فعليا في مسيرة تطورنا، وإن أي بحث علمي بالنسبة لمرحلتنا لا يستهدف حل المشكلة التي يتعدى لها فقط بل ولابد له – وهذا ضروري جدا - أن يساهم في شحذ الوعي العلمي وإغناء النظرة العلمية لدى أوسع عدد ممكن من القراء.. إذا اتفقنا على ذلك – وهو ما نراه فهما علميا لدور البحث العلمي في حياتنا - فسنجد أن الخروج بحل للمشكلة العلمية المطروحة في الواقع، أو بتفسير علمي لها سيكون المبرر الأول للفوز بالنجاح الذي يطمح له الباحث، وبالتالي فإن الفوز بتفاعل الناس أصحاب المصلحة الحقيقية بذلك الإنجاز العلمي مع الباحث سيكون التزكية الأكبر للبحث والباحث، وسيضمن منطقيا الانتشار الذي يستحقه البحث.
والحق أن القول بمحدودية تأثير النشر العلمي بالعربية يعبر بهذه الدرجة أو تلك عن رؤية فكرية لا تستوعب الدور الاجتماعي والسياسي للعلم، وهو الدور الذي يكون أقدر عليه كلما كان في متناول أوسع الجماهير مضيئا طريقها محررا إياها من الأوهام.. ذلك لأن هذا القول يتجاهل العديد من الحقائق العلمية نفسها: فلو عدنا إلى تقاليد البحث العلمي وتبادل المنشورات العلمية وتداولها لاتضح لنا أن تلك الرؤية تتجاهل - دون عذر مقبول - حقيقة التطور العاصف الذي يشهده عصرنا في تبادل المعلومات، والذي أرسى تقليدا علميا معروفا هو أن يرفق كل بحث علمي ينشر بلغة الباحث بخلاصة وافية لنتائج وطرق البحث وأهدافه بلغة ثانية وبعضها بلغتين. وغالبا ما تكون الإنجليزية هي المعتمدة في هذا المجال، حيث تتيح لأوسع عدد من العلماء الذين لا يتحدثون لغة البحث فرصة طلب النص الكامل إن لم تسعفهم خلاصته ثم ترجمته إلى لغتهم. وهناك مراكز علمية متخصصة تستخدم أحدث الأجهزة الإلكترونية في الترجمة والاستنساخ... ويعرف كل أساتذتنا وباحثونا ذلك جيدا، ولاشك في أن العديد منهم قد فعلوا الشيء نفسه في طلب أبحاث ألمانية أو يابانية أو روسية أو صينية من دون إحساس بتعقيد أو صعوبة، فلماذا لا يفعل الآخرون معنا أيضا؟ أو بالأحرى لماذا لا ندعهم يفعلون ذلك معنا؟ ليس ذلك مجرد إحساس بالغبن، لا، وإنما إحساس بالمرارة لإهدارنا الفرص التي يتيحها لنا التطور الحديث في تدفق المعلومات, لأن ننشر علومنا بلغتنا دون أن ننعزل عن العالم أبدا، بل ويتيح للغتنا الانتشار في إطار من الاحترام نكسب منه على صعيد قومي وعلى صعيد شخصي أيضا.
إن مجرد وجود تلك السلسلة العملاقة لمستخلصات الأبحاث البيولوجية والأبحاث الكيماوية بل ولخلاصات أبحاث الفروع المتخصصة كأبحاث علوم التربة وغيرها من العلوم، حيث تقوم بنشر خلاصات الأبحاث المتعلقة باهتماماتها المنشورة في جميع اللغات واعتمادها علميا كمفاتيح أساسية للبحث عن المعلومات والمصادر. إن وجود تلك السلاسل وتواترها رد حاسم على ادعاءات محدودية النشر باللغات المحلية.
ترجمة المصطلحات
أما صعوبة تعريب بعض المصطلحات العلمية، فهي صعوبة تلقي على علمائنا البارزين بالذات مسئولية خاصة، فلاشك في أن تحديد المرادف العربي الدقيق للمصطلح يعتمد بالأساس على الإلمام المقتدر بدلالته.. الإلمام بأبعاد المصطلح العلمية وعلاقاته بغيره من المصطلحات. وملاءمته للتعبير عن حالات أو طرق معينة وهو ما لا يتوافر إلا للمتضعلين في العلم موضوع البحث. فإذا امتلكوا ناصية اللغة العربية فسيجدوا بحورها اللفظية الواسعة وقدراتها الاشتقاقية وأبنيتها مؤهلة لاستيعاب التعبير عن دلالات تلك المصطلحات... فمن يفكر بوضوح سيعبر بوضوح، وفي هذا الباب لابد من الإشارة إلى الجهود الهائلة التي بذلتها مجامع اللغة العربية في القاهرة ودمشق وفي بعض العواصم العربية الأخرى لتعريب آلاف المصطلحات والكلمات العلمية.
لابد من استثمار تلك الجهود وتطوير سبل الاستفادة منها وإغنائها على ضوء أسس واضحة كتلك التي أشار إليها الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي:
أن يكون المصطلح من الألفاظ التي لا تنصرف معانيها إلى مدلولات كثيرة.
أن يكون المصطلح من الألفاظ السهلة اليسيرة في بنائها من حيث الأصوات.
أن تكون بسيطة لا مركبة قدر الإمكان وبذلك يستغني ما أمكن عن الألفاظ المنحوتة والألفاظ المضافة.
أن يكون المصطلح من الألفاظ المعروفة فلا يلجأ إلى الغريب إلا عند الضرورة في حالة أن اللفظ الغريب كان مصطلحا قديما معروفا للفني ذاته.
أن يكون المصطلح قائما على المادة المرادة فلا يشترك فيه موضوع آخر.
يتجنب المعرب عند اختيار المصطلح ويفضل عليه الكلم العربي.
ومع ذلك فاستعمال بعض المصطلحات دون تعريب على الأمد القصير لا أحسبه يؤثر جديا على التعبير باللغة العربية عن موضوع أو نقطة معينين. وإن كان في ذلك من ضير فليكن حافزا للمتخصصين لأن ينهضوا بمهمة وضع المقابل العربي المناسب، علما بأن اللغة العربية جابهت مثل هذه المشكلة من قبل واستوعبت العديد من الكلمات والتراكيب الدخيلة، ولعل ذلك الاستيعاب نفسه وما أدخله من مفردات يدعونا إلى الأخذ بنظر الاعتبار تلك الكلمات الغريبة التي أصبحت من مفردات حياتنا اليومية واضحة المعالم والدلالات والاستعمال.
تطوير الترجمة العلمية بالاستمرار
والحداثة والمعاصرة
تجدر الإشارة إلى بعض القيود التي يضعها الأساتذة على الكتابة العلمية باللغة العربية، فهم يؤكدون على اختلاف يرونه كبيرا بين اللغة العلمية ولغة الأدب، وتحت هذا التأكيد الذي بلغ حد التهويل أحيانا يقصرون التعبير العلمي العربي على جمل محددة بكلمات معينة تجعلها تكرارا ثقيلا على طول المادة المنشورة وعرضها. حقا إن العلوم تحتاج إلى التحديد لا التورية وتحتاج إلى النبرة المحايدة، لا الملتحمة، وتحتاج إلى مباشرة الموضوع من صميمه: الاستطرادات والاستعارات والإطناب في هوامش جانبية، ولكنها أيضا تحتاج إلى قوة الحجة، ووضوح البرهان ومتانة البناء المكلف بإيضاح النتائج! ومن هنا يبدو غريبا تطير بعضهم من الجمل التي يكون للبلاغة العربية فيها نصيب ظاهر. إنهم يريدونها جملا جافة تتكرر فيها كلمات «ازداد» أو ارتفع (حين تنمو النتائج نحو الأعلى، وكلمات «قل» أو «انخفض» حين تهبط، ومفككة تتعطل عنها الأسماء الموصولة والضمائر وأدوات الربط، وتغيب عنها استعمالات لغوية عديدة، كواو المعية، أو الجمل الخبرية المقدمة.. يتكرر فيها، وبينها تعبير «وجد فلان» و«لقد درس فلان كذا فوجد كذا»، أما محاولات صب الموضوع في قالب بلاغي تتيحه العربية فيعلقون عليها بابتسامة الكبرياء أو المكابرة (تذكر أنك لا تكتب أدبا!).
ولعل ذلك بعض ما يفسر غياب الأسلوب الخاص بصاحبه في الكتابة العلمية عندنا، ذلك لأن هناك من يطالبك بأن تحتد له وفق أي طريقة، أو كما يعبر عنها هو وفق أي Style تكتب؟ أهي طريقة الكتابة الإنجليزية أم الأمريكية أم..؟ أجل، وكأن العربية عاجزة عن أن تتيح الأسلوب الكفء للكتابة بها!
لابد من أن نتحرر من قبل ذلك الجمود في عرض المادة العلمية ولابد أن نتذكر دائما إمكانيات اللغة التي نكتب بها لا أن نقسمها تعسفيا إلى لغة علمية وأخرى أدبية. فالمهم أن تحظى من المادة بأكبر قسط من الوضوح والدقة والجمال أيضا.. لاسيما حين تكوين صورة شاملة إن لم تكن متكاملة، عن الموضوع وتطوراته وزوايا النظر إليه وهو ما تهدف إليه الاستعراضات العلمية.
البداية في الجامعة
الحق أن تدريس العلوم في جامعتنا لا نحسد عليه، فهو يعرض حائرا بين إلقاء المحاضرة باللغة العربية –على افتراض تجاهلنا للرطانة الأجنبية التي تغلب على نصف المحاضرة تقريبا - وبين الاعتماد على مصادر باللغة الإنجليزية أو الفرنسية. أما المحصلة فهي هروب الطالب –وتلك مسألة ليست غريبة- من صعوبة المصدر إلى المحاضرة «العربية» رغم فقرها وعدم تبويبها وحتى عدم وضوحها، وخصوصا بالنسبة لمن لا يحسن التقاط المحاضرة من الأستاذ وبذا نصل إلى محصلة أشد إيلاما وهي ضآلة الكسب العلمي وهشاشته، مع «اتفاق» غير معلن – بل يكاد يكون للتواطؤ أقرب - على تجنب المناقشة العميقة قدر الإمكان، ولاسيما أن المادة تسعف الطالب المناقش لو أراد المناقشة بعكس الحال لو توافر له مدد علمي يرجع إليه وهو قادر على استيعابه أو حتى على تأمل معطياته للاستفسار عنها.
حقا، إن طريقة التدريس المتبعة وقدرات الأستاذ وفلسفته في الحياة عوامل مؤثرة في تحديد نوع وحجم المحصلة النهائية وفي مدى تفاعل الطلبة معها، ولكن ليس من دون مغزى أن تزداد محصلة المواد التي تتوافر لها المراجع العربية في كل الكليات.
وعلى ذلك، فلن يأخذ التعريب مداه ودوره المؤثر دون اقتران المحاضرة العربية بمرجع عربي أو معرب، على ألا يعني ذلك بأي حال انصرافا عن المراجع غير العربية، بل لابد من تنظيم الرجوع إليها وتيسر الإفادة منها بكل السبل، وهو ما يتطلب نقلة نوعية في تدريس اللغات الأجنبية في الجامعة خاصة. والتمكين من السير في دروبها بثقة الباهر لا بتردد البصير على جسر من جذع شجرة، كما هي حال معظم طلابنا مع المراجع الإنجليزية أو الفرنسية، أو على مفارق المجلات العلمية الأجنبية.
أجل، إن دعم المبادرات الفردية - وهو الملاحظ حاليا - أمر حسن، ولكن الأحسن منه أن تتفاعل تلك المبادرات ضمن خطة مبرمجة بما يخدم مرحلة تطورنا الاجتماعي ويتماشى مع التطور العلمي العالمي، فيكون توافر المصدر العلمي العربي لا إشاعة للعلم وترسيخا للتعريب فقط وإنما مساهمة في تطوير المناهج العلمية بنحو ما يستجيب لتلك التطلعات، أي أن جهد التعريب سيضاف إليه جهد اختيار المادة المعربة، ولكن ذلك وحده الكفيل بإنضاج ثمار طيبة.
وخلال كل تلك الخطى وعبر كل تلك الملاحظات، تمتد ملاحظة هي الحاجة إلى علماء متخصصين للنهوض بالمهمة أكثر من حاجتنا في ميدان الآداب والفنون، ولاسيما بالنسبة للعلوم الصرفة، وحيث إن المهمة كبيرة ومتسعة ودائمة أبدا، لابد من معالجة الهدر الحاصل في قدراتنا الآن، وهو هدر يعوق نهوضنا بالكثير من المهام العلمية والتعريب إحداها، مما يطرح ضرورة التصدي له بروح الإحساس المرهف بالمسئولية الوطنية والاجتماعية بالاستناد إلى كل القدرات والطاقات الوطنية ودعوتها وتمكينها لمنح الوطن حقه الذي له عليها، وبإسراع في توزيع مسئوليات التخطيط والتنفيذ لهذه المهمة الكبرى على كل المؤهلين، كل حسب قدرته وفي ميدانه، ولابد من نظرة جديدة في قضية اجتذاب كفاءاتنا العلمية المهاجرة، تتجاوز الجانب المادي إلى التأكيد في شمولية متوازنة على حرية الفكر وتوفير أجواء البحث العلمي وترسيخ التقاليد العلمية وتوظيف الإجراءات الإدارية والمالية لضمان تلك الحرية والأجواء والتقاليد، فهذا هو الإغراء الحقيقي للعالم. يقينا أن لدى أساتذتنا أكثر وأعمق من ملاحظاتي هذه التي إن كانت قادرة على تحفيز تلك الملاحظات على الظهور فستكون قد أدت أهم أهدافها .