«العربيَّة».. طاقة على التواصل والتعَلُّم
كثيرًا ما يقارب أمر اللغة العربيّة من حيث إنّها لغة القرآن الكريم فقط. أن ننظر إلى اللغة العربيّة على أنّها أيضًا لغة تعلّم، وتعليم، وتواصل، لا يقلّل من أهمّيّة كونها لغة القرآن الكريم. فالشأن اللغويّ شأن حضاريّ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتثاقف، والتطوّر التاريخيّ، وحاجات التواصل، لذلك فلا يمكن لأحد أن يحدّ اللغة في قالب، مهما سما، لأنّ للغة طابعًا إنسانيًّا غير خاضع لإرادة أصحابها الأصليّين، بل مفتوحًا للمتعاملين معها وبها كافّة.
ليست اللغة العربيّة من هذا المنظار الحضاريّ استثناءً، لذلك فعلى الناطقين بالعربيّة أن يحترموا علاقتها بالقرآن الكريم من جهة، وأن يتعاملوا معها بشكل علميّ ومتطوّر من جهة أخرى. ومن أجل دقّة ما سأسوقه في هذه الأسطر لابدّ من توضيح الأمر التالي: عندما أتكلّم عن اللغة العربيّة أقصد طبعًا اللغة العربيّة الفصحى كما تطوّرت في القرن العشرين، ولا أقصد اللهجات المحلّيّة، أو المحكيّات كما يسمّيها البعض. فالتعاطي مع هذه المحكيّات، ومع علاقتها باللغة العربيّة أمر مهم جدًّا، لكن لن تعالجه هذه الأسطر.
طبعًا، يمكن مقاربة موضوع اللغة العربيّة من أوجه عدّة. لكنّني سأفعل ذلك كمربٍّ، مركّزًا على طاقة اللغة العربيّة في مجال التعلّم، معرّجًا على التحدّيات التي تواجه هذه اللغة لتكون «لغة حيّة معاصرة»، وطارحًا بعض الأفكار التي من شأنها أن تبدّل في ديناميّة التعامل معها.
اللغة والمعرفة
قبل أن أبدأ في التخصيص، لابدّ من التأكيد على ما يلي: لا تقوم المعرفة إلاّ من خلال اللغة. فاللغة والعقل متلازمان بشكل لا يقبل الجدل حتّى لو أنّ العلم لم يتوصّل حتّى اليوم لتفسير كلّ أوجه هذا التلازم، لا من حيث أبعاده النمائيّة، ولا من حيث آليّاته الفيسيولوجيّة، ولا من حيث تأثّره بالمعطى الاجتماعيّ المحيط به.
لذلك، ومن وجه تربويّ صرف، لا بدّ لنا من أن ننظر إلى اللغة كطاقة فكريّة وإدراكيّة على كلّ المستويات. فاللغة، من هذا المنظور، ليست «مادة تعلّم» كغيرها من الموادّ كالرياضيّات أو التاريخ أو علوم الطبيعّة. فهي مكوّنة معرفيّة في كلّ من هذه المواد، ولا يمكن أن تستوعب هذه المواد إلاّ من خلال اللغة، إذ برهنت دراسات عديدة منذ النصف الأوّل من القرن الماضي، على أن تعاطي العقل البشريّ مع اللغة يختلف جذريًّا عن تعاطيه مع المكتسبات الأخرى، وقد أكّدت ذلك الأبحاث في نهاية القرن الماضي وفي مطلع القرن الحاليّ.
إضافة إلى ذلك، تُجْمِع الدراسات التربويّة على أنّه لابدّ لتقانات التعلّم إلاّ وأن تقوم على مبدأ التواصل للحصول على المعلومة ولاكتساب المعرفة. ولا يتمّ هذا التواصل إلاّ من خلال تبادل متكافئ بين الأشخاص بواسطة لغّة تنقل المُعْطى المعرفيّ بشكل دقيق، وتسمح بإقامة الحوار المتوازن. في النصف الثاني من القرن العشرين اهتمّ علماء اللسانيّات ومنظِّرو البراغماتيّة بإرساء أسس هذا التطوّر في التعامل اللغويّ فأعطوا اللغات بذلك دفعًا جديدًا لتكون مكوّنات حيّة في العمليّة الحضاريّة. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ كبار اللغويّين العرب الأقدمين قد قاربوا الإشكاليّة اللغويّة بطريقة سابقة لعصرهم، ومارسوا بتعاطيهم مع اللغة ما تمّ التنظير له بعد قرون.
العربيّة كلغة حيّة
إذا ما شكّ البعض بحيويّة اللغة العربيّة فيعود ذلك إلى تعاملنا معها، نحن أهل اللسان العربيّ. ما يجعل اللغة حيّة هو حيويّة الناطقين بها على الصعيد الحضاريّ وليس فقط على صعيد الثقافة المحلّيّة المحصورة. البرهان الأسطع على ذلك هو في تخطّي اللغة العربيّة الحدود الجغرافيّة للناطقين بها متى شعر العالم بأنّه بحاجة إليها كمصدر علم وفكر وفنون. هكذا كان الأمر بالنسبة لعدد من اللغات الأخرى كاليونانيّة، واللاتينيّة، وهذا هو اليوم وضع اللغة الإنجليزيّة.
مشكلةُ حيويّة اللغة ليست إذن مشكلة قائمة في اللغة نفسها، إنّما هي مشكلة الشعب الذي يحمل هذه اللغة. نعيش اليوم زمنًا يتراوح موقف العرب من لغتهم بين التشكيك بقدرتها على محاكاة العصرنة وتطوّر العلوم على اختلافها من ناحية، وإعطائها طابع القدسيّة لأنّها لغة القرآن الكريم من ناحية أخرى. وبالتالي تجميدها. لذلك فالسؤال الأساس هو: ما هي أهمّيّة التحدّيات التي تواجه اللغة العربيّة اليوم؟ وهل من سبيل للتعامل مع هذه التحدّيات بشكل إيجابيّ وفعّال؟
التحدّيات بوجه العربيّة المعاصرة
يمكن اعتبار أنّ كلّ التحدّيات التي تواجه اللغة العربيّة اليوم تنتج عن وجود سرعتين في العالم: سرعة التطوّر العلمي وجديد الاتّصالات، وسرعة الالتحاق بركب هذا الجديد والتأقلم معه. لا يمكن لأيّ مجموعة في العالم أن تواكب السرعة الأولى إلاّ إذا وضعت نفسها على الخريطة الإنتاجيّة وطوّرت نفسها علمًا، ولغةً، وثقافةً، لكي تساهم في إنتاج حضارة المستقبل. أمّا إذا بقيت أيّ مجموعة على مستوى الاستهلاك، فتكون قد ألزمت نفسها بالسرعة الثانيّة ولن تساهم، تاليًا، في التطوّر المجتمعيّ.
من يطّلع على الإنتاج البحثيّ في العالم، في كلّ الميادين، من علميّة، وفنّيّة، وفكريّة، يلاحظ أنّ المساهمات العربيّة ضئيلة بشكل عام، وهي ضئيلة جدًّا إذا ما أخذنا المخزون البشريّ بعين الاعتبار. يمكن أن يبدو هذا التحدّي تحدّيًا للمجتمع العلميّ ليس إلاّ (أي الجامعات ومراكز الأبحاث في العالم العربيّ). هو كذلك طبعًا، لكنّ انعكاسه على اللغة العربيّة حتميّ، إذ لا يشعر العالِم والباحث بضرورة تعلّم هذه اللغة للاطلاع على جديد علميّ أُنْتِج بها ونُشِر في مجلاّتها. وبسبب غياب الإنتاج العربيّ، لا يشعر العلماء العرب بحاجة إلى استنباط تعبيريّ جديد من حيث ضرورة سدّ ثغرة ما في الكتابة العلميّة. فضلاً عن ذلك، لم يتمكَّن المستهلكون العرب من توحيد مقارباتهم للكتابة العلميّة، فالترجمات تختلف من بلد إلى آخر، ممّا يُبْطل إمكان الاعتماد على النشر العربيّ (حتّى المترجم منه) كمرجع علميّ.
من ناحية أخرى، خلق تطوّر تقانات الاتّصال الحاجة إلى تسريع عمليّات التواصل التي أصبحت الإلكترونيّات وسيلتها المفضّلة، خاصّة في ميدان التواصل الاجتماعيّ. فغزت اللغة العربيّة رموزًا جديدة ومقتضبات مستحدثة تغيّب اللغة عن فقهها، وتباعد بين المحكيّات والفصحى، ويجد الإنسان العربيّ نفسه اليوم في غربة عما يتمّ تداوله عمليًّا في عدد من شرائح المجتمع، وخاصّة الشبيبيّة منها.
على صعيد آخر، يشكّل موقف البعض، المغالي في الدفاع عن متحفيّة اللغة العربيّة، تحدّيًا عصريًّا آخر. فقد تنبّهت العديد من المرجعيَّات اللغويَّة في العالم اليوم، إلى ضرورة مواكبة التطوّر الحضاري لتبقى لغاتهم حاضرة وفاعلة، فتبنّوا سياسات جديدة لا تتعلَّق فقط بتوسيع قاموس مفرداتها، بل أيضًا تطول تبسيط بعض قواعدها اللغويّة، وفتح المجال أمام «سياقيّة» لغويّة تحافظ على الأسس اللغويّة وتحترم بعض الاختلافات المناطقيّة. فما الذي يمنع اللغة العربيّة من التفاعل المثمر مع هذه التحدّيات؟
ما يمكن أن تقدّمه اللغة العربيّة
للعالم العربيّ وللعالم
من يتابع مؤتمرات اللسانيّات وعلوم الترجمة في العالم، يدرك أهمّيّة اللغة العربيّة كطاقة علميّة وتواصليّة. تتعدّى مواصفات هذه اللغة أشكال التقعيد التي فيها، والتراكيب الجامدة التي تعبّر عن رؤية للفصاحة لا علاقة لها بالهدف الذي قامت من أجله أيّ لغة. على سبيل المثال لا الحصر، يشكّل الاشتقاق إحدى طاقات اللغة العربيّة التي قد تنفرد به في العالم. ويمكن توظيف هذه الطاقة على أكثر من صعيد، خاصّة في مجال التجاوب مع المستجدّات العلميّة. لكنّنا، في الواقع، لا نعطي هذا البُعْد أهمّيّته في تعليمنا اللغة، وفي تعاطينا معها، ويمكننا سياق عدد من الأمثلة التي تظهر قوّة اللغة العربيّة في هذا المجال. بل على العكس، نحن اليوم نستغرب «نحت» الكلمات الجديدة النابعة من أصول اللغة، والتي تمكّن القارئ العربيّ من الإدلاء بدلوه في مجال الثقافة العلميّة، حتّى ولو لم يكن هو منتجها. لذلك فالكلام عن قصور اللغة العربيّة في محاكاة التطوّر العلمي ومواكبته، لا يمت إلى حقيقة اللغة بصلة، وذلك باعتراف لغويين ولسانيين أجانب. فكما كتبت العلوم سابقًا في اللغة العربيّة، وكتبت في أوائل القرن العشرين، هكذا اليوم، نحن قادرون، إن شئنا، على أن نعيد إلى هذه اللغة موقعها في الكتابات العلميّة عوض أن نحمّلها وزر تخاذلنا في حسن استعمالها وتطويره.
زد على ذلك، أنّ في العربيّة طاقة تواصليّة هائلة تتيحها الرؤية اللغويّة الصحيحة التي هي في تعدّد صيغ الجمل. فلسفة الجملة الاسميّة مثلاً تعطي اللغة طاقة تعبيريّة كبيرة بتسليط الضوء على قصد الكاتب، أو المتكلّم. استفادت اللغة الصحفية من هذا الأمر ولاقت نجاحًا كبيرًا. لم تخرج الصحافة، المحكيّة والمكتوبة، عن أصول العربيّة، بل على العكس استعملت طاقة هذه اللغة لتقوّي إمكاناتها التواصليّة. وما حقّقه تطوّر اللغة الصحفيّة في القرن العشرين لافت ومهم، لكنّنا لا نتنبّه له كفاية. تنبّه للموضع الذين أرادوا تعلّم العربيّة «الفصحى – المسهّلة» فأسموها لغة الصحافة، وتمكنّوا بواسطتها من امتلاك العربيّة والكتابة بها، وقراءتها بسبب تبنّيهم لهذا المستوى اللغويّ الذي لا يعيق أبدًا التوغّل مستقبلاً بمستويات لغويّة أخرى.
معظم الكلام عن صعوبة اللغة العربيّة يرتكز على إصرار العرب على تقديم هذه اللغة من زاوية واحدة، من دون الدخول في التفاصيل والولوج في أبحاث حول المستويات اللغويّة المختلفة والعلاقة الديناميّة بين اللغة الفصحى والمحكيّات. يفتح هذا الأمر واسعًا باب النقاش حول تعليم اللغة العربيّة، والتعلّم بواسطتها، واستعمالها في النشر العلميّ. الحقيقة أنه ليس من مشكلة في اللغة العربيّة، بل ربما تكون المشكلة قائمة في إرادة الشعوب التي تستعمل هذه اللغة، أو يُفْتَرَض بها أن تفعل ذلك.
ماذا يمكن أن يقدّم العالم العربي التربويّ للغته؟
ليس هذا السؤال موجّهًا للمجتمع التربويّ فقط، بل أيضًا لكل المهتمّين بشأن اللغة العربيّة، ولكلّ أصحاب القرار في العالمين السياسيّ والأكاديميّ. ما تعانيه اللغة العربيّة اليوم يتأثّر أيضًا بالتجاذبات التي تهزّ العالم العربيّ في مشرقه وفي مغربه. لذلك لابدّ من مواجهة إشكاليّة رفع مستوى التداول باللغة العربيّة عالميًّا مهما كانت الحلول الضروريَّة عصيّة وصعبة المنال. يرتبط الموضوع عمليًّا بعلاقة اللغة بالهويَّة الوطنيَّة، في زمن ينساب إلى الشبيبة العربيّة تحت تأثير الإعلام المشوِّه للغة العربيّة، محلّيًّا وعالميًّا.
مقاربات المستقبل
طبعًا، لا نيّة لنا في إعطاء حلول وكأنّها الدواء الشافي لمعضلة التعامل المستقبليّ مع اللغة العربيّة. لكن لا بدّ من طرح مقاربات تسمح لنا بتحضير الغد لتأخذ هذه اللغة مكانتها في تطوّر الركب الحضاري:
1 - توحيد جهود المجامع اللغويّة المحلّيّة حتى يتمّ اعتماد منهجيّة واحدة في التعامل مع المضمون اللغويّ، إن من حيث المفردات، أو من حيث أصول الترجمة، أو من حيث التبسيط اللغويّ، أو من حيث التعريف بالبُعْد اللسانيّ والتواصليّ الذي تقوم عليه اللغة.
2 - تقديم الدعم المادّيّ، واللوجستيّ، والمعنويّ لمراكز أبحاث عربيَّة متقدّمة تنتج العلم وتنشره في كلّ أرجاء العالم.
3 - اعتماد مرجعيّة علميّة دقيقة ومتقدّمة في كلّ ما يعود إلى تصنيف البحث العلميّ، وتقويمه، ونشره بالعربيَّة.
4 - اعتماد اللغة العربيّة كلغة تعليم في البلدان العربيّة كافَّة، لا كردّة فعل سياسيّة تتجاهل سائر اللغات، بل من حيث القناعة بقوّة هذه اللغة على نقل المفاهيم العلميّة كلّها، وبأهمّيّة تعليم كهذا في تحضير علماء المستقبل.
5 - اعتبار تعليم اللغة الأجنبيّة، إلى جانب اللغة العربيّة، أمرًا ضروريًّا لعمليّة التثاقف الحضاريّ من جهّة، ولتمتين علاقة العرب بلغتهم من جهة أخرى.
6 - تشجيع البحوث اللغويّة، وخاصّة تلك التي تسمح بردم الهوّة القائمة بين المحكيّات واللغة الفصحى، ولاسيّما الفصحى المسهّلة.
7 - تشجيع البحوث التربويّة التي تسعى لتطوير تعليميّة اللغة العربيّة (أي مجموعة التقانات التي تعود إلى أساليب تعليمها)، وذلك من أجل تسهيل تعلّمها، والتمكّن من الكتابة بها، والتعبير السليم بواسطتها.
8 - التعريف المكثّف بالإنتاج الأدبيّ العربيّ، والسعي لترجمة نخبة هذا الإنتاج من أجل دعم الحضور الثقافيّ العربيّ في العالم، حتّى نخلق الحاجة عند الآخرين للتعرّف على لغتنا وتذوّق إنتاجنا.
9 - توحيد السياسات اللغويّة في البلدان العربيّة ما أمكن حتّى نخرج إلى العالم بصورة متماسكة تقوّي مساهمتنا في صياغة حضارة الغد.
إنَّ تبديل المواقف تجاه اللغة العربيّة عمليّة وعي حضاريّ وثقافيّ. ويُعتبَر اعتماد سياسات دعم لهذه اللغة قرارًا أكاديميًّا وسياسيًّا في آن. لذلك، بات ضروريًّا اليوم أن يؤدِّي المثقّفون العرب دورًا كبيرًا في أوطانهم وفي العالم من أجل إعادة اكتشاف هذه اللغة، وأن يعملوا على دعم مستلزمات حضورها في العالم. قد يتطلّب هذا الأمر الكثير من الجهد من خلال حلقات ضغط عابرة لحدود الدول، لكنّ الموضوع موضوع وجوديّ، ولنا أن نأخذه على محمل الجدّيّة التي يستأهل .