هل «العربيَّة» لغةُ علم ؟
بدايةً، نورد ثلاث ملاحظات تتعلق من حيث التعريف، بتحديد دلالة مفردات وظيفية في البحث: الأولى؛ تتعلق بالعنوان، فقد جعلناه استفهامًا، حتى لا تكون المقالة، سلفًا، إقرارًا منا بصلاحية العربية للتعبير عن المعارف العلمية، وسيكون التعامل مع هذه «المسلَّمة» محايدًا، وممهورًا بقرائن تجريبية، ورصد مجموعة مقومات، أو مكوّنات، لابد من درسها، في ضوء ما يتوافر لدينا من معلومات موثّقة. هذه هي الملاحظة الأولى التي تجعل العنوان بصيغة الاستفهام: هل العربية لغة علم؟
الملاحظة الثانية، تتصل بالعنوان أيضًا، لجهة تحديد المراد من مفردة «علم»، فمن قبيل التعريف، يعني مصطلح «العلم» المعرفة العلمية في أعلى درجات التعقّل المحض، والمعرفة الكاملة. وهذا اتجاه نظري، وعام. لكن أشهر تقسيم للعلوم يتجه إلى حصر ذلك في الرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء وعلم الحياة.. والبعض أدرج في ذلك علم الاجتماع.. ونضيف إلى القائمة مجموعة العلوم التطبيقية كعلم الكهرباء الصناعية والاقتصاد الزراعي، إضافة إلى التكنولوجيا، أو التقانة الحديثة. لكن إذا قلنا إن تقدم لغة المجتمع رهن بتقدم لغته العلمية فنكون قد عنينا بذلك مجموع العلوم، بما في ذلك علم النقد والفلسفة والقانون وعلم الأخلاق وفقه اللغة...، أي الأخذ بتعريف أوسع لمفردة «العلم» باعتباره ظاهرة اجتماعية - ثقافية.. وهذا يوجب أن نقول إن العلم يمثل روح العصر، فهو منهج في فهم ودراسة الواقع اعتمادًا على العقل الناقد بهدف التدخل التجريبي للتغيير..، وبالتالي يغدو «العلم» وفق هذا المنظور نسقًا معرفيًا متّحدًا مع بنية وأنشطة المجتمع؛ فهو لا يعني معارف متفرقة، بل هو منهج موظّف في خدمة بنية المجتمع، يعمل على تماسكها واطّراد تقدمها، ومواجهة تحدياتها، ورسم معالم مستَقبلها. ولهذا، هو مؤسسة اجتماعية وعنصر حضاري.
وفي دائرتنا التراثية، كثيرًا ما تماهينا، في مراحل زاهرة، بفلسفة العلم، إذ جعلناه في كثير من المنجزات الحضارية، أداة تحقيق الذات، والدفاع عنها، وكذلك أداة التعبير عن الهوية وتأكيد أصالتها. لكن التطلّع إلى ذاك المجد، لا يحمل إلا على الاعتبار، والحافز على رصد الأعراض، كي نتعرف إلى السبب في غربة العلم في حياتنا.
الملاحظة الثالثة هي جدل العلاقة بين اللغة والفكر، فقد قدّم العديد من الفلاسفة واللغويين طروحات تكشف – برأيهم – عن الارتباط الوثيق، والعلاقة التبادلية بين تكوين الأفكار وتكوين الكلمات.
وعلى الرغم ممّا قدمه أصحاب هذا الاتجاه من بيان، ولاسيما في التنوع الشكلي الذي يُنبئ عن تقديم نشأة الفكر أولًا، ثم تأتي اللغة بعد ذلك لتجسّده، أو أن عملية الفكر نفسها متعذرة بغير اللغة ورموزها؛ فإن اللغة – هنا – ليست لمجرد التعبير عن أفكار، بل هي جزء لا يتجزأ من عملية التفكير نفسها. وفق ذا، نتجه إلى القول إن تكوين الأفكار وثيق الصلة بتكوين الكلمات، وبالتالي فإن كلّ علم يمكن ردّه إلى لغة أُجيدت صياغتها؛ ومعنى قولنا عن علم معيّن إنه تطور وتقدم، هو أن ذلك العلم قد ضُبطت لغته، لا أكثر ولا أقل، ضبطًا يتم إمّا بتغيير ألفاظه، وإمّا بأن يجعل الألفاظ القائمة أدق في معانيها.
وأخطر ما يمكن استنتاجه من ذلك التشابك بين التفكير واللغة، في رأي من زعم ذلك، هو أن تطوير العلوم مرهون بتطوير اللغة، وهي نتيجة بالغة الأهمية، لأن ذلك يؤدي إلى القول إن من الصعوبة أن يتغير للناس فكر من دون أن تتغير اللغة في طريقة استخدامها. وبالتالي، يكون من المتعذر علينا أن نحصل على معرفة بغير تفكيك وتحليل لأجزاء هذه المعرفة، وتاليًا يتعذر أن نلمّ بأجزاء التحليل بغير استعانة بالرموز اللغوية، أو بالألفاظ.
وقد يكون من الدقة، هنا، أن نقول إن التفكير والتعبير في حقيقة الأمر متلازمان، ولا يستوفي أحدهما كفايته إلا مقترنًا بالآخر، مستعينين باللغة.
نستخلص من هذه الملاحظات ثلاث أفكار، تساعد في توجيه البحث، وتنمية هيكليته؛ أولاها؛ سَوْق المعلومة الموثّقة عن إنتاج المعرفة العلمية باللغة العربية؛ ثانيتها؛ ما هي متطلبات إنتاج المعرفة العلمية باللغة العربية؟ وفي هذه الحال، هل نكون أمام إنتاج نصّ علمي، بدلًا من إنتاج العلم؟ ثالثتها؛ العربية لغة العلم، في إطارها التنموي.
أولًا: من معالم إنتاج المعرفة العلمية
باللغة العربية
1 – أول عهد للعربية، رسميًا، بتقديم نصٍّ علمي، كان في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان (26-86هـ/646- 705م) الذي أمر بتعريب الديوان، ممّا جعل اللغة العربية أمام تحدي الترجمة ووضع مفردات وتعابير جديدة. وهو فعل إدراكي، تحديثي، استنبت في قدرات التعبير العربي تفتّحًا على معجم وظيفي يعزّز العلاقة بين اللغة والهوية، ويمنح العربية شرعية السيادة اللغوية في مرافق الدولة، فتغدو إلزامية في لغة الحسبة والخراج والضريبة والمستحقات، وهو نهج وليد، بدأ يخطو بحذر إزاء عبقرية لغة الأدب والأخلاق والعقيدة والفقه.
2 – ثم تعززت لغة النص العربي، برافد حضاري، في عهد الخليفة العباسي المأمون (170- 218 هـ/786-833م)، الذي جعل لتحديث العربية مجمعًا لغويًا، علميًا، فلسفيًا، أطّره في «بيت الحكمة» فعزّز سريان الدم الجديد في جسد العربية، التي اقتدرت، بمرونة مميزة، على استيعاب تنوعات المعرفة، من فلسفة ومنطق وقصة ومَثَل، وسياسة، وعلوم، ولاسيما الفلك والطب والكيمياء.
وقد صاحب هذا الإنتاج تقدم البحث ونمو المادة الفكرية، وهو نمو اشتمالي، انعكس جليًا بظهور المصطلحات، التي شكّلت أساسًا متينًا لمفهوم النص العلمي، باللغة العربية. وقد بلغت شأنًا عظيمًا في القرون الرابع والخامس والسادس والسابع. ويمكن القول إن القرون الوسطى قد شهدت علمًا عربيًا مزدهرًا، إذ أنشأ علماؤنا لغةً خاصةً بهذه العلوم، وقد قامت هذه اللغة على أساس متين من العربية، وما أخذته عن اللغات الأخرى تبنته، وأصبح جزءًا منها. ويمكننا أن نقرر أن هذه اللغة كادت تكون في ذلك التاريخ لغة العلم الوحيدة في العالم بأسره.
ما يجب ذكره – هنا – أن لغة العلم، بالعربية، التي شهدنا تطورها في تلك المراحل من تاريخنا ما كان يمكن أن يكتب لها الاستمرار في النجاح، مدة تزيد على 800 سنة، من دون توافر المجتمع العلمي، ومن دون الكلام عن البحث العلمي نفسه؛ فقد تحضّرت لأجل هذا الإنتاج العلمي بالعربية بنية تحتية لازمة، ولاسيما في القرن التاسع الميلادي، وقد تمثل ذلك الاستعداد والتهيّؤ بفعل سببين؛ أولهما وجود طلب من المجتمع؛ فالخلفاء ناصرو العلم أسسوا المكتبات والمراصد، وشجّعوا بكرم الترجمة والبحث. وما يجدر ذكره، هنا، هو أن هذه المؤسسات لم تكن تضم أفرادًا فقط، بل مجموعات، وفرقاء بحث، تتنافس وتتبارى في ما بينها. تلك المجموعات، وتلك المراكز العلمية الاجتماعية التي استُحدثت للترجمة والبحث هي التي ساعدت على استيعاب العلوم الهلينيستية داخل مدينة العلم – بغداد. والسبب الثاني، هو الارتباط الخاص بين الترجمة والبحث؛ فلم يكن الهدف من ترجمة النصوص العلمية إلى العربية، في ذلك العصر، كتابة تاريخ العلوم، وحسب، بل وضع النصوص العلمية العربية الضرورية لتكوين الباحثين، أو لمتابعة البحث العلمي. بمعنى أن الأولويات المتّبعة ضمنيًا في اختيار الكتب للترجمة، وفي تسلسل الترجمات، لا تأخذ معناها إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أنشطة البحث في زمانها؛ وهذا النهج يشكّل لَبِنَة أساسية في «توطين العلم»، وتمهيدًا صالحًا لبداية تملّكه.
3 – وكان للنص العلمي، باللغة العربية، تجربة مختلفة، في عهد محمد علي باشا (769-1849 م) الذي قدّم محاولة جريئة في تحديث مصر؛ فقد قرر، لأسباب استراتيجية وعسكرية واقتصادية «تملّك» العلم الحديث، أي نقل العلم والتقنيات الأوربية إلى مصر.. فبدأ بإصلاح جذري للنظام التربوي، فأنشأ المدارس الابتدائية، والمدارس التحضيرية، ومجلس التعليم العام لمراقبة وتوجيه هذا النظام التربوي الذي وُضع لتملّك التقنيات الحديثة والعلم الحديث، وأطلق نظام البعثات التعليمية إلى الخارج (من العام 1813 إلى العام 1848).
ما يهمنا من هذه التجربة، أن نقل العلوم الحديثة تم بدفعة واحدة باللغة الوطنية، ولم تفرض لغة أوربية لتعليم العلوم. ودبّت الحياة في حركة التعريب، التي نهجت سبيلين، الأول تأسيس مدرسة مخصصة لتكوين المترجمين، والثاني إرسال بعثات الطلاب إلى الخارج. وجرت العادة على أن يترجم كل طالب، عند عودته، كتابًا أجنبيًا في ميدان اختصاصه إلى اللغة العربية؛ وأن هذا النقل غلب عليه الاختيار العملي والتطبيقي؛ فالكتب المترجمة، والمواد المدروسة، وأهداف البعثات، كلها تندرج في اختيار مقصود للعلوم التطبيقية، أو لما يرتبط بها.
لكن الفارق بين تجربتي بغداد (في العصر الوسيط) وتجربة محمد علي في القرن التاسع عشر أن مكوّنات المجتمع البحثي العلمي شهدت تراجعًا في تجربة مصر، فقد جرى النقل والتعريب من دون الاقتران بالبحث العلمي؛ بمعنى، أن تجربة محمد علي الخاصة بمحاولة «تملّك العلم» فرصة ذهبية، ضاع بريقها بفعل أمرين، سيعاد الوقوع بهما، في كثير من البلاد النامية؛ الأمر الأول هو «توجيه الاهتمام نحو نتائج العلم من دون تأمين الوسائل لإعداده ولتشييد بنية قوية للبحث، وبنية تحتية للثقافة العلمية والتقانية وللمجتمع بكامله»، والأمر الثاني هو نتيجة للأول، وهو «الاقتناع بإمكان الاستغناء عن البحث الأساسي».
4 – وشهد النص العلمي، باللغة العربية، في الربع الأول من القرن العشرين تجربة أكاديمية، ذات أثر بالغ في تطوير المصطلح العربي، وشيوع العربية لغة تعلّم لمواد الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والرياضيات، والقانون، فقد أنشئت الجامعة المصرية القديمة، ثم تلتها جامعات متعددة، وفيها يقدّم قدر من المواد العلمية باللغة العربية. وفي سورية تأسست جامعة دمشق التي التزمت تدريس العلوم باللغة العربية.
وتحمل تجربة تعليم الطب والعلوم بالعربية، في جامعة دمشق، مؤشرات جديرة بالبحث، لما فيها من نفع في مسألة التعريب، وارتباط اللغة بالهوية؛ ففي هذه الجامعة، ومنذ إنشائها، تشرح فيها أحدث النظريات العلمية، وتوصف أدق الأجهزة على منابرها بلغة فصحى سليمة، سهلة، ميسّرة، وكذلك الأمر في مدرسة الحقوق.
وأنشأ فريق من أساتذة هذه الجامعة، وفي مقدمتهم د.مرشد خاطر (1888 – 1961م) والأمير مصطفى الشهابي (1893-1968م)، والدكتور أحمد حمدي الخياط (1899-1981م)، والدكتور محمد جميل الخاني (1891-1951م) مجلة «المعهد الطبي العربي»؛ «التي أخذ المعهد على عهدته إصدارها لغايات ثلاث: خدمة اللغة العربية الشريفة..؛ وخدمة الطب والأطباء..، وخدمة الشعب..». وقد صدر من هذه المجلة 21 مجلدًا (بين سنتي 1924-1947)، حافلة بالبحوث الحديثة، وآلاف المصطلحات العربية.
ما يسجّل لتجربة جامعة دمشق، على صعيد اعتماد العربية لغة علم للطــب والرياضيات وسائر العلوم، أنها ربطت بين التعريب والوضع، وظهر الاجتهاد اللغوي في دقة استحداث المصطلح، واعتماد ضربه على موازين الاشتقاق، مع مراعاة استخدام ما ييسر شيوعه واستخدامه. وقد شكّل ما نشر من مصطلحات علمية، في سورية، قاعدة مرجعية أساسية، ترفد نتاج التعريب في سائر الجامعات العربية. ويسجل لهذه التجربة ظاهرة التشبيك المعرفي بين الجامعة والمجمع العلمي وتوسّل مجلة المجمع وندواته طريقًا إلى تثقيف الناس، مما أسهم في تكوين ثقافة علمية، موصولة بين رعيل العلماء الأوائل وتلامذتهم، الذين تابعوا العمل على النهج ذاته.
لكن هذه التجربة، على الرغم من وثبتها الوطنية الصادقة، وفرادتها في إعلاء شأن العربية، التي غدت مادة تعلّم وتعليم في المراحل الدراسية كافة، وللمواد التعليمية كلها، بما في ذلك العلوم والرياضيات..، فإنها أغفلت من الناحية التطبيقية دور اللغة الأجنبية، فمخرجات التعليم فيها لا تمكّن المتعلّم، وتحديدًا الجامعي، من الاطلاع على نتاج الفكر العلمي المتقدم في العالم، وهو ما شكّل انقطاعًا ذا أهمية حيوية بالنسبة إلى القارئ السوري، الذي بقي في مراجعه أسير ما يترجم إلى العربية، وهو نزر يسير إذا ما قيس بالكم الهائل الذي تصدره الجامعات ومراكز البحوث ودور النشر الأجنبية، من كتب ودوريات وموسوعات، ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الحال سلبًا على إنتاج البحث العلمي وتطويره في المجتمع العربي السوري.
ثانيًا: البحث في متطلبات
إنتاج المعرفة العلمية باللغة العربية
يقوم إنتاج المعرفة العلمية على ركيزتين أساسيتين؛ هما: لغة العلم، وتوافر المجتمع العلمي.
1 – أما لغة العلم فيصنعها ويصوغها ويطورها أهلها؛ فالعالِم الذي يدرس الظاهرة ويكشف أمر أسبابها وما آلت إليه، والعالِم الذي يبتكر الفكرة، والعالِم الذي يتوصل إلى مخترَعٍ ما، هؤلاء أكثر من سواهم توفّرًا على الإحساس بما يلاحظون ويبدعون، وهم أكثر من غيرهم تعبيرًا عمّا آلت إليه بصيرتهم من بدائع. وهذا العالِم، أو ذاك، كلّما كان متمكنًا من لغته القومية، استطاع أن يختار منها اللفظ المناسب والصياغة الدقيقة، وتوليد اللفظ الملائم لمضمون عمله.
لكن هذا لا يعني أن يقتصر العالِم في دراساته على لغته الوطنية، فالاطّلاع المباشر، والتمكن من لغة أجنبية، أو أكثر، يفترض أن يكون من أدوات الباحثين، لا يستغنون عنه؛ «فالإنتاج العلمي لا يقتصر على لغة واحدة، وإنما يتعدد ويتنوع بتعدد بعض اللغات الحديثة في الدول الصناعية وتقدم العلوم والتقنية فيها».
بالمقابل، نؤكد الارتباط بين لغة العلم والانتماء الوطني للعالِم؛ بمعنى أن موقف العالِم من اللغة يوضح مدى انتمائه إلى أهله وشعبه وأمته، ومدى ارتباطه بالمجتمع الذي يعيش فيه. أما إذا ترك العالم لغته الوطنية، والتزم في إنتاجه لغةً أجنبية بدعوى توافر النشر بالمجلات العلمية العالمية، وأن هذا الأمر لا يتوافر في المجتمع العربي، فيكون من نتائج هذا إسقاط للغة الوطنية واعتبارها مجرد آلة فقط، فهي لا فضل لها في ذاتها، وهو إقرار بقول من يرى أن عزلتها وانحطاط مقامها إنما يكون نتيجة صفات قومها من قوة وضعف، والقبول بالتالي بمقولة إن خصائص بنية اللغة وسعة مفرداتها لا تهب اللغة مكانة، وتراثها – أيضًا – لا يعطيها بالضرورة حق المعاصرة.. وهذا الحديث يفضي إلى نتيجة مؤداها ترك هذه اللغة الوطنية وشأنها.
ما يمكن أن يخلص إليه الرأي الأول، هو أن إهمال اللغة الوطنية يتسبب بتعطيل فكرة الانتماء، وهي عند أصحاب هذا الرأي، ظاهرة سلبية لا تؤدي إلى النهضة؛ وفي الرأي الثاني نلاحظ التقليل من أهمية الربط بين المسألة اللغوية وفلسفة الهوية. ودليل من يعتقد بهذا الرأي الثاني أن لغات قديمة عريقة كعراقة العربية وقدمها، ماتت، أو انكفأت، ولم يؤثر موتها، أو انكفاؤها بوقف إنتاج العلميين في تلك الدول، بلغة أخرى، كانت – برأيهم - أكثر عصريةً.
2- ومن المناسب، هنا، أن نورد لمحة إحصائية عن الناتج البحثي للعلميين العرب، فقد بلغ الناتج في العلوم الأساسية (الفيزياء، وعلوم الفضاء، الرياضيات، الكيمياء، الكيمياء الحيوية وعلوم الحياة) حتى العام 2005 حوالي 6384 ورقة. وبلغ الناتج في العلوم الطبية 6660 ورقة، وفي الزراعة 1477، وفي العلوم التطبيقية - العلوم البيئية، والأرض وعلوم الكواكب، والهندسة، والهندسة الكيميائية، وعلوم الكمبيوتر - 7057 ورقة.
وفي هذا الصدد، يرى أنطوان زحلان، في نظرة مقارنة، أن ناتج البحث في البلدان العربية على امتداد الفترة من 1967-2010 قد تضاعف ثلاث مرات بين عامي 2000 و2010. ويمكن أن نسجل في المحصلة النهائية، أن ناتج البحث والتطوير في مجمل الدول العربية قد أصبح اليوم محسوسًا، ولكنه مازال مستخدمًا أقل بكثير ممّا يجب. لكنه لاحظ، أن أي دولة عربية، لم تعط حتى تاريخه، الاهتمام المناسب للعلاقة بين القدرات العلمية والاقتصاد. ومع ذلك فهنالك دول عربية عدة تقترب بسرعة من الظروف التي يجب أن تصبح فيها قادرة على جني فوائد اقتصادية محسوسة من البحث والتطوير الجاري فيها.
ما يمكن أن نخلص إليه – هنا – أن تعريب النص العلمي، لا يقتصر أمره على «النقل» والاختيار خارج التخطيط المنهجي، لأن تعريب العلم والتقانة هو منظومة من الروابط بين عناصر المنظومة ذاتها، وارتباطها ووصلها بسائر المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الوطنية الكبرى. بمعنى أن هذا الكم من نصوص التعريب للعلم والتقانة يحتاج إلى دعم رسمي من الدول العربية، بشكل منتظم، يكفل ما تحتاج إليه مراكز البحث وعملية الترجمة والنشر، وهو ما يندرج في استراتيجية شاملة لثقافة عربية. وهذه مسألة أخرى في الرؤية والتطبيق، في البلدان العربية، سنتناولها في الإطار التنموي.
ثالثًا: العربية لغة العلم،
في إطارها التنموي
يعيش الوطن العربي، على اختلاف أقطاره، ومكوّناته الاجتماعية حالة من التحول العميق في بُناه السياسية والاجتماعية والثقافية. فالراهن العربي تتجاذبه نزعات وتوجهات شتى، بين الوحدة والانكفاء القطري، وبين التقليد والحداثة، وبين المطلق المقدس والنسبي العلماني، وبين الغرب والشرق، وبين المستقبل والماضي، وبين الانتماء إلى الجماعة والانتماء إلى الأمة (...). هذا التحول في الحياة يتطلب لجهة اللغة أن يكون التعبير عن هذه المتغيرات واسعًا، ومن ثم متجددًا لجهة مفردات العربية وأساليبها، ويتطلب، أيضًا، الاستجابة لتطلعات المجتمع الفكرية، ولاسيما المعرفة العلمية، ويتطلب، تاليًا، تقنين هذا الجديد الوافد، أو المستحدث، أو المولَّد، وتدوينه على النحو الذي يحظى بالقبول بين أبناء اللغة. بمعنى أوجز، إن تحول المجتمع العربي من مجرد الاستخدام المنطوق للغة إلى تدوينها للأغراض المختلفة هو بداية عملية التقدم المنشود.
وتتضّمن التنمية في توجهها الرئيسي التخطيط اللغوي، فهو الذي يكفل جعل اللغة العربية على قدم المساواة مع اللغات الراقية، بوصفها أداة اتصال وتواصل. ويندرج في إطار هذا التخطيط:
1 – وحدة المعيار اللغوي: فقد خطت اللغة العربية على يد الباحثين العرب، وما أنتجته المجامع العلمية واللغوية، مراحل مهمة لجهة الارتقاء بالعربية الفصيحة وجعلها مقبولة داخل المجتمع العربي. وإننا نجد أن متكلم العربية، اليوم، يلمس قراءةً وكتابةً مدى انزياح اللهجات باتجاه الفصيحة بفعل التعليم وانتشار المعرفة عبر وسائل مرئية ومسموعة. وبمقارنة سريعة بين نصّين لهجيين، في أيِّ قطر عربي، أولهما يعود إلى نصف قرن مضى، وثانيهما حديث، فإننا نجد مدى التطور الحاصل للنص اللهجي واقترابه من العربية الفصيحة المعاصرة. ويمكن القول إن اللهجات، مهما تعددت وكثرت فإنها تتحرك – مع تعديلات طفيفة – نحو حالة من المعيار الواحد، تقريبًا، والمقبول على مستوى شرائح كثيرة من المتعلمين، وهو مسار لغوي سيفضي – باستمرار التعليم واطّراد نشر المعرفة – إلى مزيد من بري أو حتّ تلك البنى الصوتية والصرفية والدلالية، البعيدة في واقعها اللهجي عن بنى العربية الفصيحة.
وقد خطا النص العلمي، باللغة العربية، لجهة المصطلحات، خطوات كبيرة، باتت تشكل رصيدًا مهمًا للتعريب. لكن المرحلة الراهنة للمصطلح، على أهميتها، تبقى رهينة تعدد المصطلح للمعنى الواحد، وهو ما يشكّل حالة من التعثر في طريق وحدة المعيار.
وللمجمع العلمي في دمشق تجربة رائدة في وجه من وجوه وحدة هذا المعيار اللغوي، فقد كان يزوّد المصالح الحكومية بما تحتاج إليه من مصطلحات فنية وإدارية وعلمية، وكانت هذه المصالح ترسل إلى المجمع قوائم تُدرج فيها ما تستعمله من مصطلحات أجنبية تركية وغير تركية، فتبحث لجان المجمع عمّا يقابلها من العربي الصحيح، وتُقرّ بعد الدراسة، وتعاد إلى الجهة المرسِلة، فيأمر المسئولون بإحلالها محل الأولى، وتجري بها الأقلام في الدواوين الرسمية، والمعاهد والمدارس، ومن ثم يتلقفها الأفراد، وتحيا، على نسق واحد، في المجتمع، نطقًا وكتابةً. وقد أمدّ المجمع دوائر المعارف، والأوقاف، والشرطة، والمجلس البلدي، والصحة، والمصرف الزراعي..، بكل ما احتاجت إليه.
2 – المصطلح في النص العلمي- راهنيته ووحدته: تمتلك المكتبة العربية مئات الآلاف من المصطلحات، ويحظى المصطلح العلمي منها بقسط كبير، والفضل في هذا الإنتاج المطّرد يعود إلى جهود الأفراد في صنع المصطلحات، وإلى جهود المؤسسات، ولاسيما جهود مكتب تنسيق التعريب في توحيد المصطلحات العلمية، وجهود مشروع «راب» لترجمة مصطلحات الاتصالات، وجهود المعهد القومي للمواصفات والملكية الصناعية في تونس، وجهود البنك الآلي السعودي للمصطلحات العلمية (باسم BASm).
ونشير في هذا الصدد، إلى البيان الختامي لمؤتمر القمة العربي المنعقد في الرياض (1428 هـ - 2007م)، الذي يؤكد ضرورة الاهتمام باللغة العربية، وأن تكون هي لغة البحث العلمي والمعاملات، حيث نصّ على ما يأتي: «وجوب حضور اللغة العربية في جميع الميادين، بما في ذلك وسائل الاتصال، والإعلام، والإنترنت، وغيرها».
واستجابة لما جاء في البيان، سجّل الملك عبدالله مبادرة تهدف إلى إثراء المحتوى العربي عبر مشاريع عدة تنفذها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بالتعاون مع جهات مختلفة داخل المملكة وخارجها. ومن هذه المشاريع ما يتعلق برقمنة المحتوى العربي القائم على شكل ورقي وإتاحته على شبكة الإنترنت، ومنها ما يتعلق بترجمة الكتب المهمة، وبخاصة العلمية، مما يساعد على إثراء المحتوى العلمي بالترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، بهدف تزويد القارئ العربي بعلم نافع ومفيد.
ما يلاحظ في هذا «الإثراء» العلمي: أنه جرى انتقاء الكتب وفق معايير، منها أن يكون الكتاب من أمهات الكتب في اختصاصه التكنولوجي، ولمؤلفين يُشهد لهم عالميًا، وأنه صدر حديثًا (بعد عام 2000)، وألا يكون ضيق الاختصاص بحيث يخاطب فئة محدودة، وأن يكون موضوع الكتاب ونهجه عمليًا وتطبيقيًا يصبّ في جهود نقل التقنية والابتكار، ويساهم في عملية التنمية الاقتصادية من خلال زيادة المحتوى المعرفي العربي.
وبالفعل، فقد عكس هذا المشروع الرائد أهداف السياسة الوطنية للعلوم والتقنية في السعودية، التي انبثق عنها اعتماد إحدى عشرة تقنية استراتيجية، هي: المياه، والبترول والغاز، والبتروكيماويات، والتقنيات المتناهية الصغر (النانو)، والتقنية الحيوية، وتقنية المعلومات، والإلكــــترونيات والاتـــــصالات، والــــضوئيات، والفضاء والطيران، والطاقة، والمواد المتقدمة، والبيئة. وقد اشتملت هذه السلسلة، كمرحلة أولى، على ما مجموعه ثلاثة وثلاثين كتابًا مترجمًا، كما خُصّص كتاب إضافي منفرد للمصطلحات العلمية والتقنية المعتمدة في هذه السلسلة كمعجم للمصطلح.
هذه الجهود المتواصلة، على صعيد تطوير لغة النص العلمي، والارتقاء بصناعة المصطلح، تعكس كفاءة العلميين العرب، من مترجمين وباحثين وخبراء مدققين. وتعكس في بعض جوانبها حرص بعض الحكومات والمؤسسات العلمية على التخطيط ووضع معايير وحدة المصطلح.
وما يستكمل البحث في هذه المسألة: تحديد ما تشترك فيه المصطلحات من سمات واحدة، يسهّل أمر الانتقال إلى بحث وحدتها؛ وهذه السمات أربع: الأولى، أن المصطلح لفظ موضوع باتفاق أهل الاختصاص، من دون مناسبة بين لفظه ومعناه، فلا ينبغي التماس علّة التسمية، فهي هكذا كانت؛ الثانية، أن المصطلح لا يدل إلا على معنى واحد؛ الثالثة، أن دلالة المصطلح على معناه يمكن أن نطلق عليها «الحقيقة العلمية»، سواء تطابقت مع الحقيقة اللغوية، أو كانت من باب المجاز؛ الرابعة، أن دلالة المصطلح على الحقيقة العلمية دلالة تطابقية، سواء تكوّن من لفظ، أو من عبارة، أو من حروف مختصرة، أو من حرف رمز، أو من رقم حسابي في العمليات الرياضية، أو حتى من اسم شخص، ففي هذه الحالة يتناسى جانب الدلالة على الشخص، ولا تذكر إلا الحقيقة العلمية.
ويمكن القول، إن ما يضارع أهمية المصطلح ووحدته في التحديث المنشود للعربية، هو صنع المعاجم المتخصصة التي تحمل إلى جانب علميتها، طابع الوظيفة لجهة قيمتها الثقافية، ولجهة قدرتها على الانتشار، في المدارس والجامعات ومراكز البحوث .