سعيد عقل.. خلاصة الشعرية اللبنانية

سعيد عقل..  خلاصة الشعرية اللبنانية

عن‭ ‬مائة‭ ‬عام‭ ‬واثنين،‭ ‬كان‭ ‬رحيل‭ ‬أكبر‭ ‬شعراء‭ ‬لبنان‭ ‬والعربية‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وفي‭ ‬الأعوام‭ ‬التي‭ ‬تقضّت‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭. ‬وقد‭ ‬امتد‭ ‬به‭ ‬الأجل‭ ‬منذ‭ ‬كان‭ ‬معاصراً‭ ‬لإلياس‭ ‬أبو‭ ‬شبكة،‭ ‬والأخطل‭ ‬الصغير‭ (‬بشارة‭ ‬الخوري‭) ‬وأمين‭ ‬نخلة،‭ ‬وصلاح‭ ‬لبكي‭ ‬وغيرهم،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬تخوم‭ ‬الشعرية‭ ‬اللبنانية‭ ‬المعاصرة‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬جوزيف‭ ‬حرب،‭ ‬ومحمد‭ ‬علي‭ ‬شمس‭ ‬الدين،‭ ‬وشوقي‭ ‬بزيع‭ ‬وأضرابهم‭. ‬وظل‭ ‬طوال‭ ‬هذا‭ ‬المدى‭ ‬الشاعر‭ ‬المثير‭ ‬للزلازل‭ ‬والبراكين،‭ ‬الذي‭ ‬يختلف‭ ‬عليه‭ ‬الناس،‭ ‬ويبلغون‭ ‬معه‭ ‬أقصى‭ ‬درجات‭ ‬الاختلاف،‭ ‬رضاً‭ ‬أو‭ ‬سخطاً،‭ ‬عشقاً‭ ‬أو‭ ‬كراهية‭. ‬

من هنا، كانت دعوتي لقراءته منذ خمسة عشر عاماً، ومحاولة اكتشاف هذه الظاهرة الشعرية التي لها خصوصيتها اللغوية والفنية والفكرية والموسيقية. هذه الخصوصية هي التي ميزته منذ انبثاق دفقته الشعرية الأولى عن مجايليه في لبنان، والعالم العربي، وجعلت منه شاعراً مختلفاً، يغني وحده في السرب، لذاته وعالمه ورؤاه، فلم يكن ترجيع نغم بعيد، أو إحياء لشعرية قديمة، قذف مَوْجها الشعري في بعض تجلياته بالتماعات من ممتلكات المتنبي أو أبي تمام أو البحتري أو الشريف الرضي أو ابن الرومي أو أبي نواس وأضرابهم. فقد نجا سعيد عقل مما وقع فيه غيره، في لبنان وفي غيره من البلدان العربية، منذ كان إصداره الشعري الأول في عام 1935 يضم مسرحيتين شعريتين، هما: «بنت يفتاح» و«قُدموس»، ثم تتابعت دواوينه وكتاباته: «المجدلية» عام 1944، و«رندلي» عام 1950، و«غدُ النخبة» عام 1954، و«أجمل منك لا» عام 1960، و«لبنان إن حكى» عام 1960، و«كأس لخمر» عام 1961، و«أجراس الياسمين» عام 1971، و«كتاب الورد» عام 1972، و«دِلزي» عام 1991، بالإضـــــافة إلى مجمــــوعتين شعريتين أخريين، صدرتا للشاعر في سنواته الأخيرة.

وكما تضيع الحقيقة دائماً بسبب التعصب، حبّاً أو كراهية، وتصبح النظرة المنصفة مفتقدة وغائبة، فقد انعكس هذا الموقف - في حدّيْه المتباعدين - على سعيد عقل وشعره.

وانشغل خلق كثير بآرائه ومواقفه وتقلباته، وأحاديثه في اللغة والثقــــافــة والسياسة والمجتمع، وبانتماءاته المختــــلفة في شتى هذه الدوائر والمجالات. انــــشغلوا بهذا كله عن شعره، وعن إنجازه الضخــم فيــــه، وهـــو الشـــــاعر الذي عَبَر هذا العمر الطويــل، قادراً على السبق والإبداع، وتجاوز ذاته باستمرار شعراً ونثراً.

نعم، ففي نثره من جوهر الشعرية ووهجها وتألقها ما يفوق أحياناً بعض شعره. ذلك أن كيميائية الشعر التي تسكنه لا تفرق في تدفقها بين شعر ونثر، كلاهما مَصبٌّ نادر لعبقرية اللغة، واشتغال جمالي صعب، بالمفردة والجملة والعبارة والسياق، والولع بهندسة تركيب غير معهودة أو مألوفة. فسعيد عقل دوماً ضدّ الإلْف والاعتياد والتكرار، وهو مولع بالتنقيب في الطبقات الجيولوجية البعيدة لهذه الشعرية الطاغية، بحثاً عن لغته هو وصوته هو، واستدعاءً لصيده النادر والمستحيل في هذه الأعماق الصاخبة، وصولاً إلى المعنى الذي كان يراوغه، واللفتة اللغوية التي كانت تشاغله، والموسيقى الهادرة التي لابد أن تصاحبه وتلازمه.

يقول في سطور من كتابه: «كتاب الورد» الذي يذكّرنا عنوانه بكتاب «أوراق الورد» لمصطفى صادق الرافعي، وبغيره من تدفقات حسين عفيف، في مضمونه ولغته، وكلها رسائل حب وتوْق: 

اليوم‭ ‬ولدتُ‭ ‬في‭ ‬الشعر

زارتني‭ ‬عيناكِ

وفي‭ ‬أذنيّ‭ ‬دحرجتا‭ ‬لي‭ ‬أُكراً‭ ‬من‭ ‬كلماتك

وفيها‭ ‬أنتِ

‭***‬

أمس‭ ‬التقينا‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬بردى

سألت‭ ‬صفصافةٌ‭ ‬على‭ ‬النهر‭: ‬

ما‭ ‬يزال‭ ‬يوجعك‭ ‬خصرها؟

وخُيّل‭ ‬إليّ‭ ‬أن‭ ‬شعبا‭ ‬استفاق

على‭ ‬تغزل‭ ‬شاعر‭!‬

‭***‬

اليوم‭ ‬لن‭ ‬نلتقي

في‭ ‬عينيك‭ ‬لن‭ ‬أسافر‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬الأرض

ولن‭ ‬أشهد‭ ‬بزوغ‭ ‬الابتسامة‭ ‬على‭ ‬شفتيك

الابتسامة‭ ‬التي‭ ‬تُحيي‭ ‬وتميت‭!‬

‭***‬

قرأتك

أحسستني‭ ‬الريح

أحيا،‭ ‬أقتلع‭ ‬الشجر

كتبتُ‭ ‬قصيدة‭ ‬على‭ ‬ورق‭ ‬الصدى

وحده‭ ‬اسمُكِ‭ ‬بقيَ‭ ‬لي‭ ‬وللجمال‭ ‬

سكتُّ

رحت‭ ‬أستمع‭ ‬إلى‭ ‬عينيك

يا‭ ‬حبيبتي

تقولان‭ ‬البرق‭ ‬والمروج

وحقلاً‭ ‬من‭ ‬نجوم

وأولد‭ ‬أنا

‭***‬

كلما‭ ‬زرت‭ ‬عشَّنا

تركت‭ ‬كلمات‭ ‬على‭ ‬ورقة

وأعيش‭..‬

أمسِ،‭ ‬كان‭ ‬قلمك‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬

قليل‭ ‬حبر

تركت‭ ‬بياضاً‭ ‬على‭ ‬الورق

ها‭ ‬أنا‭ ‬أضع‭ ‬خدي‭ ‬عليه،‭ ‬وأقرأ

‭***‬

لابد لمن يقرأ هذا الكلام أن ينتزعه من صفحات وُصفت بأنها نثر، ليعيده إلى موقعه من حديقة الشعر، ولو أن مثله قد وقع لواحد من شعراء قصيدة النثر، لتاه اختيالاً، وصعّر خدّه، لأنه أتى بالمعجب والعجاب، لكنه في غمار شعرية سعيد عقل، يلتمع ويضيء، ونستطيع أن نفهم لماذا يقول أديب لبناني كبير هو سعيد تقي الدين عن كتابات سعيد عقل النثرية: «سعيد عقل أعظم من كتب النثر في العربية».

ولماذا قال عنه أنطوان قازان - وهو كاتب وأديب لبناني كبير -: ما خفتُ على نثره من شعره، بل عجبتُ لثنائية في الإبداع. هذا القلم المطيّب، حين يقدم لرفاقه يشدّهم إليه بلولبة حد البراعات حتى لكأنه هو المعنى. خلاصات روائع هي، هنا بين يديك، مختصر لنهضة ومنطلق إلى أجمل، أسرع الجديد فيها إلى هدأة المركز، فالطرافة في عمق المبدأ، سعيد عقل يستحيل ألا يروع!

ولست أرى في الأمر ثنائية في الإبداع كما قال قازان، ذلك أن نثره بعض شعره، بل هو الشعر الـمُـهيئ للولوج إلى عالم شعره الوحشي، المزدحم بالفكر والصخب، والهدوء والتأمل، والغيبوبة واليقظة، والوعي واللاوعي، ورفرفة الهدب وارتعاش الأنامل، وصلصلة الأصوات.

في صومعة الشاعر اللبناني الراحل جوزيف حرب، ودارته البديعة في صيدا، كنا نتحدث عن شعرية سعيد عقل، وعن حيرتي في تصنيفه، في ضوء ما يعرفه كلانا عن الشعر. وأسعدني التقاؤنا على أن شعر سعيد عقل لا يمكن تصنيفه، ويستعصي تبويبه. ذلك أن جبروته الشعري عجَن كل الطرائق الشعرية وأدمجها في قصيدة تنطق بالتفرد والخصوصية. فالذين يرون فيه كلاسيكية جديدة تلفحهم منه حرارة الرومانسية واشتعالاتها وانشغالاتها بالمجاز والخيال وترادف الحواس، والذين صنفوه رمزيّاً وقالوا عنه إنه في طليعة شعراء العرب الرمزيين، وإنّ موقفه من الجمال يذكّر بالشعراء الفرنسيين البرناسيين، لم يروا غير وجه واحد من وجوهه، وقَسَمة واحدة من قسماته. فهو ذوْب الكلاسيكية المجددة والرومانسية المحلقة والرمزية المثقلة في آن، وهو - بهذا المعنى - يظل طيراً محلقاً - في الشواهق والذرى - لا يتيح لصائده أن يصنفه في شباك، ولا لعاشقه أن يبوّبه في مدرسة أو اتجاه، هو إذن كيمياء شعرية عارمة، وعاصفةٌ من اللغة التي ينحتها. وكأنما بإزميل مثّال مبدع، يصنع تماثيله، ويصوّر لوحاته، وينثر خطوطه وألوانه، ووراءه وقُدّامه عطر الشعر وجوهره ومعناه. 

لقد كانت دمشق/الشام تسكن قلب سعيد عقل وعقله. يوم كان لبنان وسورية نسيج محبة واقتران حاضر ومصير. وما أجمل أن نسْتعيد هواتف شجية من رائعته: «سائليني يا شام» التي تغنَّت ببعض مقاطعها «فيروز» وسكب فيها الرحبانيان خلاصة وجْدهما وعشقهما الشآمي. 

ولعلنا نتساءل: تُرى ما الذي بقي لنا نحن اليوم، من «شآم» سعيد عقل؟ إنها في شعره أجمل وأخلد وأبقى، بالرغم مما يعصف بها اليوم من أهوال ويموج في ساحاتها من عواصف وتحديات. 

يقول سعيد عقل:

سائليني‭ ‬حين‭ ‬عطّرتُ‭ ‬السلام

كيف‭ ‬غار‭ ‬الورد‭ ‬واعتلّ‭ ‬الخزام

وأنا‭ ‬لو‭ ‬رحت‭ ‬أسترضي‭ ‬الشذا

لانثنى‭ ‬لبنان‭ ‬عطرا،‭ ‬يا‭ ‬شام‭!‬

ضفتاك‭ ‬ارتاحتا‭ ‬في‭ ‬خاطري

واحتمى‭ ‬طيرك‭ ‬في‭ ‬الظن‭ ‬وحام

نُقلة‭ ‬في‭ ‬الزهر‭ ‬أم‭ ‬عندلة

أنت‭ ‬في‭ ‬الصحو،‭ ‬وتصفيق‭ ‬يمام؟

أنا‭ ‬إن‭ ‬أودعت‭ ‬شعري‭ ‬سكرةً

كنتِ‭ ‬أنتِ‭ ‬السّكْب‭ ‬أو‭ ‬كنتِ‭ ‬المدام‭!‬

‭***‬

رُدّ‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬صبوتي‭ ‬يا‭ ‬بَردى

ذكرياتٍ‭ ‬زرن‭ ‬في‭ ‬ليَّا‭ ‬قَوام

ليلة‭ ‬ارتاح‭ ‬لنا‭ ‬الحوْرُ،‭ ‬فلا

غُصُنٌ‭ ‬إلا‭ ‬شجٍ‭ ‬أو‭ ‬مستهام

وتهاوى‭ ‬الضوء‭ ‬إلا‭ ‬نجمة

سهرت‭ ‬تطفي‭ ‬أُواما‭ ‬بأوام

سألتني‭ ‬في‭ ‬دلال‭ ‬قُبلةً

يعصر‭ ‬الدهر‭ ‬بها‭ ‬كأس‭ ‬غرام

وارتمت‭ ‬يكسر‭ ‬من‭ ‬هدبٍ‭ ‬لها

مُسهب‭ ‬الطول‭ ‬حياء‭ ‬واحتشام

وجعت‭ ‬صفصافةٌ‭ ‬من‭ ‬حُسْنها

وعرا‭ ‬أغصانَها‭ ‬الخُضْرَ‭ ‬سَقام

فحسرتُ‭ ‬الشعر‭ ‬عن‭ ‬جبهتها

أسأل‭ ‬الحسن‭ ‬أفي‭ ‬الأرض‭ ‬أقام

وتأنيتُ‭ ‬أُملّي‭ ‬خاطري

قبل‭ ‬أن‭ ‬يحجبها‭ ‬ضمُّ‭ ‬الهيام‭!‬

وهي رائعته التي يقول في ختامها:

أنا‭ ‬لست‭ ‬الغرد‭ ‬الفرْدَ،‭ ‬إذا‭ ‬

قال‭ ‬طاب‭ ‬الجرح‭ ‬في‭ ‬شجو‭ ‬الحمام

أنا‭ ‬حسبي‭ ‬أنني‭ ‬من‭ ‬جبلٍ

هو‭ ‬بين‭ ‬الله‭ ‬والأرض‭ ‬كلام

قمم‭ ‬كالشمس‭ ‬في‭ ‬قسمتها

تلد‭ ‬النور‭ ‬وتُعطيه‭ ‬الأنام‭!‬

‭***‬

والطريف في بعض شعر سعيد عقل قدرته الفذَّة على تقمص شخصية المرأة المحبوبة، والكتابة على لسانها والبوح بخلجاتها وهتافاتها عن وعي وحساسية وافتنان. وديوانه: «قصائد من دفترها» يموج بعديد من القصائد على لسانها تحكي وتبوح وتُقبل وتُعرْض وتشكو وتتودد. وهو في هذا أستاذ لنزار قباني، بل أحد أساتذته العظام، بالإضافة إلى عمر أبو ريشة. فقد سبقاه - أي نزار- إلى الحديث بلسان المحبوبة وتعبيد طرائق هذا اللون من التعبير. يقول سعيد عقل في واحدة من هذه القصائد المبكرة: 

ضفيرةَ‭ ‬شَعْري،‭ ‬خبّري،‭ ‬خبّري‭ ‬الحُلوا

بأنيَ‭ ‬لا‭ ‬أهوى،‭ ‬ولو‭ ‬متُّ،‭ ‬لا‭ ‬أهوى‭ ‬

أنا‭ ‬قلتها؟‭ ‬لا،‭ ‬يا‭ ‬ضفيرة‭ ‬زقزقي

على‭ ‬إصبعي،‭ ‬واروي‭ ‬من‭ ‬السرِّ‭ ‬ما‭ ‬يُروى

وإن‭ ‬ساءلت‭ ‬فيك‭ ‬العشياتُ‭: ‬من‭ ‬تُرى

تكونين؟‭ ‬قولي‭: ‬الهمُّ‭ ‬والغمُّ‭ ‬والنجوى

ضفيرة‭ ‬شَعري،‭ ‬لِمْ‭ ‬تذكّرْتِ‭ ‬ما‭ ‬جرى

لنا‭ ‬معه،‭ ‬ذيالك‭ ‬الزارعي‭ ‬بلوى

أما‭ ‬هو‭ ‬منْ‭ ‬كفّاهُ‭ ‬بعثرتاكِ،‭ ‬لا

تكفّان،‭ ‬حتى‭ ‬للضنى‭ ‬أنت‭ ‬والشكوى؟

ومن‭ ‬بيَ‭ ‬حط‭ ‬المشتهى،‭ ‬والتقى‭ ‬فمي

وراقصني‭ ‬كالشمس‭ ‬راقصت‭ ‬الصحوا؟

وقال‭: ‬أنا‭ ‬سحر‭ ‬الزمان‭ ‬فرشتهُ

لنقلة‭ ‬رجلٍ‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬من‭ ‬ددٍ‭ ‬نشوى

ضفيرة‭ ‬شَعْري،‭ ‬ظلِّلي‭ ‬نار‭ ‬ما‭ ‬أنا

وقولي‭: ‬لذيذ‭ ‬أن‭ ‬أضلَّ‭ ‬وأن‭ ‬أغوى

‭***‬

قلت في كلام سابق عن سعيد عقل, داعياً إلى قراءة جديدة له: إن ذاكرة التاريخ الأدبي لن تحتفظ بكثير من معارك سعيد عقل القلمية مع خصومه في الفكر والفن والحياة، ولن يهتم الباحثون عن وهج الشعر الحقيقي بخصومات سعيد عقل عبر تاريخه الطويل منذ خصومته الأولى مع إلياس أبو شبكة وهما في مطالع الشباب، أو الجفوة التي حدثت بينه وبين الأخطل الصغير: (بشارة الخوري) والتهمت بعضاً من أويقات العمر. هذا كله عابر، ومثله حماس سعيد عقل في مرحلة من العمر للفينيقية والهوى الفينيقي واستدعاء الحرف اللاتيني وكأنه البديل المطلوب للحرف العربي. كل هذا كنسته الرياح، ولم يبق إلا الجوهر من شعر سعيد عقل ونثره، شاهداً على شموخ هذه القامة السامقة بالرغم من كل ما يلوكه خصومه وأعداؤه.

لقد أضاف سعيد عقل أشرعة جديدة إلى سفينة اللغة، وألواناً جديدة إلى معرضها الباذخ المفعم بالألوان. وفتح نوافذ وأبواباً لصيحات العصر في الشعر والفن والثقافة والحياة، وأقام جسوراً مع ثقافات تعشّقها - وبخاصة الفرنسية - واستوقفه كثيراً بودلير ورامبو وسان جون بيرس، لكنه تجاوزهم كما تجاوز غيرهم من شعراء الشرق والغرب. وأفاد كثير من الشعراء - من أجيال عدة - من فتوحاته الشعرية كما حدث لقصيدته البديعة «سمراء»، التي حاكاها أحد المقلدين في قصيدة مصنوعة مستنسخة منها، ولكن شتان! الشعر غير الشعر والقامة غير القامة، والكأس غير الكأس. ولغة سعيد عقل وفتوحاته الإبداعية تظل معبرة عن شعريّته وشاعريته حين يقول:

سمراءُ‭ ‬يا‭ ‬حلم‭ ‬الطفولة

وتمنّع‭ ‬الشفة‭ ‬البخيلة

لا‭ ‬تقْربي‭ ‬مني،‭ ‬وظَلِّي

فكرة‭ ‬لغدي‭ ‬جميلة

قلبي‭ ‬مليءٌ‭ ‬بالفراغ

الحلو،‭ ‬فاجتنبي‭ ‬دخوله

أخشى‭ ‬عليه‭ ‬يغصُّ

بالقبل‭ ‬المطيبة‭ ‬البليلة

ويغيب‭ ‬في‭ ‬الآفاق‭ ‬عبْر‭ ‬الــــ

ـــهدبِ‭ ‬من‭ ‬عين‭ ‬كحيلة‭!!‬

وفي ختامها يقول سعيد عقل، والمسافة تتسع جدّاً بين قصيدته والقصيدة المزوّرة التي تحوّلت إلى قصيدة مغناة، بالاسم نفسه: سمراء، وبالاستهلال نفسه: «سمراء يا حلم الطفولة»:

سمراءُ‭ ‬ظلِّي‭ ‬لذةً

بين‭ ‬اللذائذ‭ ‬مستحيلة

ظَلِّي‭ ‬على‭ ‬شفتيَّ‭ ‬شوقهما

وفي‭ ‬جفني‭ ‬ذهوله

ظَلِّي‭ ‬الغد‭ ‬المنشود‭ ‬يْسْـ

ــبقنا‭ ‬المماتُ‭ ‬إليه‭ ‬غيلة

‭*** ‬

لقد ظل سعيد عقل، إلى اليوم الأخير من حياته التي استمرت مائة عام واثنين، أكبر الشعراء المعاصرين تفرُّداً وإبداعاً. ومن حقنا الآن وقد طُويت صفحة هذه الحياة، أن نعود إلى صفحات شعره، لتأمل فرائدها ولآلئها، بعيداً عن كلِّ ما أحاط به من شبهات وأقاويل ونصغي إلى صوت شعره، الذي يُمثل خلاصة الشعرية اللبنانية وكـــــتابها الباقــــي. 

كــــما نطالع مثاله البديع في قصيدته «تشرد» وهو يقول:

أشرْتِ‭ ‬أنتِ‭ ‬إلى‭ ‬الكوخ‭ ‬المشعشعِ

بالورد‭ ‬اجتذبتكِ،‭ ‬ضاع‭ ‬الورد‭ ‬والزمنُ

وأين‭ ‬شرَّدْتِني؟‭ ‬أواهُ‭! ‬لا‭ ‬سألت

عيناك‭ ‬عني،‭ ‬أنا‭ ‬عيناكِ‭ ‬لي‭ ‬وطنُ

أموت،‭ ‬أحيا‭ ‬وراء‭ ‬الهدبِ،‭ ‬طيرُ‭ ‬ضحىً

أنا،‭ ‬وهدْبُكِ‭ ‬هذا‭ ‬المفُتدَى‭ ‬غصنُ

بالأمسِ؟‭ ‬مُرّى‭ ‬يداً‭ ‬وامْحي،‭ ‬خُلْقتُ‭ ‬أنا

اليومَ‭ ‬التففْتُ‭ ‬بضوءٍ‭ ‬منك‭ ‬أُفتتنُ

ضوء‭ ‬ابتسامتك‭ ‬الآتي‭ ‬إليَّ‭ ‬من‭ ‬

الآتي،‭ ‬فما‭ ‬الفجر؟‭ ‬ما،‭ ‬كوني‭ ‬تكنْ‭ ‬عَدنُ

أواهُ‭ ‬حبُّكِ‭! ‬لا‭ ‬أحببتُ‭ ‬قبلُ‭ ‬ولا‭ ‬

أُحبُّ‭ ‬بعد،‭ ‬تأنّق‭ ‬واغْلُ،‭ ‬يا‭ ‬ثمنُ

أتحتَ‭ ‬قنطرة‭ ‬الوردِ‭ ‬الملمة‭ ‬بي،

لويتُ‭ ‬خَصْر‭ ‬التي‭ ‬احلولتْ‭ ‬كما‭ ‬الوثنُ؟

وقلتُ‭: ‬‮«‬طيري‭ ‬نطرْ‭ ‬في‭ ‬قُبلتيْن‭ ‬كما

الصّبا،‭ ‬فلا‭ ‬النضرُ‭ ‬إلاّنا‭ ‬ولا‭ ‬الحسنُ‭!‬‮»‬

حبِّي‭ ‬الذي‭ ‬رحتُ‭ ‬منذ‭ ‬الدهر‭ ‬أحجبُه

إلا‭ ‬عن‭ ‬العطر،‭ ‬حُبّي‭ ‬اليوم‭ ‬مُعْتلنُ

كالعود‭ ‬إن‭ ‬جرّحْتهُ‭ ‬أنملٌ‭ ‬شَجنتْ

قال‭: ‬اشتهيت‭ ‬غراماً‭ ‬وانتهى‭ ‬الشجنُ‭!‬

‭***‬

ذلك أن سعيد عقل ليس من شعراء الوجه الواحد، ولا هو من شعراء الاتجاه الشعري الواحد. ولقد ظل حريصاً طيلة مساره الشعري على المناجزة الشعرية والمصاولة الإبداعية، لكل ما يباهي به شعراء زمانه من مدارس واتجاهات و«صرعات» وفنون، ليثبت للجميع أن الهرم الشعري الذي شيده ليس بعيداً أو منقطعاً عن هذا كله، بل هو هاضم ومتمثل ومتسع لكل فنون الشعر من حوله ومتجاوزٌ دوماً لما أنجزتْه شعرياتُ معاصريه، وقبلها ما تفجرت به شعريته هو، شعرية سعيد عقل التي جرفت كثيراً من المقلدين والنظّامين، وأطلقت فضاءات «الإبداعية» و«اللبْننة» وجسارة «الأوليمب» في أفق الشعر اللبناني العربي المعاصر .