المجهول في دروب كارثة عام 1967

المجهول في دروب كارثة عام 1967

مازلت‭,‬‭ ‬مثل‭ ‬غيري‭,‬‭ ‬مستغرباً‭ ‬نوع‭ ‬الموجة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تسيَّدت‭ ‬القيادة‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬مايو‭ ‬1967،‭ ‬ودفعتها‭ ‬إلى‭ ‬إجراءات‭ ‬انتحارية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يلجأ‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬يزن‭ ‬الأمور‭,‬‭ ‬ويتفحص‭ ‬الواقع‭,‬‭ ‬ويحلل‭ ‬الوضع‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وترابطه‭ ‬بالبعد‭ ‬الدولي‭, ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الغريزة‭ ‬في‭ ‬نزعة‭ ‬المغامرة‭ ‬غير‭ ‬المسبوقة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬أدت‭, ‬بعد‭ ‬إخفاقها،‭ ‬إلى‭ ‬تسويق‭ ‬مؤامرة‭ ‬غير‭ ‬محدد‭ ‬مَن‭ ‬شارك‭ ‬فيها‭ ‬ومن‭ ‬رسمها،‭ ‬ومن‭ ‬الذي‭ ‬تآمر‭ ‬وعلى‭ ‬من‭ ‬تآمر‭, ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬تساؤلات‭ ‬عن‭ ‬حصاد‭ ‬التجارب‭ ‬الذي‭ ‬جمعته‭ ‬القيادة‭ ‬المصرية‭ ‬من‭ ‬علاقاتها‭ ‬المضطربة‭ ‬والتي‭ ‬خاضتها‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1954‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬الجهات‭, ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬علمتها‭ ‬دروس‭ ‬الواقع‭, ‬وجعلتها‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬حجم‭ ‬الإمكانات‭ ‬المتوافرة‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ومدى‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬وغيرهم‭.‬

 

هذا النوع من البحث الدائم عن مسببات الكارثة يأتي من شبه اليقين بأن الرئاسة المصرية العارفة بما تملك، التي تجلس على مؤسسات الجيش والمخابرات والقنوات الدبلوماسية، ولها شبكة علاقات عالمية مفتوحة، لا يمكن أن تندفع إلى مشارف الانتحار, فهي هيئة تحارب في جولات المعارك السياسية مع الخصم الإسرائيلي ومع بعض العرب ومع العالم الغربي, تمارس الحذر وتدرس قبل التحرك، وتحلل قبل الالتزام. 

هكذا كان الشعور عندما انفجرت أزمة القيادة المصرية مع الأمم المتحدة حول بقاء القوات الدولية في سيناء ومضيق تيران, ولا يمكن أن نتناول هذا الموضوع من دون قراءة نتائج العدوان الثلاثي على مصر عام 1956, الذي احتلت فيه إسرائيل كل سيناء، ونزلت القوات البريطانية والفرنسية في المدن  الشمالية من منطقة «القنال», وهدفها أن تضع إدارة قناة السويس المؤممة تحت سيطرتها.

تحملت الولايات المتحدة مسؤولية معارضة العدوان، مقرونة بإصرار على انسحاب قوات العدوان من الأراضي المصرية, وعندما طرحت مشروع قرار بوقف العدوان وسحب القوات المعتدية من الأراضي المصرية, أمام مجلس الأمن, لجأت كل من بريطانيا وفرنسا إلى تعطيل القرار بـ «الفيتو». 

واضطرت الولايات المتحدة أن تلجأ إلى الجمعية العامة، بطرح الموضوع تحت آلية «متحدون من أجل السلام»، فناقشت الجمعية العامة الموضوع، وبرز صوت المعارضة الدولية ضد العدوان، وبالثقل الأمريكي وبالدور المميز للأمين العام للأمم المتحدة السيد داج همرشولد، شكلت الأمم المتحدة قوات طوارئ دولية تشرف على انسحاب القوات المعتدية. 

ويتعاظم الضغط الأمريكي على كل من فرنسا وبريطانيا, اللتين قبلتا الانسحاب من مصر, وبعدها يشتد الموقف الأمريكي تصلبا لسحب القوات الإسرائيلية من غزة والأراضي المصرية, بعد مناورات ومماطلات ومساومات من قبل بن جوريون - رئيس وزراء إسرائيل, لسحب القوات الإسرائيلية من غزة ومن سيناء, بشروط حددها بعدم عودة الجيش المصري إلى غزة، وكذلك نشر قوات دولية في سيناء، مع وجود الأمم المتحدة الدائم في تيران، للإشراف على حرية الملاحة في الممر المائي. 

وأصرت إسرائيل على أن تكون تلك الشروط موثقة أمام الرأي العام العالمي, ولذلك توصل الجانبان الإسرائيلي والأمريكي إلى صيغة عبر خطاب تلقيه جولدا مائير - وزيرة خارجية إسرائيل - أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تقول فيه إن إسرائيل توافق على الانسحاب بشرط بقاء قوات الأمم المتحدة في تيران، وإن تعطيل الملاحة في مضيق تيران هو إعلان حرب Causus Belli, ويرد عليها المندوب الأمريكي هنري لودنج بأن الولايات المتحدة تقبل هذا الموقف وتتبناه... كان هذا جوهر الاتفاق الذي تستند إليه إسرائيل، لكي تنسحب قواتها من سيناء. 

وهذا ما حدث في اليوم الأول من مارس 1957, عندما وقفت جولدا مائير في الجمعية العامة تقرأ نص الاتفاق كما حُدد من قبل الأطراف, ويرد عليها المندوب الأمريكي مباشرة بالتأييد، والالتزام ببقاء مضيق تيران مفتوحاً, وبهذا أصبح إغلاق المضيق وفق الدبلوماسية الأمريكية بمنزلة إعلان حرب. 

تم ذلك أمام ممثلي الدول في القاعة العامة، وبحضور الوفد المصري, وكان هذا الموقف بالنسبة لمصر ينسجم مع ضرورات الانسحاب التي تقدمها القاهرة, وتعايشت معها طوال عشرة أعوام وقبلتها بواقعية, وساد فيها الهدوء على الجبهة المصرية - الإسرائيلية. 

هناك شيء ما حدث في سورية في فبراير 1966، حيث نجح انقلاب يقوده تجمع راديكالي يساري من حزب البعث، بقيادة صلاح جديد في إسقاط البعث اليميني وتولي السلطة في دمشق, والغريب أن الرئيس جمال عبدالناصر اعترف بهذه السلطة بسرعة, ودخل في حوار سياسي واستراتيجي معها, بينما كان يرفض المصالحة مع مختلف الأطراف في سورية, لاسيما مع حزب البعث، بل إن الرئيس لم يكتف بالتبادل الدبلوماسي مع النظام السوري, الذي عيّن د. سامي الدروبي سفيراً له في القاهرة, وهو مقرب من الرئيس عبدالناصر وصديق شخصي له, بل ذهب إلى أبعد من ذلك في دعمه للنظام الجديد في سورية.

ففي نوفمبر 1966, وقع الرئيس عبدالناصر حلفاً استراتيجياً أمنياً مع دمشق, وسار عكس التوقعات, مدافعا عن النظام السوري, ويذكر د.عدنان الباجهجي, وزير خارجية العراق, في مذكراته «حياة من أجل هدف – الطبعة الإنجليزية» بأنه التقى الرئيس عبدالناصر, في صيف 1966, واشتكى من الموقف السوري تجاه العراق بإغلاق خطوط النفط العراقية التي تمر عبر سورية, وكان رد الرئيس عبدالناصر بضرورة التفاهم بين بغداد ودمشق، وأنه سيدافع عن النظام السوري. 

ويبدو أن النظام السوري، وقد غمرته السعادة بعد الاتفاق العسكري مع القاهرة, بدأ في دفع الفدائيين الفلسطينيين من المنظمات المؤيدة لدمشق للقيام بأعمال عدائية داخل الأراضي الإسرائيلية، فالتهبت الجبهة وتصاعد التوتر إلى حد المواجهة بالطيران في أبريل 1967, حيث خسرت سورية ست طائرات ميج في المعركة الجوية مع إسرائيل. 

كما سبق لإسرائيل أن اعتدت على قرية السموع في الضفة الغربية في شهر نوفمبر 1966, بحجة تأديب سكان القرية لمقتل شخصين إسرائيليين، ودمرت أكثر من مائة منزل فيها، وقتلت أكثر من خمسين مواطناً، ما زاد من حالة الالتهاب الإقليمي والبدء بالمعايرة الإعلامية تجاه القيادة المصرية الراضية بالستار الدولي الواقي. 

في مايو 1967, تسربت الأنباء من موسكو عن حشد إسرائيلي يهدد دمشق ويقوض نظامها، وأرسلت القيادة المصرية، رئيس الأركان الفريق محمد فوزي، الذي زار وتفحص المواقع وأعد تقريراً ينفي الحشود، ويقال إن المشير عامر، نائب الرئيس والقائد العام, وضع هذا التقرير في الدرج من دون إجراء, ومن دون أن يُطلع عليه الرئيس، فما كان من الرئيس، الذي كان حريصا على نظام دمشق، إلا أن أصدر تعليماته إلى القيادة العسكرية بطلب سحب قوات الأمم المتحدة الموجودة على الحدود مع إسرائيل, وقد تسلم الطلب الجنرال ريكي قائد القوات الهندية, الذي أحال الطلب إلى نيويورك.

لم تأت في الطلب المصري الإشارة إلى مضيق تيران، ولا إلى شيء عن وضع الكتيبة الدولية في شرم الشيخ, لكن الأمين العام للأمم المتحدة يوثانت أصر على سحب القوات كاملة أو بقائها كاملة، مع ممارسة ضغط مصري قوي على يوغوسلافيا والهند، لسحب قواتهما خوفا من رفض الأمم المتحدة سحبهما, لأن مصر تشعر بأنها في موقف قوي.

وسعى يوثانت إلى أن يضع القوات الدولية على الجانب الإسرائيلي إلا أن إسرائيل رفضت بشدة.

وقد فكر الأمين العام في أن يتقدم برجاء إلى الرئيس عبدالناصر، ليعيد النظر في سحب القوات، ولكن عندما عرض الفكرة على السفير المصري في نيويورك, عوض القوني, اعترض السفير بشدة من دون الرجوع إلى القاهرة، ولهذا صرف النظر عن الالتماس. 

ويقول السفير نبيل العربي، الذي كان عضوا في الوفد المصري في نيويورك, وهو الأمين العام للجامعة العربية حالياً، في مذكراته «صراع الدبلوماسية» إن السفير المصري (القوني)  اتصل بمحمود رياض وزير خارجية مصر، ونقل له فكرة الالتماس، لكن الوزير المصري رفض بشدة ونصح بأن يتجاهل الأمين العام هذه الفكرة تفادياً للإحراج. 

ويضيف د. نبيل العربي في ص37 من هذه المذكرات (أن مصر أقدمت على الخطأ الرئيس عندما طلبت سحب القوات في 16 مايو 1967, ويبدو أن القيادة المصرية كانت تتصور أن طلب السحب لا يعدو أن يكون سوى مناورة سياسية سرعان ما تهدأ وتخبو آثارها بعد تدخل الدول الكبرى عن طريق الأمم المتحدة، وبذلك تكون مصر قد حققت نصراً سياسياً وتخلصت من الالتزامات التي قبلتها إثر العدوان الثلاثي في عام 1956 كجزء من صفقة انسحاب إسرائيل في مارس 1957 من سيناء». 

ويتابع السفير العربي في ص39 من هذه المذكرات «إن التهديات الإسرائيلية الموجهة ضد سورية يمكن التعامل معها بوسائل مختلفة، لكن القيادة المصرية سياسياً وعسكرياً قراراتها ارتجالية وغير مدروسة ولا تتناسب مع دولة بحجم مصر من المفروض أن تعي دروس حرب السويس عام 1956, وأن طلب السحب كان سليماً من الناحية القانونية، وإن كانت نتائجه السياسية وخيمة, أي إن استجابة السكرتير العام للأمم المتحدة الفورية لطلب مصر كانت تتفق مع صحيح القانون ولكنها كانت يجانبها الحكمة والصواب سياسيا».

ما الذي دفع الرئيس عبدالناصر نحو هذه الخطوات التي دفعت مصر إلى حافة الهاوية؟

يقول السيد عدنان الباجهجي في مذكراته «حياة من أجل هدف» في نسخته الإنجليزية: «إنه سأل الرئيس عبدالناصر عندما قابله قبيل اندلاع الحرب عن تقييمه للوضع, فكان رد الرئيس بأنه مطمئن إلى قدرة الجيش المصري على تحقيق النصر إذا لم تتدخل واشنطن, وإذا تدخلت، فإننا سنطلب المساعدة من الاتحاد السوفييتي وأن احتمالات الحرب هي 80 في المائة. 

هنا يمكن تحليل الموقف في ضوء قناعة الرئيس بأن الجيش المصري قادر على صد العدوان وإجهاضه إذا اعتدت إسرائيل، وإذا جاءت الولايات المتحدة لنصرة إسرائيل, فإن الاتحاد السوفييتي سيكون معه نصيراً وداعماً.

ويعني ذلك أن الرئيس مطمئن أيضا لموقف الاتحاد السوفييتي الذي سيخلصه من التدخل الأمريكي، وإذا لم تقم الحرب وحلت مكانها الاتصالات السياسية والمفاوضات الدبلوماسية، فإن مصر ستخرج متمتعة بالفوز الاستراتيجي والسياسي والمعنوي, وستعود الأمور كما كانت قبل 1956, وتتخلص مصر من أثقال التزامات صفقة عام 1957. 

فالوضع كما تراه القيادة المصرية هو الربح في كلتا الحالتين, صد العدوان وإفشاله, وما يحققه من مكاسب استراتيجية وقيادية وسياسية داخليا وإقليميا ودوليا, أو الحل السلمي وتخرج مصر منه فائزة بالمكاسب الكبيرة وطي ملف آثار حروب السويس وصفقتها التي تحد من التحرك المصري الأمني والدفاعي, وتتخلص من إملاءاتها السياسية والمعنوية. 

كانت المفاجأة في الخامس من يونيو، قيام إسرائيل بتحطيم السلاح الجوي المصري بعد أن نجحت في تأليب الرأي العام العالمي ضد القيادة المصرية, واستفادت من عجز مجلس الأمن عن اتخاذ أي قرار، حيث اكتفى بالخطب الرنانة من الوفود المختلفة, كما أن السكرتير العام للأمم المتحدة لم يستفد من المادة 99 التي تعطيه الحق في طلب عقد اجتماع لمجلس الأمن لبحث خطورة الموقف، كما استغلت إسرائيل انشغال مصر بالترتيبات الخاصة بزيارة نائب الرئيس زكريا محيي الدين إلى واشنطن المقررة يوم الخامس من يونيو 1967.

كما بدا, ومن دون شك، أن تقديرات القيادة الأمريكية بأن إسرائيل تخرج منتصرة إذا ما اندلعت الحرب شجعت القيادة الإسرائيلية على ضرب القوات المصرية قبل دخول مصر في مفاوضات مع أمريكا قد تكسب منها سياسيا ومعنوياً وتعزز المكانة الإقليمية لقيادتها.

لذا، فإن كل هذه العوامل التي لم تقدر القيادة المصرية أبعادها جاءت بالكارثة التي بدلت الوضع الإقليمي، ودفعت بالرئيس السادات إلى إخراج إسرائيل من الأراضي المصرية مهما كان الثمن.

يظل السؤال: لماذا أقدمت مصر على طلب سحب القوات الدولية؟

يقول السفير نبيل العربي, المواكب لتلك الفترة في مذكراته «هناك تضارب في الروايات، والحقيقة لم تتضح معالمها حتى الآن، ومع الأسف الشديد، لم تنشر الحكومة المصرية الوثائق الرسمية الخاصة بهذه الفترة, وسوف تظل التساؤلات لا تجد ردا حاسما ومقنعا» .