حضارات سادت ثم بادت.. الأنباط

حضارات سادت ثم بادت.. الأنباط

جالت‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬قبائل‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬تسعى‭ ‬وراء‭ ‬الماء،‭ ‬اشتهرت‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬بمعرفتها‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬الماء‭ ‬تحت‭ ‬الأرض،‭ ‬وكيفية‭ ‬استنباطه‭ ‬بطريقة‭ ‬الحَفْر،‭ ‬حيث‭ ‬استطاعوا‭ ‬حفر‭ ‬آبار‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬التجارة‭ ‬بين‭ ‬الجزيرة‭ ‬العـــربـــية‭ ‬والــشام‭. ‬وعـندما‭ ‬استوطنت‭ ‬تلك‭ ‬القبائل‭ ‬حول‭ ‬الآبار‭ ‬التي‭ ‬استنبطتها‭ ‬مــن‭ ‬باطـــن‭ ‬الأرض،‭ ‬أطـــــلق‭ ‬الناس‭ ‬عليهم‭ ‬االأنباطب‭. ‬

الأصل‭ ‬والتسمية

كان للموقع الجغرافي الذي قطنه الأنباط أثره في اتصالهم بالحضارات السائدة آنذاك، من خلال مرور القوافل التجارية بالأراضي التي سكن الأنباط فيها، ومن خلال التعامل المباشر تم تعرُّف الأنباط إلى شعوب تلك الدول المتحضرة وتأثروا بهم. إنّ أول ذِكْر للأنباط في التاريخ ورد في قائمة آشورية ترجع إلى عهد آشور بانيبال 647 ق. م، ولم يُذكر في تلك القائمة من هم أو أين موقع سكنهم، فالمصادر التاريخية تشير فقط إلى أنّ مملكة الأنباط قامت في أماكن كان يحكمها الأدوميون من قبل، والأدوميون شعب من نسْل عيسو بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام، إلا أنّ الاكتشافات الأثرية قد أثبتت في ما بعد أنّ موقع «البتراء»، الذي اتخذه الأنباط مكانا لبناء عاصمتهم، هو الموقع نفسه لإحدى المدن التابعة للأدوميين، وهي مدينة «سُلع»، التي ذُكرت في التوراة. وتأتي كلمة «سُلع» بمعنى الشّقُّ في الصخر، لتتوافق مع كلمة Petra اليونانية بمعنى الصخر. وتضيف الدراسات التاريخية والاكتشافات الأثرية أنّ سمة حضارة الأنباط الأولى أنهم اتخذوا لهم معابد وقصوراً ومساكن حفروها في صخور الجبال المحيطة بوادي البتراء.

 

الحضارة‭ ‬

لقد امتزجت حضارة الأنباط وتأثرت بالمحيط الثقافي والحضاري المجاور لها، فهي حضارة عربية في لغتها، وآرامية في كتابتها، ويونانية في عبادتها، وسامية في عقائد ديانتها، ورومانية في فنّها وهندستها المعمارية. وتأتينا الشواهد مؤكدة عربية أسماء ملوك الأنباط: الحارث، عبادة، مالك، وقصي. أما الكتابة، فقد كانت بالآرامية لغرض التعامل مع الدول المجاورة آنذاك، فالآرامية قريبة الفهم لمن يتحدث اليونانية أو اللاتينية. أما الدّين، فقد عبد الأنباط «ذو الشرى»، كما عبدوا «العزّى» و«مناة» المذكورتين في القرآن الكريم، وآلهة أخرى. ويذكر ابن الكلبي في «كتاب الأصنام»، أنّ عمرو بن لحيّ هو الذي أدخل عبادة الأصنام إلى مكة، إذ جاء بها بعد مكوثه مع الأنباط. كان الأنباط يقدسون أربابهم من أسلافهم ببناء أضرحة على قبورهم، أو نحت أنصاب لهم، وبتأثير العقائد اليونانية والرومانية، تعددت آلهة الأنباط، فصار «هُبَل» بمقام «زيوس»، وتبعته الآلهة الأخرى، لنرى «العزّى» عند الأنباط بمقام «أفروديت» عند اليونان، أو «فينوس» عند الرومان، كما نرى «مناة» – الثالثة الأخرى - تأتي عندهم بالسمة المثيولوجية لـ«هيرا» اليوناني. وعند مقارنة أسلوب البناء الهندسي والمعماري لمدينة البتراء مقارنة دقيقة، يصحّ لدينا التأثر المعماري الهندسي النبطي بالأسلوب الهندسي الروماني، على الرغم من شبهه أحياناً بفن البناء في جنوبي الجزيرة، خاصة اليمن، أو حتى لو نرى ذاك التشابه الكبير بين عمارة البتراء ومدائن صالح.

 

التاريخ

ينقسم تاريخ الأنباط إلى فترتين تاريخيتين: الفترة الأولى امتدت لمدة قرنين ونصف القرن تقريباً (312-64 ق. م)، وهي فترة النشأة وتكوين الدولة وتمكينها. أما الفترة الثانية، فهي فترة الخضوع تحت السيطرة، عندما أسس الرومان مستعمرتهم الجديدة في جنوبي بلاد الشام، وأطلقوا عليها اسم «الولاية العربية» وعاصمتها «بُصرى»، وكان ذلك بين عامي 64 ق. م و106م تقريباً. وتدخل الفترة الأولى من تاريخ الأنباط في ما اتفق المؤرخون على تسميته بالعصر الهللينستي، الذي بدأ بسيطرة مقدونيا على شرقي أوربا واليونان بقيادة فيليب الثاني المقدوني، الذي أرسل ابنه إسكندر في حملة كبرى لفتح المشرق. وعندما انطلق الإسكندر المقدوني فاتحاً، ترك حامية وجيشاً في كل دولة أخضعها لملكه، فبدأ بسورية التي عيّن عليها «سلوقس»، أصل تسمية الدولة السلوقية، فمصر التي عيّن عليها «بطليموس»، أصل تسمية «البطالمة»، الذين كانت آخر ملوكهم الملكة «كليوباترا»، وهكذا. 

ولكن بعد فترة من الاستقرار، صار التنافس شديداً بين نقباء الإسكندر، أصدقاء الأمس، إلى درجة جعلت منهم خصوماً، أو ربما أعداء. وأراد سلوقس أن يقطع طريق التجارة على خصمه بطليموس، وهذا الأمر لا يكون إلا من خلال السيطرة على أراضي الأنباط. تحرك أنتيجوناس السلوقي بجيش جرّار، قوامه أربعة آلاف جندي وستمائة فارس، لاحتلال البتراء وإخضاع الأنباط لسلطان الدولة السلوقية، لكن الهزيمة كانت نتيجة ذلك القرار الذي استهان بقوة الأنباط العسكرية، الأمر الذي حدا بالسلوقيين لإعداد جيش آخر أعظم من سابقه، وعندما حدث النزال، فر الأنباط إلى الجبال والمواقع المحصنّة، كتكتيك دفاعي. ومن تلك المواقع حاول الأنباط التفاوض مع السلوقيين، بعقد معاهدة صلح ودفع «إتاوة» سنوية لهم. قَبِلَ السلوقيون بمشروع المعاهدة والإتاوة، بعد تيقنهم من أنه لا سبيل في إخضاع الأنباط بالقوة. 

هنا، انتبه البطالمة وأدركوا أهمية موقع البتراء التجاري، ومدى تأثيره على اقتصاد مصر، فقاموا باحتلال المدن التي تُسَيِّر قوافلها في الطريق التجاري الذي يحكمه ويسيطر عليه الأنباط، بغرض السيطرة على المنافذ التجارية. بهذه الاستراتيجية، استطاع البطالمة فرض دائرة حصار اقتصادي على الأنباط، الذين سرعان ما اعتبروا ذلك اعتداء على دولتهم، فقاموا بمهاجمة سفن البطالمة في البحر الأحمر. وعندما ضعف البطالمة في القرن الثاني قبل الميلاد، تمكن السلوقيون من استرجاع المدن السورية التي احتلها البطالمة من قبل، وأكدوا ميثاقهم مع الأنباط رجوعاً إلى المعاهدة التي عقدت بينهما في ما سبق. لكن ضعف الدولة السلوقية وانتشار الفوضى في العراق إثر الاضطرابات التي أصابت الفرس في دولتهم، جعلا نوعاً من عدم الأمن والفوضى يعم في منطقة الهلال الخصيب وبعض المناطق السورية، السبب الذي ساعد الأنباط في استرداد قوتهم والسيطرة على طرق التجارة في منطقة غربي الجزيرة العربية، ما أدى إلى ازدهار تجارة تلك المنطقة وعلو نجم البتراء.

 

أشهر‭ ‬ملوك‭ ‬الأنباط

لم يأتِ ذكر أسماء ملوك الأنباط في الوثائق التاريخية في الفترة الأولى من قيام دولتهم، وأول ذكر كان للملك الحارث، الذي حكم لمدة ثلاثة وعشرين عاماً، (169-146 ق. م)، وجاء ذكره في وثيقة بطلمية أسمته Arêtes. وتغفل سجلات التاريخ فترة من الزمن، لتذكر لنا بعدها اسم الحارث الثاني Arotimus، الذي اعتلى عرش دولة الأنباط بين عامي 110و96 ق. م، وهو الذي بلغت دولة الأنباط في عهد ملكه قوة كبيرة، جعلت بعض الدول القريبة منه تطلب جواره وحمايته. وفي عام 96 ق.م، صار عبادة الأول ملكاً، فقام بتوسيع رقعة الدولة بالاستيلاء على المدن المهمة المجاورة لمملكته حتى وافته المنية عام 87 ق. م، فقام على المُلك الحارث الثالث. ويعتبر المؤرخون أنّ أشهر ملوك الأنباط هو الملك الحارث الثالث (87- 62 ق. م)، حيث ازدهرت الدولة في عصره، وجعل نظام دولته راسخ القواعد والأركان، إضافة إلى تحقيقه الانتصارات على القوى العظمى المحيطة ببلاده من السلوقيين والبطالمة. وعند هزيمته للسلوقيين في حيفا، دخلت دمشق في رداء ولائه، ثم تبعتها المدن المجاورة إلى البقاع، لكن انتصاره على المكابيين اليهود واستيلاءه على بيت المقدس في معركة «أدّيدا»، بالقرب من اللدّ، جعلا منه بطلا قوميا للعرب ومن والاهم. ولم يسمح الرومان للملك الحارث الثالث بأن يحقق أكثر من ذلك، ويكون بعدها قوة عظمى تهدد الكيان الروماني، فأعدوا العدّة وسيّروا جيشاً عظيماً بقيادة بومبي، الذي استولى على دمشق عام 64 ق. م، ليوسع نفوذه في العام نفسه الذي توفي فيه الحارث الثالث (62 ق. م)، ويستولي على أهم المدن المجاورة. لم يستطع الأنباط أن يقفوا بوجه القوة الجديدة من المدّ الروماني، فآثروا سياسة التحالف والولاء، خشية استقلال البلاد وحرية العباد. كانت تلك سياسة عبادة الثاني، الذي أُطلق عليه لقب مالك الأول Malichus (47-30 ق. م). وتوالت الملوك على دولة الأنباط: عبادة الثالث (30-9 ق. م)، الحارث الرابع
(9 ق. م.- 40 م)، مالك الثاني (40-71 م)، ثم رب إيل (71-101 م). أما آخر ملوك الأنباط فهو مالك الثالث (101-106 م)، الذي كانت في عهده نهاية دولة الأنباط على يد الرومان، ليقفل التاريخ باباً على واحدة من حضارات العالم سادت ثم بادت.

جدارية‭ ‬تبين‭ ‬نشاط‭ ‬الأنباط‭ ‬الحربي‭ ‬والتجاري‭ ‬والعمراني‭ ‬والعبادي