أيّ مستقبل لحوار الحضارات...؟

أيّ مستقبل لحوار الحضارات...؟

يشهد‭ ‬عالمنا‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬تحوّلات‭ ‬عميقة‭ ‬وتغيّرات‭ ‬شاملة،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الثورة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬العارمة‭ ‬المسجّلة‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬ونقل‭ ‬المعلومات،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬التطوّرات‭ ‬الحاصلة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يهمّ‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬وقيام‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الجديد‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬من‭ ‬التحوّلات‭ ‬غير‭ ‬المسبوقة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية،‭ ‬يشكّل‭ ‬مفهوم‭ ‬العولمة‭ ‬مصطلحاً‭ ‬مستحدثاً‭ ‬لتسمية‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬الجديد‭.‬

وقد اتّسم هذا الواقع بتقلّص المسافات بين الناس وتهاوي الحدود التقليدية الفاصلة بينهم، وبانتشار نمط حضاري معولم أخذ يوحّد البشرية على اختلاف أجناسها وثقافاتها، وبات يمثّل خطراً حقيقياً على الخصوصيات الحضارية والهويات القومية.

لكن المفارقة التاريخية التي لابدّ من إبرازها في هذا المجال تكمن في أن واقع العولمة بمختلف جوانبه السياسية والاقتصادية والحضارية، بقدر ما حوّل العالم إلى «قرية كونية» متداخلة المصالح، متجانسة الوعي والسلوك، قد أفرز في الوقت ذاته من الظواهر ما يبعث على التأمّل ويدعو إلى التفكير، ومن ذلك عودة الشعور القومي الضيّق والتعصّب العرقي، واندلاع عديد من الحروب والصراعات على هذا الأساس، بما صاحب ذلك من مظاهر التعصّب والتطّرف وكراهية الآخر والانخراط في العنف والإرهاب.

ومن المفاهيم التي راجت منذ أواخر القرن الماضي مفهوم «صدام الحضارات»، الذي بلوره المفكر الأمريكي صامويل هانتنجتون في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه.

لقد أراد هانتنجتون أن يتّخذ من مفهوم صدام الحضارات مفتاحاً لتحليل الواقع العالمي الجديد ولاستطلاع أبعاده على أساس أن العالم سيكون في المستقبل محكوماً بالصراع الحتمي بين الثقافات  والديانات  والحضارات، لاسيّما الحضارتين الأكثر بروزاً في العالم، وهما الحضارة الغربية وريثة الحضارة اليهودية والمسيحية من جهة، والحضارة العربية الإسلامية من جهة أخرى.

وفي خضمّ هذا المناخ العالمي الجديد، وتشكّل هذه الأطروحات الصدامية، المبنية على مفهوم الصراع، تبلور تيار بديل يقوم على مفهوم الحوار بين الثقافات والحضارات والأديان واحترام تنوّعها، وإرساء أسس التفاعل مع الآخر بتقدير مغايرته والتسليم بحقّه في الاختلاف.

وقد استأثر هذا المفهوم الجديد باهتمام الأوساط الفكرية والثقافية والأكاديمية والسياسية، وغدا موضوعاً مركزياً تعقد بشأنه الندوات واللقاءات، وتنشر حوله الكتب والمصنّفات، كما أصبح الحوار بين الحضارات والثقافات موضوعاً أساسياً في تصوّر العلاقات الدولية والتفكير في مستقبل الكوكب الأرضي والتطلّع إلى وضع عالمي أكثر أمناً واستقراراً، تزول منه الأسباب الباعثة على الصراعات والحروب والعنف والإرهاب.

فالحوار بين الثقافات والحضارات يجب أن يفضي إلى بناء عالم جديد، قوامه التعاون والتضامن بين الشعوب على أساس إدراك المسؤولية التي يتحمّلها كلّ منا إزاء الآخر واستحضار المصير البشري المشترك.

ولا شك في أن مبادرة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) بجعل عام 2001 عام الحوار الحضاري، قد شكّلت بداية هذه الحركية وهذا التيار الداعي إلى الحوار مع الآخر. فقد أكّد إعلان مدريد وحدة البشرية وتساويها بالرغم من اختلاف الألوان والأعراق والثقافات، ورأى في ذلك آية من آيات حكمة الله في خلقه تقتضي منّا احترام بعضنا البعض الآخر، وعدم الاستهزاء بالرموز الدينية والتمسّك بالقيم الأخلاقية والمثل العليا، وضرورة الحوار والتفاهم والتعاون من أجل الحفاظ على مقوّمات الحياة الكريمة مادياً ومعنوياً.

وإنّنا لنحرص بعد هذا، على تأكيد قيمة التوصيات التي أسفر عنها هذا المؤتمر التاريخي، إذ سعى إلى إيجاد آليات تنفيذية وبرامج عمل تعتمد تشكيل فرق عمل من العلماء والباحثين المختصين، لدراسة السبل الكفيلة بتفعيل الحوار بين الحضارات وتبيّن عوائقه، واستنهاض المؤسسات الدينية والثقافية والتربوية لترسيخ مقوّمات هذا الحوار ونشر ثقافته، خاصة في أوساط الشباب، مع استخدام وسائل الاتصال الحديثة لهذا الغرض.

وهنا يبرز أهم ما تضمنّه هذا الحوار، وهو دعوة المملكة السعودية إلى الحوار بين الأديان التي أيدها العالم الإسلامي وأتباع سائر الديانات في المؤتمر العالمي للحوار بين الديانات بمدريد من قبل منظمة الأمم المتحدة.

لكن السؤال يبقى مطروحاً اليوم، بعد قرابة عقدين من الزمن، عن مبادرة «اليونسكو»... هل فشلت مبادرات الحوار والتسامح وانتصر منطق الصدام والتناحر؟

على ضوء التطورات الخطيرة والمثيرة التي يعيشها العالم اليوم، خصوصاً في منطقتنا العربية، يتّضح أن نعرات التفرقة والفتنة والتعصّب الديني المذهبي أصبحت سيّدة الموقف، وأن الحديث عن حوار بين الثقافات والأديان في ظل موجات الإرهاب العاتية أصبح خارج السياق.

نحن اليوم نعيش بامتياز عصر التعصّب، وهو ما يلغي أو يقلّص أي توجّه نحو مدّ جسور التفاهم والتعايش والتعاون بين البشر بمختلف أديانهم وأصنافهم.

اليوم نحن بحاجة ماسّة وملحّة إلى مبادرة إنسانية رائدة تحيي القيم الإسلامية السمحة وتؤسس لفكر مستنير يقبل الآخر ويؤمِّن التعايش السلمي والتعاون المتميّز بين الثقافات والحضارات البشرية... مبادرة تنصف ديننا الحنيف وتبعد عنه شبهات التشويه وتفتح المجال لمد جسور الأمل وتغليب منطق البناء والنماء. متى ينعقد مؤتمر  الكويت لنصرة «إسلام الأنوار والحوار»؟ .