الجامع الأزهر عبر العصور

الجامع الأزهر عبر العصور

‭ ‬الجامع‭ ‬الأزهر‭ ‬أوّل‭ ‬جامع‭ ‬ينشأ‭ ‬بمدينة‭ ‬القاهرة‭ ‬الفاطميّة،‭ ‬بناه‭ ‬القائد‭ ‬الفاطميّ‭ ‬جوهر‭ ‬الصّقليّ،‭ ‬بدأت‭ ‬أعمال‭ ‬البناء‭ ‬فيه‭ ‬يوم‭ ‬السبت‭ ‬28‭ ‬جمادى‭ ‬الأولى‭ ‬عام‭ ‬359هـ‭/‬أبريل‭ ‬عام‭ ‬970م،‭ ‬وافتتح‭ ‬للصّلاة‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬رمضان‭ ‬عام‭ ‬361هـ‭/‬يوليو‭ ‬عام‭ ‬972م‭.‬

‭ ‬وكان‭ ‬يوجد‭ ‬بدائر‭ ‬القبّة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬الرّواق‭ ‬الأوّل‭ ‬للجامع‭ ‬على‭ ‬يمنة‭ ‬المحراب‭ ‬والمنبر‭ ‬نصٌّ‭ ‬إنشائيٌّ،‭ ‬فُقد‭ ‬الآن‭ ‬ورآه‭ ‬المقريزيّ‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬الهجريّ‭/ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬الميلاديّ‭ ‬نصّه‭ ‬‮«‬مما‭ ‬أمر‭ ‬ببنائه‭ ‬عبدالله‭ ‬ووليّه‭ ‬أبو‭ ‬تميم‭ ‬معدّ‭ ‬الإمام‭ ‬المعزّ‭ ‬لدين‭ ‬الله‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين،‭ ‬صلوات‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬آبائه‭ ‬وأبنائه‭ ‬الأكرمين،‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬عبده‭ ‬جوهر‭ ‬الكاتب‭ ‬الصّقليّ،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬ستّين‭ ‬وثلاث‭ ‬مائة‮»‬‭.‬

 عرف هذا الجامع - على الأقلّ – حتى العقد الأوّل من القرن الخامس الهجريّ/ الحادي عشر الميلاديّ، بـ«جامع القاهرة»، هكذا يذكره ابن زولاق والمسبّحيّ في حوليّاتهما، كما يورده نقلًا عنهما المقريزي ومعاصروه، ولم يتبدل اسمه إلا قرب نهاية عهد الخليفة الحاكم بأمر الله بعد الانتهاء من بناء «جامع الخطبة» خارج باب الفتوح الأول، وهو الجامع الذي بدأه والده العزيز بالله عام 380هـ/990م، وعرف بـ«الجامع الأنور»، فأطلق على جامع القاهرة «الجامع الأزهر»، وبعد ذلك عرفت جميع المساجد التي أنشأها الأئمة الفاطميون داخل القاهرة بصيغة أفعل التفضيل: «الجامع الأقمر» عام 519هـ، و«الجامع الأفخر» عام 553هـ. 

 كانت بداية التدريس في الجامع الأزهر في عام 365هـ/975م، بعد ثلاث سنوات من وصول المعزّ لدين الله إلى مصر، ففي صفر من هذا العام جلس القاضي عليّ بن النّعمان في الجامع وأملى مختصر أبيه في الفقه المعروف بـ«الاقتصار» في جمع حافل من العلماء والكبراء وأثبت أسماء الحاضرين، فكانت هذه أول حلقة للدرس بالجامع الأزهر.

 وشهد عام 378هـ/988م أول محاولة لترتيب درس منظّم في جامع القاهرة، فقد استأذن الوزير يعقوب بن كِلِّس العزيز بالله في تعيين جماعة من الفقهاء بجامع القاهرة كان عددهم سبعةً وثلاثين فقيهاً كانوا يتحلّقون كلّ يوم جمعة بالجامع بعد الصلاة يتكلًمون في الفقه حتى وقت العصر، ورتّب لهم العزيز بالله أرزاقاً وجرايات شهريّةً، وأقام لهم دارًا للسّكن بجوار الجامع، يقول المقريزيّ: «وهي أوّل مرّة يقام فيها درسٌ في مصر بمعلوم جارٍ من قبل السّلطان».

 قام جامع القاهرة أو الجامع الأزهر بدور مهمّ طوال العصر الفاطميّ فيما يخصّ الدّعوة الفاطميّة الإسماعيلية، فقد كانت القاهرة هي مركز الدّعوة الإسماعيليّة في العالم الإسلاميّ. وكان الإمام الفاطميّ يلقي فيه خطبة الجمعة الثانية في كلّ شهر، كما كانت تعقد فيه مجالس الدعوة (الحكمة)، التي كان يتولّاها داعي الدّعاة الفاطميّ.

 وبعد أن قاد صلاح الدّين يوسف بن أيوب، آخر وزراء الفاطميّين، انقلابه السّلميّ ضد الدولة الفاطميّة، الذي أطاح فيه بدولتهم، قلَّد وظيفة القضاء لقاضي القضاة صدر الدّين عبدالملك بن درباس الماراني الشّافعي، فعمل بمقتضى مذهبه وأفتى بامتناع إقامة خطبتين للجمعة في بلد واحد – كما هو مذهب الشافعي – فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر باعتباره رمزاً للدعوة الإسماعيلية وأقرّها في الجامع الأنور (الحاكمي) من أجل أنه أوسع.

 وظلّت الخطبة معطّلةً في الجامع الأزهر مائة عام إلى أن أعادها إليه السّلطان الظاهر بيبرس عام 665هـ/ 1267م، فقد دار حديثٌ بين الفقهاء في جواز إقامة الجمعة بالجامع ورأي العلماء في ذلك، فكتبت فتيا أُخذت فيها خطوط العلماء بجواز الجمعة في هذا الجامع وإقامتها فيه، فكتب جماعة خطوطهم فيها. وأعيدت الخطبة وصلاة الجمعة إلى الجامع في الثامن عشر من ربيع الأوّل عام 665هـ/1267م.

 ووقعت العناية بالجامع الأزهر طوال العصر المملوكيّ، فتمّ ترميمه وصيانته في أعقاب الزّلزال الذي ضرب مصر والقاهرة عام 702هـ/ 1302م. وأقيمت على بابه الغربي مدرستان: المدرسة الطبيرسيّة عام 709هـ/ 1309م، والمدرسة الآقبغاويّة عام 740هـ/1340م، والمدرسة الجوهريّة في طرفه الشرقيّ أنشأها في عام 844هـ/ 1845م، الأمير جوهر القانقبائيّ.

 وترجع أقدم إشارة وصلت إلينا إلى وجود «أروقة» بالأزهر إلى عام 818هـ/1416م، فقد كان هناك دائمًا عدّةٌ من الفقراء يلازمون الإقامة فيه، وبلغت عدّتهم في هذا الوقت 750 رجلاً ما بين عجم وزيالعة، ومن أهل ريف مصر ومغاربة، ولكل طائفة رواقٌ يعرف بهم، فقام الأمير سودون القاضي حاجب الحجّاب بإخراجهم من الجامع، ومنعهم من الإقامة في هذا العام. ويعلّق المقريزي على ذلك بأنّه «ما كان إلّا من أعظم الذّنوب وأكثرها ضررًا، فإنّه حلّ بالفقراء بلاءٌ كبيرٌ من تشتّت شملهم وتعذّر الأماكن عليهم، فساروا إلى القرى وتبذّلوا بعد الصّيانة، وفقد من الجامع أكثر ما كان فيه من تلاوة القرآن، ودراسة العلم، وذكر الله».

 

‭ ‬أهمّ‭ ‬العمارات

 وكانت أهمّ العمارات التي أجريت على الجامع في العصر المملوكي العمارة التي أجراها السّلطان الأشرف قايتباي عام 873هـ/1468م، حيث هُدم باب الجامع الغربيّ الكبير، وهو الباب القديم للجامع الذي كانت تعلوه المنارة، وجدّده على ما هو عليه الآن وأقام على يمنته منارةً رشيقة.

ثم تتابعت عمارة الجامع في عصر قايتباي، فكان آخر ما قام به ما عمله الخواجا مصطفى بن الخواجا رستم، الذي أضاف مقصورةً خشبيّةً على وجه الأروقة الثلاثة التي تفتح على الصحن. وتوجد لوحةٌ تاريخيّةٌ تشير إلى ذلك جاء فيها: «أمر بتجديد هذا الجامع سيّدنا ومولانا السّلطان الملك الأشرف قايتباي على يد الخواجا مصطفى بن الخواجا محمود بن الخواجا رستم غفر الله لهم بتاريخ شهر رجب عام إحدى وتسع مائة».

 ثم أضاف السّلطان قانصوه الغوريّ إلى الجامع منارةً متميزةً ذات رأس مزدوج، امتازت كذلك بتلبيس القاشانيّ ببدن دورتها الثانية، وهي آخر ما أضيف إلى الجامع في العصر المملوكيّ.

 ولم يكن للجامع الأزهر دور تعليمي مهم في العصر المملوكي، لأن هذا الدور كانت تقوم به المدارس التي بدأت مع الأيوبيين وازدهرت مع المماليك، وكانت تدرس الفقه على المذاهب الأربعة وعلوم الحديث والقرآن، إضافة إلى بعض العلوم التطبيقية، مثل الرياضيات والفلك، ولم يمنع ذلك من إلقاء بعض كبار العلماء دروساً في الجامع الأزهر، مثل عبدالرحمن بن خلدون عندما قدم إلى القاهرة عام 784هـ/1382 م، ولكنها لم تكن دروساً نظامية مثل تلك التي كانت تضطلع بها المدارس بما كانت تشتمل عليه من خزائن للكتب وأماكن لإقامة الطلبة وجرايات وجامكيات لمدرسيها، تقوم بها الأوقاف الموقوفة على هذه المدارس (مدرسة السلطان حسن والمدرسة الظاهرية الجديدة والمدرسة الناصرية ومدرسة صرغتمش وغيرها من المدارس التي أتى على ذكرها المقريزي في الخطط).

 وظلّ الجامع يقوم بدور تعليمي مهم في العصر المملوكي جنبًا إلى جنب مع المدارس التي انتشرت في القاهرة طوال هذا العصر، ولكن مع سقوط دولة المماليك في مصر والشّام ومدّ الدّولة العثمانية سطوتها عليها وعلى الأراضي التي أطلق عليها في ما بعد العالم العربي، تنامى دور الجامع الأزهر وعرف في نهاية القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي منصب «شيخ الإسلام»، وهو اللّقب الذي تحوّل بعد ذلك إلى «شيخ الأزهر». وكان أوّل شخص نعرف أنه سمّي «شيخ الإسلام» هو الشيخ محمد بن عبدالله الخرشيّ المالكيّ، ولا نعرف متى تبوّأ هذا المنصب الذي يُتولى باختيار كبار المشايخ، ونعرف فقط أنّه توفّي عام 1101هـ/1690م.

 ووجد الجامع بعد ذلك عناية متناهية من الولاة العثمانيّين وأدخلت عليه إصلاحاتٌ متعدّدةٌ كان أهمّها العمارة التي قام بها عام 1167هـ/ 1753م الأمير عبد الرحمن كتخدا، فأضافت إلى مساحة الجامع الأروقة الموجودة خلف المحراب الفاطميّ القديم. وجدّد هذه الزيادة الخديو محمد توفيق باشا عام 1306هـ/1888م، ويوجد في النهاية القبليّة لهذا الرّواق بابٌ يؤدي إلى القبّة التي دفن فيها الأمير عبدالرحمن كتخدا عام 1190هـ/1776م، وهو الذي أنشأ كذلك باب الصّعايدة والمنارة الموجودة أعلاه، كما أنشأ الشرفة في الطرف الشّرقي البحري. وجدّد كذلك واجهة المدرسة الطبيرسية وأنشأ الباب الغربيّ الكبير الرئيس للجامع المعروف الآن بباب المزينين فضمّ بذلك المدرسة الطبيرسية والمدرسة الآقبغاويّة إلى الجامع. وقد فكّت مباني هذا الباب وأعيد بناؤه عام 1896م عند توسعة الشارع الذي تطلّ عليه الواجهة، وبناء الرواق العباسيّ الذي أمر ببنائه الخديو عباس حلمي الثاني.

 

تحول‭ ‬رئيسي

وكان التحوّل الكبير في دور الجامع الأزهر مع وصول الحملة الفرنسية إلى مصر، عام 1213هـ/1798م، وانهزام قوّات الأمير مراد بك المملوكي وانسحاب القوّات المدافعة الأخرى إيمانًا منها بعقم القتال، فتركت القاهرة تحت يد الغزاة وساد في أرجائها الاضطراب والذّعر. هنا برز دورٌ جديدٌ للأزهر، هو القيادة الشّعبيّة والزّعامة الوطنية، ونجح بعد التفاوض مع الفرنسيين في تأليف «ديوان» يشرف على حكم القاهرة وتدبير شؤونها مؤلّف من تسعة أعضاء من شيوخ الأزهر على رأسهم الشيخ عبدالله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر آنذاك، وتولّى أمانة الدّيوان الشيخ محمد المهدي. وبالرّغم من أنّ سلطة هذا الدّيوان كانت محدودةً وخاضعةً لتوجيه المحتلّين، فإنّ في تأليفه على هذا النحو تنويهًا ظاهراً أهمية الجامع الأزهر ومكانة علمائه والاعتراف بزعامتهم الشّعبية والوطنية. وشُكّلت داخل الجامع لجنةٌ للثورة على المظالم الفرنسية قادت ثورة القاهرة الأولى، التي لم يجد الفرنسيون للقضاء عليها سوى احتلال الجامع الأزهر وضربه بالقنابل واقتحامه بخيولهم، ما أدّى إلى قتل كثير من الناس ودفن عدد كبير منهم تحت الأنقاض.

وكان للأزهر كذلك شأنٌ يذكر في مساندة محمد علي في الوصول إلى السّلطة، وتدخل علماؤه بعرائضهم إلى السلطان لتأييده غير مرّة، وكان لموقفهم أثره في حشد الشّعب من حوله وتوطيد مركزه بالتعاون مع نقيب الأشراف الزعيم الوطني الكبير عمر مكرم، وكلّلت مساعيهم يومئذٍ بالنجاح، واشترك شيخ الجامع الأزهر يومئذٍ الشيخ عبدالله الشرقاوي مع السيد عمر مكرم في إلباس خلعة الولاية لمحمد علي باشا عام 1220هـ /1805م.

ولبث الأزهر بعد ذلك محتفظًا بمكانته ونفوذه، وقد يتضاءل هذا النفوذ أحيانًا تحت ضغط سلطان الطّغيان السياسي، ولكنه يبقى كامنًا ويبدو عند أول فرصة.

لذلك فقد أخذ منذ عصر الخديو إسماعيل يتأثّر بتيار الحركة الإصلاحية الجديدة، وساهم كذلك في مضاعفة وعي الأزهر وطموحه مقدم المصلح الكبير السيد جمال الدّين الأفغاني إلى مصر واتصاله بالأزهر وطلّابه. وكان من أكبر المتأثرين به مفتي الدّيار المصرية بعد ذلك الإمام محمد عبده. الذي دعا الخديو عبّاس، عام 1896م، إلى إنشاء مكتبة الأزهر، حيث جمعت فيها الكتب الخطيّة المتناثرة في أروقة الجامع، واختير موضعًا لها المدرسة الآقبغاويّة على يسار الداخل من باب المزينين ثم أهديت إليها – بعد ذلك – مكتبات علماء الأزهر واحتفظت بأسمائهم. 

وتلقّى الأزهر، باعتباره مركز التعليم العالي الإسلامي في مصر، تغييرات مهمة منذ أواخر القرن التاسع عشر، فمع بداية الإدارة الحكومية الحديثة في مصر، أصبح مجال التعليم تدريجياً هدفاً مشتركاً لسياسات الدولة، فأنشئت مؤسسات تعليمية جديدة، ووضعت المؤسسات القديمة تحت نظر الدولة، فأصبح انفراد الأزهر بالتعليم في مصر يواجه تحديات فرضتها المؤسسات التعليمية الجديدة، مثل دار العلوم (1872م) وبعد ذلك مع تأسيس مدرسة القضاء الشرعي (1907م).

وعرف الأزهر إصلاحات جوهرية مع قوانين تنظيمه الصادرة في عامي 1896 و1911م، حيث أوجدت بيروقراطية مركزية ترأسها شيخ الأزهر باعتباره مشرفاً على هيئة إدارية تدير شؤون التعليم والطلبة والاختبارات، إضافة إلى اختيار الهيئة التعليمية والإدارية. وأُسست «هيئة كبار العلماء»، في عام 1911م، من ثلاثين من كبار المشايخ ليحاضروا الطلبة وليرجع إليهم في كل ما يتعلّق بالأمور الدينية والشرعية، وأصبح منهج الدراسة منذ هذا التاريخ محدّداً بتدرّج واضح وجديد، أصبح الطالب يجتاز بمقتضاه بعد ثماني سنوات اختبار «الأهلية» وبعد أربع سنوات أخرى «العالمية» التي تؤهّله للتدريس.

وبعد سقوط «الخلافة الإسلامية» ومنصب «شيخ الإسلام» في اسطنبول على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924م، دخل الأزهر في مرحلة جديدة من تاريخه، نتج عنها أن أصبح يمثل المرجعية الدينية الأولى للعالم الإسلامي، وأوكل إليه الملك فؤاد الأول، في عام 1925م، تنظيم مؤتمر دولي عن الخلافة، وهي المرّة الأولى التي يعهد فيها إلى الأزهر بالقيام بدور مساعد في السياسة الخارجية المصرية.

وجاء تأسيس الجامعة المصرية (جامعة القاهرة في ما بعد)، عام 1925م، ليوجد منافساً كبيراً للتعليم الديني الذي كان يمثله الأزهر في ذلك الوقت، بما أنها اختصت بتدريس العلوم الحديثة وأصبح خرّيجوها يمثلون دعماً قوياً للبناء الإداري للدولة. وكانت المشكلة الدائمة التي واجهت الأزهر هي ارتفاع معدّل رسوب الطلبة في الاختبارات، فعلى الرغم من أن عدد الطلبة المسجّلين بلغ حوالي عشرة آلاف طالب لم يحصل منهم على «العالمية» إلا عدد قليل، من 11 عالمية عام 1899م إلى 324 في عام 1925م، وبالرغم من قلّة عدد الخرّيجين فإن فرص العمل المتاحة أمامهم كانت قليلة، لأن خريجي كليات اللغة العربية والشريعة كان عليهم منافسة خريجي الكليات الجامعية الأخرى، ولم تبق أمامهم سوى وظائف الأئمة والمؤذّنين الأقل أجراً. ومن أجل رفع مستوى الخرّيجين في سوق العمل، جاء قانون إعادة تنظيم الأزهر رقم 46 للعام 1930م، الذي أصدره الملك فؤاد الأول بإنشاء كليات أصول الدين والشريعة واللّغة العربية في الجهة الشرقيّة للجامع، وافتتحت عام 1933م، وأصبحت تمنح ثلاث درجات علمية، كما أصدر الأزهر، في عام 1935م، مجلة دورية أكاديمية بعنوان «مجلة الأزهر».

وعرف الأزهر تحولاً جديداً مع النظام الذي أوجدته ثورة 23 يوليو 1952م، وقام تحالف بين جمال عبدالناصر قائد النظام الجديد وشيخ الأزهر محمود شلتوت (1958-1963م)، الذي عمل على تحديث مناهج الدراسة وتبني دور خدمي عام للأزهر داخلياً وخارجياً، وقام الأزهر في عهده بدور مهم في التقريب بين المذاهب الإسلامية. وجاء قانون إصلاح الأزهر رقم 103 للعام 1961م ليدمج الأزهر في مجالات أوسع من التعليم العالي، ليخرج باحثين حداثيين ذوي معرفة بالعالم المعاصر، قادرين على خدمة العالم الإسلامي. وأدخلت إصلاحات هذا القانون إلى الأزهر للمرّة الأولى العلوم غير الدينية (الطبّ والهندسة والزراعة والاقتصاد) في حرم جامعي جديد في مدينة نصر وإلى القرب منه حرم آخر خاص بالبنات، وتوسّع الأزهر في استقبال طلاب من مختلف البلاد الإسلامية (من إفريقيا وآسيا وأوربا)، وأنشأ مدينة خاصّة للمبتعثين.

‭***‬

وكانت ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011م إيذانًا ببداية عهد جديد، ولكن مع تطور الأحداث، بدأت الجماعات الأصوليّة الرّاديكالية في الظهور على السطح، داعيةً إلى الأفكار الأكثر جمودًا وانغلاقًا، فكان على الأزهر أن يتصدّى لذلك موضّحًا صورة الإسلام الوسطي وأنّه ملكٌ للأمّة كلّها وأنّه يقف على مسافة واحدة من الجميع ولا ينطوي تحت أي تيّار أو فكر معيّن، وأنّه مصدرٌ للفكر الإسلامي الذي يعتمد على القرآن والسّنّة وما اتّفق عليه علماء الأمّة، وأنّه المعبّر الأمين عن المذاهب الفكرية والفقهية في المدرسة الإسلامية،  فكان أن دعا الأزهر بقيادة شيخه الحالي العالم الجليل فضيلة الدكتور أحمد الطّيّب إلى عدد من اللّقاءات تجمع كوكبةً من المثقّفين والعلماء المصريين وعلماء الأزهر الشّريف على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والدّينية ليتدارسوا مقتضيات اللّحظة التاريخية الفارقة التي تمرّ بها مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وأهميتها في توجيه مستقبل مصر نحو غاياته النّبيلة وحقوق شعبها في الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية.

ونتج عن هذه الاجتماعات المكثّفة أربع وثائق مهمّة صادرة عن الأزْهَر، هي:

1- وَثيقَة الأزْهَر حول مستقبل مصر.

2- وثيقة «الربيع العربي» ومساندة حركات التحرر العربي.

3- بيَان الأزْهَر والمثَقَّفين عن منظومة الحرّيات الأساسية.      

4- وَثِيقَة الأزْهَر لحقوق المرأة .