عن روايات القمع

عن روايات القمع

دعتني‭ ‬جامعة‭ ‬هارﭬارد‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬فيها‭ ‬أستاذاً‭ ‬زائراً‭ ‬للأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬سنة‭ ‬1995‭. ‬وتركت‭ ‬لي‭ ‬حرية‭ ‬اختيار‭ ‬الموضوع‭ ‬الذي‭ ‬أناقشه‭ ‬مع‭ ‬الطلاب‭ ‬المهتمين‭ ‬بالأدب‭ ‬العربي‭ ‬الحديث،‭ ‬وأغلبهم‭ ‬من‭ ‬طلاب‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا،‭ ‬فاخترت‭ ‬موضوع‭ ‬التحديث‭ ‬والحداثة،‭ ‬لأني‭ ‬كنت‭ ‬أظن‭ - ‬ولا‭ ‬أزال‭ - ‬أن‭ ‬عمليات‭ ‬التحديث‭ ‬المادي‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬لم‭ ‬تثمر‭ ‬من‭ ‬الحداثة‭ ‬ما‭ ‬يتناسب‭ ‬معها‭. ‬وكنت‭ ‬أرى–‭ ‬ولا‭ ‬أزال–‭ ‬أن‭ ‬التحديث‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬عملية‭ ‬تغييرات‭ ‬مادية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يثمر‭ ‬حداثة‭ ‬فكرية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المستويات،‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬حداثة‭ ‬فكرية‭ ‬أو‭ ‬ثقافية‭ ‬يحققها‭ ‬المجتمع‭ ‬هي‭ ‬سبب‭ ‬ونتيجة،‭ ‬نتيجة‭ ‬لعملية‭ ‬تحديث‭ ‬مادية‭ ‬سابقة‭ ‬عليها،‭ ‬وسبب‭ ‬لفعل‭ ‬حداثة‭ ‬فكرية‭ ‬وإبداعية‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تلحق‭ ‬بها‭ ‬وتترتب‭ ‬عليها‭. ‬

وكانت في ذهني الصيغة المألوفة عن جدل الحداثة والتحديث، والفاعلية المتبادلة بين أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج في الميراث المادي الجدلي. ولكني كنت أرى أن وقع خطى الحداثة وانتشارها في العالم العربي لا يزال أبطأ بكثير مما يرجوه المتحمسون لها، الذين كان لابد أن يطرحوا هذا السؤال على أنفسهم، ومن ثم يتدبرون في تحديد وفحص العوامل الثقافية التي توقف الجدل المتوقع ما بين الحداثة والتحديث، وتشكل حائطاً صلباً تتكسر أمامه أمواج الحداثة الفكرية والإبداعية، رغم إمكانية استخدام سبل التحديث المادي في كل جانب من جوانب الحياة العربية. وكانت الإجابة الحاسمة في تقدير هشام شرابي هي طبيعة المجتمع «البطريركي» الذي تغلب أبنيته التراتبية المتجذرة في الثقافة العربية في المجتمع العربي كله من المحيط إلى الخليج، مع فوارق كمية تمايز هذا البلد العربي عن غيره في المظهر لا الجوهر. وجاءت إجابة أدونيس في «الثابت والمتحول» غير بعيدة تماماً عن إجابة شرابي، فالثقافة العربية تغلب عليها قيم الثبات وليس قيم التحول: الماضوية، التمييز، الجمود، الاتباع، التحالف بين الاستبداد الاجتماعي السياسي والتعصب الديني، التهوين الدائم من مكانة المرأة، العداء للآخر ورفض الاختلاف.

وكان لابد أن أقرأ جدل الحداثة والتحديث، مع طلاب جامعة هارڤارد، من خلال مجموعة من النصوص، تشمل، «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» لرفاعة الطهطاوي، و«حديث عيسى بن هشام» للمويلحي، و«الزلزال» للطاهر وطار، و«التيه» لعبدالرحمن منيف، وغير ذلك من النصوص التي كان الفصل الدراسي يسمح بمناقشتها، والحوار حول ما تطرحه من قضايا وأفكار. ومضى الفصل الدراسي سريعاً لحيوية النقاش وحماسة الطلاب للموضوع. وعدت من جامعة هارڤارد لأواصل عملي في المجلس الأعلى للثقافة الذي كنت أميناً له في القاهرة. وواصلت طريقي في النقد الأدبي، وذهني لا يتوقف عن التفكير في العوائق التي تحول دون انتشار الحداثة، سواء على مستوى الثقافة أو الإبداع أو الفكر. وكنت وقتها منجذباً إلى إلقاء الضوء على رواد الاستنارة الذين حاولوا تنوير مجتمعاتهم العربية، مثل محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وفرنسيس فتح الله المراش وخليل الخوري وفرح أنطون، فاكتشفت أن نشأة الرواية العربية كانت مقترنة بهؤلاء اقترانها بصعود أبناء الطبقة التي ينتمون إليها في المدينة الحديثة، التي كانت ساحة لإبداعهم الروائي ومحفزاً عليه في آن. وكان هذا الاكتشاف بذرة كتابي عن «الرواية والاستنارة» الذي أصدرته بعد ذلك بسنوات عدة.

 

مرآة‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني

وأعترف أن اهتمامي بالرواية قد صرفني عن الشعر، حبي النقدي الأول، ولكن ظل سؤال جدل الحداثة والتحديث عالقاً بذهني، مع زيادة مؤداها إسقاط السؤال نفسه على نشأة الرواية العربية الحديثة ومسار تطورها. وكانت النتيجة هي تصور الرواية العربية بوصفها مرآة المجتمع المدني الصاعد وسلاحه الإبداعي في مواجهة نقائضه، التي لا تزال، إلى اليوم، مقترنة بتخلّف التعصب والتسلط والتطرف، متواصلة مع تراثها السردي العربي في أبعاده المناقضة للاتباع والنقل... «ولم تتوقف الرواية العربية عن تجديد نفسها أو تحرير مبدعيها وقرائها من سطوة كل سلطة تمارس القمع باسم الدين أو السياسة». 

هذا ما قلته في الكلمة التي ألقيتها في افتتاح ملتقى القاهرة الأول للرواية في 22 فبراير 1998، وذلك في الدورة الأولى التي منحت جائزتها للروائي العظيم عبدالرحمن منيف، رحمه الله.

الطريف أنني عندما عاودت قراءة هذه الكلمة (وقد تحولت إلى مفتتح كتابي «زمن الرواية» الذي صدر سنة 1999، بعد عام واحد من «ملتقى القاهرة للإبداع الروائي») وجدت أنها كانت صدى لتقديمي عددي مجلة «فصول» التي رأست تحريرها، وخصصت عددين منها لما أسميته «زمن الرواية» شتاء 1993، وربيع 1993. ويبدو أنه كان قد تشكّل في ذهني اقتناع مؤداه أن الرواية العربية نشأت لتقاوم كل أشكال القمع التي تفرضها كل سلطة استبدادية، باسم الدين أو السياسة أو المجتمع. وقد لزم عن هذا التصور اقتناع بأن شيوع أشكال القمع في العالم العربي هو الذي يوقف تجذر الحداثة العربية ويمنع انتشارها.

 

بلاغة‭ ‬المقموعين

ويبدو أن إلحاحي على «القمع» – في هذا السياق – كان تواصلاً مع اهتمامات بحثية عندي، أظهرتها الدراسة التي نشرتها عن «بلاغة المقموعين» سنة 1992. وهي دراسة تتبعت – للمرة الأولى – الوعي البلاغي والنقدي بالقمع، في موازاة تجلياته الأدبية في التراث العربي البلاغي النقدي الذي انطوى على أشكال مقاومته للقمع وتعرية ممارساته إبداعاً أدبياً وتنظيراً فكرياً. وقد شغفت بتتبع هذه الأشكال التي قادتني إلى ما يوازيها في العصر من أدب مقاومة ورفض واحتجاج ضد كل ما يعرقل ازدهار أفكار الحداثة وإبداعاتها في العالم العربي. ولذلك ما إن دعتني جامعة هارڤارد للمرة الثانية لأكون أستاذاً زائراً في مركز دراسات الشرق الأوسط سنة 2001 حتى تبادر موضوع القمع على ذهني فوراً، وعندما سألني صديقي وليام جرانارا عن الموضوع الذي اخترته، ليعلنوه على الطلاب المهتمين، أجبته بأني اخترت موضوع القمع في الرواية العربية. وأخذت – قبل السفر– في البحث عن الروايات المترجمة إلى اللغة الإنجليزية، ليستطيع الطلاب قراءتها ومناقشتها، وأغلبهم طلبة أدب مقارن. ونجحت في أن أصنع قائمة جمعت بين يوسف إدريس ونجيب محفوظ، ومعهما جمال الغيطاني وإبراهيم عبدالمجيد وعبدالحكيم قاسم وسليمان فياض وفتحي غانم من مصر، وعبدالرحمن منيف وغسان كنفاني وضياء العزاوي والطاهر وطار صاحب رواية «الزلزال» التي كان وليام جرانارا قد قام بترجمتها إلى اللغة الإنجليزية بعد أن اهتم بها أثناء الفصل الدراسي الذي حضره معي في محاضرات الحداثة والتحديث. وقد نشرت الترجمة الإنجليزية جامعة سيراكيوز، بعد أن تواصلنا مع الطاهر وطار، رحمه الله، وحصلنا منه على إذن الترجمة.

وأعترف أنني اكتشفت مرة جديدة هذه الروايات، فالقراءة والمناقشة مع طلاب وطالبات لا يعرفون اللغة العربية ثرية إلى أبعد حد، إذ إنها جعلتني أتأمل الفارق في الاستجابات، خصوصاً حين يكون طلابك لا يعرفون ولا تؤرقهم التابوهات الثلاثة (السياسة والجنس والدين) التي تؤرقنا، وتفسد علينا كثيراً حرية مناقشة الأعمال الأدبية في جامعاتنا العربية. وقد كانت المناقشات مفيدة لدرجة دفعتني إلى أن أقوم بتسجيل ملاحظاتي على تقنيات الترجمة أثناء قراءتي النصوص المترجمة التي سأناقشها مع طالبات وطلاب مرحلة الدكتوراه، مقارناً إياها بالأصل العربي الذي كنت أحتاج إلى مراجعته أحياناً. ومع الأسف لم أحرص على هذه الملاحظات التي كان يمكن أن تكون نواة لدراسة معمّقة في فن الترجمة، خصوصاً من الزاوية التأويلية أو الهرمنيوطيقية التي تنبّهنا إلى أن كل ترجمة هي فعل تأويلي بامتياز، وهذا ما يدفع إلى تعدد الترجمات من ناحية، وما تتميز به كل ترجمة عن غيرها في مدى قدرة الإمساك بروح النص من ناحية أخرى، وإنطاق تفاصيل الدلالات الحافة بالكلمة العامية أو الأمثال العامية. أذكر مثلا عدم تأثري بمثل عامي ورد في رواية «أصوات» لسليمان فياض في طبعتها العربية. وكانت إحدى سيدات القرية تتحدث إلى سيدة أخرى تستمع إليها، قائلة: «والله أنت لا تعرفي الفرق بين العجوة والطوب الأحمر»، فقد كان من الصعب في الترجمة الإنجليزية فهم مدى السخرية في الجمع بين dates وred bricks أو البلح والطوب الأحمر، فلم يكن أمام المترجم سوى اختيار كلمة dates التي تعني البلح بوجه عام ولا تؤدي دلالات العجوة التي تؤكل بوصفها حلوى والطوب الأحمر الذي قد يشبهها ولكن طعمه أبعد ما يكون عن طعمها. وما أكثر الملاحظات التي كتبتها طوال المقارنة بين الأصول العربية والترجمة. وأرجو أن يكون ذكرها دافعا لدراسات يقوم بها من يقرأ هذه الملاحظات، وذلك بعد أن انفتحت المجالات المغلقة أمام ترجمة الأدب العربي إلى لغات العالم، خصوصاً بعد أن حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل سنة 1988.

 

استجابة‭ ‬الوسط‭ ‬القرائي

تبقى الملاحظة الخاصة باختلاف الاستجابة القرائية نتيجة اختلاف الوسط القرائي. وأذكر أنني قرأت رواية إبراهيم عبدالمجيد «البلدة الأخرى»، ولم ألتفت في قراءتي الأولى لها إلى أن المشهد الأول في المطار يشير إلى طائرة هليكوبتر أمريكية قابعة على أرض المطار، كانت أول ما لفت انتباه البطل بعد نزوله من الطائرة. والحق أني لم ألتفت إلى هذا الدال عند قراءتي الأولى للرواية، فقد كانت بؤرة اهتمامي مسلطة على العلاقة بين البطل المصري وأهل تبوك التي يعمل فيها إلى أن يرحل. وأذكر – أخيراً- أنني عندما قرأت غرناطة رضوى عاشور – رحمها الله – للمرة الأولى، لفت انتباهي الموازاة المضمرة بين الأندلسيين الذين تحولوا إلى موريسكيين والفلسطينيين الذين تحولوا إلى إسرائيليين أو لاجئين، ولكن هذا الانطباع الذي تكون عندي لم أجد له أي صدى أو حتى وجود عند طلابي الأمريكيين الذين شغلتهم المشابهة بين «غرناطة» رضوى عاشور ورواية الكاتب البريطاني الباكستاني الأصل طارق علي «تحت ظلال شجرة الرمان». وأختم ما أذكره بترجمة رواية جمال الغيطاني «الزيني بركات»، وقد ترجمها ترجمة ممتازة فاروق عبدالوهاب، الذي قدم أكثر من ترجمة ممتازة لعدد من الروائيين المصريين، في الصدارة منها رواية «الزيني بركات»، التي كانت حدثاً إبداعياً فريداً وقت صدورها في مطلع السبعينيات، إن لم تخنّي الذاكرة، وقد كتب للترجمة مقدمة أكثر امتيازاً إدوارد سعيد، الذي لا أظنه أدرك كل الإدراك البعد اللغوي الذي هو عنصر تأسيسي في البنية الجمالية للرواية، خصوصا الصيغ اللغوية التي اختارها الغيطاني من تراكيب اللغة التي كانت مستخدمة في العصر المملوكي، الذي تشير إليه الرواية لغة ومكانا وأبطالا وزمنا. فمن المؤكد أن كل الدلالات الحافة بالتراكيب والمفردات قد ضاعت مع الترجمة التي لم تستطع لغتها الإنجليزية الحديثة أن تلتقط المصاحبات اللغوية الرهيفة للغة كانت تعتمد محاكاة لغة المقريزي وغيره من مؤرخي العصر المملوكي. وهو الأمر الذي لم يحدث في ترجمة «العسكري الأسود» ليوسف إدريس، أو «رجال من الشمس» لغسان كنفاني، فقد كانت اللغة الروائية هي لغة أقرب إلى ما يسميه المستعربون Modern standard Arabic. والحق أنه مهما كانت براعة الترجمة فسيظل هناك فارق يمايز بين الأصل والنص المترجم عنه، وهو أمر يذكرني بالمثل الإيطالي: أيها المترجم أيها الخائن. 

ولكنني لم أكن أهدف إلى الاستطراد في هذا الجانب، فأهم منه ملاحظاتي التي كتبتها بالإنجليزية على الروايات التي تناقشت فيها مع طلابي، فقد كان أمامي من الوقت أن أترجم عددا من هذه الملاحظات إلى اللغة العربية وأقوم بصياغتها في مقالات نشرتها متتابعة في جريدة الحياة اللندنية. وربما كان أهم ما خرجت به من تدريس روايات القمع أنني أعدت تصنيفها، فقد وجدتها تنقسم إلى ثلاثة مجالات:

أولها روايات القمع الديني مثل رواية «الزلزال» التي نشرها الطاهر وطار في بيروت سنة 1974، فكانت بمنزلة الرؤية الأولى لما سيأتي بعدها من زلزال القمع الديني الذي أخذ يجتاح العالم العربي تدريجيا، وكانت البداية مع هزيمة 1967 التي كانت هزيمة لدولة المشروع القومي التسلطية، التي كانت تسلطيتها سبب هزيمتها، وترك الفراغ كي تنهض مكانها دولة المشروع الديني التي بدأت على استحياء مع دولة العلم والإيمان، التي حاول السادات أن يقيمها متحالفا مع جماعات الإسلام السياسي التي سرعان ما انقلب متطرفوها عليه فاغتالوه. وهي الحال مع حكم مبارك الذي تصاعد التطرف الديني في زمنه، فانقلب إلى إرهاب ديني متصاعد، ولم يتوقف إلا مع سقوط حكم مبارك، وتولى الإخوان المسلمون الحكم إلى أن أسقطهم ما أسقط مبارك، فأخذوا يعودون إلى عنفهم القديم، ولا يترددون في تشجيع جماعات إرهاب ديني لزمن ما بعد مبارك الذي لا نزال نعيشه.

 

مواجهة‭ ‬الإرهاب

ولقد سبق أن أصدرت كتاباً عن روايات القمع الديني سنة 2003 بعنوان «مواجهة الإرهاب»، خصوصا بعد أن تحول الإرهاب الديني إلى كابوس في حياتنا العربية، ولا يزال باقياً في تصاعده الخطر الذي ينبغي مواجهته في كل تجلياته. وقد كان نشر هذا الكتاب إدراكاً مني لتفاقم خطر القمع الديني الذي تحول إلى إرهاب ديني قاتل. ولا أزال أذكر أنني طرحت على نفسي، وقت كتابته، سؤالاً عن قلة عدد روايات القمع الديني بالقياس إلى الواقع القمعي الذي توازيه هذه الروايات وتقاومه إبداعيا في آن. ولكن تلاحقت روايات القمع الديني بعد صدور كتابي، تأكيداً لتصاعد مقاومة الروائيين والروائيات لتزايد جرائم القمع واتساع مداها. ولم يعد لسؤالي القديم معنى الآن، فقد تكاثرت الروايات المقاومة لهذا القمع الديني الذي تحول إلى إرهاب شامل وكامل، يحيط بنا من كل اتجاه. 

وتأتي بعد ذلك روايات القمع السياسي التي تقترن بالحضور القمعي للحكومات الاستبدادية التي تجسدها أنماط الدولة التسلطية التي ظلت تحكم أغلب أقطار العالم العربي. وتدخل في هذا القسم روايات عدة، تتسابق في إبداعها أقطار العالم العربي، خصوصاً مصر وسورية والعراق وغيرها الذي لحق بها. ولقد سبق لي أن قلت: «يعرف المثقفون الذين اصطدموا بالسياسة، في صورها المتعددة، ما يمكن أن يقترن بالسلطة السياسية المستبدة من ممارسات عنف مادي ومعنوي، هي أشكال متعددة من الإرهاب الذي تبقي به هذه السلطة على استمرار الطاعة المفروضة على رعاياها من ناحية، وعلى من يحاولون انتقادها أو مساءلتها، أو الاختلاف معها أو عنها، فضلاً عن الخروج عليها، من ناحية مقابلة. ولا تتوقف الممارسة العقابية - في مدى ممارسات العنف المعنوي والمادي - على الأجهزة القمعية للدولة، الجيش والشرطة وغيرهما من مؤسسات العقاب والانضباط، حيث المعتقلات والسجون المليئة بأدوات التعذيب وأنواعه الوحشية، وإنما يجاوز الأمر ذلك إلى الأجهزة الأيديولوچية للسلطة نفسها، أو الدولة، حيث ما يتولد عن هذه الأجهزة، أو تبثه من رسائل يراد بها تثبيت الوضع القائم، وتأكيده بما يغدو تخييلا بسلامته، وإقناعاً بضرورة دوامه، فى مجالات التعليم والتثقيف والإعلام التي تتضافر لتحقق الأهداف السياسية للسلطة أو الدولة أو النظام الذي يفرض نفسه على شعبه، متجسداً في رئيسه الذي تتجمع في علاقاته مثالب المثلث المتكرر: الاستبداد والفساد والظلم، وهي المثالب التي يمكن أن تقترن بالخيانة كما حدث قديماً وحديثاً، في العواصم العربية، على امتداد التاريخ العربي، الذي لم يخل من القمع والإرهاب».

 

من‭ ‬الباب‭ ‬المفتوح‭ ‬إلى‭ ‬ساق‭ ‬البامبو

وأخيراً تأتي روايات القمع الاجتماعي التي تنطوي على قمع الحريات الاجتماعية، والتمييز ضد المرأة، بما يجعلها تحتج في روايات من مثل «أنا حرة» لإحسان عبدالقدوس، و«الباب المفتوح» للطيفة الزيات. ويمكن أن نضيف إليها روايتي يوسف إدريس: «الحرام» و«العيب». وما على شاكلتهما من روايات. ولكن التمييز الاجتماعي لا يقتصر على العلاقة بين الرجل والمرأة فحسب، فهناك أشكال أخرى من التمييز أخذت تكشفها روايات عدة، آخرها في تقديري رواية سعود السنعوسي «ساق البامبو». 

ومرت الأعوام، وصدرت روايات جديدة لم أكن قد قرأتها بعد، وأحاول ملاحقة تدفقها المذهل، كي أظل على وعي بإيقاع التغير المتدافع في كل مجال من مجالات القمع ومجالات مقاومته بالكتابة الروائية في آن. وقد تذكرت - في هذا السياق - ما سبق أن كتبته من الدراسات التي كنت قد نشرتها بالعربية عن القمع السياسي، وهي تشمل رواية لسليمان فياض (أصوات) وبهاء طاهر (الحب في المنفى، واحة الغروب)، فضلاً عن رائعة رضوى عاشور (غرناطة) وصنع الله إبراهيم (تلك الرائحة، شرف)، ولم أنس كتابة التأسيس التي عددت فيها «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، و«العسكرى الأسود» ليوسف إدريس. ومع الاسف ضاعت مني الملاحظات التي أعددتها عن رواية إبراهيم عبدالمجيد «البلدة الأخرى»، ورواية جمال الغيطاني «الزيني بركات». ولذلك قررت نشر ما أحتفظ به من دراسات وإرجاء الكتابة عن الغيطاني وعبدالمجيد وما لحق بهما من أعمال أخرى إلى طبعة جديدة أو كتاب جديد، إن كان في العمر بقية.

ومهما يكن من أمر، فما أصبحت متأكداً منه، هذه الأيام، أننا لا نعــــيش فــــي زمن الرواية الذي كتــبت عنه معلناً حضورنا الإبداعي فيه بقوة فحسب، بل نعيش في زمن روايـــة القمع الذي نجده حولنا أينما توجهنا بأبصارنا في أي ركن من أركان العالم العربي الذي يموج بالقسوة والعنف والإرهاب على كل مستويات القمع التي درستها والتي لم أدرسها بعد. وكما سبق لي أن قلت في مفتتح كتابي عن الرواية في مواجهة الإرهاب الديني إنه إذا كانت الكتابة الإبداعية عن القمع والمقاومة له بالقص هي فعل من أفعال المقاومة الـــتي تنتــزع بحيل القص الحرية من براثن الضرورة، فإن الكتابة النقدية عن هذه الكتابة الإبداعية في مجال القمع السياسي أو غيره، هي فعل مقاومة بالقدر نفسه، وفي الاتجــــاه نفسه، سعياً وراء تغيير علاقات الواقع الذي نعيشه لنحيله إلى واقع أفضل وأنبل وأكمل، فتلك هي وظيفة المبدع والناقد على السواء، يستوي في ذلك أن يكون القمع دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً .