حليلك خرطوم 75م

حليلك خرطوم 75م

آه‭ ‬من‭ ‬زمان‭ ‬الفرجة‭!‬

أيااام‭ ‬خلت،‭ ‬كنا‭ ‬نتلفت‭ ‬إلى‭ ‬قفا‭ ‬السينما،‭ ‬وقد‭ ‬عمَّ‭ ‬الظلام،‭ ‬إلى‭ ‬عظام‭ ‬بيضاء‭ ‬رخوة،‭ ‬عمود‭ ‬فقري،‭ ‬لجسم‭ ‬الظلام،‭ ‬حزمة‭ ‬نور‭ ‬نحيف،‭ ‬ينسلُّ‭ ‬من‭ ‬غرفة‭ ‬صغيرة،‭ ‬خلال‭ ‬نافذة‭ ‬أصغر،‭ ‬أعلى‭ ‬‮«‬اللوج‮»‬،‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬نبضه‭ ‬الرشيق‭ ‬حياة‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬فيسكب‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬الضخمة،‭ ‬جبالاً،‭ ‬وبلداناً،‭ ‬وألواناً‭ ‬وكراسي‭ ‬وشخوصاً،‭ ‬وأسوداً،‭  ‬كيف‭ ‬حملها؟‭ ‬يضع‭ ‬سره‭ ‬في‭ ‬أضعف‭ ‬خلقه،‭ ‬أتحمل‭ ‬حزمة‭ ‬نور‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬العوالم،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬جبال،‭ ‬وطرق؟

ينسحب‭ ‬الضوء،‭ ‬نسعد‭ ‬بالظلمة،‭ ‬ذلك‭ ‬النور،‭ ‬صغير،‭ ‬يشقها‭... ‬عظام‭ ‬تسند‭ ‬قفا‭ ‬الظلمة،‭ ‬يخترق‭ ‬ظلمة‭ ‬الشاشة‭ ‬كشهاب،‭ ‬ألوان،‭ ‬وقصور‭ - ‬كما‭ ‬قلت‭ - ‬وشخوص،‭ ‬حملها‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬الرخو،‭ ‬ما‭ ‬أقوى‭ ‬اللطافة،‭ ‬يجري‭ ‬النور‭ ‬من‭ ‬بكارة،‭ ‬من‭ ‬نافذة‭ ‬أصغر‭ ‬من‭ ‬حجم‭ ‬كراس،‭ ‬فينفخ‭ ‬الروح‭ ‬في‭ ‬الجدار،‭ ‬كأنامل‭ ‬المسيح،‭ ‬تخلق‭ ‬من‭ ‬الطين‭ ‬كهيئة‭ ‬الطير،‭ ‬فيخلق‭ ‬من‭ ‬الضوء‭ ‬والصور‭ ‬حياة‭.‬

تظلم، نصفق للظلام، تنظر السينما كلها إلى الخلف، إلى القفا، عامل «البكرة»، يحضِّر الفيلم، بكارة في حجم «دركسون» اللوري، مطوي فيها فيلم طوله آلاف الأمتار، ومن عجب، مجرد صور ساكنة ثابتة، رفعة اليد من الصحن للفم تحتاج إلى ألف صورة، في رحلتها الصغيرة هذه، يُحكم إدخال الفيلم في التروس، ينظر إلى أسفل، نراه من النافذة الصغيرة، إنه البطل الكبير في هذه الثواني العصيبة، ثم يدير آلته، فتلف البكرة، وتتلاصق الصور المفرقة، وكأنها حياة حقيقية، وليست خداع حواس، وتنطلق حزمة الضوء كبرق طويييل ناحية الشاشة البيضاء، من تلك النافذة الصغيرة، ذرات غبار تعلق بالحزمة، كأنها ملت البلاد، وتريد أن ترقص في حياة قصية، مع أبطال الفيلم وحدائقه، في رحم الحزمة الصغيرة، قبل انسكابها على الشاشة السعيدة.

يسرح الطرف، هل ضوء الشمس هو حزمة سينما، على شاشة الأرض، نحن أبطالها، مَنْ يعلم؟ أليس الضوء هو من يحرك الطاقة؟ والضوء والفكر والحياة والتمثيل الغذائي، أشعة ترعى حياتنا، وسكناتنا،  كأننا أبطال تلك الحزمة التي تنطلق من «أمِّنا»، الشمس، باسم المهيمن، الذكي، في لبوس ضوء؟ حزمة كبرى في كل حين، تنسكب على الأرض السمراء، فتدب الحياة في الواقع: الأشجار، الصراصير، العشب، الأسود، بني آدم، في الفيلم الأكبر، في الحلم الأكبر، «الحياة حلم»، وما القمر، سوى فيلم رومانسي، يسكب ضوءه أيضا على قبة الأرض، في الأماسي الطيبة، ونحن أبطال، تحرِّكنا حزمة خفية، وهناك أفلام «كابوي»، وأخرى رومانسية، تنسج بمهمل، من حزمة صغيرة، للضوء الساري في المجرات؟ والله أعلم.

‭‬أمر‭ ‬على‭ ‬الديار،‭ ‬

ديار‭ ‬‮«‬ليلى‭ ‬علوي،‭ ‬وفائزة‭ ‬عمسيب،‭ ‬وتحية‭ ‬زروق،‭ ‬وصوفيا‭ ‬لورين‮»‬

فأقبِّل‭ ‬ذا‭ ‬الجدار،‭ ‬وذا‭ ‬الجدارا

وما‭ ‬حب‭ ‬الديار‭ ‬شغفن‭ ‬قلبي،‭ ‬

ولكن‭ ‬حب‭ ‬‮«‬من‭ ‬مثل‭ ‬على‭ ‬الجدار‮»‬‭)‬

‭***‬

تلك المرثية، في عشق الأطلال، تصح على حال دور السينما في بلادي، تقف كلها، متحدية الإهمال، تحن للحياة، بشاشاتها العالية، وسورها الضخم، سينما بانت، كلزيوم، الحلفاية، خواجة، عروس الرمال، كلها أطلال مهملة، ومنها ما انقرض أو هدم، يثرن الحشا، مثل جدار قيس بن الملوح، ومن عجب هناك بوستر «من أجل أبنائي» الفيلم الهندي الشهير، ظل رغم «السنين والعلة»، على جدار السينما الخارجي، تحدى الدهر، يثير في المشاة، السيارات العابرة، أحزاناً تفوق قبلات ابن الملوح، لبلاد عمر (الفرجة) فيها، فاقت القرن.

ما بين التحسُّر، والغبطة، والحنين، جرت مشاعر حضور فيلم الافتتاح، لمهرجان السودان للسينما المستقلة (2)، فقد عرض فيلم «خرطوم 75م للمخرج الشهير، جاد الله جبارة»، وكان بينهم من عاش تلك الفترة، ومن كان طفلاً، ومن كانت أمه طفلة حينها، ولكن كلهم، وبسرِّ السينما الخفي، رجعوا القهقرى، كلهم، عاشوا تلك الفترة مرة أخرى معاً، جرى بهم براق الفرجة، وقد حملهم برقَّة، وسرعة، للخرطوم منتصف السبعينيات، لا أثر سفر على ثيابهم، ولا عرق، عطورهم العصرية ذاتها، صاروا سكان الخرطوم 75، بعصا السينما، التي شقت بحر الماضي، وزجّت بهم في مدينة قديمة، وأكثر عصرية من خرطوم اليوم.

انطلقت تلك الانفعالات، وارتسمت على الأسارير ألف علامة تعجُّب، واستفهام «ماذا جرى للمدينة؟» هل كان مستقبلها في الماضي، فشاخت؟ لم تغيّر الوجدان؟، الزي؟، والبراح، والاستقلالية؟ أتشيخ المدن؟ وتفقد بريقها، طلاقتها، وبشاشتها، وحيواتها؟ هل سجنت المدينة في فقه ميت؟ بدل طلاقة الحياة الحاذقة؟ انظر لفتيات الجامعة، كيف يضحكن؟ ويبتسمن، وشعورهن طلقة، ووجوه سافرة، مستبشرة، والفتيات بالزي الأبيض يوزعن كتباً مسطورة بخط اليد، إنهن بنات الفكرة الجمهورية؟ كم كنت حرة اجتماعياً، ونفسياً، (حرية نسبية طبعاً)، يا خرطوم 75، ما هذه البشاشة على الوجوه؟ أترجع لمجانية التعليم، الصحة، حينها، التي  تنغص وتفت كبد إنسان المدينة، البلاد، اليوم؟ (حليلك خرطوم 75).

جرى حفل الافتتاح في أطيب الأمكنة، «ضربة معلم»،  بين الطابية التاريخية، ونهر النيل، خضرة ونسيم وموج، تسعد الحجارة، فما بالك بضلوع ظمأى، من أجل النهوض بالسينما السودانية، من شباب متوثب، وقد خطط لهذا المهرجان، ولهذا العام، للسينما الإفريقية، الجارة التاريخية، ورفيقة الأمكنة، مدى الدهر؟!

جرت عروض الأفلام، التي تجازوت 40 فيلماً، في أكثر من خمس دور للعرض، كلها سقفها السماء، ما عدا واحدة، كأن أنين الأبطال، ليس بينه وبين الله حجاب، خاصة «العميان»، في الفيلم السوداني، «حبل»، للمخرج المخضرم الطيب مهدي، يدور الفيلم حول رجلين كفيفين، وحمار، ينشدان الفرار من حملة الدفتردار الانتقامية على قرى قبيلة الجعليين، (تلك الإبادة الجماعية التي قامت بها السلطة العثمانية انتقاماً لمقتل إسماعيل باشا، لقرى نهر النيل السودانية، والتي راح ضحيتها أكثر من 50 ألف سوداني بريء)، ومن عجب يهرب الرجلان، بعد أن هرب قبلهم كل سكان القرية بساعات، خلف حمار وحبل، تقودهم «أعين الحمار»، للخلاص، وبعد ساعتين من التعب والنصَب، والخوف، يجدان نفسيهما في قلب القرية، ذاتها «الحذر لا يمنع القدر»؟ أم الحافظ الله، لأنهما نجوا، ولكن قتلت حتى الماعز، والخراف، ولم يشما سوى رائحة الدم والبارود، والأنين.

 

عاشق‭ ‬سيما‭!‬

هل سأرى هذه التسريحة وهذا القميص الملون غداً، في شارع بيتنا؟ هذا ما اعتراني وأنا أشاهد الفيلم الإفريقي، من دولة مالي (بارا، فيلم روائي طويل، إخراج سليمان سيسي)،  جرت أخيلتي لمراهقتي، بلا حول مني، الشيء بالشيء يذكر، وصديق لي، (عاشق سيما، كما يقول أهل مصر)، كان أكثرنا، استفادة من الفيلم، لا يكتفي بمسرات الفرجة، بل يتعداه، حتى تسريحته، وملابسه، ومشيته، يفصلها حسب بطل الفيلم، وكان الله في عون شامي كابور، الممثل الهندي الوسيم في وقتنا، فكل تسريحة له، أو قميصه، كانت تقلد، وهنا يكمن سر الشاشة، ومدى تأثيرها في الحياة، ففي طفولتنا كنا نتلصّص على الحياة الهندية، المكسيكية، الأمريكية، والمصرية، الباعة، الألوان المحببة، شكل الشارع، معمار البيوت، مشية البطل، فهل يحاكي أحد متفرجي اليوم تلك التسريحة الإفريقية، والوشم، أم تسرقها فنانات الحناء في بلادي؟ ما أجملك أيتها الفرجة، دروس وعِبَر وتعليم، في لبوس فيلم، جرى الفيلم المالي، عن فساد الشرطة الشعبية، ومعاقبة «حمال أثقال» بسيط، وسرقة عرقه، وسلط الفيلم الضوء على الحياة في مدينة باماكو، ومن عجب انشغل البال بالمارة، والسوق، والمعمار، وفتيات كومبارس، كنا «بالنسبة لفضولنا»، أكثر تشويقاً من البطلة نفسها، وهنا سرك أيتها السينما، ترى العين، ما يفوت على المخرج نفسه، وكم كانت الموسيقى التصويرية آسرة، نقرات الطبل، كأننا في دوح حلق ذكر، كم للسينما من دَيْن مستحق على النفس والمشاعر! 

تفاوتت أعمار الأفلام، في تاريخ صنعها، بين الأربعين عاماً، وأخرى وليدة أشهر قليلة، ومن عجب هناك حكايات شابة، رغم قدمها، وأفلام شاخ بطلها، وهو صبي، لهموم الشباب المعاصرة، وأنين أحلامهم، أمام واقع رأسمالي، دولي، افترس الرومانسية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، وهي أس الحلم، أي أس واقع الفن السابع، العزف السابع.

أقسم، لو شاهد التوسير، فيلم «قصة لقاء»، لما اهتم باللغة، وجعلها سر الكون، ولاعتبرها مكتشفاً بشرياً صغيراً، وجسراً واهناً، لنقل اللغة الأم «الشعور الدافئ في النفس»، فقد عرض المخرج الجزائري، فيلم «قصة لقاء، 80 دقيقة»، وهو يحكي عن طفلين أصمَّين، وأبكمين، ابنة مهندس أمريكي، وابن فرح جزائري، يتواصلان رغم حاجز اللغة، والصمم، بالأيدي، وأسارير الوجه، ولغة الجسد (ألم تقل مدام كوري إن كل مادة مشعة؟ فما بالكم بالجسد البشري)، في لغة حميمة، أو تعطلت «لغة الكلام، وخاطبت عينيَّ في لغة الهوى عيناك»، وذرا الفيلم هموم التوسير، بلا قصد، أو نية مبيتة، مثل هدم النفري، لغنج اللغة، «إذا اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة»، حتى يحمد الصمم.

كان الدخول مجانياً، لكل العروض، جرى بالي لأيام خلت، هل تصدقون، تعلمت مع ابن أختي الصوم، من أجل السينما، كنا نصوم، وللحق «الفطور فقط»، كي ندخل السينما، أي نوفر قروش الفطور من أجل الشاشة، وسحرها، يجف الحلق، تنشف الشفاه ولا نبالي، وأعمارنا في الثانية عشرة، هل صومنا مقبول؟ يكفي جزاء المشاهدة، بعد انتهاء المهرجان، قابلت ميادة عادل، شابة طموحة، شاركت متطوعة في المهرجان، فقلت لها «أنتم الأبطال، نافستم أبطال الفيلم»، وبطولة الواقع أحلى، وما بطولة السينما، سوى صدى لها.

شاهد الجمهور وهو جالس على النجيل الأخضر، أفلاماً سودانية، لشباب طموح «شميش» لإيلاف الكنزي، «آدم وحواء»، لسارة إدريس، «التباس»، صدام صديق، «شارع المدرسة»، رزان هاشم، «لكن الأرض تدور»، سليمان محمد، «المحطة»، الطيب مهدي، «سينما خلف القضبان»، بهاء الدين محمد، وهو يحكي عن مشاهد وحيد، وألف كرسي خالٍ، واللبيب بالإشارة يفهم.

كدت أنسى أن أقول لكم، حين قلت لأخي الأكبر، إني شاهدت فيلم الخرطوم 75، ورأيت داخل الفيلم، بوستر فيلم «من أجل أبنائي»، ظل يرقص ويترنّم، ويغني  أغلب أغنيات الفيلم، يحفظها عن ظهر قلب، يتحسّر، لأنه دخله سبع مرات،، والثامنة حُرم منها، الصفوف طويلة، والدار مزدحمة، ولكنه ظل لصيق السينما، يغني مع المغنين والمغنيات، في سهول الهند الجميلة، من وراء الجدار، وخياله معهم، فما أعظم دار الخيال، فينا، وعلى الشاشة.

هل شاهدتم نملة تسكن وحيدة، وتلعب، وتحلم، وتوفر وحدها، كأبي ذر؟ إن شأن السينما، وسرها شأن جمعي، ولكن شاءت الأقدار، أن يحضر في عطبرة رجل واحد، عرضاً كاملاً، فقد ظلت المرأة القبطية الطيبة، صاحبة دار العرض المترهلة، تعرض فيلماً واحداً، لمشاهد واحد، وألف كرسي شاغر، يحن لمن يجلس عليه، في بلد تتراص فيه الصفوف من أجل الغاز، والرغيف، والمواصلات، ليس (بصفوف الخبز يحيا الإنسان، بل معه صفوف السينما والمسرح، والغناء).

هل قلت لكم، إني أرى الحياة كلها، حولي، مجرد «أفيش» فيلم، تمعن حياة الناس، والمناخ، والتاريخ، والحاضر الماثل حولك، هو أفيش فيلم طويل، بدأ قبلك، ومن عجب، سيستمر بعدك، وقد تشاهده بشكل مختلف، من قبرك، الله أعلم.

أيتها الشمس، أيتها الحزمة، حزمة الضوء الماكرة، لك حبي، نحن ظل الغيب، والشمس هو.

يظل التحدي، للعام المقبل لشباب السينما المستقلة، «الحلم، أو الحلم»، فليس هناك خيار ثالث .