تبادلية الهامش والمركز ما بين الاجتماعي والروائي في رواية طالب الرفاعي

تبادلية الهامش والمركز  ما بين الاجتماعي والروائي في رواية طالب الرفاعي

يواصل‭ ‬الكاتب‭ ‬الكويتي‭ ‬طالب‭ ‬الرفاعي‭ ‬الحفر‭ ‬عميقاً‭ ‬في‭ ‬أسس‭ ‬بنية‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الكويتي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬االتيمةب‭ ‬الأثيرة‭ ‬لديه،‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة،‭ ‬وهو‭ ‬الموضوع‭ ‬الذي‭ ‬تناوله‭ ‬بأشكال‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬روائية‭ ‬وقصصية‭ ‬سابقة،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬تضيفه‭ ‬روايته‭ ‬الجديدة‭ ‬افي‭ ‬الهُناب‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬نوفمبر‭ ‬2014،‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬دار‭ ‬الشروق‭ ‬القاهرية‭ ‬ودار‭ ‬بلاتينيوم‭ ‬الكويتية؟

الاستخدام‭ ‬المختلف‭ ‬للمكان،‭ ‬وتعدد‭ ‬الأصوات‭ ‬الروائية‭ ‬بشكل‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬فكرة‭ ‬الهامش‭ ‬والمركز‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الروائي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬هما‭ ‬ما‭ ‬تطمح‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬لإلقاء‭ ‬الــــضـوء‭ ‬علـيــهـما،‭ ‬لأنهما‭ ‬يمنحان‭ ‬تميز‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬ويحققان‭ ‬رسالتها‭ ‬الأساسية‭ ‬أيضاً‭.‬

المكان‭ ‬الحالة

اعتدنا أن يكون المكان مسرحاً لأحداث العمل السردي أو خلفية له، وتغيير المكان في هذه الحالة لا يؤثر كثيراً على العمل، وبعض الأعمال تستخدمه كعنصر أساس من العناصر المكونة للعمل، لا يمكن تغييره أو الاستغناء عنه، لكن الرفاعي يستخدم المكان في روايته كحالة تؤطر العمل السردي كله، وكشريان تجري دماء السرد فيه، بداية من الغلاف الذي يمثل حجرة مكتب طالب الرفاعي، ومكتبه وجهاز الكمبيوتر، حيث المكان الذي انطلقت منه الرواية وكتبت فيه باستخدام هذا الجهاز، والعنوان «في الهُنا» الذي يوضح مركزية المكان في الرواية، فالمكان في هذه الرواية كفكرة مجردة هو أرض الأحداث وسماؤها، وهو سبب ركودها وحركتها معاً، والمكان المحدد بمواصفات معينة هو فاعل رئيس إن لم يكن الفاعل الرئيس في الرواية كلها. تحتوي الرواية على مكانين يعدان فكرة مكانية مجردة، ومعادلاً للأفكار الحاكمة للمجتمع ككل، هما الكويت، وإنجلترا، وهناك مكانان محددان بمواصفات معينة، هما حجرة طالب الرفاعي الروائي، وأحد شخصيات العمل في الوقت نفسه، وحجرة نوم، بل سرير البطلة كوثر في حجرة نومها، إضافة إلى أماكن أخرى مهمة وإن بدرجة أقل، مثل مكتبة والد كوثر وشقتها التي تقابل فيها مشاري.

وقد استخدم طالب الرفاعي المكان المجرد/ الفكرة ليعبر عن مجتمع هذا المكان، فترى الشخصيات متحفظة، خائفة، مراقبة، تتحسس تصرفاتها وأقوالها ومشاعرها، لأن هناك من سيقوم بذلك ضدها، وذلك في المكان الكويتي، أما في المكان الإنجليزي، فتكون الشخصيات على طبيعتها، تفعل وتقول ما تريد في الوقت الذي تشاء، وقد بدت هذه المقارنة واضحة في الفصل رقم (9)، فهو الفصل الذي يضج بالحياة بين كوثر ومشاري بطلي الرواية، حتى إنها تمنحه عذريتها بكامل رضاها، لكنه الفصل نفسه الذي تحكي فيه قصة موت أبيها في الكويت، وكأن أحد المكانين يرمز، بما فيه من قيم، إلى الحياة، والآخر إلى الموت، لكن الكاتب لا يترك المقارنة إلى ما لا نهاية وكأن المكان الذي يوجد فيه الإنسان وحده يشكل تصرفاته، فتدب معركة بين مشاري وكوثر في عز لحظات حبهما، إشارة إلى أن المكان الأول الذي شكل الشخصية هو الذي يتحكم فيها في النهاية، حتى وإن ظنت أنها تحررت منه تماما، فـ «هُنا» الشخصية لا يفارقها أبداً.

فإذا كان المكان المجرد يمثل القيد على القيم التي يشعر ويفكر ويتحرك ويتصرف الإنسان من خلالها، فالأماكن المحددة تمثل قيداً على التصرفات اليومية للشخصية، حيث تصبح كل شخصية أسيرة الهُنا الخاص بها، فطالب أسير مكتبه الذي تم وضعه فيه بعد أن سحبت منه كل أعماله وسلطاته، فأصبح يقتل الوقت الطويل الممل بالقراءة والكتابة، ويحاول أن يخرج من سجن المكتب الضيق إلى رحابة حكايات الآخرين، لكنه مجرد شخص عابر في هذه الحكايات، يعرف بها لكن لا يؤثر فيها، وربما لأنه بلا سلطة على أرض الواقع، فقد ترك حتى سلطة الحكي لكوثر بطلة العمل، هو لا يحكي سوى صفحات قليلة شبه مكررة عن حاله لتمثل ما فيه من ملل ورتابة، ولتؤدي بعداً إضافياً في حكاية كوثر، وهو التأكيد على سجن الهُنا الذي لا فكاك لأحد منه. ووالد كوثر سجين مكتبته في بيته، لا يكاد يفارقها، منعزلاً عن المجتمع بعد أن كان شاباً ليبرالياً منفتحاً، تأخذه حماسة الثورات العربية لفترة، تمنحه الأمل في تحقيق أحلام الستينيات العروبية، ثم تلقيه في هوة اليأس بما آلت إليه هذه الثورات من ركوب الإسلاميين موجتها، وأنهار الدماء التي لطختها، هو أيضاً سجين هُناه الخاصة، لدرجة أن هذا المتحرر الذي وقف في وجه أبيه وعائلته لتتزوج أخته الشيعية من شاب سُنّي، يعلن رفضه أن تتزوج ابنته من رجل سني، وكأن الهُنا المجردة (المجتمع) قد انتصرت في النهاية على محاولات الشخصية للفكاك منها.

 أما كوثر، فهي سجينة سريرها، تجتر ذكرياتها طفلة وشابة وامرأة وعاشقة تقبل الزواج السري من رجل متزوج ولديه أطفال، بعد أن كانت نمرة متوحشة تأخذ حقها من المجتمع والناس بيديها منذ طفولتها، هي سجينة المرأة التي يشكلها الهُنا، والتي تتصارع مع المرأة التي تظنها هي عن نفسها.

وبذا يصبح الهُنا بمعنييه أو بمستوييه السابقين مركزاً ضاغطاً على الشخصية، وتصبح هي هامشه غير المذكور، وإن كانت تريد أن تبدو غير ذلك، فلا يملك الروائي إنصافها إلا بإعطائها مركزية السرد مقابل هامشيتها المجتمعية.

 

أصوات‭ ‬السرد

لا يكتفي طالب الرفاعي بتعويض المرأة عن دورها الهامشي اجتماعياً بإعطائها دوراً سردياً مركزياً، بل إنه يلعب لعبة تقنية مزدوجة بأن يسخر من هذه المركزية السردية التي صنعها بنفسه، وكأنه تأكيد آخر على عدم القدرة على التملص من تلك الهامشية وهذا الضغط المجتمعي.

تحتوي الرواية على 13 فصلاً يمكن تقسيمها إلى خمس مجموعات، تتكون كل مجموعة من المجموعات الأربع الأولى من ثلاثة فصول على التوالي، وتتكون المجموعة الخامسة من الفصل الأخير.

يسير السرد على الوتيرة نفسها في المجموعات الأربع الأولى، أول فصل في كل مجموعة يروي بصوت الإنسان (طالب الرفاعي) الذي يتحدث عن نفسه في مكتبه، العزلة الإجبارية/الاختيارية التي يعيش فيها، وهذه الفصول هي 1 و4 و7 و10، وهي مؤطرة بأغنية كويتية شعبية يغنيها المطرب محمود الكويتي من كلمات الشاعر خميس بن محمد الشمري وتلحين حمد الرجيب، وهي الأغنية التي تتغزل في الحبيبة وتمتدحها، وهي ليست أغنية مجانية، بل تحقق ما يصبو إلى توصيله الروائي من تناقض بين الأفق الرحب للأغنية والضيق الخانق للمكان، كما يمتد التأثير إلى باقي الرواية، فالمرأة المقهورة والمهمشة في المجتمع هي نفسها المرأة التي يغني لها هذا المجتمع، وكأن الفن يصرخ في برية لن يسمعه فيها أحد. أما ثاني فصل في كل مجموعة وهي الفصول 2 و5 و8 و11، فيتحدث فيه الروائي طالب الرفاعي إلى كوثر بصفته صديق والدها وأحد شخوص حكايتها، وبصفتها ابنة صديقه وشخصية روائية في روايته، ليمهد لما ستحكيه هي، أو يلقي الضوء على فكرة مهمة، أو يربط بما قيل في فصل سابق لها، وما سيقال في فصل لاحق، يبدأ كل فصل من هذه الفصول بجملة مفتاحية بين قوسين وبخط ثقيل على لسان كوثر، ويلعب الكاتب بهذه الجمل المفتاحية لعبة تقنية كالتي قدمها الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو في روايته «لو كان مسافراً في ليلة شتاء»، التي قدم فيها ست روايات في رواية واحدة، وعناوين هذه الروايات الست تشكل المعنى الرئيس للعمل ككل، فالجمل التي قدمها طالب الرفاعي هنا «إذا استلمت ورقة» «زواجنا بيدي»، «فسأبدأ مشوار»، «حياتي الجديدة معك»، كل جملة منها تعد مدخلاً للفصل الذي ستتحدث فيه كوثر، لكن الجمل الأربع معاً، وبهذا الترتيب، تقدم الفكرة الأساس للرواية ككل، فحياة كوثر الجديدة مع مشاري ستبدأ بتسلمها ورقة الزواج بيدها، لكنها تقول «إذا» بما يعني الاحتمالية، تلك الاحتمالية التي تقدم في بداية الرواية، يتركها الكاتب لنا من دون حسم في آخرها، وكأنها إشارة إلى أن فكرة كوثر نفسها، تلك المتمردة على مجتمعها، عندما أحبت، انحصرت في الزواج وكأنه حل، في حين أن الزواج في حالتها جزء من المشكلة ومعبر عن أعماقها في الوقت ذاته، وربما سيكون الزواج نفسه بداية لمشكلة أو مشكلات أكبر، وهذا التعامل التقني الرهيف مع المعنى الكلي للعمل قد يحتاج إلى قارئ من نوع خاص، لكنه يحقق متعة للذائقة والفكر قلما يكون لها مثيل، فلا شيء مجانياً في الأعمال الجيدة.

وثالث فصل في كل مجموعة هو أكبر فصولها ويشتمل على الفصول 3و6و9و12، حيث تتحدث كوثر إلى مشاري لتروي قصتها قبل أن تعرفه، وبعد أن عرفته، أفكارها، مشاعرها، علاقاتها الأسرية والاجتماعية... إلخ. ويأتي الفصل الأخير، الثالث عشر، ليغلق دائرة السرد، حيث إنه يروي بالطريقة نفسها والسارد نفسه والموضوع ذاته الموجود في الفصل الأول.

هنا يبدو ظاهرياً أن طالب يتذكر حكايته الخاصة بمناسبة حكاية كوثر، ويوجه حديثه إليها، ويترك لها مقود السرد لتنطلق فيه بحريتها، لكننا نكتشف السخرية التقنية عندما نلاحظ أن الأنثى (كوثر)، عندما منحت مركزية السرد أعطتها فوراً إلى مشاري (الرجل)، كما اعتادت أن تفعل كل النساء في مجتمعها، فهي توجه حكيها إليه، وهي تحكي كل ما يخصها في مواجهته وبمناسبة وجوده، ليصبح هو المركز الذي تتحرك حوله حباً وعشقاً ورفضاً وغضباً، لكنه المركز المهيمن على كل لحظات حكيها.

وإذا كان الفصل الأخير يغلق دائرة الحكي على المستوى السردي، فإنه يغلقها أيضاً على المستوى الموضوعي، فطالب لا يعرف ما انتهت إليه قصة مشاري وكوثر، ولا يريد أن يعرف، وهو غارق في هُناه الخاصة الكئيبة، فلا يتصور أن أحداً سيستطيع أن يتحرر من سجن «هُناه»، ليظل المجتمع (الهُنا)، الفكرة الكبرى، المجردة, جاثماً على عقول وقلوب أفراده الواقعيين والروائيين، وحتى الناقد الذي يكتب هنا, الذي كرر فكرة أنه لا فكاك من هذا المجتمع وضغوطه كثيراً بطريقة لا شعورية ضاغطة! .