في أقنعة «ألف ليلة وليلة»

في أقنعة «ألف ليلة وليلة»

تعتبر‭ ‬حكايات‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب‭ ‬من‭ ‬أهمّ‭ ‬عيون‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبيّ‭ ‬التي‭ ‬أثّرت‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬أدبيّة‭ ‬مختلفة‭ ‬طوال‭ ‬قرون،‭ ‬وتسرّبت‭ ‬إلى‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬فحقّقت‭ ‬بفضل‭ ‬ذلك‭ ‬شهرة‭ ‬عالميّة‭ ‬حملت‭ ‬دارسيها‭ ‬على‭ ‬اعتبارها‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الحكايات‭ ‬ذات‭ ‬الإطار‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬العربيّة‭ ‬والغربيّة‭.‬

لكن الفقرات السرديّة التي توهم في مستوى السطح بأنّها مجرّد إطار محيط بحكايات شهرزاد قد احتضنت في الحقيقة تلك الحكايات وتسرّبت إلى مفاصلها حتى باتت الركن المتين الذي تنهض عليه بنيتها والمنفذ الرئيس إلى إدراك عوامل نشأة خطابها وظروف تلقيه والسبيل القويم إلى الوقوف على جوهر رسالته. 

ومن هنا نزعم أنه لا يتسنّى لنا إبراز قيمة كتاب «ألف ليلة وليلة» ما لم نزح الأقنعة التي حجبت أسماء واضعي حكاياته، إذ إن ذلــك يمكّننا من الوقوف على أدوارهم الفعـليّة ويهــــدينا إلى الأسباب التي أجبرتهم على الإفراط في التكتّم وينتهي بنا إلى الفوز بلبّ خطابهم.

إن بنية كتاب «ألف ليلة وليلة» لا تنهض - حسب رأينا - على حكاية تؤطّر حكايات شهرزاد ولا على فاتحة مهّدت لظهور قصّة إطارية محيطة بتلك الحكايات، نظراً إلى أن ذلك التصنيف يحيل بنية الكتاب المركبة إلى بنية بسيطة ويحجب حلقات دوائرها السرديّة وبنود ميثاقها الحكائيّ ويغري المتلقي بتركيز الاهتمام كلّه على بنية حكايات شهرزاد ودلالاتها. ورغم هذا كلّه، فإنّ جميع حلقات النصوص التي أحاطت بالمتن السرديّ قد تعاضدت على إغرائنا بتصديق الرواة والمدوّنين الذين تعاقبوا على نقل تلك الحكايات. وفي ذلك دليل بارز على أنّ واضعيها قد توسّلوا بها لرسم بنود ميثاقهم الحكائيّ ونسج الخيوط الرابطة بين الحلقات السردية وشدّ الانتباه إلى ذلك المستوى الظاهر لتحقـــيق غايات بالغة الأهميّة.

وإذا ما جوّدنا النظر في العلاقة النصّية المصاحبة (Paratextualité) التي ربطت حكايات شهرزاد بالحكايات الإطاريّة التي احتضنتها اتّضح لنا أنّها دلت على عوامل نشأة المتن السرديّ وتلقّيه ووقفت على أطوار الخطّة التي رسمتها شهرزاد وأبرزت نتائجها الباهرة (ألف ليلة وليلة، بيروت، دار الكتب العلميّة (د.ت)،ج1، ص ص 5-10، ج4، ص ص 705- 706). ورغم أنّ المقاطع التي أضافها المدوّنون منفصلة عن خطاب شهرزاد انفصالاً يوهم بأنّها مجرّد عتبات منفتحة على حكاياتها، فإنّ ذلك المصاحب النصّيّ قد اضطلع بوظائف جوهريّة. فهو الذي حدّد عوامل نشأة الخطاب الحكائيّ وكشف عن إيمان شهرزاد بأنّ الحكي وسيلة لا بديل عنها لتطهير زوجها، ثمّ أشهدنا على إجلال شهريار لشهرزاد وعلى تغيّر شخصيّته بعد أن استمع إلى حكاياتها بالإشارة إلى أنّه أصبح: «مسروراً وبالخير مغموراً فأرسل إلى جميع العسكر, فحضروا وخلع على وزيره أبي شهرزاد خلعة سنية جليلة, وقال له: سترك اللّه حيث زوّجتني بنتك الكريمة التي كانت سبباً لتوبتي عن قتل بنات الناس. وتصدّق على الفقراء والمساكين وعمّ بإكرامه سائر رعيّته وأهل مملكته» (ألف ليلة وليلة، ص706).

 ورغم أنّ الميثاق الحكائيّ الذي توزّعت فروعه على مفاصل كتاب «ألف ليلة وليلة» قد تمادى في مخاتلة المتلقّي ليحجب مولّدات عميقة ورسالة محفوفة بالخطر، فإنّنا نقدّر أهميّة ذلك المستوى الظاهر حقّ قدره ونعدّه سبيلاً قويماً إلى المستوى الباطن الدالّ على القيمة الرئيسة لذلك الكتاب.

 والحقّ أنّ قارئ كتاب «ألف ليلة وليلة» لا يحتاج إلى بذل جهد كبير للتفطّن إلى الثغرات الكاشفة عن أنّ عوالم حكاياته الإطاريّة عوالم سرديّة تخييليّة.ويكفي شاهداً على ذلك أنّ شهرزاد أنجبت ثلاثة أولاد من دون أن تنقطع عن الحكي وأنّ شهريار لم يعلم بذلك إلاّ عندما رأى أبناءه خلال الليلة الواحدة بعد الألف (ألف ليلة وليلة، ص 705-706). وإذا ما انتفى وجود شهرزاد وشهريار خارج العالم السرديّ، فإنّ ذلك يعصف بكلّ بنود الميثاق الحكائيّ ويحمل المتلقّي على إنكار وجود جميع شخصيّات الحكايات الإطاريّة.

 

القمع‭ ‬أخفى‭ ‬أسماء‭ ‬الرواة‭ ‬الحقيقية‭ ‬

 ومن أجل هذا تأكّد لدينا أنّ بعض الحكماء تعاقبوا على تأليف كتاب «ألف ليلة وليلة» وشكّلوا نصّه على ذلك النمط ليوهموا بأنّ شخصيّات الحكايات الإطاريّة شخصيّات حقيقيّة ويتفنّنوا في محاولة إقناع المتلقّي بأنّ الرواة والمدوّنين حكوا ما تضمّنه مخطوط دوّنه المؤرّخون في عهد شهريار ودلّوا على عوامل انتشار ذلك المخطوط. وأكبر الظنّ أنّ سيوف الرقابة المصلتة على أعناق واضعي حكايات «ألف ليلة وليلة» قد أجبرتهم على كتم أسمائهم وتوظيف كثير من حكايات الحيوان والحكايات العجيبة لإبلاغ آرائهم المقموعة. وما عقدهم لميثاق حكائيّ وتشبّثهم ببنوده سوى دليل واضح على شعورهم بالأخطار التي تهدّد الأفكار المندسّة في تلك النصوص وبرهان قاطع على تفانيهم في صونها.

ولا جدال بعد هذا في أنّ واضعي كتاب «ألف ليلة وليلة» ربطوا الأحداث بعهد ملك بعينه ونزّهوه عن الظلم، تجنّباً لإثارة شكوك رجال السلطة. بل إنّهم ذكروا أنّ شهرزاد تزوّجت شهريار لتخلّص البنات من سيفه، وجعلوها تظهر ذلك الدافع لوالدها وأختها إمعاناً في نفي صلات أحداث «ألف ليلة وليلة» بشؤون السياسة. ولمّا كانت تلك الأهداف بالغة الخطورة على أصحابها، فإنّهم تدرّعوا بنصوص سرديّة لحجبها، من دون أن يطمسوا جميع المنافذ إليها. فشهرزاد في مستوى السطح فتاة واجهت الموت لتخلّص النساء من سيف شهريار، والحال أنّ صوتها في مستوى العمق يترجم عن أصوات حكماء عوّلوا على معارفهم لإصلاح الملوك المتجبّرين. 

وآية ذلك أنّ سعة علم ومعارف تلك المرأة التي اكتسبتها من قراءة «الكتب والتواريخ وسير المتقدّمين وأخبار الماضين» (ألف ليلة وليلة، ص8)، هي التي شجّعتها على عدم الاكتراث بتحذيرات والدها وعمّقت إيمــــانها بقــــدرتها على تطهير ذلك الملك من نزعات الشرّ وهدتها إلى اتّخاذ الحكايات سبيلاً إلى تحقيق مقاصدها.

ومن ثمّ يجوز لنا الذهاب إلى أنّ واضعي كتاب «ألف ليلة وليلة» حكماء توسّلوا بفنّ السرد وكتموا أسماءهم لاتّقاء سلطة الرقابة واحتالوا بالحكي التخييليّ المحتفل بحكايات الحيوان وبالعناصر العجائبيّة لحجب مقاصدهم الجليلة واستمالة المتلقّي في الآن نفسه، إذ «بين الحكمة والقارئ يقف السلطان. ولا بدّ من مراوغة هذا لبلوغ ذاك» (توفيق بكّار، جدليّة الحكمة والسلطان، ضمن «القراءة والكتابة»، كلّية الآداب في منوبة، 1989 ، ص 70). أي إنّ ظاهر الكتاب الذي نحن بصدده إخبار عمّا وقع فعلا في عهد ملك من ملوك بني ساسان اسمه شهريار، وباطنه إجلال للحكمة وإقرار بقدرة الحكماء على إصلاح الملوك وحملهم على نشر العدل.

 إنّ فتح الحكايات الإطاريّة بعضها على بعض قد ساعد واضعي كتاب «ألف ليلة وليلة» على نسج خيوط الأقنعة التي أخفوا بها شخصياتهم الحقيقيّة ومقاصدهم الجليلة ليبعدوا عنهم شرّ كلّ من قد يرتاب فيها أو يخشاها من ذوي السلطة السياسيّة، نظراً إلى أنّ الحكمة تمثّل خطراً جسيماً على أصحابها. ومع هذا، فإنّ أولئك الحكماء تجنّبوا - من فرط حكمتهم - الإمعان في طمس خطابهم حتّى لا تضيع مقاصدهم ولا تتعطّل رسالتهم. ذلك أنّهم أشاروا بطرف خفيّ إلى الأقنعة المندسّة في ثنايا الحكايات الإطاريّة واحتالوا لهدي المتلقّي إلى دفائن حكمتهم وإشعاره بأهمّيتها الكبرى.

ولهذا فنحن نقدّر أنّ المتلقّي لن يتوصّل إلى الوقوف على قيمة كتاب «ألف ليلة وليلة» الجوهريّة إلاّ بنزع أقنعة الرواة والمدوّنين تمهيداً لقراءة حكايات شهرزاد في ضوء حكاياتها الإطاريّة، نظراً إلى أنّ العلاقة النصيّة المصاحبة تمثّل إحدى علاقات التعالي النصّيّ (Transtextualité) التي تشكّل شعريّة (Poétique) الآثار السرديّة .