الحكاية الخرافية والأدب الألماني

الحكاية الخرافية والأدب الألماني

تُعرَّف‭ ‬الحكاية‭ ‬الخرافية‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬بأنها‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الأدب‭ ‬الروائي‭ ‬الذي‭ ‬يشمل‭ ‬أنواعاً‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬السرد،‭ ‬كالحكاية‭ ‬الشعبية،‭ ‬أو‭ ‬المرحة،‭ ‬أو‭ ‬الساخرة،‭ ‬فالحكاية‭ ‬الخرافية‭ ‬حكاية‭ ‬سردية،‭ ‬تروي‭ ‬وقائع‭ ‬عجيبة‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الخيال‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬عوالم‭ ‬غرائبية،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬غير‭ ‬معروف،‭ ‬وغالباً‭ ‬لمؤلف‭ ‬مجهول،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يكون‭ ‬أبطالها‭ ‬خياليين،‭ ‬وهم‭ ‬إما‭ ‬رجال‭ ‬أو‭ ‬حيوانات‭ ‬أو‭ ‬مخلوقات‭ ‬غير‭ ‬مألوفة،‭ ‬ولهذا‭ ‬تقوم‭ ‬الحكاية‭ ‬الخرافية،‭ ‬سواء‭ ‬الشرقية‭ ‬أو‭ ‬الغربية،‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬قصصي‭ ‬معين،‭ ‬يوصف‭ ‬بأنه‭ ‬ذو‭ ‬طابع‭ ‬عالمي،‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬صيغة‭ ‬بناء‭ ‬الفعل‭ ‬للمجهول‭ ‬أو‭ ‬المفعول‭ (‬يُحكى‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬التعميم‭ ‬المطلق‭ (‬كان‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬كان‭)‬،‭ (‬كان‭ ‬هناك‭)‬،‭ (‬ذات‭ ‬يوم‭)‬،‭ (‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭)‬،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فجميع‭ ‬أحداثها‭ ‬لا‭ ‬تعتمد‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬زمن‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬مكان‭ ‬مُعَيَّن،‭ ‬وإنما‭ ‬تقع‭ ‬مسؤولية‭ ‬ما‭ ‬سيحكى‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬مدهشة‭ ‬على‭ ‬الماضي،‭ ‬كذلك‭ ‬هي‭ ‬بلا‭ ‬توثيق‭ ‬لمصدر‭ ‬الحكاية،‭ ‬فالغموض‭ ‬يُخفي‭ ‬الحكاية‭ ‬الخرافية‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬النواحي،‭ ‬فإذا‭ ‬قرأت‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬حكاية‭ ‬اسندريلاب،‭ ‬فلن‭ ‬تحظى‭ ‬بمعرفة‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬وُلدت‭ ‬فيها،‭ ‬ولا‭ ‬بمعرفة‭ ‬الأمير‭ ‬الذي‭ ‬تزوجها‭. ‬

كذلك نلاحظ أن أهم الخصائص الشكلية للحكاية الخرافية هي هيمنة الأدوات السحرية والأجواء المخيفة والمواقف المتباينة بين الخير والشر داخل مناخ مفعم بالحركة، فتتداخل فيه الأشياء في وقت وجيز وسريع، وبهذا تتقاطع الحكاية الخرافية مع الأحلام هنا. فضلاً عن ذلك قد لا تنتهي الحكاية الخرافية  أحياناً بالنهاية السعيدة كما هو متوقع (على سبيل المثال، حكاية حورية البحر الصغيرة التي تركت عالمها البحري لتذهب إلى عالم البشر بعد أن وقعت في غرام أمير، فضحَّت بصوتها وعالمِها البحري لتتزوج الأمير الذي أحبته، إلا أنه في النهاية تزوج غيرها، فآثرت الموت على قتله لتحيا وتعود إلى عالمها مرة أخرى). ويلمس القارئ أن للسجع واللغة الرفيعة دوراً مهماً في الحكاية الخرافية، بعكس الحكاية الشعبية التي تتميز ببساطة بنائها ولغتها، فهي تُعبر عن مواضيع مختلفة من المجتمع (كالفقر أو البخل أو عاقبة الفضول المزعج) غير منقطعة الزمان والمكان، لأنها تهتم بمفارقات الحياة الواقعية بهدف نقد السلبيات. 

 

زخم‭ ‬عالمي

أدت الحكاية الخرافية دوراً بارزاً في الأدب الألماني، فقد تبين أنها قدمت زخماً وعالمية للثقافة الألمانية عن طريق كتاب الأخوين «غريم» Grimm الذائع الصيت (الأطفال وحكايات خرافية)  Kinder- und Hausmärchen1، إلا أن الاهتمام بهذا الفن القصصي في الدولة الألمانية بدأ قبل أن يُقدم الأخَوان غريم كتابهما في بداية القرن التاسع عشر، وكان سر هذا الاهتمام هو محاولة تتبع التطور التاريخي للغة الألمانية والتغيير الذي ألمَّ بها من خلال مقارنة بين ما هو مكتوب باللغة الألمانية القديمة وما هو مكتوب باللغة الألمانية الحديثة، وذلك بالبحث عن كل ما هو قديم، ومن ذلك الفلكلور الشعبي للقيام بهذه المقارنة، وهذا ما كان أيضاً هدف الأخوين غريم في البداية، إلا أنهما بعدما جمعا بعضاً من هذه الحكايات، اختارا جزءاً منها خاصاً للأطفال وأعادا صوغ نصوصه بلغة راقية وسهلة ثم قدماه للمجتمع الألماني بهذه الصورة الجديدة، فكانت حكايات ممتعة، استهوت الكبار والصغار، ما أدى إلى ارتباط هذا الفن القصصي بهذين الأخوين تحديداً من دون كتَّاب آخرين عند العامة، فأصبحت تُسمى «حكايات الأخوين غريم الخرافية»، وبقيت لهذه الحكايات مكانتها على الرغم من مرور عقود كثيرة عليها حتى أصبحت من أشهر الكتب في ألمانيا، ومن أبرز عناوين ثقافتها، حتى إنها تُرجمت إلى عديد من لغات العالم، إلا أن المتتبع لتاريخ هذا الفن في ألمانيا يتّضح له وجود باحثين ومؤلفين اهتموا بهذا الفن القصصي قبل الأخوين، ومع ذلك فاق كتابهما كتب الآخرين شهرة.

 وتوسعاً في المعرفة نقدم تعريفاً يسيراً ببعض أهم الكتاب أصحاب الكتب حول الحكايات الخرافية، وأسباب عنايتهم بهذا الفن، سواء قبل الأخوين غريم أو بعدهما: 

1- يوهان كارل مُوسُويْس، تُوفي عام 1787، وهو كاتب ألماني من كتّاب عصر التنوير، عُرف بالبحث عن الحكايات الخرافية القديمة وروايتها للناس، لذلك نشر كتاباً عام 1782 أسماه «حكايات خرافية شعبية من الألمان»، جمع فيه بعض الحكايات الخرافية القديمة، ومن خصائص مُوسُويْس الكتابية أنه يُسبغ إضافاته على ما يجمع من حكايات خرافية، ولم يُقدمها كما وجدها، ومن أهم الحكايات التي نشرها: «كتب أخبار الأخوات الثلاثة»، «أساطير وحكايات روح الجبل»، «حورية البئر»، و«دافن الكنز».

2- الكاتبة الألمانية كريستيان بينيديكت نَوبيرت، توفيت عام 1812، وتُعتبر من أهم مؤسسي الروايات التاريخية في ألمانيا، فلها أكثر من 50 رواية تاريخية، ومن أهم قرائها الروائي الإنجليزي الشهير السير والتر سكوت. نشرت نوبيرت كتاباً باسم «حكايات خرافية جديدة من ألمانيا» عام 1789، إلا أن كتابها كانا تعليمياً، أي يشرح ويوضح طبيعة القصص الخرافية والفنون أو التصاميم الأدبية التي تُستخدم في كتابة هذا الفن، وليس كتابًا يقتصر على رواية حكايات خرافية. 

3- الأخوان غريم، وهما يعقوب غريم، توفي عام 1863 وفيلهلم غريم المتوفى عام 1859، وكانا عالمين في علم اللغة الألماني(2) وباحثين في الفنون والآداب الشعبية المعروفة بالفلكلور، مازال قبراهما ماثلين في برلين حتى اليوم، درسا الحقوق في البداية وفق رغبة أمهما، ثم التحقا بالعمل في مكتبة خاصة تابعة لأحد المدرسين في الجامعة والتي فتحها وأوقفها للطلبة، وهنا بدآ يقرآن كثيراً من كتب الأدب والشعر، فتكونت لهما دراية بالأعمال الأدبية والنقدية التي قام بها أدباء وشعراء ألمان مثل غوته وشيلر، وتأثراً كثيراً بنظرة الأديب والشاعر والفيلسوف الألماني يوهان غوتفريد فون هيردر التي تقوم على أهمية الاهتمام بالأدب الشعبي والفلكلور الثقافي لمتابعة التطور التاريخي للكتابة النثرية والشعرية في اللغة الألمانية. آمن الأخوان غريم بفكرة هيردر وبدآ يبحثان بشغف كبير في التطور التاريخي للغة الألمانية في الأدب واللغة، وهذا عن طريق العناية بالتراث الشعبي ومحاولة جمع كل ما يخص التراث القديم (أساطير، وثائق، شعر)، وتابعا هيردر حتى في دراسته التي لم تقتصر على المصادر باللغة الألمانية، بل بلغات أوربية عدة، ثم حظيا بدعم وتشجيع بعض الشعراء الألمان لهم، على سبيل المثال كليمنس برينتانو، وأخيم فون أرنيم (3). اتجه الأخوان غريم عندئذ إلى جمع الحكايات الشعبية تحديداً، وهذا يوضح أنهما لم يكونا في بداية عملهما مركزَيْن على فكرة جمع حكايات خرافية خاصة للأطفال، إلا أن اهتمامهما بكل ما يخص الفلكلور الشعبي الألماني خاصة، والأوربي عامة، هو ما حملهما على العناية بهذه الحكايات الخرافية.  ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً أن الأخوين غريم استخدما هذا الكم من التراث القديم في ما بعد في البحث والتنقيب ودراسة التطور اللغوي للغة الألمانية تحديداً، ما جعلهما يعتزمان عام 1838 صناعة معجم عظيم وشامل للغة الألمانية يبدأ منذ القرن السادس عشر، يفسر معنى كل كلمة ويبحث في أصولها والتغير الذي طرأ عليها صوتياً وصرفياً، وهي المعروفة الآن باللغة الألمانية الحديثة، فبذلا جهداً هائلاً استمر إلى أن وافتهما المنية ولم يُكملا المعجم، وإن كانا قد نشرا بعضاً من أجزائه، فوقف يعقوب عند الحرف F من أحرف اللغة الألمانية، وأخوه فيلهلم عند الحرف D، ولأهمية هذا المعجم والثناء الذي ناله، قررت الحكومات الألمانية المتعاقبة الاعتناء به، فأخذت على عاتقها إتمامه، فجمعت له ثلة من العلماء الذين أنجزوا هذا المشروع عام 1961، أي بعد 132 سنة من بداية العمل فيه. 

قام الأخَوانِ غريم في بداية القرن التاسع عشر، وتحديداً عام 1806 بمحاولة جمع الحكايات الخرافية من أفواه الناس في المجتمع، بدلاً من الكتب فقط، وفي هذا تميز عن سابقيهما الذين اكتفوا بالبحث عنها في ثنايا الكتب والمخطوطات، ومن أجل هذه الغاية التقى الأخوان غريم بعدد من الشخصيات التي سمعا منها ثم كتبا عنها بعض هذه الحكايات، والتي كانت من أهم مصادرهما في التدوين، ومن أبرز هذه الشخصيات التي صرح بها الأخوان السيدة دوروثيا فيهمان(4)، التي ترجع ثروتها القصصية إلى كونها فرنسية الأصل ألمانية المولد والنشأة، فصارت بسبب هذا الأصل الفرنسي جسراً بين الثقافتين الألمانية والفرنسية وسبباً في نقل بعض الحكايات الخرافية الفرنسية إلى الأخوين غريم، أضف إلى هذا أن أباها كان يملك نُزلاً صغيراً يستقبل فيه المارة والمسافرين، ما مكنها من أن تستمع إلى كثير من الحكايات الخرافية والقصص المتنوعة من التجار والعمال وأبناء السبيل، التقت السيدة فيهمان الأخوين غريم عام 1813 وروت لهما ما لا يقل عن 40 حكاية خرافية و36 حكاية يعرفانها لكن برواية مغايرة، لهذا وُصفت بأنها صاحبة ذاكرة فَيَّاضة وقوية. بالإضافة إلى ذلك التقى الأخوان غريم عائلة هاكستاوزن، ومنهم السيد أوغست هانز فون الكاتب والمهتم بالأدب الشعبي، كذلك أخته السيدة فيرنر هاكستاوزن.

ظهر الجزء الأول من كتاب الأخوين غريـم (الأطفال وحكايات خرافية) في أعياد الميلاد من عام 1812، إلا أنه تعرض لنقد لاذع لأنه لم يكن مناسباً تماماً للأطفال كما جاء في عنوانه، سواء من حيث القصص، على سبيل المثال، الأم الشريرة في قصة بياض الثلج، التي تم تحويلها في الجزء الثاني إلى زوجة أب لتكون أكثر إقناعاً، أو من حيث الأسلوب كبعض العبارات الجنسية في قصة ذات الشعر الطويل، ثم ظهر الجزء الثاني في عام 1814 بعد أن التقى الأخوان بعائلة هاكستاوزن والسيدة فيهمان، وفي عام 1819 ظهر الكتاب بجزأيه بطبعة جديدة. واستمر الأخوان غريم في إعادة النظر في كتابهما بين الفينة والأخرى تصحيحاً وتنقيحاً أو استبعاداً لعدد من الحكايات، وذلك كلما نفدت طبعة وأراد الناشرون طباعة أخرى، إلى أن بلغت ست طبعات آخرها عام 1858 متضمنة ما لا يقل عن 200 حكاية، منها على سبيل المثال «الذئب والصغار السبعة»، «ذات الرداء الأحمر»، «سندريلا» و«ذات الشعر الطويل».

4- هيرمان هسه، كاتب وشاعر وروائي ألماني من أصل سويسري، توفي عام 1962، حصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1946 بعد كتابة روايات عدة، حاول في البداية أن يكون شاعراً مجيداً على غرار شعراء الرومانسية الألمان، خاصة كليمنس برنتانو، فكتب قصائد رومانسية عدة، إلا أن قصائده لم تلق النجاح الكبير، توقف هسه بعد ذلك عن كتابة الشعر وعمل في مكتبة، تابع من خلالها الاطلاع على أعمال أدبية وفلسفية كثيرة أسهمت في تكوينه علمياً وأدبياً، فبدأ بعدها كتابة الروايات، فنشر أولى رواياته عام 1904 «بيتر كامينتسيند». تابع هسه بعدها كتابة رواياته المختلفة، إلا أن ما يعنينا هو نشره عام 1919 بعد الحرب العالمية الأولى كتاباً باسم «الحكايات الخرافية»، يحمل مجموعة متنوعة من قصص خرافية، منها القزم، الحلم الجميل.أراد هسه بذكاء أن يستفيد من تراث الحكايات الخرافية الضخم وتوظيفه في إسقاط رفضه لقضايا عدة، منها نفاق المجتمع الأوربي بسبب المادية المتزايدة، والحروب العالمية والأزمات الاقتصادية التي تسبب الجوع وخضوع الفرد للقوى السياسية التي تتحكم وتتلاعب به، ومما هو مثير، بالإضافة إلى ذلك، أنه ضمّن بعض حكاياته الخرافية تجاربه الشخصية كما في قصة «الشاعر» الباحث عن الشهرة في تَرْنِيم الشعر مهما بلغت التضحيات، ومع أن هسه لم يكتب إلا كتاباً يتيماً حول الحكايات الخرافية، فإن ثمة من يرى أن أعظم نجاح حققه هسه ككاتب هو في حقل الحكايات الخرافية .