نحل الشعر ووضعه.. مصدر هام لجيّده ورديئه

نحل الشعر ووضعه.. مصدر هام لجيّده ورديئه

يعتقد‭ ‬بعض‭ ‬أهل‭ ‬الأدب‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬هو‭ ‬أجمل‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬مما‭ ‬يرضي‭ ‬أمثالي‭ ‬من‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬وحضارته،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يرضي‭ ‬حذر‭ ‬العالِم‭ ‬فيهم،‭ ‬الذي‭ ‬يتحاشى‭ ‬التعميم‭ ‬ويطلب‭ ‬البرهان،‭ ‬ويؤكد‭ ‬أن‭ ‬تفضيل‭ ‬شعر‭ ‬على‭ ‬شعر‭ ‬يقتضي‭ ‬دراسة‭ ‬دقيقة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬التفضيل‭ ‬بحد‭ ‬ذاته‭ ‬غير‭ ‬علمي‭ ‬لأنه‭ ‬يخضع،‭ ‬بلا‭ ‬شك،‭ ‬للذوق‭ ‬الفردي،‭ ‬والذوق‭ ‬إحساس‭ ‬ذاتي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتخذ‭ ‬مقياساً‭ ‬ولا‭ ‬معياراً،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬قوله‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬غثّاً‭ ‬وسميناً،‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬السمين‭ ‬ما‭ ‬هو،‭ ‬في‭ ‬رأينا،‭ ‬رائع‭ ‬جداً،‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬الدرجة‭ ‬العليا‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬ولاسيما‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬وصفت‭ ‬بالمعلّقات‭.‬

سبب‭ ‬روعة‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي

لكن من أين جاءت هذه الروعة؟ وهل الشعر في عصور التخلف وغلبة الأمية أجود منه في عصور التقدم والعلم؟ القانون الطبيعي للتطور يفرض الإجابة بالنفي عن هذا التساؤل، لأن الكتابة تساعد في التدوين والتنقيح والمطالعة، وكل ذلك يساعد في نمو الأدب، والراجح أن الشعر في العصر العباسي، مثلاً، كان أجمل منه في العصر الأموي، وأن أمراء الشعر في ذلك العصر أكبر من أمرائه في العصور التي سبقته، والحقيقة أن ما جعل الشعر الجاهلي على هذه الدرجة من الجمال هو أنه مرّ بما يمكن أن نسميه مصافي عباسية، ساهمت في تنقيته وتجويده، وجعلته يجمع بين العفوية والطبْعية الجاهلية من جهة، وبين الصناعة الأدبية العباسية من جهة أخرى، فلم تكن القصيدة تصل إلى مدونات العصر العباسي إلا وقد عبرت مصافي الرواة المتعددين، يزيدون عليها وينقصون منها، ويبدلون في لفظها، وفي ترتيب أبياتها، حتى تظهر في صورتها الأخيرة، فإن كان الراوية ماهراً ومحباً للأدب العربي جاءت القصيدة بديعة رائقة، وإن كان متطفلاً على الأدب أو شعوبيّاً يكره العرب ويريد أن يعبث بأدبهم، جاءت القصيدة مضطربة وربما قبيحة. وقد تخرج القصيدة هجينة بين رواية الماهر المحب، والمتطفل الكاره، فتبدو مزيجاً من الجمال والقبح، وحسن الترتيب واضطرابه، وتبعث من لا يدرك هذه الحقيقة على التساؤل: كيف يمكن أن يجتمع أجمل الشعر وأقبحه في قصيدة واحدة؟ ولماذا جاءت القصيدة الواحدة مختلفة الألفاظ والترتيب بين رواية وأخرى؟

لكن لِمَ يجمّل الرواة المهرة المحبون للأدب العربي قصائد الجاهليين، وربما نحلوهم أجمل الشعر الإسلامي والعباسي؟ الحقيقة أن صورة الجاهلي في الأدب كانت خلاف صورته في الدين عند العرب، فقصائده هي المثال الأعلى في الشعر - والشعر هو الأدب عندهم - وعقائده هي المثال الأدنى في الدين، إلا ما نُسب من تلك العقائد إلى بقايا دين إبراهيم، وهذا أمر معروف عند الباحثين، يؤكده كتاب «فحولة الشعراء» للأصمعي، فليس من فحول عنده إلا الجاهليون، أما من أشبه شعره شعرهم من الإسلاميين، مثل الأخطل، فيوشك أن يكون فحلاً، لكنه لا يبلغ تلك المرتبة الشعرية العليا، ولو أدرك من الجاهلية يوماً واحداً لبلغها. صحيح أن المتأخرين كابن سلام الجمحي وابن قتيبة وقدامة بن جعفر وابن المعتز وسّعوا دائرة الفحولة فأدخلوا فيها إسلاميين، وربما عباسيين أحياناً، لكن أكثرهم على مذهب الرواة الأوائل الذين قصروا الفحولة على الجاهليين، وأدخلوا المخضرمين فيها أحياناً.

وطبيعي في مثل هذه الحال أن يحاول الرواة جعل القصائد الجاهلية قصائد مثالية، لا يكاد يشوبها عيب ولا خلل، وأن يتنافسوا في سبيل أن يخرجوها مخرجاً فخماً رائقاً مميزاً، ولهذا بقيت المعلقات، وعدد لا بأس به من القصائد الجاهلية، محل إعجاب القدماء والمحدثين، وكانت مادة دسمة لكتب المختارات الشعرية مثل «المفضليات» و«الأصمعيات» وحماسة أبي تمام وحماسة البحتري وغيرهما من الحماسات، ولهذا أيضاً تعددت روايات تلك القصائد. ويروون أن خلفاً الأحمر انتقد جريراً في قوله: «فيا لك يوماً خيره قبل شره»، قائلاً للأصمعي: «والأجود أن يكون: خيره دون شره، فاروه كذلك - وقد كانت الرواة قديماً تصلح أشعار الأوائل - فقلت لا أرويه إلا كذا»، والظاهر أن بعض الشعراء كانوا يعولون على تدخل الرواة في صيغ شعرهم، يدلك على ذلك قول الشاعر المخضرم تميم ابن أبي مقيل (ت بعد 37 هـ): «إني لأرسل البيوت (أي الأبيات) عوجاً، فتأتي الرواة بها قد أقامتها»، هذا في شعر العصرين الإسلامي والأموي، والناس قد أخذت بالكتابة، ولو يسيراً، فكيف بشعر العصر الجاهلي؟ والمثال على تدخل الرواة، وربما رواية الراوي الواحد للنص نفسه بصيغتين أو أكثر، إما بسبب النسيان أو بقصد التحسين، أنهم رووا بيت امرئ القيس في معلقته: «فمثلك حُبلى قد طرقت ومرضع» بصيعة: «فمثلك بكراً...»، وذلك لأن بكراً أكثر تهذيباً. كما أن قول امرئ القيس نفسه: «وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي» جاء بصيغة: «أزمعت قتلي» وصيغة: «أزمعت هجري»، ولكل من هذه الروايات الثلاث بُعد فني خاص ليس للأخريين.

وفي السياق نفسه تأتي نسبة القصائد الإسلامية والعباسية الجيدة إلى الجاهليين، سواء من طريق وضعها ثم نحلها إلى شعراء ما قبل الإسلام، أو عبر نحل شيء من الشعر الجيد المعروف المؤلف إلى أولئك الشعراء. ولعل أوضح مثال على ذلك ما وضع على عنترة، وما نحل للسموأل.

 

قصائد‭ ‬منسوبة‭ ‬إلى‭ ‬عنترة

فمن الشعر الذي جُعل في بعض طبعات «ديوان عنترة» تحت عنوان «شعره المشكوك في صحته» قصيدة داليّة رائعة اقتبس بعض المطربين العرب في العصر الحديث عدداً من أبياتها، وحفلت بها مواقع الإنترنت، واستشهد بها عدد من المقالات المتصلة بالشعر الغزلي، مع أنها ليست في نسخ الديوان بروايتي الأعلم الشنتمري والبطليوسي البلوي، اللتين تعتمدان في تحقيق ونشر ذلك الديوان، ولا تعرف نسخ غيرهما له. وسنختار بعض أبيات تلك القصيدة من غير أن نشير إلى ما قفزنا عنه منها، وإن كان القفز مخلاً، غالباً، بوحدة القصيدة: 

مهفهفة‭ ‬والسحر‭ ‬في‭ ‬لحظاتها

إذا‭ ‬كلّمت‭ ‬ميتاً‭ ‬يقوم‭ ‬من‭ ‬اللحد

أشارت‭ ‬إليها‭ ‬الشمس‭ ‬عند‭ ‬غروبها

تقول‭: ‬إذا‭ ‬اسودّ‭ ‬الدجى‭ ‬فاطلعي‭ ‬بعدي

فولّت‭ ‬حياء‭ ‬ثم‭ ‬أرخت‭ ‬لثامها

وقد‭ ‬نثرت‭ ‬من‭ ‬خدها‭ ‬رَطِبَ‭ ‬الورد

وسلّت‭ ‬حساماً‭ ‬من‭ ‬سواجي‭ ‬جفونها

كسيف‭ ‬أبيها‭ ‬القاطع‭ ‬المرهف‭ ‬الحد

تقاتل‭ ‬عيناها‭ ‬به‭ ‬وهو‭ ‬مغمد

ومن‭ ‬عجب‭ ‬أن‭ ‬يقطع‭ ‬السيف‭ ‬في‭ ‬الغمد

ويطلع‭ ‬ضوء‭ ‬الشمس‭ ‬تحت‭ ‬جبينها

فيغشاه‭ ‬ليل‭ ‬من‭ ‬دجى‭ ‬شعرها‭ ‬الجعد

فإن‭ ‬عاينت‭ ‬عيني‭ ‬المطايا‭ ‬وركبها

فرشت‭ ‬لدى‭ ‬أخفافها‭ ‬صفحة‭ ‬الخد

 

ويبدو أن واضع هذا الغزل على لسان عنترة، قد تصوره فارساً عاشقاً يشعر بالاغتراب في مجتمعه، ويستغني بالسلاح عن الأهل لتصبح أدواته هي أسرته، وتصبح مفرداته هي لغته ومجال تصوراته، ويخرج من عالم يعذبه، إلى فضاء علوي وهمي يعيش فيه هو وحبيبته، ويُخرج حبيبته تلك من البشرية إلى الألوهية، فهي تحيي الموتى، وتسمع خطاب الشمس، وتنوب عنها في إضاءة الكون، لكنها لا تترك عادات النساء الكرائم، فتتصف بالحياء، وإن كان اللثام لا يحجب عن حبيبها رؤية وجهها، أو تخيله، وإذا هو حديقة ورد ندي منثور.

ثم يعود الشاعر إلى مفردات السلاح، فيجعل الحبيبة مقاتلة، لكن بجفونها الفاترة التي هي حسام يقطع من غير أن يخرج من الغمد، كناية عن فعل عيني الحبيبة في الحبيب، حتى وهي مغمضة. ويرجع ذلك الشاعر إلى عالمه العلوي الوهمي فيجعل الليل والنهار يجتمعان في رأس حبيبته، ويكاد يتعبّد لها فيعلن استعداده
لفرش خده لأخفاف المطايا في قافلتها. إنه شعر فرد بين الأشعار العربية، ويكاد يدخل في الرمزية لكثرة التجريد فيه، ويعمد فيه إلى قوة الإيحاء والإشعار بشيء من الفرح ممزوج بالشكوى والشجن. ولا شك أن هذه الأبيات
رقي بالشعر لكي يبدو في صورة مثالية توافق موقع الشعر الجاهلي في نفوس العرب، لكنها
لا توافق الأساليب التي كانت للشعر قبل الإسلام.

ومن ذلك الشعر ما غنته المطربة اللبنانية السيدة فيروز، وهو بيتان مستقلان، وردا في القسم نفسه من طبعة الديوان المشار إليها، وهما كالقصيدة السابقة في نسخ الديوان بروايتي الأعلم الشنتمري والبطليوسي، ويقولان:

لو‭ ‬كان‭ ‬قلبي‭ ‬معي‭ ‬ما‭ ‬اخترت‭ ‬غيركم

ولا‭ ‬رضيت‭ ‬سواكم‭ ‬في‭ ‬الهوى‭ ‬بدلا

لكنه‭ ‬راغب‭ ‬في‭ ‬من‭ ‬يعذبه

وليس‭ ‬يقبل‭ ‬لا‭ ‬لوماً‭ ‬ولا‭ ‬عذلاً

 

وفي هذا أيضاً تجريد قلب الشاعر خارج سلطته وملكه، ويجعل له إرادة مستقلة عن إرادة صاحبه، ويجعله مازوخياً يطلب العذاب ويرغب فيه، على طريقة كثير من العشاق الأعِفَّاء. واللافت في هذا الشعر لغوياً تكرار «لا» بعد ليس، والعرب لا تفعل ذلك، ولاسيما في الجاهلية والإسلام، بل تقول، بصرف النظر عن الوزن: وليس يقبل لوماً ولا عذلاً، لأن «ليس» تغني عن «لا». ولا يشير شارح الديوان إلى مصدر هذا الشعر، ويُخشى أن يكون موضوعاً في زمن متأخر جداً، كأن يكون مأخوذاً من قصص ألف ليلة وليلة.

وهناك أمثلة متعددة أخرى من هذا القبيل يمكن مراجعتها في كتابنا «شعر عنترة.. دراسة تطبيقية على نظريات الشك في شعر الجاهلية».

 

لاميّة‭ ‬بين‭ ‬الحارثي‭ ‬والسموأل

أما الشعر المعروف قائله والمنسوب إلى الجاهلية، فأشهر قصائده تلك التي يغلب الباحثون أنها لعبدالملك عبدالرحيم الحارثي المتوفى نحو 190 هـ، والتي ينسب بعضهم أبياتاً منها إلى الشاعر الأموي دكين الراجز، والتي
 ذاع خطأً، على الأرجح، أنها للسموأل، ومطلعها:

إذا‭ ‬المرء‭ ‬لم‭ ‬يدنس‭ ‬من‭ ‬اللؤم‭ ‬عرضه

فكــــل‭ ‬رداء‭ ‬يـــــرتــــــــــديـــــــه‭ ‬جــــمـــيـــــــل

وأول من ذكرها من المؤلفين أبو تمام في حماسته، حيث قال قبل روايتها: «قال عبدالملك بن عبدالرحيم الحارثي، ويقال إنه للسموأل». وقد ترجم لعبدالملك هذا عبدالله بن المعتز (237 -296 هـ) في كتابه «طبقات الشعراء»، ووصفه بأنه شاعر مفلق مفوّه مقتدر مطبوع، وأنه «أحد من نُسخ شعره بماء الذهب»، رائياً أن ذلك الشعر لا يشبه شعر المحدثين الحضريين، بل هو على نمط شعر الأعراب. وقال في آخر الترجمة: «هذا البيت سجْدة للشعراء، ولو لم يكن في كتابنا إلا شعر الحارثي لكان جليلاً». لكن اللافت أن ابن المعتز لم يذكر قط قصيدة الحارثي اللامية المنسوبة إلى السموأل، وأن هارون الرشيد حبس الحارثي ثم جُهل مصيره وضاع معظم شعره، ومع ذلك ترجم له ابن المعتز، الأمير العباسي - ونشيح النظر عن مقدمة كتاب الطبقات التي تشير إلى أن الكتاب مختص بالشعراء الذين مدحوا كبار بني العباس، فهذه الإشارة لا توافق مضمون الكتاب- ومن عجب أن الحارثي لم يظفر بعناية المؤلفين في الأدب العربي قديماً وحديثاً، إلا قليلاً.

والمهم أن هذه القصيدة الرائعة قد نسبت إلى السموأل، لكنها لم تضم إلى المعلقات، مع أنها لا تقل عن معظمها روعة، ودع قضية التعليق بأستار الكعبة، فهي قضية زائفة تنفيها أكثر القرائن، ودع أيضاً كون السموأل يهودياً، أي غير عربي، وفق ما يقوله العرب القدماء، فالاهتمام الذي أبداه مؤرخو الأدب بهذه القصيدة لا يقل إلا يسيراً عن اهتمامهم للمعلقات نفسها، فهذا من أسباب الشك بصحة نسبتها، وسبب آخر هو اسم السموأل نفسه، والمفترض أنه من الأصل العبري: شموئيل، المركب من كلمتي: شيم، أي: اسم، وإيل، أي: الله، كما يقول بعض العارفين للعبرية. وفي العربية كلمات عبرية كثيرة تنتهي بإيل ولم تبدل الهمزة من الياء فيها، ومن ذلك: إسماعيل، وإسرائيل، وإسرافيل، فلماذا أبدلت الهمزة من الياء في السموأل؟ ولا يحتج هنا بأن شموئيل بن يهوذا المغربي (ت 570 هـ) اتخذ لنفسه اسم السموأل بن يحيى بعد أن أسلم، فهذا التغيير الذي حصل بعد نحو ستة قرون من ظهور الإسلام، هو اعتماد اسم مشهور عند العرب، أي ضرب من التقليد، وليس تعريباً لاسم، وتبديلاً للعادة اللغوية، ثم لماذا جاءت أسماء الشعراء اليهود الذين ذكرهم ابن سلام في طبقاته، كلها عربية باستثناء السموأل؟ أم ترى أن العرب اخترعوا هذا الاسم في العصر العباسي بعد أن احتكوا بيهود من خارج الجزيرة يتسمون بأسماء عبرية، وحرّفوا اسماً من أسمائهم، كما يفعل الغرباء عن اللغة، عادة، ثم نسبوه إلى الجاهلية؟ على أن من المستبعد أن يقع يهود الجاهلية في مثل هذا التحريف، لأنهم يعرفون العبرية، غالباً، ولأنهم لا يمكن أن ينزلوا عن لفظة «إيل» التي في أساس معتقدهم.

أيّاً تكن الحقيقة، فإن الأمثلة متعددة أيضاً على الأشعار الإسلامية التي نحلت للقدماء ولبعض الإسلاميين، ومنها ما نحله الشاعر الأموي نُصيب لبعض القدماء ليمتحن قبول الناس له، وما نحله أموي آخر هو جعفر بن الزبير لعمر بن أبي ربيعة، وأُدرج في ديوان عمر، على ما زعموا، هذا فضلاً عن المؤلفات النثرية التي نحلها مؤلفوها لكتّاب مشهورين، أو زادوا على كتب أولئك المشهورين فصولاً، كالكتب التي ألّفها الجاحظ ونحلها لابن المقفع والخليل وغيرهما، وتلك التي ألّفها بعض الجاحظيين ونسبوها إلى الجاحظ لتروج، وأشياء أخرى ذكرناها في كتابنا «قراءة جديدة لقضية الشك في أدب الجاهلية».

 

سبب‭ ‬نسبة‭ ‬الوضاعين‭ ‬شعرهم‭ ‬إلى‭ ‬غيرهم

ويطرح بعضهم السؤال: لماذا يضع أحدهم قصيدة أو كتاباً ثم ينحله لآخر، ولا ينسبه إلى نفسه، ولاسيما إذا كان عملاً جيداً؟ والجواب عن ذلك واضح للعلماء:

1- مهنة الرواية، وبخاصة رواية الشعر، كانت تتيح، في الغالب، جوائز أكبر من الجوائز التي يمنحها الخلفاء والأمراء والعمال وغيرهم من الوجهاء للشعراء أنفسهم، وربما كانت القصيدة المنحولة للقدماء تافهة ومع ذلك يُجزى راويها عليها، ولو قرأها صاحبها على مانحي الجوائز، على أنها من تأليفه، وبالتالي، بنت عصره، فربما كوفئ بالسخرية أو بالشتم أو بالطرد، فخلف الأحمر، مثلاً، كان شاعراً خاملاً، لكنه كان يضع الشعر على ألسنة العرب فيشيع.

2- إن الشعراء والمؤلفين المبتدئين يخشون ألا تلقى أشعارهم أو مؤلفاتهم قبولاً من أصحاب المراتب العالية وأهل الأدب، فيمتحنون ذائقة هؤلاء بما ينسبونه إلى الآخرين، أو ربما يتركونه غفلاً بغير إشارة إلى المؤلف، حتى إذا وجدوا رواجاً لأعمالهم اطمأنوا إلى طاقاتهم الفنية والثقافية وصرحوا بأسمائهم. وقد زعم الأزهري في معجم «تهذيب اللغة» أن «كتاب العين» إنما هو لليث بن المظفر، نحله الخليل لينفق «باسمه، ويرغب فيه من حوله». وزعموا أن الواثق بالله كان يعرض ما يؤلفه من ألحان على إسحق الموصلي ناسباً إياها إلى القدماء، ويأمر أن يغنيها بعضهم، ويسأل إسحق تقويم فساده، وإلا طرحه، وأن
إبراهيم بن المهدي كان يؤلف الألحان وينسبها إلى غيره لئلا يقع عليه طعن أو تقريع.

3- إن الشعراء كان يكيد بعضهم لبعض، فإذا أراد أحدهم الإيقاع بخصمه نسب إليه قصيدة في هجاء صاحب السلطة وعرضه للعقاب، وقصة النابغة الذبياني مع ملك الحيرة النعمان بن المنذر مشهورة، فقد زعموا أن بعض حسّاد هذا الشاعر وضعوا عليه شعراً في هجاء النعمان، أو في وصف سوأة زوجته المتجردة، وأن نديم النعمان الشاعر المنخّل اليشكري أكد له أن ذلك الوصف لا يقوله إلا مجرب فأحفظه ذلك، الأمر الذي حمل النابغة على الفرار، ثم العودة بعد الوثوق من نفي النعمان للتهمة عنه، ومع أن القصة مضطربة وغير مقنعة، فإنها مما يدخل في الممكن المعتاد، ذلك لأن أصحاب المهن المشتركة، ومنهم الشعراء، كانوا ومازال بعضهم، يمكر ببعض ليضر به. ومن أساليب المكر أن يؤلف الخصم شعراً رديئاً وينسبه إلى خصمه، كما فعل ابن البواب مع ابن إسحق.

4- إن بعضهم كانوا يسطون على بعض الكتب وينسبون ما فيها إلى أنفسهم، ليوهموا الناس بسعة علمهم، هم أو بعض أنصارهم، ومن ذلك ما نسبوه إلى عيسى بن موسى، الذي جعل كثيراً من الجهال أتباعاً له بهذه الطريقة، فيما يروون.

5- إن بعضهم كان يسدي خدمة إلى الآخرين بنسبة شيء صنعه هو إليهم، كما فعل إبراهيم الموصلي مع المغني عَلُّويه، إذ صنع لحناً وطلب إليه أن ينتحله، ففعل وكسب من ذلك مالاً كثيراً. وفي العصر الحديث، منذ مدة قريبة، ظهر أحد نواب الأمة في لبنان على التلفاز وهو يلقي قصيدة يزعم أنها له، لكنه لم يحسن قراءتها لغة ولا وزناً، ولا شك أن أحدهم ألفها وسمح له بأن ينتحلها، وليس مستبعداً أن يحدث قريب من هذا في العصور القديمة.

 

النتيجة

وفي النتيجة، فإن الشعر القديم، ولاسيما الجاهلي، يبدو أشبه بالعمل القومي الذي يسهم الرواة وأهل الأدب عامة في تأليفه وتحسينه، والأمر كذلك عند كل الشعوب، الذين يعظمون أجدادهم، فيبرزونهم في أجمل صورة، كما صُنع بهوميروس الذي قيل إن إلياذته كانت مجرد أغانٍ شفهية لم يلبث اليونانيون أن ربطوا بينها وطوّروها حتى صارت ملحمة، أو كانت قصيدة طويلة أحالها بعض الشعراء إلى ملحمة، أو هي قصائد من عمل المنشدين المختلفين، لا من عمل هوميروس، ولذلك تضمنت ألفاظاً من لغات مختلفة، وبعضهم شك في وجود هوميروس نفسه، ومثل ذلك قصيدة جلجامش التي ألفت في عصور عدة، وأغنية رولان التي لا يعرف من ألفها، وقصائد شكسبير التي يشكون في صحة نسبتها إليه، وفي وجوده هو على الحقيقة. فلا تظن أنك حين تقرأ امرأ القيس أو النابغة أو عمرو بن كلثوم أو غيرهم، إنما تقرأ شعراء جاهليين خالصين، بل عليك أن تدرك أن بعض القصائد ربما كان إسلامياً أو عباسياً بالكلية، أو مزيجاً من الجاهلية والإسلام والعصر العباسي، وأن التنقيحات والزيادات في أول القصائد أو وسطها أو آخرها، أو في كل ذلك معاً، والترتيب المختلف للقصيدة الواحدة، كل ذلك من عمل الأجيال المتعاقبة وليس من صنع الشعراء أنفسهم، سواء بُني على أصل جاهلي حقيقي، أو كان مجرد منحولات .