علـى مائـدة سيبويـــــه
لمْ يتجاوز طـه حسين الحقيقة، عندما غلَّظ القول فيمن يتساهل في شأن اللغة، فقال: «إنَّ المثقفين العرب الذين لم يتقنوا لغتهم؛ ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بلْ في رجولتهم نقص كبير، ومهين أيضاً».
وكان العقَّــــاد محقاً، عندما قال في كتابه «اللغة الشاعرة»: «من واجب القارئ العربي إلى جانب غيرته على لغته، أن يذكر أنه لا يُطالِب بحماية لسانه فحسب، ولكنه يطالِب بحماية العالم من خسارة فادحة تصيبه، بما يصيب هذه الأداة العالمية من أدوات المنطق الإنساني، بعد أنْ بلغت مبلغها الرفيع من التطور والكمال. وإنَّ بيت القصيد هنا أعظم من القصيد كله، لأنَّ السهم في هذه الرمية يسدَّد إلى القلب ولا يقف عند الفم واللسان، وما ينطق به في كلام منظوم أو منثور».
لذا؛ فقد نصح الشاعر القـروي الآباء والأمهات بضرورة تعليم أبنائهم القرآن الكريم والحديث النبوي، فيقول: «علِّموا القرآن والحديث ونهج البلاغة في كل مدارسكم وجامعاتكم، لتقوَّم بالفصحى ألسنتكم، وتتقوى ملكاتكم، ويعلو نفسكم، وتزخر صدوركم بالحكمة، وتشرق طروسكم بسحر البيان»! وقد تغنَّى الشيخ قسطاكي الحمصي، بجمال العربية في قصيدته، التي أسماها «ليلى»:
فإنَّ ليلى فتاةٌ لا مثيل لها
صِيغتْ من الحُسنِ شكلاً ما له ثان
إلى البداوةِ منسوبٌ منابتها
وإنْ نميتْ فهل فخرٌ كعدنان؟
ألفاظها دُررٌ، تركيبها صورٌ
آياتها غُررٌ، في كل قرآن
لكن؛ على الرغم من الكمال الذي بلغته العربية، وعلى الرغم من الثبات الذي امتازت به عن سائر اللغات؛ فإنه كثيراً ما تشتعل المعارك بين الأدباء وعلماء النحو! ولعلَّ أعنفها ما كان في الماضي البعيد بين «الكوفيين» و«البصريين»!
فالأدباء أصحاب أفقٍ بعيد، وخيال جامح، ولا يحبون التقيد بالقواعد النحوية الدقيقة؛ التي يعتبرونها عثرةً في طريقهم، وحاجزاً أمام ملكاتهم الإبداعية، فيلجأون إلى اختلاق الحيل الأدبية، والنكات اللغوية، ليحرجوا خصومهم المتربصين بهم؛ كما كان فعل أبو نواس، وابن الرومي، وكما فعل المتنبي، وأبو العلاء!
بينما نجد علماء النحو ينصبون أجهزة الرادار، ويلبسون العدسات المكبِّرة، ويستخدمون أجهزة الاستشعار عن بعد؛ فيحاسبون على الصغيرة قبل الكبيرة، ويفوِّتون الفرصة على المبدعين المتسلِّلين، ولا يسمحون لهم بالهروب بالأوزان والقوافي المغشوشة، ولا بالخروج سوى من بوابة الخليل والكسائي وسيبويه! بلْ ويحرِّمون عليهم ترك النوافل اللغوية، ويذكِّرونهم بالمعلوم من النحو بالضرورة، ويمنعونهم من تجاوز الإشارات النحوية الحمر!
معارك الأدب
هذا؛ ولمْ يخلُ عصر من العصور من تلك المنازعات اللغوية العنيفة، والمعارك الأدبية الحامية الوطيس! وقد ترتفع الأصوات، وتحتدم العداوات، وربما يسقط فيها من القتلى والجرحى، كتلك التي مات على إثرها سيبويه كمداً.
أوْ كقول العقَّـاد للرافعي: «إيه يا خفافيش الأدب؛ أغثيتم نفوسنا، أغثى الله نفوسكم، لا هوادة بعد اليوم، السوط في أيدينا، وظهوركم لمْ تُخلق إلاَّ لهذا السوط، وسنفرغ لكم أيها الثقلان»! مما تسبَّب في مرض الرافعي الأخير، ثمَّ موته المفاجئ، كما روى تلميذه سعيد العريان! وكثيراً ما كانت تحدث «وساطات» بين المتخاصمين، ويتدخل «أهل الحل والعقد» لفض النزاع، وإطفاء الحرائق، وإصلاح ذات البيْن! كالصلح بين حافظ والمازني، أوْ بين الزيات وزكي مبارك!
وأحياناً يكون النقد هادئاً، أوْ رقيقاً، أوْ موارباً، أوْ محتشماً، أوْ من وراء حجاب، تأسياً بالخطاب القرآني «وقولوا للناس حسناً»! فالشعبيّ – رحمه الله - يؤكد أهمية النحو، من دون أن يحرِج ضيفه بالمنزل، فيقول: النحو في الكلام كالملح في الطعام، لا يستغنى عنه!».
والأصمعي يحذِّر مريديه من عاقبة اللحن– الخطأ - فيقول: «أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبيّ: من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، لأنه لم يكن يلحن، فمهما رويتَ عنه ولحنت؛ فقد كذبت!
وقال أحدهم لأبيه – بطريقة التلميح -: ربما دعوتُ فلحنت، فأخاف ألاَّ يستجاب لي!
وتطبيقاً للقول الأخير؛ نجد الأصمعـي، وقد سمع رجلاً يدعو: «يا ذو الجلال والإكرام»، وهذا خطأ نحوي؛ لأنَّ المنادى المضاف لابدَّ أن يكون منصوبا.
فقال له: منذ كم تدعو؟ قال: منذ سبع سنين دأباً، فلم أرَ الإجابة. فقال الأصمعي: ما اسمك؟
قال: ليث. فأنشأ الأصمعي، يقول:
ينادي ربه باللحن ليثٌ
لذاك إذا دعاه فلا يجيب!
ثمَّ صحَّح له خطأه، فقال: «قل يا ذا الجلال والإكرام».
بلْ إنَّ أبا الأسود الدؤلي يعجب من أن يربح من يخطئ في كلامه، فعــندما دخل السوق؛ رأى أعدالاً للتجار مكتوباً عليها: لأبو فلان - والصحيح لأبي فلان - فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون!!
ولا يخفى أثر البيئة على اللغة، من ذلك؛ قصة أبي عمر بن العلاء مع أبي خيرة الأعرابي، حين سأله عن ضبط جمع مؤنث سالم في حالة النصب، فنطق به أبوخيرة مفتوحاً، فقال أبوعمر: «هيهات، لانَ جلدكَ يا أبا خيرة.. لقد أصبح أبوخيرة من الحضر أهل السواد، أكلة الكواميخ والشواريز، بعد أن كان من أهل البداوة، حرشة الضباب، وأكلة اليرابيع».
معركـة «البقروت» اللغويـة!
جدير بالذكر؛ أنَّ «اللغة» سليقة، وموهبة فطرية، لدرجة أننا نجد كبار العلماء والفلاسفة والمصلحين، يأتون بألفاظ مستحدثة، وأساليب غير معهودة؛ إيماناً منهم بأنَّ «لغـة الضاد» مرنة وطيّعة وخصبة وقادرة على التعبير عن مختلف المعاني والمشاعر والأحاسيس... من ذلك الحكاية الطريفة التي رواها العلاَّمة عبدالقادر المغربي في مجلة «كوكب الشرق» العدد 12
(يونيو 1928) م، حينما كتب يقول: روى الأستاذ عبدالله البستاني أن الشيخ جمال الدين الأفغاني قال في هجو بعض البُلَداء: «هذا رجل من نسل البقروت»! فعابوا عليه كلمة «البقروت» فأجابهم: «ألاَ تقولون: جبروت ورهبوت وملكوت، فلماذا تمنعون عني القول بقروت؟».
فاعترضوا عليه بأن «البقروت» لم ترد في كلام العرب، فقال: «وهل تريدون مني أنْ أُنكر نفسي، وأخضع لبدوي!».
وعلّق البستاني على كلام الأفغاني بقوله: «هذا مما قاله الأفغاني، وهذه هي القاعدة التي يجب علينا العمل بها في إنهاض لغتنا: فإنَّ الجمود يقتل اللغة العربية، وإذا نحن رددنا عنها تيار العُجمة والرطانة والركاكة، فلا يستنتج من عملنا أننا نريد أن نعيش بعقل ابن البادية؛ فإنَّ ابن البادية جاءنا بما عنده، وعلينا أن نُتحِف اللغة بما عندنا؛ لتقوم لها قائمة».
لكن الأب أنستانس ماري الكرملي نقل هذا الكلام في مجلة «لغة العرب» ورفض كلام الأفغاني، قائلاً: «... ولا نقبل أن نُدخِل في لغتنا مثل البقروت، بحجة أن جمال الدين نطق بها؛ فلقد يكون المرء حسن الرأي والقول في أمور، ولا يصلح رأيه في أمور أخرى».
ويظهر من سياق الكلام أنَّ العلاَّمة البستاني يقبل البقروت، بمعنى البقر، ويُفتي بجواز استعمالها، على العكس من الكرملي، الذي عابها، وأقام النكير على الأفغاني من أجلها!
لكن؛ لا ننسى أن كثيراً من المفردات قد تفرضها كثرة ورودها على ألسنة الناس، وعلى أقلام الكُتّاب والصحفيين، من غير المتخصصين في المجال اللغوي، وبرغم هذا فقد نشأت في العربية قديماً الاتجاهات نفسها التي تأخذ باستعمالات الناس.
ومما يروى في ذلك مما ذكره صاحب «تاج العروس»، من أن المتنبي قال قصيدة جاء فيها هذا البيت المشهور:
وقد يتزيَّا بالهوى غيرُ أهلهِ
ويستصحبُ الإنسان من لا يلائمه
فاعترض عليه تلميذه ابن جِنِّي، في استعماله الفعل «يتزيَّا» بالياء، إذْ كان الصواب أن يكون بالواو. وقال له: هل تعرفه في شعر أو كتاب في اللغة؟ فقال المتنبي: لا. فقال: فكيف أقدمتَ عليه؟ قال: لأنه جرى في الاستعمال. فقال ابن جني: أرى الصواب «يتزوَّى» من زُويَتْ ليَ الأرض... وإلى هذا ذهبتُ.
فقال المتنبي: لمْ يرِد في الاستعمال إلاَّ «تزيَّا».
وهناك ما نُسِبَ -أيضاً- إلى الشاعر عمارة بن عقيل، عندما جمع «ريح» على «أرياح» في بعض شعره، فاعترضه اللغوي أبوحاتم السجستاني قائلاً: هذا لا يجوز، إنما هو «الأرواح» بالواو. فقال عمارة معتذراً: لقد جذبني إليها طبعي، أمَا تسمعهم يقولون: «رياح» بالياء أيضاً؟
وهكذا انتصر رأي المتنبي، وعمارة بن عقيل؛ المعتمد على الاستعمال، لا المسموع، واندثر رأي اللغويين أمثال ابن جِنِّي وأبي حاتم، اللذيْن ظنا أن بوسعهما تحجير اللغة في قوالب لا تسمح لها بالتنفس والحركة، فلقد شاع في الاستعمال «يتزيَّا» بلا جدال، ولمْ ترِد «يتزوَّى» مطلقاً.
وأمَّا «أرياح»، فقد استعملتها بعض اللهجات العربية، على حين اكتفتْ الفصحى بالجمع القرآني «رياح». ولكن «أرواح» لمْ ترِد مطلقاً في الاستعمال إلاَّ جمعاً للفظة «روح».
أجل! إنَّ بعض الأدباء –لاسيما في هذا العصر- يضيقون ذرعاً بالتقعر النحوي، والتعقيد اللغوي، فمثلاً؛ نجد أمين الريحانـي يتألَّم ويصرخ، قائلاً: «كفاني من النحو مشقة وعذاباً، لقد أنهكتُ قوايَ، وتمزَّقتْ أحشائي بين الكسائي، وسيبويه، وابن مالكٍ، والمُبرِّد، ونِفطويه...»!
لكم لغتكم ولي لغتي
ويقول لنعوم مكرزل: «أودُّ أن أكتب كل أسبوع، غير أني وقعتُ كما تعلم بين لغتين، بلْ بليّتيْن؛ فإنْ كانت الإنجليزية في دمي، فلغة سيبويه في عظامي، والاثنتان تتجاوبان في فؤادي؛ ولذلك أحيا مُنهكَ القُوَى، أليفَ الهمِّ والحَيرة. والبلية الكبرى هي أنني كلما حفظتُ لفظةً جديدة عربية، أنسى من الإنجليزية اثنتين وثلاثاً، فإنْ طال باعي في تلك، قصَّر في هذه...»!
وذات مرة؛ كتب جبـران للنحاة المتنطعين، في مقال بعنوان «لكم لغتكم ولي لغتي»: «لكم من لغتكم البديع والبيان والمنطق، ولي من لغتي نظرة في عين المغلوب، ودمعة في جفن المشتاق، وابتسامة على ثغر المؤمن، وإشارة في يد السموح الحكيم. لكم منها الفصيح دون الركيك، والبليغ دون المبتذل... ولي منها ما يتمتمه المستوحش، وما يغص به المتوجع، وما يلثغ به المأخوذ، وكله فصيح بليغ»!
وقال أيضاً مهاجماً علماء النحو: «لكم منها ما قاله سيبويه والأسود وابن عقيل، ومن جاء قبلهم وبعدهم من المضجرين المملِّين، ولي منها ما تقوله الأم لطفلها، والمحب لرفيقته، والمتعبِّد لسكينة ليله»!
لكن الشَّاعر والأديب اللبناني مـارون عبـود له رأيٌ آخر في هذه القضية، فقال في كتابه «نقدات عابر»، منتقداً المنفرين والمتقعرين: إنَّ لغة العرب لا تحتاج إلى تعديل خطير في نحوها الأدبي، لوْ لمْ تُبلَ بالذين ينقبون أبداً في أقبيتها وسراديبها عن كلمات نافرة، ليفتحوا بها في الأدب فتحاً مبيناً، فمصطفى صادق الرافعي يريد أن يبعث «بنيتُ بها» ويقبر تزوجتها، و«بنيتُ به» عدا أنها غلط، فهي جدة الشنفرة وتأبط شراً، فضلاً عن أن عهد البناء على النساء قد انقضى، فنحن سكان مدر لا وبر! ومحمد كرد علي عضو المجمع الملكي المصري ورئيس المجمع الدمشقي، يقول لنا: «حذو القذّة بالقذّة» في تلخيص كتاب فرنسي حديث، فيزيدنا عمى قلب! وأحمد حسن الزيات يحاول أن يزيد في ثروتنا اللغوية –زاده الله فصاحة- فيقول: «كنا نسمر ليلة النيروز المسيحي» ثم شرحها لنا نحن الشرقيين ..! اللهمَّ رحماك، ورفقاً بهذا اللسان الذي أنزلتَ به كتابك!
وربما هذا الذي دعا الشَّاعر المهجري نعمـة قـازان يرتجل قائلاً:
لئنْ عاق دربي إلى الله لفظ
همزتُ جوادي، يسير الخببْ
وجوزتُ في الصرفِ ما لا يجوز
وأوجبتُ في النحو ما لا يجِبْ
بلْ بلغ به الغضب مبلغه، فصاح قائلاً:
وقلتُ وقلتُ، وللدهرِ قولٌ
وليس على الدهر من حُجةِ!
حلفتُ بأُمِّي لا ناكثاً
ويا لكَ، وبالأمِّ من حِلفةِ
إذا فتح اللهُ يوماً عليَّ
(رفعتُ) البناءَ على الكسرةِ!
أقاسَ النحاةُ حدودَ الزمانِ
ومرمى خيالي وعقليَّتي
لقد حددوها لأفكارهم
فضاقتْ وزمَّتْ على فكرتي!
وقد عانتْ نبوية موسى من طريقة تدريس حروف المعاني العقيمة في النحو، فنظمتْ أبياتاً كلها تذمُّر وشكوى، تقول:
أشكو إليكَ حروفاً في تعلمها
حلَّتْ بقلبي من تكرارها العِللُ
«إذنْ وإذْ ما» فما كررتها أبداً
إلاَّ بدتْ أدمعي كالسيل تنهملُ
ولا ذكرتُ «بلى والكافَ ثم جللُ»
إلاَّ وخاب لدى تذكارها الأملُ
(جيرى وحتى وحاشا) بِتُّ أقرأها
حتى ثنا همتي عن حفظها المللُ
علِّي بذلك لا ألقى العقاب ولا
عن ساحة الكرم المأمولِ أنتقلُ
فأعطاها المعلّم صفراً؛ تشجيعاً لها على قرض الشِّعر المتذمر من طريقته السقيمة في التعليم!
وقالت نبوية موسى أيضاً، في قصيدة لها اعتراضاً على دروس النحو والصرف العقيمة:
دهتني صروف الصرفِ، لا درَّ درّه
ولا خير في فعلٍ إذا رُمتَ صرفه
كما أنه يُخشى الزمان وصرفه
أرى الفعل موهوباً لديَّ وصرفه
فإنْ تكسروا للفعل عيناً فإنني
كسرتُ ذراعَ الفعلِ عمداً وأنفه
وإنْ كان معتلاً فلستُ طبيبةً
دعوهُ دعوه علَّه يلقى حتفه!
أخيـراً؛ مهما نشب الصراع بين الطرفين، ومهما دبَّ الخلاف بين الفريقين، ومهما احتدم الجدال بين المعسكرين... فجميعهم أبناء هذه اللغة الطاهرة، وثمرة خلودها وتألّقها؛ إنْ لم يصبهم منها وابلٌ فطل!
بلْ إنهم جميعاً أثروا «العربية» بفنهم وعلمهم، ونافحوا عنها بإبداعاتهم ومؤلفاتهم، بعدما أدركوا قيمتها، وانبهروا بخصائصها، فهي التي خلبتْ ألبابهم، وشغفوا بها حباً، وتاهوا بها وجداً وغراماً، حتى فاضت ألسنتهم، وجادت قرائحهم بمكنون قلوبهم، لتظل «العربيـة» أم اللغات، ولسان التنزيل الحكيم، ولغة الوحي والوحدة! .