رمضان في باريس.. أطياف من بلادنا العربية تخفف من برودة الفردية الفرنسية
في رمضان الفائت، وصلت إلى حارتي في ضاحية باريسية بعد منتصف الليل، عائدة من مطار شارل ديجول، بعد إقامتي شهرين تقريباً في تركيا، في مدن عدة، آخرها كانت مدينة مرسين، التي وصلت إليها قبل رمضان، وأقمتُ فيها أكثر من عشرة أيام.
كان من حُسن حظي، كما أعتقد، أن أحضر شهر رمضان في بلدين مختلفين، في مدينة تركية ذات خصوصية، وفي باريس، المدينة التي أعيش فيها منذ أكثر من عشر سنوات، إلا أنني انتبهت للمرة الأولى، لما حصل لي ليلة وصولي.
في الطائرة، من أضنة إلى اسطنبول، لم يرفض أحد الركاب وجبة الطعام، ربما حصل هذا في المقاعد الواقعة خلفي، فأنا لم أستدر لأحصي عدد الركاب الذين رفضوا تناول الطعام، لأنهم صيام، إلا أنني راقبت بدقّة وتلصص أحتاج إليهما في كتابتي وتفكيري، جميع الجالسين في الصفوف الواقعة أمام نظري، الجميع كانوا يتناولون الطعام كما لو أننا في شهر عادي من شهور السنة.
أما في الطائرة التي أقلّتني من اسطنبول إلى باريس، ومع أن هناك سيدات محجبات، فقد فاجأني - وهذه حادثة نادرة على الأغلب - أن السيدة المحجبة التي تجلس في الصف المقابل لي، قد تناولت وجبتها كما بقية الركاب الذين بينهم أتراك وأجانب، كالسيدة الإيرانية التي تحدثت معي، حين التقينا أمام باب حمام الطائرة، وسيدات عربيات سمعتهن يتحدثن العربية، السيدة المحجبة فاجأتني أنها قبل أن نصل إلى باريس بنصف ساعة تقريباً، أنزلت الحجاب عن رأسها وأفلتت خصلات شعرها المائل إلى الذهبي الفاتح، وكانت برفقة رجل هو على الأغلب زوجها، وطفلين. لم أفهم سلوك السيدة إلا أن حجابها هو مجرد إرضاء لعائلتها أو عائلة زوجها في اسطنبول.
في السيارة الأجرة، مقتربة من حارتي، فاجأني مشهد غاب عن عينيّ منذ سنوات طويلة، حين رأيت عشرات الرجال، وعلى الطرف الآخر من الشارع، عشرات النساء، يسيرون كأنهم خارجون من تظاهرة، فأدركت على الفور أنهم خارجون من مسجد الحي، حيث موعد صلاة العشاء في باريس، قبل منتصف الليل بقليل.
لم يسبق لي من قبل الخروج ليلاً في الحارة في أحد شهور رمضان في السنوات الفائتة، ولم أتعرف على طقوس بعد الإفطار، أو صلاة التراويح، الصلوات التي تُقام داخل المساجد فقط، ولا يسمع بها الناس خارج المساجد في فرنسا، كما في البلاد العربية، حيث تُقام جهرة.
ما إن وصلت إلى المبنى الذي أقطن فيه، حتى صادفت سيدة محجبة ترتدي الملابس السوداء الطويلة، برفقة زوجها وثلاثة أطفال، ينتظرون المصعد معي. هذه السيدة الباريسية يبدو أنها من أصول عربية، لم أرَ مثيلة لها في تركيا، أمر عزّز تساؤلاتي حول العلمانية في كل من البلدين، في فرنسا ذات الجذر المسيحي المتخلص من الديانة بشكل رسمي على الأقل، وتركيا ذات الجذر الإسلامي، المحافظ على الديانة، بشكل غير رسمي على الأقل، بشكل متناغم مع العادات والتقاليد في بلاد ترفع مساجدها الأذان في أوقات الصلوات الخمس، أهي حرية المسلمين التي يجدونها في بلاد الغرب العلماني؟ أم أنها تذمر الأتراك وانغلاقهم، بحيث لا نرى العرب المسلمين بهذه الكثافة في تركيا عامة، ومرسين خاصة، حيث شهدتُ هذه الظاهرة؟
مرسين، مدينة تقع على البحر، تتّسم بالبساطة الروحية وتلقائية السلوك. المرسينيون شديدو الدماثة، ربما كأغلب سكان المدن البحرية، متخفّفون من التكلف والبروتوكول الذي تتسم به كبريات المدن، وفوق هذا، فإن هذه المدينة لا تعرف السياح، تكاد تكون مدينة محلية، يأتي إليها أبناء المدينة أنفسهم، القاطنون في مدن أخرى، الذين يفتحون «شاليهاتهم» في الصيف، وتزدحم المدينة قليلاً بسكانها الذين يغيبون عنها في الشتاء.
مرسين تكاد تكون مدينة المتقاعدين، الذين يأتون لتمضية شهور الصيف باسترخاء على الشاطئ، مستمتعين بالبحر والشمس والهدوء.
ومن ميزاتها أيضاً هذا التخفف من الملابس، النساء على الأخص، فساتين وتنانير قصيرة، وأحذية مفتوحة، و«تي شيرتات» خفيفة تكاد تكشف ما تحتها.
على عكس باريس التي تتذمّر نساؤها من نقص حرية الملبس وتعرضهن للمضايقة والتحرش، وفي تقارير تلفزيونية مطوّلة، من وقت لآخر، نستمع إلى شهادات النساء اللاتي صرن يغيّرن من طبيعة ملابسهن، بحيث لا يلفتن النظر، وخاصة في وسائل المواصلات المشهورة بالازدحام في باريس.
ربما يكون الفارق بين مدينة تسترخي على البحر بهدوء، وأغلبية سكانها من أبنائها، يمارسون العادات الاجتماعية ذاتها، ضمن عقد اجتماعي متّفق عليه منذ عقود، وبين مدينة مزدحمة متوترة مشوبة بالقلق والتباين الشديد بين سكانها القادمين من ثقافات مختلفة عدة، متضاربة أحياناً. عثرت في الليلة الرمضانية الفاصلة بين مرسين وباريس، على كل تلك الاختلافات، فلم أعش فقط الفارق بين طقسين، أو توقيتين، بل بين نموذجين رمضانيين.
النهار الرمضاني كأنه يوم عطلة
في صباح اليوم التالي لوصولي، نهار السبت، كانت حارتي فارغة تماماً، وكأنه صباح الأحد، لا السبت، حيث اعتدت رؤية الحارة فارغة، أما نهار السبت، فهو عادة يشبه الأيام الأخرى من الأسبوع، لأنه يوم نصف عمل، أو نصف يوم عمل، حيث تفتتح أغلب المؤسسات الرسمية، كالبلدية والبريد، حتى منتصف النهار أو أكثر بقليل، بينما تبقى أغلب المحال مفتوحة، كمحل الكوافير ومخازن البيع، إلا أن هذا السبت، أول يوم من أيام رمضان أحضره في باريس، كان الشارع فارغاً من المارة، وحين مررت صوب جاري التركي، في مطعمه الشعبي الشهير، كان يقف وحيداً خلف أسطوانة اللحم المشهورة، التي ندعوها في فرنسا بالكباب، وفي سورية بالشاورما، وأنا أثرثر مع جاري عن رحلتي في تركيا، دخل زبون واحد فقط، بينما كنت لا أجد موطئاً لقدمي في الأيام العادية، حيث يصل صف منتظري الكباب، نهار السبت، كما في ظهيرة الأيام الأخرى من الأسبوع، حتى محل الفرّوج المجاور.
في المخبز الذي يزدحم بالزبائن في ساعة الظهيرة حتى يملأ المنتظرون الشارع، ويصطفوا على الرصيف، كان خالد، العامل في المخبز، وحده، وكانت السيدة الرومانية التي تلتقط رزقها من القطع النقدية الصغيرة الباقية من الزبائن، تقف وحدها ترتجف من الوحدة، لا زبائن ولا عطايا في نهار رمضان.
ينشط زبائن المخبز بعد الظهيرة، وخاصة قبل ساعات الأذان، إذ يستمتع الفرنسيون عموماً، بالمنتجات العارضة للمخابز، لاسيما تلك التي يملكها ويعمل فيها فرنسيون من أصول عربية إسلامية، حيث تتعدد أنواع الحلويات المستمدة من المطبخ الجزائري والمغربي والتونسي، ويُعرف منها ما يدعى بـ«قرن الغزال»، وهناك القرص الدائري ذو الحجم العائلي تقريباً، من المعجنات المحلاة بالسكر، والمحشوة بالتمور، والذي يشبه ما ندعوه في بلاد المتوسط، سورية ولبنان مثلاً، بـ«المعروك»، وأنواع أخرى يصعب حصرها، تختلف من مخبز لآخر، يستهلكها الفرنسيون، سواء الذين يقيمون شعائر رمضان، أو الذين لا ينتمون لهذه العادات من غير المسلمين.
صلاة التراويح
ربما كان عليّ أن أنصح السيدة الرومانية بالذهاب إلى المسجد ليلاً، فهي اعتادت تغيير محل وقوفها، من أمام باب المخزن طوال الأسبوع، إلى أمام الجامع ظهيرة الجمعة فقط، تنتظر هبات المصلين في صلاة الجمعة. لا أعتقد أن السيدة تجهل مواعيد الصلاة في رمضان، ولكنها ربما لا تستطيع البقاء حتى ساعة متأخرة من الليل، وهي التي تقيم في ضاحية بعيدة كما أعلمتني، وتُنهي وقفتها في الشارع قرابة الخامسة مساء لتعود إلى المكان الذي تنام فيه، وهو لا يُدعى بيتاً بكل الأحوال، بل كما شرحت لي، عبارة عن مكان مغلق، له سقف، تنام فوق أكوام ملابسها وتتغطّى بها.
السيدة الرومانية العجوز، تذكرني بجدتي كلما التقيت بها تعانقني بحب، وترفض النقود التي أمنحها إياها، لتقول لي في كل مرة: أمك في سورية أولى منِّي بمالك!
العجوز تقف أمام باب المخزن، خطر لي أن أدعوها لمرافقتي إلى صلاة التراويح، حيث كانت تلك اللحظات من أجمل الأوقات في حياتي حين كنت صغيرة، أصحب جدتي، أو هي التي تصحبني، لأشعر بروحانية غامرة، وتطهّر نفسي وارتياح عميقين، حين أشارك جدتي سجاجيد الصلاة الفاخرة في مسجد الحي في مدينة حلب، فأحس بأنني شخص كبير ذو أهمية، تختفي فوارق العمر والنضج بيننا، ونتقاسم الوقت والطقوس.
قبل أذان المغرب
في المصعد، عائدة إلى البيت، التقيت بجاري الفرنسي من أصل جزائري، كان يحمل صندوقاً كبيراً من الحلوى، ثرثرنا قليلاً حول تبدلات الطقس ودرجات الحرارة المفاجئة بانخفاضها، افترقنا أمام باب المصعد، لأفاجأ بجرس الباب يرن قبل الإفطار بدقائق، كان ولدا جاري يقفان أمامي، الكبير خلف أخيه الصغير، وقد حملا لي طبقاً من الحلوى العربية، بمناسبة رمضان، حيث هذا اليوم هو أول يوم يرونني فيه في باريس.
أغلقت الباب سعيدة بعد انصراف الصبيين، وأحسست أنني هنا في باريس، أرى رمضان، وكأنني في بلد عربي.