رمضان في فيينا.. الشهر القريب في المكان البعيد

رمضان في فيينا.. الشهر القريب في المكان البعيد

هل‭ ‬الإحساس‭ ‬بالوطن‭ ‬يكون‭ ‬وقت‭ ‬الخطر،‭ ‬مثل‭ ‬التهديد‭ ‬بالحروب‭ ‬فقط؟‭ ‬وارد‭ ‬جدّاً‭.‬

وهل‭ ‬الإحساس‭ ‬بالوطن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬اندلاع‭ ‬الثورات؟‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أيضاً‭.‬

لكن‭ ‬قد‭ ‬يتفوق‭ ‬الإحساس‭ ‬السلمي‭ ‬بالوطن‭ ‬على‭ ‬أحاسيس‭ ‬القلق‭ ‬والخوف‭ ‬ويعيش‭ ‬أطول،‭ ‬ذلك‭ ‬الإحساس‭ ‬الذي‭ ‬يتكون‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭ ‬نسبيّاً،‭ ‬ويتخلق‭ ‬بهدوء‭ ‬دون‭ ‬حماسة‭ ‬انفعالية‭ ‬مؤقتة،‭ ‬حماسة‭ ‬يعقبها‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬حنق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأوضاع‭ ‬بسبب‭ ‬تردي‭ ‬الأحوال،‭ ‬ومن‭ ‬أكثر‭ ‬هذه‭ ‬الأحاسيس‭ ‬التي‭ ‬تذكرني‭ ‬بمعنى‭ ‬كلمة‭ ‬وطن،‭ ‬الإحساس‭ ‬الوجداني‭ ‬الطبيعي‭ ‬التراكمي‭ ‬لشهر‭ ‬رمضان‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬وسط‭ ‬الأهل‭ ‬والأصدقاء‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭.‬

الوطن في ظني يتجلى عبر مجموعة من الأحاسيس تتربى في الوجدان: النظر والسمع والشم والتذوق واللمس، كلها تنصهر وتتجذر في ركن عميق في بوتقة الوجدان، يخفق لها القلب حنيناً في حال ابتعاد الشخص عن مكان تربية مشاعره، سواء كان الابتعاد قسرياً أو طوعياً، وقد تعاني الروح كلما خبت هذه الأحاسيس أو كلما اجترتها الذكريات.

الوطن عندي هو المكان الذي أضع فيه رأسي على وسادتي فأنام مرتاحاً هانئاً آمناً رغم همي به. الوطن هو الأمان. ومن المؤكد أن شهور رمضان التي عشتها طوال حياتي، شكلت وطناً موازياً لاستراحة الروح، بعيداً عن أبعاد الشهر دينيّاً، فربع قرن عشت فيه شهور رمضان في القاهرة العظيمة، له من المكانة ما لا يقدر أي مكان آخر على محوها، لكني لا أعاني بأي حال من الأحوال، فالحياة بدأت هناك في القاهرة ثم امتدت إلى هنا في فيينا ومازالت مستمرة.

في فيينا ترسخت الأحاسيس الأولى في الوجدان، بل أضافت لي أحاسيس جديدة بطقوس جديدة، فالعين التي سترى فوانيس أعياد الميلاد الرائعة الملونة المعلقة في الحي السابع الذي أعيش فيه، هي نفسها العين التي ستستعيد تاريخها القديم مع فوانيس الطفولة الرمضانية وستمزج العالَميْن، عالماً فاتناً في ذاكرة القاهرة أوائل الستينيات، وعالماً ماثلاً أمام العين في فيينا بدءاً من الثمانينيات حتى اليوم، المتعة مزدوجة لمن يمزج بمحبة ولمن قارن بإيجابية، ولمن يرغب في الإضافة للوجدان من بلسم الحنين.

الأذن والعين هما سيدتا الحواس في الاغتراب، وهما أيضاً بوابتا الحنين والفقد، وهما أيضاً نافذتا التعويض، لكن ما إن تفتح باب الجَمْع بين الحس القديم والحس الجديد بالفطرة، حتى ترتاح روحك للتكرار البشري الرابط للإنسانية في الهمس والتمتمة وفي القهقهة والأنين، حتى في العطس والتنهد، ستندغم الموسيقى في الموسيقى وستتمازج الأصوات مع الأصوات وستؤيدك الطبيعة بأصوات كونية في الخلفية لا تتغير؛ صوت الصرير والحفيف والخرير والهدير والدوي ورفرفة الأجنحة، ستعيدك الطبيعة كلما شردت اغتراباً إلى أصل مكانك البعيد في طرفة عين، إلى الأرض التي تسع كل الأجسام، والفضاء الذي يسع الأرواح جميعاً، وحين يبحث اللسان عن مذاقه الغائب سيحضر توابله من كل مكان ويضيفها للمأكول والمشروب، ليس فقط ليأكل الفم ويشرب، بل ليبتسم ابتسامة الرضا القديم.

بحر الروائح سيجعل أنفك الصغير يطيح بك دون أن تدري إلى أرجاء الدنيا ذهاباً وإياباً وأنت تسير ببطء في حارة ضيقة في مكانك الجديد. 

في عام 1984 الذي وصلت فيه إلى فيينا، ذكرت الإحصاءات أن يوم الخميس الموافق 22 من رمضان عام 1404 الموافق يوم 21 يونيو من ذاك العام، كان أطول يوم في شهر رمضان في تلك الفترة، حيث بلغ عدد ساعات الصيام من ساعة الإمساك حتى ساعة الإفطار 15 ساعة و47 دقيقة، ورغم أن جو هذه البلاد معتدل نسبيّاً، فإن فترة الصيام قد تزيد بكثير عن المعدل العادي، فبعض الدول مثل السويد تتجاوز فيها العشرين ساعة يوميّاً.

هنا في أوربا عليك ألا تستغرب مجتمعك الجديد، وتظن أنه هو الغريب لكونه مجتمعاً لا يصوم صيام المسلمين ولا يعمل بطقوسهم؛ فأنت الغريب في هذا المجتمع، ولو أنك لا تعمل في مؤسسة عربية أو إسلامية، فقد تشعر بالعزلة حين يستغربك الزملاء والجيران ومن ليس لديه خلفية عن فروض الإسلام، قد يغضب البعض أو يعادي الصائم المسترخي لحالة البطء والوهن التي تطرأ عليه وعلى طقوسه المفاجئة التي لا يقيمها علناً بهذا الشكل خلال السنة. أغبط نفسي على أنني تنبهت مبكراً أنني الغريب في بلادهم وليسوا هم الأغراب في رأسي!

 

‮«‬أبو‭ ‬العمدة‮»‬

من جملة الأصوات التي لم تختفِ من حياتي الجديدة صوت «أبو العمدة» المسحراتي في مصر، رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على رحيلي من القاهرة. توفي الرجل منذ أعوام طويلة، لكن صوته باق في الوجدان لا يغيب.

الفوانيس الملونة التي حملتها وأنا طفل صغير، وغابت من العين هنا، عوضتها فوانيس وأضواء أعياد الميلاد، وزينة رمضان في الحارات التي كانت تربط شرفات الناس بالألوان والبهجة، عوضتها ديكورات الشوارع هنا في أعياد الميلاد وليلة رأس السنة.

ورغم أن الحكمة من الصيام واضحة وصريحة، وتعني - إلى جانب بعدها الديني في التقوى والطاعة، إضافة إلى الجانب الصحي - راحة الجهاز الهضمي، وتخفيف الوزن بالتقليل من تناول الأطعمة والمشروبات؛ فإن الشهر يتحول لعيد يومي باستهلاك غزير من الأطعمة والمشروبات، ليصبح أكثر شهور العام إنفاقاً، وتشير الإحصاءات إلى أن الاستهلاك في شهر رمضان يزيد بكثير عن الضعف في معظم المجتمعات الإسلامية، ويترتب على ذلك عادات مصاحبة وسابقة من التخزين والإسراف والبذخ، بعيداً عن الحكمة الأصيلة من الصيام.

 

‮«‬يا‭ ‬سي‭ ‬حسن‭ ‬يا‭ ‬طايييب‭... ‬وحِّد‭ ‬الله‭!‬‮»‬

كان «أبوالعمدة» مسحراتي حيّنا، في أوائل الستينيات في القاهرة. أخي الأصغر حسن مازال في الرابعة تقريباً أو الخامسة، يتوسل إلينا كل ليلة أن نوقظه عند الفجر إن لم يكن مستيقظاً من تلقاء نفسه، ليستمع إلى نداء «أبوالعمدة» الذي يوقظ أهل حيّنا للسحور سائراً في الظلام حافظاً طريقه بين ممرات البيوت، حاملاً طبلته ضارباً عليها بإيقاع ثنائي يتكرر بعد كل جملة. تكون الأم في ذاك الوقت في المطبخ منهمكة في تحضير السحور بسرعة وإيقاظ من تكاسل عن القيام، ونحن لو لم نكن سهرانين، نقوم مترنحين لتناول السحور.

كان «أبو العمدة» ينادي كل عائلة باسم أصغر أطفالها: «يا سي حسن يا طايييب.. وَحِّد الله!»... هكذا.

باسم الأب بتطويل جميل «يا طايييب» هكذا كان ينادي على أخي الصغير باسم العائلة كلها.  وكان يحفظ أسماء كل المواليد الجدد، وينادي عليهم.

حين كبر هذا الرجل الطيب لم يعد يحفظ الأسماء جيداً، وصار مع الوقت يخلط فيها، فكنا نحن الأكبر سنّاً «نتشيطن» بالانتظار والإنصات لأي أخطاء «سحورية» تصدر منه، فنسقط على ظهورنا من شدة الضحك حين يقول مثلا: «يا سي وائل يا طايييب.. وَحِّد الله!» وائل هو اسم جارنا في الدور الأول. أحياناً كان يتلجلج وينسى الاسم، فيقول: «يا سي ددد.. يا سي محامااد يا فاوزييي.. وَحّد الله!»، مع أنه ليس هناك محمد في هذا البيت ولا فوزي، لكنه يدرك بغريزته أن في أي بيت سيوجد محمد، وفي أي عائلة سيكون هناك محمد، ولو في اسم العائلة.

وحتى أداعب أخي الصغير مررت على الرجل في محله وأنا في طريق العودة من المدرسة، وكان له محل نجارة في شارع الزهراء، الشارع الذي اشتهرت الخيول باسمه (خيول الزهراء) تلك التي كانت تتمخطر من «محطة الزهراء» للخيول العربية، وهي تتدرب بالركض الخفيف من نهاية شارع جسر السويس عند أحمد عصمت نحو شارعنا، ومحطة الزهراء أسست في عام 1898 على مساحة مائة فدان، وكانت تحوي عديداً من السلالات النادرة، لا أدري إن كانت تلك المحطة مازالت موجودة الآن أم لا، كنا نطلق عليها اسم «اصطبل الزهراء».

مررت على «عم أبو العمدة» في محله ورجوته أن ينادي على اسمي في وقت الإيقاظ للسحور، فوعدني: «حاضر يا ابن الناس الطيبين!»، ونادى في ذاك الفجر على اسمي «يا سي طارق يا طايييب.. وحد الله!». وغضب أخي الصغير من تلك الخيانة العمدية من «أبو العمدة»، وهو الذي يصحو خصوصاً ليسمع النداء باسمه ثم ينام مبتسماً كأنه حصل على جائزة! عدت في اليوم التالي لأقول له أن ينادي اسم «حسن» مستقبلاً بدلاً من اسمي، والرجل كان ذا قلب جميل، فنادى اسمه واسمي بضعة أيام ثم أبقى على نداء حسن الطيب.

في عين شمس كان اسمي يتردد يوميّاً في المدرسة والشارع والبيت، حتى الجيران والضيوف: طارق، أم طارق، أبو طارق أو يقال: طارق أخو عزة، أو عزة أخت طارق... وهكذا، فللأسماء في حياتنا سطوة جميلة، وكلنا يعتز بالاسم الذي اختاره الأب والأم له ويعرف معناه جيداً، سيضيع اسمي الأول في فيينا رسميّاً منذ اليوم الأول وسيصبح اسمي «هِر الطيب» أي السيد الطيب، وسيبقى اسمي الأول في الترديد والمناداة محصوراً في عائلتي وأصدقائي المقربين، لذا سيظل جرس اسمي في ذاكرة النداء القديم من «أبو العمدة» محفوراً في أذني أبد الدهر.

 

رمضان‭ ‬البعيد

أجواء رمضان في مصر كانت أجواء ثرية ولها مذاق لا يُبارى، الأصوات المرتبطة بشهر رمضان لا تُنسى: صوت الشيخ محمد رفعت، وصوت النقشبندي، ونصر الدين طوبار، وعبدالمطلب في «أهلاً رمضان»، فهل للجيل الجديد أصواته الرمضانية التي يحتفظ بها؟ وهل ستكون له حاسة صوتية أخرى تستند إليها ذاكرته حين يسير به الزمان في الزمان أو حين ينقله المكان إلى مكان؟ أتساءل.

بعد الإفطار كنا نحن الصغار نركض بفوانيسنا- قبل زمن التلفزيون والفوازير والمسلسلات الرمضانية، فانوس بزجاج ملون ومعدن من الألمونيوم أو النحاس، وباب ندخل منه الشمعة التي تتوسطه ونشعلها فتبهرنا الألوان، ونبدأ في الغناء: «حاللو يا حاللو.. رمضان كريم يا حاللو.. ادونا العادة.. لِبّة وزيادة.. والفانوس طَقطَق والعيال ناموا والفراخ قاموا.. حاللو يا حاللو.. رمضان كريم يا حاللو!» هذه الكلمات كانت تتغير من مكان لمكان، فبدلاً من «لبة» كان هناك من يقول لقمة، أو بدلاً من «طقطق» يقولون «ضاوي»... وهكذا، كنا ندور على البيوت ونثير ضجة عالية بأهازيجنا، فيفتح لنا الجيران الأبواب، سواء كانوا مسلمين أو أقباطاً لنحصل على الحلويات من كنافة أو قطايف أو ملبَّس أو لوز وجوز وفول سوداني، وربما يقدم لنا البعض قروشاً لنشتري ما نحب.

في المدرسة كنا نتساءل: «صايم ولا فاطر؟» ونقوم بعمل الاختبار العجيب الذي توارثناه بالضغط على لحم عقلة الأصبع الأوسط أو السبابة بين إصبعين، مع ملاحظة الوقت الذي يستغرقه اللحم في العودة لشكله الطبيعي، وكلما تأخرت في العودة، دل ذلك على أن الشخص صائم بالفعل، وهو اختبار طفولي عجيب لكننا صدقناه.

أيضاً كنا ننادي بكلمات زاعقة أثناء العودة من المدرسة الابتدائية ونقول: «يا فاطر رمضان يا خاسر دينك، كلبتنا السودا ها تقطع مصارينك!» كنا نقولها أكثر من قولنا النادر «يا صايم رمضان يا موحد ربك، قطتنا البيضا حتبوسك من خدك!» أما كلمة: «مدفع الإفطار اضرب!» فكان لها وقع السحر بانتهاء الصيام وفوزنا بالثواب وبأطايب الطعام.

يأتي شهر رمضان وأنا هنا في فيينا، ليعيد للذاكرة أياماً جميلة تفرحني، ويكون الحنين كالعادة مرتدياً حلته البهية، وأتذكر طفولتي وصباي من هنا، وأنام على وسادة محشوة بأمان يجعلني أشعر بأن الوطن أيضاً هنا، وقد امتد عابراً الحدود بلا حدود .